موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

في علاقة الحضارات ببعضها
منير شفيق



كانت إحدى الموضوعات التي سوغت لدى البعض عملية الاندفاع إلى تشرب حضارة الفرنجة، والاقتداء بها، والعمل على ارتداء ملابسها، وحمل أفكارها، والأخذ بنهجها الحياتي، هي تلك الموضوعة القائلة إن الحضارات تقوم على بعضها فما من حضارة تنهض إلا تكون قد أخذت من الحضارات الأخرى، وبنت عليها، وما من حضارة إلا تتفاعل مع الحضارات الأخرى، وتتبادل الاخصاب وإياها.
لا مبالغة إذا قيل، أن هذه الموضوعة واسعة الانتشار حتى في أوساط بعض الذين يرفضون الحضارة الفرنجية، ويدعون إلى مقاومتها. وهذا ما يلمهس المرء حين يسمع لتفاخرهم باقتباس أوروبة للحضارة العربية الإسلامية، أو لاعتمادها على العلوم التي ازدهرت في ظلها. وتستخدم هذه الفكرة من قبل البعض من منطلقات أخرى وهي إغراء جماهيرنا ومثقفينا للأخذ بالحضارة الفرنجية باعتبار أن ذلك هو القانون في نهضة الحضارات. وهي عملية متبادلة ينتقل مشعلها من يد إلى يد. ثم يذهب آخرون إلى حد القول إن نهوض شعوب العالم الثالث مشروط، بتخلصها من تراثها الحضاري السلفي، والأخذ بحضارة الفرنجة. أما من لا يذهب إلى هذا الحد فتراه يتحدث عن التمازج الحضاري، أو هو يذهب باتجاه الانتقائية أو الالتقاطية تحت حجة أنه يأخذ من حضارة الغرب ما هو (جيد وإيجابي) أو ما هو (علمي وتقدمي) ويطرح ما هو رديء وسلبي، أو ما هو وهمي ومتخلف. ثم يفعل الشيء نفسه بحضارته التاريخية. وهكذا ينتهي إلى الجمع بين ما انتقى واستخلص من هنا وهناك، فتحدث النهضة المعاصرة المنشودة بالنسبة إلى الأمة.
ولكن السؤال: هل من الصحيح أو الثابت تاريخياً أن الحضارات تقتبس من بعضها، أو تتراكم فوق بعضها، أو تأتي محصلة لعملية انتفاء من هنا وهناك، أم إن لكل حضارة أساسات تقوم عليها، ومرتكزات تحدد سماتها، ومساراً يمضي ضمن سياق خاص، كما لكل منها قوانينها الداخلية التي تتحكم في حركتها، وفي مختلف جوانبها، بما في ذلك، عملية صعودها وهبوطها، وما يندلع فوق أرضها وتحت سقفها من صراعات؟
عندما يعجز دعاة التغريب عن دعم دعواهم إلى الأخذ بالحضارة الفرنجية، خصوصاً، بعد أن أثبتت التجربة العملية أن طريق التغريب يحكم نير التبعية في الرقاب، ولا يؤدي إلى الاستقلال أو النهضة أو اللحاق بمنجزات العصر، تراهم يقذفون بحجتهم الأخيرة وهي اتهام القائلين بالوقوف على أرض الاسلام، الرافضين التغريب، مهما كان شكله ولونه، بأنهم يرفضون العلوم ولا يريدون التقنية (التكنولوجيا).
إن هذه الحجة تجعلهم يظهرون كأنهم لم يأخذوا من الغرب غير العلوم، والتكنولوجيا، وتجعل الرافضين التغرب رافضين للعلوم والتقنية. ولا شك في ان هذه الحجة تتضمن تزويراً من زاويتين الأولى أن الشيء الأول! الذي لم يأخذوه من التغريب هو العلوم والتقنية بينما أخذوا كل ما صدر إليهم من إيديولوجية ونظريات وأنماط حياة وأحقاد على الاسلام. أما الزاوية الثانية فهي أن الرافضين التغرب صرخوا بأعلى أصواتهم، أغلبيتهم على الأقل، بأن الشيء الأول الذي لا يرفضونه هو الأخذ بالعلوم والتقنية بينما يرفضون ما صدر الغرب من إيديولوجية ونظريات وأنماط حياة وأحقاد على الاسلام.
ينبغي أن يدقق فعلاً بما حصل على أرض الواقع العملي، كيف حصل، وما هي سمات ذلك بالدقة. أو بكلمة أخرى ينبغي أن يجاب على الأسئلة التالية: ماذا أخذ الغرب من طب ابن سيناء مثلاً؟ وهل واصل أطباؤه الاتجاه الذي كان يعمل فيه ابن سيناء؟ أم إنهم استندوا إلى بعض القوانين العلمية وبعض التقنيات والمنجزات في طب ابن سيناء ثم حددوا لنفسهم نهجاً طبياً آخر تماماً لا يجوز أن يعتبر ابناً شرعياً لطب ابن سيناء ولا يمكن أن يعتبر مواصلة لاتجاهه؟
الشيء نفسه يمكن أن يلحظ في مختلف المجالات العلمية والتقنية واتجاهات تطورها. بل وفي الاتجاهات الفلسفية أيضاً وعلى سبيل المثال كثيرون يتحدثون عن اقتباس الغرب من ابن رشد ـ بالرغم من كل تحفظنا على الكثير من أفكاره ـ ولكن ماذا أخذوا فعلاً عن ابن رشد؟ لقد أخذوا الجانب الأرسطي ـ الاغريقي ورموا بعيداً بكل ما هو وليد الحضارة الاسلامية. أي إنهم استعادوا أرسطو واستعادوا الفلسفة اليونانية من خلال ابن رشد أما ابن رشد نفسه فقد لفظوه كما تلفظ النواة.
لهذا يمكن القول أن نمط التطور العلمي والتقني المعاصر، يحمل كل خصائص الحضارة الأوروبية ويلبي أهدافها وحاجاتها ودوافعها. الأمر الذي كان سيجعل مسار هذا التطور مختلفاً لو قادته حضارات أخرى ذات أهداف ودوافع وحاجات وظروف مختلفة عن تلك التي تتسم بها الحضارة الأوروبية.
إذا كان هذا صحيحاً فإن التعاطي مع العلوم والتقنيات التي تطورت في الغرب لن يأخذ شكل النقل كما يتصور البعض، ولن يأخذ كل شيء كما يتصور البعض الآخر، كما لن تستطيع حضارتنا أن تواصل النسق الفرنجي نفسه أو المسار نفسه وإنما لا مفر لها من أن تضع العلوم والتقنيات ضمن خصوصية نسقها الحضاري لتلبي دوافعه ومصالحه وحاجاته وأهدافه. أي لا مفر من أن نقف في محطة يصار عندها تحديد الأهداف، والأولويات والاتجاه العام ومن ثم تحدد عملية التفاعل مع ما أنجزته الحضارة الأوروبية في مختلف قوانين العلوم والتكنولوجيا. لذلك على الذين يطالبون بأخذ العلوم من الغرب أن يحددوا أهدافهم وأولوياتهم وخصوصية حضارتهم حتى يتمكنوا من أن يتعاملوا مع العلوم والتقنيات ببصيرة نافذة وعين حذرة. فلا يضيعون في خضم يكتسحهم، ويلتهمهم بدلاً من أن يكتسحوه ويلتهموه.
أما النطقة الأخرى التي تستخدم في تدعيم فكرة التلاقح بين الحضارات أو الأخذ من بعضها فتستند إلىأمثلة حضارية تنتمي إلى حضارة واحدة لا إلة حضارات تقوم بينها فروق أساسية وحاسمة. وعلى سبيل المثال يركز الحديث حول حضارة اغريقية، وحضارة رومانية، وحضارة جرمانية، وحضارة انكلوسكسونية ثم تجري مقارنات في إظهار عملية التواصل والتلاقح والتمازج فيما بين هذه الحضارات. ولعلم ن أهم الأمثلة الصارخة على ذلك تلك العملية الضخمة التي جرت في مرحلة ما يسمى بعصر النهضة في أوروبا عندما استعيدت الحضارة الاغريقية والرومانية كما تم تخطي حضارة العصور الوسطى من خلال نقدها وتجاوزها. إن هذا الطراز من الأدلة صحيح ولكنه يقوم ضمن عائلة حضارية واحدة هي الحضارة الأوروبية. مما يجعل من المقبول القول عن هنالك حضارات متعددة في العالم يمكن تقسيمها على أسس تبدأ بتحديد الفروق الجوهرية. ثم تقسمها إلى عائلات. وبهذا ترى حضارة هذا الشعب أو ذاك ضمن العائلة التي تنتمي إليها حضارته. وهنا يمكن أن ترى عملية الاخصاب المتبادل والتلقي والتماثل. أما العلاقة ضمن العائلات الكبرى فهي من طراز آخر.
ومن ثم فإن القوانين التي تحكم ما يؤخذ، وما يلفظ أو ما يتغلغل كالمرض، وما ينمو نمواً طبيعياً، تختلف يما بين العائلات الحضارية عنها فيما بين حضارات الشعوب في العائلة الحضارية الواحدة الكبيرة. أي ان العلاقة فيما بين العائلات الحضارية تختلف عن العلاقة فيما بين تلك الحضارات التي نبتت على أرض أوروبة (ليس المقصود هنا التقسيم الجغرافي، على الرغم من أهمية الجغرافية،وإنما استخدمت كلمة أوروبة بسبب اجتماع الجغرافية مع تلك العلاقة التي ربطت بين الحضارات التي نبتت على أرضها، وبالمناسبة أن الحضارة الأمريكية هنا تعتبر امتداداً للحضارة الأوروبية ويجب إدخالها ضمن عائلتها). إن الاختلاف، على سبيل المثال، لواضح في العلاقة التي تربط فيما بين الحضارات الاغريقية والرومانية والإنكلوسكسونية والجرمانية، وفي العلاقة التي تربطها مجتمعة ومنفردة، بحضارات الشعوب التي انتسبت إلى عائلة الحضارة الإسلامية.
ومن هنا نجد أمامنا نمطين من التفاعل في بلادنا: الأول وهو الذي يفقد أرضه الاسلامية ويشوهها وينحرف عن سكة الاسلام. والثاني هو الذي يجعل كل تفاعل مصهوراً في بوتقته وضمن الاتجاه الأساسي للاسلام.
ثمة أمثلة عديدة في التاريخ على هذين النمطين من التفاعل وما بينهما من حالات. أحد الأمثلة البارزة على النمط الأول هو ما يحدث بين ظهرانينا بالنسبة إلى إجتياح الحضارة الغربية لبلادنا وحرفها عن سكتها الاسلامية. والمثل الآخر على النمط الثاني هو ما حدث في أوروبا أبان عصر نهضتها بالنسبة إلى تفاعلها مع الحضارة الاسلامية، فكانت معدة تهضم وتصهر دون أن تفقد أساسات تكوينها. وبهذا لم تخرج عن سكتها وتأخذ سكة الاسلام. بل إنك لا تكاد تجد أثراً لحضارة الاسلام فيها بعد كل ذلك التفاعل.
-------------------------
* المصدر: الاسلام في معركة الحضارة


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع