موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

التغييرات الجذرية التي أحدثها القرأن الكريم
د. محمد احمد خلف الله



مما لا يقبل الشك ولا يحتمل الجدل , القول بأن القرأن الكريم قد أحدث من التغييرات الجذرية في مجتمع الجزيرة العربية ما لم يحدث مثيله أي كتاب عربي أخر لا من قبل ولا من بعد .
( التغييرات التي أحدثها القرأن الكريم لم تقف عند حدود ميدان واحد كالميدان الديني مثلاً - وانما شملت كافة الميادين , فكانت تغييرات في ميادين المعتقدات والمبادئ الدينية , وكانت تغييرات في المجالات الاقتصادية , وكانت تغييرات في القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية , وكانت تغييرات في البنيان للأنسان العربي والمجتمع العربي ..) .
وقعت تغييرات جذرية في هذه الميادين جميعها , ووقعت بسرعة فائقة أذهلت ولا تزال تذهل المؤرخين - سياسيين وغير سياسيين - حتى لقد عدوا جميعا هذه التغييرات من قبيل المعجزات .
ونستطيع أن نقول في أيجاز غير مخل : أن القرأن قد خرج بالعرب من أن يكونوا قبائل عديدة مختلفة الاهواء والنزاعات . مختلفة الاراء والمعتقدات الى أن يكونوا أمة هي الأمة العربية . ذات كيان واحد هو الكيان القومي , وذات عقيدة دينية واحدة هي العقيدة الاسلامية .
ونستطيع ان نقول أيضاً :- انه قد خرج بالعرب عن أن يكونوا امة مختلفة تعبد الاوثان , وتقبع في أرض صحراوية - الى أمة تؤمن بقيم جديدة , تسعى الى بناء حضارة جديدة , وتقود الانسانية الى مجتمع افضل .
وتقود الانسانية الى مجتمع يسعد فيه الانسان , وينعم بالعدالة , لا في الحياة الدنيا فقط وانما في الحياتين : الدنيا والاخرة .
ومما لا يقبل الشك ولا يحتمل الجدل ايضا القول بأن القرأن الكريم - حين خرج من الجزيرة العربية محمولا في صدور الجند الفاتحين الى تلك الارض التي استقروا فيها ونشروا فيها عقيدتهم وقيمهم الانسانية الجديدة , قد غير من هذه الارض على اتساعها كل شئ . غير المعالم الحضلرية لكل سكان تلك الارض , من أسلم منهم وتعرب ومن أسلم ولم يتعرب .
ولن نكون بعيدين عن الصواب حين نقول ان التغييرات الجذرية التي أحدثها القرأن الكريم خارج الجزيرة العربي كانت أقوى تأثيراً وأكثر عمقاً , وأبعد نفوذاً من تلك التي احدثها في أرض الجزيرة وفي مجتمع الجزيرة ..
لقد غير القرأن المعالم الحضارية في الجزيرة , ولكنه لم يكتف بمثل ذلك خارج الجزيرة وانما عمد الى اللغة - لغة الحياة اليومية ولغة الثقافة - فغير منها , ودفع الشعوب التي نعرفها اليوم بأسم الشعوب العربية الى التحدث بالعربية والتخلي عن اللغات الاصلية .
لقد راعى القرأن العرب , وتبينت هذه الرعاية في حرصه على الابقاء على اللهجات العربية المختلفة , الامر الذي سجله الحديث , أنزل القرأن على سبعة أحرف - والذي لا تزال تسجله القراءات السبع او العشر او ... او ... الخ ولم يفعل مثل ذلك ابدا في البلدان المفتوحة فانما قضى على لغاتها قضاء تاما ..
ان تغيير الافكار والاراء وما يبنى عليها من التقاليد والعادات من الظواهر التي تسجلها الحياة , ونلحظها كل يوم .
ان تغيير المعتقدات الدينية من الامور التي تقع في كثير من الاحيان , وفي القديم كان يكفي ان يغير الملك او الحاكم دينه حتى تغير الرعية دينها - ومن هنا كان المثل المعروف : الناس على دين ملوكهم ...
اما تغيير اللغة - لغة الحياة , لغة الام والاب والمجتمع الذي نعيش فيه - فهو الامر الذي لم يقع الا نادراً . ومن هنا كان القول القائل بأن اللغة هي المقوم الاول والاصيل للقومية ,وان الامة التي تفقد لغتها تفقد شخصيتها .
والتجارب التي شاهدناها في المجتمع العربي من المستعمرين هي الدليل القوي على ان القرأن الكريم قد أحدث من التغييرات الجذرية ما عجز الاستعمار بجيوشه الجرارة , وبقنابله وطائراته ومدرعاته , عن ان يحدث مثله ..
لقد عمد المستعمرون الى التمكين لأنفسهم عن طريق التمكين لثقافتهم . ومن هنا حاولوا فرض لغاتهم على الشعوب المغلوبة على أمرها ولكنهم عجزوا , وظلت هذه الشعوب تستخدم لغاتها الاصلية في حياتها اليومية . وظلت الشعوب التي غير القرأن من لغاتها تعتمد على العربية لغة الحياة ولغة الثقافة .
لقد فعل القرأن الكثير وفعل هذا الكثير في أمم عريقة ذات حضارات عظيمة لها أثارها في المحيط الانساني كمصر , وبابل وأفريقية .
ونحن اليوم نريد ان نفعل شيئا ونريده لأمتنا العربية اولا وقبل كل شئ , نريد جمع شمل هذه الامة مرة ثانية , ونجعل منها امة قوية تسعى لخير الانسانية , وتقود هذه الانسانية الى حياة افضل .
ان هذا لن يتحقق لنا الا على هذا الاساس الذي أعتمد عليه القرأن من قبل وهو الأساس الثقافي ..
ان وحدة الثقافة هي الاساس المتين لكل وحدة اخرى ..
وان الكيان الثقافي لأمتنا العربية هو الذي استعصى على الاستعمار وبقي صامداً على الدهر وأحداثه ..
لقد غير الاستعمار من الكيانات السياسية , والكيانات الاقتصادية والكيانات الاجتماعية , وأوجد بدلا منها او بديلا عنها كيانات جديدة هي التي تقف أحجار عثرة في سبيل الوحدة الكبرى - وعجز عجزا تاما عن ان يفعل مثل ذلم في الميدان الثقافي . فلا يزال لنا كياننا الثقافي الذي نعتز به , ونعمل على تنميته والتمكين له في الارض العربية .
ان علينا ان نعيد الكرة , وان نعتمد على الثقافة في بنيان المجتمع العربي من جديد , وفي أعادة مجد الأمة العربية .
ان علينا ان نتوحد لنقود الانسانية بقيمنا الثقافية الممتدة عبر التاريخ والمتطلعة الى مستقبل انساني مجيد ..
وهذا القرأن الذي احدث كل هذه التغييرات الجذرية كانت له فلسفته في التغيير , وفي الوسائل التي يتحقق بها التغيير , وفي الاهداف التي يريد تحقيقها من وراء عمليات التغيير .
ان علينا ان ندرك هذه الفلسفة لنستعين بها فيما نرسم اليوم من تخطيط لتغييرات جذرية نحدثها في المجتمع العربي . لتكون لنا أصالتنا فيما نفعل , وليكون مستقبلنا نابع من حاضرنا , وضاربا جذوره في ماضينا , وليكون تاريخنا الاجتماعي حقا موصول الحلقات .
ثم علينا ان ندرك قيمة هذه الوسائل التي اعتمد عليها القرأن في أحداث هذه التغييرات التي وقعت وكان نجاحها منقطع النظير - ندرك قيمتها لا في الماضي فقط وانما في الحاضر ايضا - اذ لعلها لا تزال صالحة كل الصلاحية , او لعلها قد فقدت هذه الصلاحية بمر الايام , وكر العصور .
لقد كان هدف القرأن من التغييرات الجذرية احداث التجديد في الاراء والمعتقدات وفي نظم الحياة وقوانينها , وفي الانماط السلوكية , لتصبح هذه كلها صالحة كل الصلاحية لتحقيق السعادة للانسان في حياته الاولى والثانية او الدنيا والاخرة . ونحن لا نستهدف اليوم اكثر من تحقيق السعادة ..
ان شعارنا اليوم هو - نحو حياة افضل . حياة يتحقق فيها الرخاء عن طريق الكفاية الانتاجية والعدالة الاجتماعية .
ووسيلتنا الى تحقيق ذلك كله لنتكون الافكار القديمة ولا الوسائل التقليدية وانما لا بد من افكار جديدة قادرة على تبعث فينا القوة و الحيوية . ووسائل علمية ألية قادرة على أحداث التنمية لبلوغ حد الكفاية الانتاجية ثم تحقيق العدالة الاجتماعية .
والافكار الجديدة التي نعتمد عليها في أحداث التغييرات الجذرية هي التي تسمى في مجتمع اليوم بأسم الاشتراكية , او المبادئ الاشتراكية . وهي ليست بالافكار او المبادئ البعيدة كل البعد عن المضامين القرأنية .
ان المبادئ القرأنية والمبادئ الاشتراكية يلتقيان ويختلفان .
انهما يلتقيان حين تكون المسألة مسألة القيم الانسانية والقيم الخلقية والاجتماعية .
ان القرأن باعتباره دينا سماوياً يرشد الانسان الى الوسائل التي تحقق له السعادة يلتقي مع الاشتراكية من حيث هي وسائل تقود الانسان الى تحقيق السعادة .
وان القرأن الكريم بأعتباره ديانة عالمية تصلح لكل انسان في كل زمان ومكان ليحيا حياة سعيدة فاضلة , فكذلك الاشتراكية تعتبر نفسها مبادئ انسانية صالحة لتحقيق الخير للانسانية .
ثم انهما يختلفان من حيث التطبيق , ذلك لان التطببيق نفسه قابل للتغيير والاختلاف لا بحسب اختلاف المجتمعات بعضها عن بعض فحسب , بل من حيث اختلاف الظروف التي تحيط بالمجتمع الواحد..
ونبدأ بالمبدأ الاول الذي يتخذ أساساً جديداً لتقيين الانسان ..
لأن الاشتراكية تجعل العمل اساساً للتقييم , وليس الانتماء الطبقي او الثروة او الجنس او اللغة او الدين ..
والقرأن الكريم قد جعل ذلك من قبل اساساً لتقييم الانسان .. فالانسان في القران بمقدار ما يعمل .. وجزاؤه مرتبط ابدا بالعمل .
لقد كان اهل الكتاب - فيما ذكر القرأن - يذهبون الى انهم ابناء الله واحباؤه والى انه لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى ....
ورد القرأن ذلك كله , وربط الجزاء بالعمل , وأهدر قيمة الانتماء للاديان...
ولقد ذهب المسلمون هذا المذهب وظنوا هم ايضا ان الانتامء للاسلام يكفي في البعد للمسلم عن النار , وادخاله الجنة . ورد القرأن على المسلمين ذلك ايضا وربط الجزاء بالعمل ..
ولقد ذهب الكفرة والمشركون الى ان ما هم فيه من غنى وثروة , ومن قوة وكثرة اتباع سينجيهم من النار ويجنبهم عذاب يوم القيامة ...
ورد القران عليهم ذلك وبين لهم ان اموالهم وأولادهم لن تغني عنهم من الله شيئا..
والقاعدة التي تقول بها من تقييم الانسان بعمله واضحة بما فيه الكفاية من أي القرأن الكريم . ونستطيع ان نعرض في هذا المقام على القارئ بعض الايات ...
يقول الله تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني اهل الكتاب . من يعمل سوءاً يجز به ) ...؟
ويقول : ( من يعمل مثقال ذرة خيرا يره , ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ).
ويقول : ( فوربك لنسألنهم اجمعين عما كانوا يعملون ).
ويقول : ( كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون ) .
ويقول : ( ولكل درجات مما عملوا , وما ربك بغافل عما يعملون ) .
ويقول : ( فأولئك لهم جزاءالضعف بما عملوا وهم في الغرفات امنون ) .
ويقول : ( ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) .
ويقول : ( ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم ) .
ويقول : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) .
ويعلق صاحب تفسير المنار على هذه الاية الاخيرة بقوله : اي ليجعل ذلك بلاء اي اختبارا وامتحانا لكم فيظهر أيكم احسن اتقانا لما يعمله ونفعا له وللناس به .
ويقول في موطن اخر من كتابه في شأن من يطلب السيادة الدنيوية والسعادة الاخروية بدون العمل : أن ظن المغرورين بأن يكون لهم السلطان والخلافة في الارض بمجرد دعوى الايمان والاسلام - ولو مع بعض الاعمال الدنيوية من غير اقامة العدل في الناس , والعمارة والاصلاح في الارض - هو من الهزوء بايات الله في كتابه واياته في خلقه .
انها متفقة على ان الارض يرثها عباد الله الصالحون لعمارتها وأقامة العدل فيها .
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون - اي والحال انهم مصلحون في أعمالهم وسياستهم ..
وانما يهلكها اذا ظلموا وأفسدوا فيها ..
ونثني بمبدأ العدالة ... لأنها هي الاخرى من القيم الانسانية التي يلتقي عندها القرأن الكريم والاشتراكية ..
والعدالة لها صور كثيرة تتحقق فيها , واهمها في العصر الحديث تلك الصورة التي تعرف بالعدالة الاجتماعية والتي تهدف الى عدم استغلال المالكين لوسائل الانتاج للعمل - من حيث يربح الاولون الاموال الطائلة من عرق الاخرين وجهودهم من عمليات الانتاج .
والقرأن الكريم يقول بالعدل في كل موقف حتى ولو كان النزاع مع الاعداء,وحتى لو كان النزاع بين الطرفين احدهما قريب للحاكم والاخر عدو له . ومعنى هذا المبدأ ان نحكم بالعدل بين المالكين لوسائل الانتاج والعاملين فيها من العمال الاجراء .
على ان صاحب المنار يرى في تفسير الايات القرأنية الكريمة : ( ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل , وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالاثم وانتم تعلمون ) .
يرى ان في هذه الاية صوراً كثيرة ينطبق بعضها على عملية الاستغلال هذه وعلى استعانة اصحاب رؤوس الاموال بالحكام لاستغلال الاجراء العاملين وغيرهم ...
يقول رحمة الله :
أ - والمراد بالاكل مطلق الاخذ .والتعبير عن الاخذ بالاكل معروف في اللغة تجوزوا فيه قبل نزول القرأن ..
واكثر ما يستعمل اكل المال في مقام اخذه بالباطل ..
ب- قال الاستاذ الامام محمد عبده : ويدخل في هذا الباب التعدي على الناس بغصب المنفعة - بان يسخر بعضهم بعضا في عمل :
لايعطيه عليه اجرا
او ينقصه من الأجر المسمى .
او ينقصه من أجل المثل
ج- وجملة القول : ان أكل اموال الناس بالباطل يتحقق في كل أخذ للمال بغير رضى من المأخوذ منه لا شائبة للجهل اوالوهم او الغش او الضرر فيه .
د- ذكر الاكل مجملا , عاما , ثم بين نوعا منه خصه بالنهي .. لما يقع من الشبهة فيه لبعض الناس اذ يعتقد بعضهم ان الحاكم الذي هو نائب الشارع في بيان الحق , منفذ الشرع , اذا حكم لأنسان بشئ ولو بغير حق , فانه لا يحل له ولا يكون من الباطل : ( وتدلوا بها الى الحكام )
اي ولا تلقوا بها الى الحكام رشوة لهم - لتأكلوا فريقا من أموالا الناس بالأثم وانتم تعلمون ..
ه- ان الحق لا يتغير بحكم الحاكم بل هو ثابت في نفسه .
وليس على الحاكم الا بيانه وايصاله الى مستحقه بالعدل ..
بل قال الاستاذ الامام :قد نفت الاية الاشتباه وبينت ان الاستعانة بالحكام على اكل المال بالباطل محرم - لأن الحكم لا يغير الحق في نفسه , ولا يحله للمحكوم له به ..
ونقف عند حدود هذين المبدئين لأنا سنشير الى كثير من المواقف التي يلتقي فيها القرأن مع الاشتراكية عند حديثنا عن مشكلات حياتنا والحلول المقترحة لها . والمستمدة من القرأن الكريم نفسه .ونأخذ في بيان امر اخر هو حديث القرأن عن التغيير وعن المجالات التي لا يمكن ان يقع فيها تغيير اي تغيير - فضلا عن ان يكون هذا التغيير جذريا .
والقرأن الكريم يشير الى ان احداث التغييرات في الحياة الدنيا من الظواهر التي وقعت وتقع كثيرا - وهي ابدا مرتبطة بالناس .
يقول تعالى : ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ..
ولكن هذا التغيير لا يقع في كل شئ . انه في فلسفة القرأن مرتبط بطبائع الاشياء , ومن الاشياء اشياء لا تقبل التغيير بحال من الاحوال .
وهو حين يقع يكون ابدا مرتبطا بأمكانيات الناس وقدراتهم واحتياجاتهم .
فهناك اشياء يملك الانسان حق تغييرها واشياء ليس له حق في تغييرها بحال من الأحوال .
ثم هناك الاستعداد الذهني والعقلي الذي قد يقف حجر عثرة في سبيل التغيير مع شدة الحاجة الدافعة اليه .
واليك تفصيل كل هذه المسائل :
اولا : هناك اشياء لا تقبل بطبيعتها التغيير والتبديل والتحول , وانما تظل ابدا ثابتة - وتلك هي الاشياء التي نجدها مسطورة في دعوة كل نبي , ولم يتخل نبي من الانبياء وا رسول من الرسل عن دعوة قومه اليها .
ويحددها صاحب المنار بثلاثة انواع .
الأول : العقيدة في الله - في وجوده وفي وحدانيته وغير ذلك من الصفات الواجبة له .
الثاني : العقيدة في اليوم الاخر - اي في أن هناك حياة ثابتة تكون بعد البعث ويحاسب الناس فيها , فأما جنة وأما نار .
الثالث : العقيدة في العمل كقيمة دينية . قيمة يكون الثواب او العقاب في الحياة الاخرة على أساس منها .
يقول صاحب تفسير المنار تعليقا على الأية القرأنية الكريمة : ( ان الذين أمنوا والذين هادوا , والصابئين والنصارى , من أمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .. ما يلي :
بيان ان أصول الدين الالهي على ألسنة الرسل كلهم هي الايمان بالله , واليوم الاخر والعمل الصالح . فمن أقامها كما أمرت الرسل من أية ملة من ملل الرسول كاليهود والنصارى والصابئين فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم في الاخرة ولا هم يحزنون ..
ونستطيع أن نشير الى هذه الاشياء التي لا تقبل التغيير بطبيعتها تكون ذات صور مختلفة في أذهان الناس . فالله عند المسلمين غيره عند النصارى لا من حيث طبيعته وانما من حيث تصوره في أذهانهم او صورته عندهم .
هذه الصور المختلفة تقبل التغيير , وقد أنصب عليها التغيير , فالقرأن الكريم حين يقول : ( لقد كفر الذين قالوا نا الله ثالث ثلاثة انتهوا خيراً لكم )- انما يقصد الى تغيير صورة الله عند المسيحيين ...
وثانيا : وهناك اشياء هي بطبيعتها قابلة للتغيير ولكن حق التغيير فيها لا يكون للانسان - انه حق الله وحده .
وهذا الحق الذي تظهر أثاره عند بعث الانبياء وارسال المرسلين فلقد جعل الله لكل واحد منهم شرعة ومنهاجاً , وكان الواحد منهم يدعو بأذن الله الى ما كان محرماً . او يحرم بأذن الله ما كان حلالاً عند من سبقوه من المرسلين . وهذا الذي يفسر لنا اختلاف الشرائع .
يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) .
ويقول في شأن اليهود : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم ) .
كما يقول : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر , ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما او الحوايا او ما اختلط بعظم . ذلك جزيناهم ببغيهم وانا لصادقون ) .
والتغيير الذي يكون في هذا الباب انما يكون لسنة اجراها الله في الحياة . هي بناء التشريعات على أساس من الملائمة بين النصوص التشريعية وبين الطور الحضاري الذي تمر فيه الأمة .
ان كون المجتمعات في نمو وفي تحول وفي تبديل وتغيير , يقتضي ان تتغير التشريعات او تتبدل بحسب العصور .
والله سبحانه وتعالى يعطينا المثل فيما هو من حقه لنجري على هدى منه فيما هو من حقوقنا .
ولقد حاول الاستاذ الأمام ان يشرح هذه الحقيقة عندما قال : فاليهودية شريعة مبنية على الشدة في تربية أقوام الفوا العبودية والذل , وفقدوا الاستقلال في الأدارة والرأي . فهي مادية جسدية شديدة ليس لأهلها فيها رأي ولا أجتهاد.
فالقائم بتنفيذها كالمربي للطفل العارم الشكس .
المسيحية يهودية من جهة وروحانية شديدة من جهة اخرى . فهي تأمر أهلها بأن يسلموا امورهم الجسدية والاجتماعية للمتغلبين من أهل السلطة والحكم مهما كانوا عليه من الظلم والفساد .
وان يجعلوا عنايتهم كلها بالآمور الروحية وتربية العواطف والوجدانيات النفسية ..
فهي تربية للنوع من طور التمييز عندما كان كالغلام اليافع الذي تؤثر في نفسه الخطابيات والشعر .
واما الاسلامية فهي القائمة على أساس العقل والاستقلال , المحققة لمعنى أنسانية بالجمع بين مصالح الروح والجسد , ولهذا يصدق عليها قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ) . وقوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) .
فهي مبنية على أساس الاستقلال البشري اللائق بسن الرشد . وطور أرتقاء العقل . ولذلك كانت :
أ- الاحكام الدنيوية في كتابها قليلة .
ب- فرض فيها الاجتهاد - لأن الراشد يفوض اليه أمر نفسه فلا يقيد الا بما يمكن ان يعقله من الأصول القطعية , ومن مقومات أمته الملية التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان .
ونختصر المقام في كلمة ونقول : ان التغيير الذي يقع في مسائل العبادات وفي مسائل الحلال والحرام الديني انما يكون لله وحده .
وثالثا : وهناك اشياء تقبل التغيير وحق التغيير فيها ثابت للانسان .
ان التغيير انما يكون ضروريا في الحالات التي يكون فيها البقاء على السنن المألوفة او التقليدية ضاراً اكبر الضرر بالناس من حيث انها اصبحت غير صالحة للحياة .
وننتقل الان الى الوسائل والقوانين التي اعتمد عليها القرأن الكريم في أحداث التغيير والوصول الى غاياته .
وأقوى هذه الوسائل في تحقيق غايات التغيير ان ينصب التغيير اولاً وبالذات على الانسان ثم يكون بعد ذلك في الاشياء .
ان الانسان هو القوة المحدثة للتغيير . فاذا لم يتغير هو اولا عجز عن ان يحدث التغيير في أي جانب من جوانب الحياة .
ولقد فطن الاستاذ الامام الى شئ من ذلك حين قال : فعلينا ان نعتبر بهذه الامثال التي بينا الله تعالى لنا , ونعلم ان أصلاح الأمم بعد فسادها .. أنما يكون بانشاء جيل جديد .
وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الانبياء .
ويقوم به بعد ختم النبوة ورثة الانبياء .
والتغيير الذي ينصب على الانسان يجب ان يكون ملائماً لأمكاناته وقدراته والا ذهب الجهود سدى , وانتكست عمليات التغيير .
انه من هنا كانت الحكمة في التدرج في التشريع وكان نزول القرأن في فترة متطاولة تجاوز العشرين عاما .
ويقول الله تعالى : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرأن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) .
ويقول : ( وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث , ونزلناه تنزيلا ) .
والتغيير الذي ينصب على الانسان يجب ان يكون ملبيا لاحتياجاته , ومشبعا لرغباته التي لا تضر ولا تؤذي .
والأية القرأنية الكريمة ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) خير ما يقدم في هذا المقام .
وتقرير النسخ كقاعدة شرعية يشير هو الاخر الى صحة هذه القاعدة . فان النسخ لا يكون ابدا الا من أجل نظام أفضل .
ما ننسخ من أية او ننسها نأت بخير منها او مثلها .
ويقول الاستاذ الامام بصدد تفسيره للاية السابقة " المراد نسخ حكم الاية وهو عام يشمل نسخ الحكم وحده ونسخه مع التلاوة - وهذا هو القول المختار للجمهور .
وقالوا في توجيهه : انه لا معنى لنسخ الاية في ذاتها , ولا حاجة اليه .
وانما الاحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان والاحوال . فاذا شرع حكم في وقت لشدة الحاجة اليه ثم زالت الحاجة في وقت اخر فمن الحكمة ان ينسخ الحكم ويبدل بما يوافق الوقت الاخر فيكون خيراً من الاول . او مثله في فائدته من حيث قيام المصلحة به .
التغيير لا يكون الا لحساب الصالح العام - دفع مضرة او جلب منفعة وحين يكون كذلك يكون قائما على قاعدة من قواعد هذا الدين .
والتغيير الذي يكون لحساب الصالح العام يجب ان يتحرى في تحقيقه قيم الحق والعدل .وحين يكون كذلك يكون قائما على أساس من الدين .
والتغيير الذي يكون للصالح العام لا يكون الا بعد دراسة اولي الامر وأهل الحل والعقد لأنهم الذين يستطيعون ادراك الصالح العام الادراك السليم وحين يكون كذلك يكون قائماً على أساس من الدين .
ان الله الرحيم في عباده لم يتركههم في حيرة من أمر الحياة , وانما وضع لهم من القواعد وترك لهم من المسائل ما يشعرهم بأنسانيتهم ويمكنهم من تحقيق هذه الانسانية في كل موقف من مواقف الحياة .
والله الرؤوف بعباده لم يضع بين أيديهم هذه القواعد ويحملهم المسؤوليات الاو هو يعلم بأنهم قد أصبحوا اهلا لذلك.
لقد ترك الانسان لنفسه بعد ختم النبوة واسلمت له حياته الدنيوية يرعاها في حدود الصالح العام , وان عليهن ان يحسن التصرف ليصل الى مرتبة الكمال .
والان ماذا يمكن ان نفيد او نستفيد من هذا الذي بسطنا من حديث عن فلسفة القرأن في التغيير .
هنالك فائدتان :
الاولى :ان ننظر في مشكلات عصرنا على أساس من حقنا في التغيير - ذلك الحق الذي قرره القرأن لنا حين ترك بعض المسائل فلم يتعرض لها اصلا او حين تعرض لها وكانت النصوص الواردة في شأنها غير قطعية في الدرلالة او في الرواية والدلالة .
ان امور دنيانا قد تركت الينا - تركت الى اولي الامر منا . ومن هنا ينبت اسلوب العمل .
ان اجتهادنا في أدراك مشكلات عصرنا , ومحاولة ايجاد حل لها على اساس ادراك العلاقة فيما بينها وبين القرأن الكريم , لا يجعل من هذا الحل قاعدة ملزمة الا اذا صدرت عن الهيئة التشريعية الجماعية المتمثلة في النظام النيابي اليوم او نظام الشورى الاسلامي . والجماعة التي يكون رأيها ملزماً هي جماعة اولي الامر - اي الذي يلون امور الناس من المتخصصين فيها , وليس يلزم ان يكونوا ابداً من العلماء في الدين .
أننا نكتفي بالتزامهم للقواعد التي اقرها القرأن .
اما الفائدة الثانية التي نستفيدها فهي ان نجري في التغييرات الجذرية التي نحدثها في مجتمعنا العربي على أساس من فلسفة القرأن في التغيير .
لقد استهدف القرأن السعادة للانسانية في الحياتين الدنيوية والاخروية , ومن اجل هذا كان النظام الديني او كان الاسلام . ونحن اليوم لا نستهدف الا هذه السعادة ونستهدفها في امور حياتنا الدنيوية من حيث انها التي يمكن ان نحدث فيها شيئا من التغيير .
ان المعتقدات الدينية التي مضمونها الايمان بالله ملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر لا تقبل التغيير بطبيعتها , ولم يقص القرأن ابدا انها كانت في يوم من الايام محل تغيير . وان العبادات والشعائر لا يمكن ولا يصح بحال من الاحوال - بعد ان ختمت النبوة وتوقف الوحي وانتهت الرسالة ان تكون محل تغيير .
ان الذي نملك التغيير فيه مستهدفين منه سعادة الحياة الدنيا انما هي المسائل الدنيوية فقط التي لم يرد في شأنها نص قطعي يفيد التحريم .
يجب ان نعمد الى تغيير الانسان اولا باعتباره القوة الاولى المحدثة للتغيير في كافة الميادين .
يجب ان نغير من افكار هذا الانسان ومن اتجاهاته وأساليب معيشته , وان نستبدل قيمه السلفية التقليدية بقيم اخرى جديدة تمكنه من السير في مضمار الحياة على أسس من الحضارة العلمية الصناعية الحديثة - والا ظللنا عاجزين عن ان نحدث اي تغيير في أسلوب معيشتنا فضلا عن ان نحقق التقدم والرخاء .
ويجب ان نسلك سبيل التدرج في التغييرات معتبرين الاساس في ذلك طبيعة الاشياء وامكانيات الناس - والا ساير الانسان التقدم ظاهرياً وظل في قرارة نفسه سلفيا تقليديا . وليس يخفى نا في هذا ازدواج . وأن من هذا الازدواج تنتج الاضرار .
ويجب ان نستهدف من وراءالتغيير حياة أفضل .
ولعله ان يكون من المفيد ان نختم هذا الفصل بهاتين الفقرتين :
الاولى من كتاب التثقيف والثانية من كتاب التفسير .
تقول الاولى : ان مصدر التغيير لا يوجد في الانظمة والقوانين بقدر ما يوجد في الافراد فعليهم يقع عبء التغيير في الانظمة والمؤسسات والعلاقات . لا شك ان اهم شئ في العصر الحديث في ثروة الامم هو القوة البشرية .
ان هذا المصدر من الثروة هو الذي يتوقف عليه تحويل المصادر الطبيعية الى اشياء مفيدة يحسن استغلالها وتدبيرها وتوجيهها الى خير المجموع .
ان خلق الطاقة البشرية الواعية المنتجة لا يكون بالكلام الذي يقال عن اخلاص او تكلف او ترو او اندفاع - انما يكونبالعمل الذي ينقل الاشياء من طور الى طور , ويترجم المفاهيم الجديدة الى سلوك يترتب عليه انتاج اجيال اسعد واقدر واذكى من الاجيال السابقة .
ان الثقافة هي التي يجب ان تتناول الانسان بالتغيير والتجديد - تتناوله من زاوية فعلها في سلوك الافراد في كيان اجتماعي جديد .
ان عمل الثقافة قد يكون بطيئا نسبيا ولكنه في الحقيقة مضمون وعميق .
وتقول الثانية : ان الوجود قد كان وما زال مصدقا لما جاءبه الكتاب العزيز من اهلاك الاختلاف في الدين للأمم , وافساده للدين نفسه .
ولم يذكر كتاب الله هذا المرض الاجتماعي الا وقد بين للمسلمين وهو :
أ- تحكيم الله تعالى فيما اختلفوا فيه .
ب- رد ما كان من المصالح الدنيوية والامور السياسية الى اولي الامر .
ولكن هذا العلاج يتعذر على المسلمين في هذا العصر لأن الاستبداد ذهب بأولي الامر منهم , ولأنه ليس منهم مع الامرا ء والسلاطين رأي ولا مشورة .
ولقد زعم بعضهم ان اولي الامر في الأية هم الامراء والسلاطين - مع انها نزلت في أولي الامر على عهد الرسول ولم يكن هناك امير او سلطان .
ما كان هناك الا اهل الرأي من كبراء الصحابة عليهم الرضوان الذين يعرفون وجوه المصلحة مع فهم القرأن .
هكذا يجب ان يكون في الأمة رجال أهل بصيرة ورأي في سياستها ومصالحها الاجتماعية .
وهؤلاء هم الذين يسمون في عرف الاسلام أهل الشورى .
وهم الذين يسمون عند الامم الاخرى بنواب الأمة .
ولو وجد هؤلاء في بلاد اسلامية لتيسر لهم اخراج المسلمين من ظلمة الخوف وانجائهم من شروره .
في الامور القضائية والادارية والسياسية فبأقامتها على القواعد الشرعية في حفظ المصالح ودرءالمفاسد بحسب حال الزمان والمكان .
واما في الامور الاعتقادية والتعبدية بارجاعهم الى ما كان عليه السلف الصالح بلا زيادة ولا نقصان .
خطة القرأن الكريم في التغيير واضحة .
انها تلقين الناس بالافكار الجديدة وتحويل الناس نحو قيم جديدة يصدرون عنها في سلوكهم .
ان هذاالتغيير هو الأساس الاول في كل تغيير يقع في الحياة .
ان العمل الثوري انما يبدأ من الافراد بفعل وعيهم المتزايد بمشكلات مجتمعهم وتطلعهم الى مستقبل افضل ,وبقوة ارادتهم على التحرك والاندفاع للقضاء على هذه المشكلات .
ولقد حقق القرأن الكريم تغييرات جذرية في شتى ميادين الحياة - في الميادين الساسية والادارية , وفي الميادين اقتصادية , وفي الميادين الاجتماعية , وفي الميادين الثقافية , - واخذ في ذلك كله بالمبادئ التربوية . فكان هناك التدرج في التشريع , وكان هناك التكرار ,وكان هناك اسنخدام المنطق الفكري في تحقيق المصلحة العامة .
وكان ذلك كله ليكون التغيير عن اقتناع , وعم أدراك للمصلحة في الحياتين الاولى والثانية ,او الدنيا والاخرة .
القران ومشكلات حياتنا المعاصرة


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع