الحالة الراهنة للثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة
وقد أصبحت الثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة ظاهرة تدعو
للانتباه. فالعالم هو الذي يعلم التراث الغربي، والعلم هي
المعلومات الوافدة من الغرب. بل ولا يستطيع الإنسان أن يكون مجدداً
إلا إذا تعلم الوسائل الغربية. اصبح العلم نقلاً، والعالم مترجماً،
والمفكر عارضاً لبضاعة الغير. ووجدت طبقة هشة من الأفكار والمذاهب
والنظريات طائرة فوق الواقع لا هي مستمدة من الموروث القديم ولا هي
نابعة من الواقع المباشر وتنظير له. تتضارب المعلومات، وتتعارض
النظريات، ينفي بعضها البعض، ويحتار الباحث أمام العديد من هذه
الأفكار والمذاهب المنتشرة فوق الواقع المجتثة الجذور من أرضها،
والمنتزعة من واقعها الخاص الذي نبتت فيه، كيف يختار؟ وما هي
مقاييس الاختيار؟ زاد الكم بدرجة رهيبة، وما زالت الفكرة الأساسية
التي يمكن أن تتخلله غائبة مع أنه يمكن إحياء هذا الكم السميك من
المعلومات بوجهة نظر تحييه، تضمه وتلمه في فكره واحدة، تثبت شيئاً
وترفض شيئاً آخر. فالفكرة ذات وجهين، وجه رافض ووجه قابل، وجه ناف
ووجه مثبت، وجه سالب وآخر موجب. يمكن عن طريق أخذ المواقف إحياء
المعلومات، وربطها بوجدان جمهور القراء وبالتيارات الأساسية في
ثقافتهم الوطنية. ويستطيع الفكر بموقف واضح وبأقل عدد ممكن من
المعلومات أحداث ثقافة، وإنشاء حضارة كما كان الحال في تراثنا
القديم.
ومنذ أكثر من قرنين ونصف من الزمان نترجم، ونعرض، ونشرح، ونفسر
التراث الغربي دون أن نأخذ منه موقفاً صريحاً واضحاً. ما زال
موقفنا حتى الآن موقف الناقل. عصر الترجمة لدينا لم يتوقف بعد أو
على أكثر تقدير ما زال موقفنا هو موقف العارض للنظريات وكأن هناك
علماً للعلم أو كأن العلم يُنقل من بيئة إلى بيئة، له وجود مستقل
عن واقعه. وهل يصبح المترجم أو العارض مثقفاً أو مفكراً أم عالماً؟
العلم موجود في الكتب، والكتب في المكتبات. ولكن يحدث العلم حين
يأخذ العالم المواقف بالنسبة للمترجم أو المعروض، إما بياناً لنشأة
الفكرة أو المذهب في بيئته الخاصة من أجل التعرف على مسار الفكر
وتطور البحوث الاجتماعية أو من أجل تطبيق مباشر لهذه الفكرة في
بحوثنا الخاصة مع أنه من الأفضل أيضاً حتى في هذه الحالة خلق نظرية
مباشرة لواقعنا المباشر. يتم أخذ الموقف إذن بالوعي بمتطلبات
الواقع، وبإرجاع الأفكار والمذاهب الغربية إلى واقعها الخاص أو
اعتبارها سابقة في حضارة أخرى كتجربة إنسانية عامة تعرف ولا تنقل.
فإذا بدأ التأليف فإنه يكون أيضاً عرضاً لمادة مستقاة من الغرب حول
موضوع ما، وإعادة ترتيبها وكأن ما يُقال عن الشيء نفسه، يكفي
الجامع معرفته باللغات الأجنبية، وقدرته في الحصول على المصادر،
وجهده وتعبه في الفهم والتحصيل، ووقته الذي وهبه للعلم، وهو لا
يعلم أنه واقع ضحية وهم أن العلم هو جمع المعلومات وليس قراءتها أو
استنباط علم جديد منها أو معرفة كيفية نشأتها في بيئتها أو التنظير
المباشر لواقعه الخاص لينشأ منه علماً جديداً يضاف إلى المعلومات
القديمة. إن التأليف لا يكون إلا دراسة لموضوع وصياغة قول فيه،
ونقد المنقول عنه بعد إرجاعه إلى العقل الصريح أو إلى الواقع ذاته
من أجل إكماله وضبطه. حذف الزائد أو إكمال الناقص كما كان يفعل
قدماء الشراح. ولكن عادة ما تكون حتى موضوعاتنا غربية أو شخصيات
غربية وليست موضوعات محلية من واقعنا المعاش، وكأن موضوعات العلم
وليس فقط مناهجه وتصوراته لابد وأن تكون كلها غربية بالضرورة.
تراكمت فوق الواقع طبقات فوق طبقات من العلوم، ولم نزد عليها
حرفاً.
وكثرت الرسائل العلمية حول الموضوعات الغربية عرضاً وتقديماً
للمذاهب والمناهج الغربية حتى أصبحت مرادفة للعلم. فالعالم هو
الحامل لها. المتحدث عنها. المؤلف فيها. كثر الوكلاء الحضاريون في
مجتمعنا، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض والمنقول. وتكثر الدعاية
بالرجوع إلى المصادر والمراجع بلغتها الأصلية، وكتابة المصطلحات
بالافرنجية أمام المصطلحات العربية خوفاً من سوء الاجتهاد، والشكوى
من عدم طواعية اللغة العربية لمقتضيات المصطلحات الحديثة. وكثر
تأليف الكتب الجامعية في المذاهب الغربية، ويظل أضخم مشروع لنا في
ثورتنا الحديثة هو ترجمة "الألف كتاب" نقلاً عن المؤلفات الغربية.
وما زالت برامج الكتب التابعة للسفارات الأجنبية ومراكزها الثقافية
هو ترجمة الثقافة الغربية في هذا البلد أو ذاك إلى اللغة العربية.
وتنال الكتب جوائز الدولة، ويحصل مؤلفوها على الدرجات الجامعية
والترقيات الوظيفية. ويشار إلى الكتاب بأنه أحسن ما ألف في
الموضوع، وأن الناقل نقل أفضل ما لدى المنقول عنه من بضاعة لأفضل
سوق، ولأطوع جمهور، وبأرخص سعر حتى يزيد الرواج. وتنتشر العلوم
والأسماء الجديدة أمام شباب الباحثين فيشعرون بضآلتهم أمامها:
الهرمنيطيقا، السميوطيقا، الاستطيقا، الأسلوبية، البنيرية،
الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترنسندنتالية، وتكثر عبارات
التمفصلات، التمظهرات، الابستيمة، ابوخية، الدياكرونية، السنكرونية..
الخ. أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام
المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع، ويطبق هذا المنهج أو ذاك،
متأثراً بهذه الدراسة أو تلك.
ثم ظهر في جيلنا "استغراب" مقلوب، بدلاً من أن يرى المفكر والباحث
صورة الآخر في ذهنه رأى صورته في ذهن الاخر. ولما كان الآخر متعدد
المرايا ظهر الأنا متعدد الأوجه، نبدأ بمرآة الآخر ثم صورة الأنا
فيها، مثل "الشخصانية الإسلامية"، "الماركسية العربية" أو "النزعات
المادية في الفلسفة الإسلامية" أو "الإنسانية والوجودية في الفكر
العربي" أو "الجوانية".
وعيوب هذا "الاستغراب" المعكوس، وهذه العلاقة المقلوبة هي الآتي:
أ_ اختيار جزئي من التراث الغربي، تراث الاخر، في إحدى مذاهبه
الشخصانية أو الماركسية أو الإنسانية والوجودية أو المثالية أو
الوصفية وليس الغرب ككل، وابتسار الحضارة الأوروبية وردها إلى أحد
أجزائها مع ضياع جدل الكل والأجزاء.
ب_ نزع هذه الأجزاء خارج بيئتها مع أنها نشأت كرد فعل على مذاهب
أخرى. فالماركسية رد فعل على المثالية الألمانية، والوجودية رد فعل
على المثالية والوضعية، والمثالية رد فعل على الفلسفة المدرسية في
العصر الوسيط، والإنسانية رد فعل على التمركز حول الله في الفلسفة
المسيحية، والشخصانية رد فعل على الفلسفات المثالية المطلقة،
والوضعية رد فعل على سوء استعمال اللغة في الميتافيزيقا الغربية،
والظاهراتية رد فعل على النزعتين الصورية والمادية في الفلسفة
الغربية؛ فالأجزاء يفسر بعضها بعضاً.
ج_ قراءة التراث الإسلامي، تراث الأنا، كله من منظور المذهب الغربي
الجزئي، وتأويل الكل الأصيل من منظور الجزء الدخيل مما يطمس خصوصية
التراث المقروء. وبالتالي يصبح التراث الغربي هو الإطار المرجعي
لكل قراءة لتراث آخر، وجعل المركز هو المقياس، والأطراف هي المقيس،
وبالتالي تضيع هوية الأطراف التي يتم إحالتها باستمرار إلى المركز.
وعلم "الاستغراب" انما يهدف أساساً إلى تغيير علاقة المركز
بالأطراف حتى تتعدد المراكز، وتتباين النماذج، حتى يتم الحوار
والتبادل بين انداد.
د_ ابتسار الكل، تراث الأنا، ورده إلى جزء مشابه في تراث الآخر حتى
يحدث التلقيح والتشابه. فتظهر الحضارة الإسلامية في نزعاتها
المادية عند الطبائعيين الأوائل أو في مثاليات الفارابي أو في
وجودية أبي حيان التوحيدي أو في إنسانية الصوفية أو في شخصانية
القرآن أو في لسانيات علم الأصول.
ه _ تكريس مركب النقص عند الأنا في مقابل مركب العظمة عند الآخر
تحت وهم أن تجديد الأنا لا يتم إلا في مرآة الاخر وأنه لا يتم رفع
الأنا إلا على مستوى الآخر في أحد جوانبه إذا كان الباحث من
المتمثلين لثقافة الآخر. أما إذا كان متمثلاً لثقافة الأنا فإنه
يبين أن ما ظهر عند الاخر من فلسفات ومذاهب ومناهج إن هو إلا تطوير
لبعض جوانب في تراث الأنا، في التصوف أو الأصول أو الفلسفة أو
الكلام أو في العلوم العقلية الخالصة كالرياضيات والطبيعيات أو حتى
في العلوم النقلية مثل علم مصطلح الحديث. أما علم الاستغراب فإنه
يقوم بدراسة التراث الغربي على النحو الآتي:
أ_ لا يدرس التراث الغربي في ذاته كي ننقل منه علماً أو معرفة بل
لنأخذ منه موقفاً حتى في العلوم المضبوطة. فقد كان بإمكان الصين
أخذ الجانب النظري من البحوث الذرية من حليفتها ولكنها، حتى في هذا
الجانب، آثرت القيام بأبحاثها المستقلة. يمكن اعتبار التراث الغربي
من علوم الوسائل، على ما يقول القدماء، لا من علوم الغايات.
ب_ دراسة التراث الغربي كجزء من تحليل واقعنا المعاصر باعتبار أن
التراث الغربي قد أصبح أحد روافد ثقافتنا المعاصرة بل أثر عند
البعض في طرق تكفيرنا وتصوراتنا للعالم، وأن ما نسميه بالاستعمار
الثقافي كشعار في الحقيقة موضوع دراسة علمية مستفيضة خاصة وأن هذا
الأثر قد طال وأصبح لا شعورياً. وربما يدخل إن لم يكن قد دخل
بالفعل كجزء من تكوين عقليتنا المعاصرة.
ج_ دراسة التراث الغربي كجزء من دراسة تراثنا القديم لأن فكرنا
المعاصر ومنذ أكثر من مائة عام نقطة التقاء بين حضارتين، تراثنا
القديم الذي يعاد بناؤه من جديد والتراث الغربي الذي هو امتداد
للتراث اليوناني القديم كما كانت دراسة الفلسفة اليونانية القديمة
جزءاً من دراسة الفكر الإسلامي القديم.
د_ دراسة التراث الغربي كجزء من المساهمة في الدراسات الإنسانية
العامة لإفادة الغربيين أنفسهم، والمساهمة معهم في فهم تراثهم كما
حاولوا هم في "الاستشراق" دراسة تراثنا وتعريفنا به. وقد نكون أسعد
حظاً في محاولتنا هذه نظراً لما يمكن أن نتمتع به من شعور محايد
ونظرة متكاملة نظراً لانقضاء عصر الاستعمار، وبداية عصر التحرر
والمساواة بين الشعوب.
الموقف من الغرب في دراستنا الوطنية
ومن دوافع تأسيس علم "الاستغراب" في جيلنا عدم وضوح العلاقة بين
الأنا والآخر، بين تراثنا القديم وتراث الغرب. إذ أننا بالنسبة لكل
تراث نقوم بأخطاء ثلاثة. فبالنسبة للتراث القديم نقوم بالأخطاء
الثلاثة الآتية:
أـ ننزع أنفسنا من بيئتنا الثقافية إما إحساسنا بالعار أمامها أو
خجلاً منها أو جهلاً بها أو تقليداً للغير أو انبهاراً به أو رغبة
في اللحاق بركابه.
ب_ نزرع أنفسنا في بيئة ثقافية أخرى، ندخل في معاركها ونحن لسنا
أطرافاً فيها، وبالتالي نحول أنفسنا إلى وكلاء حضاريين للغرب. هذا
مثالي، وذاك واقعي، هذا عقلي وذاك حسي، هذا وجودي وذاك وضعي، هذا
تحليلي وذلك بنيوي، هذا ماركسي وذلك برجماتي.. الخ.
ج_ نهرب من الواقع ذاته فلا نرى أوضاعه ولا أزماته، ولا ندخل في
تحدياته، نراه من غير ثقافة أصيلة فيه أو كثقافات طائرة فوقه تحل
محل الأولى، فيظل بلا حراك لا يتغير، بعد أن صفى دمه الأصيل ونقل
إليه دم غريب.
ونقوم بالنسبة لتراث الغرب بأخطاء ثلاثة كذلك:
أ_ إخراج الثقافة الغربية من بيئتها المحلية وظروفها التاريخية
وكأنه مذاهب مطلقة، وثقافة عامة لا أرض لها وطن، وجعل أنفسنا
أطرافاً في معاركها.
ب_ إعطاء الثقافة الغربية نوعاً من الإطلاق والتعميم ليس لها،
ونشرها خارج حدودها، وبالتالي تحقيق مآرب ثقافة المركز باعتبارها
ثقافة مهيمنة وموجهة للأطراف.
ج_ محاربة الثقافات المحلية في حالة مقاومتها للثقافة الوافدة،
وبالتالي احداث الصراع بين الوافد والموروث، وشق الثقافة الوطنية،
والوقوع في الازدواجية الثقافية.
وإن الموقف الحضاري الآن بناء على الوعي التاريخي يقتضي أخذ موقف
نقدي من القديم وليس الدفاع عنه أو الهجوم عليه، وهذه مهمة الجبهة
الأولى، موقفنا من التراث القديم. كما يتطلب ثانياً أخذ موقف نقدي
من الغرب وليس الدفاع عنه أو الهجوم عليه، وهذه مهمة الجبهة
الثانية، موقفنا من التراث الغربي. كما يقضي ثالثاً بأخذ موقف نقدي
من الواقع لتغييره وتطويره وليس انعزالاً عنه. فالماضي ليس موطن
دفاع أو هجوم بل إعادة بناء، والمستقبل كذلك ليس موضوع دفاع أو
هجوم بل إعداد وتخطيط، والحاضر لا يمكن إرجاعه إلى الماضي
(السلفية) أو دفعه نحو المستقبل (العلمانية) بل هو الموطن الذي
تتفاعل فيها الجبهات الثلاثة. إن هذا الموقف النقدي عن الغرب بدلاً
من الهجوم عليه أو الدفاع عنه له ما يبرره في الآتي:
أـ مظاهر التغريب في حياتنا الثقافية وأساليب الحياة اليومية مما
يسبب أزمة هوية وأصالة.
ب_ الاستعمار الثقافي وسطوته واستمراره من خلال سيطرة الغرب على
أجهزة الاعلام والترويج لأسطورة الثقافة العالمية، ووقوع عديد من
المثقفين ضحية لها.
ج_ رد فعل الحركة الإسلامية العنيف وعن حق ضد التغريب حتى عادت بعض
احتياجاتها، وخرجت على سنة القدماء في أخذ الحق من حيث أتى حتى ولو
كان من الأمم القاصية عنا.
د_ بداية النهضة الاسلامية الجديدة، وإقالة الإصلاح من كبوته، مما
يعطي تفاؤلاً بإمكانية الاستقلال الحضاري.
ه _ كشف أزمة الغرب، وبأنه ليس بالحضارة التي لا تقهر، وضياع
الرهبة من الآخر، والتحرر من عقدة الخوف منه، وبأنه ليس الأستاذ
الأبدي، أزمات في الوعي، وأزمات في الإنتاج.
وإلى الآن ما زالت الحيرة تقع في الدراسات الوطنية بالنسبة
للحضارات الأوروبية نظراً لسيادة جدل الهجوم والدفاع وليس منطق
النقد وإعادة البناء على النحو الآتي:
أ_ الاغراق التام في الحضارة الغربية كتعبير عن تقليد الأنا للغير
مما يؤدي إلى التجاهل التام لخصوصية الموضوع الوطني وإمكانية
العثور على منهج وطني ملائم له. يتم التضحية بالموضوع الوطني في
سبيل تطبيق منهج غربي، فالأولوية للمنهج على الموضوع. كما يكشف عن
الإحساس بالنقص المنهجي أمام الغرب وعن غياب الوعي المنهجي العام
والمستمر من التراث القديم.
ب_ التجاهل التام كرد فعل نفسي انفعالي غاضب من الأنا ضد الآخر مما
يصيب الدراسة المحلية ذاتها بالعقم والتحجر والتكرار وفقدان
الدلالة، والاكتفاء بعلوم الغايات دون علوم الوسائل. وبالتالي يبقى
التراث القديم كما هو بلغته وتصوراته وواقعه منعزلاً تماماً عن
الواقع الحالي الذي يتطلب لغة جديدة ومفاهيم جديدة نظراً لتغير
متطلبات الواقع الجديد. فيدفع ذلك العلمانيين إلى مزيد من الإغراق
في علوم الوسائل دون علوم الغايات. ويظل الفعل ورد الفعل يغذي
بعضهما بعضاً في جدل دائري للنفي والإثبات.
ج_ محاولة التوفيق بين الإطار المحلي والإطار الغربي عن طريق
المنهج المقارن والتعامل بين ثقافتين "عربي بين ثقافتين". وقد يحدث
ذلك بطرق عدة: أولاً بيان أسبقية الموضوع المحلي على الحضارة
الغربية في الاكتشافات العلمية الإنسانية أو الطبيعية مما يرضي
غرور الأنا أو يعوضها عن الإحساس بالنقص أمام الآخر. ثانياً، بيان
أوجه التشابه بين حضارة الأنا وحضارة الآخر كمعلومات عامة غير
موجهة مما يرضى فقط رغبة الباحث في إظهار أنه ذو حضارتين، وصاحب
ثقافتين، ويعرف لغتين. وفي كلتا الحالتين تحدث نتيجتان:
أ_ الإيحاء بأن التطوير لا يتم إلا من الخارج، وأن رؤية دلالات
الموضوعات الوطنية لا تتم إلا باستعارة أدوات تحليلية من الاخر
وكأن الموضوع نفسه مصمت، مجرد شيء، مع أن الموضوعات الوطنية
النابعة من التراث هي مناهج، وأن التراث كله إنما أتى من مصدر
منهجي ليؤسس علوماً منهجية.
ب_ الاعتراف بالعجز المنهجي للثقافة الوطنية على أن تبدع أدوات
تحليل ملائمة قادرة على تطوير الموضوعات الوطنية، وأنها مجرد تابع
لمناهج الآخرين، ثقافة عمياء في حاجة إلى مبصرين، وبالتالي تأكيد
غياب المنهج في رسائلنا الجامعية وفي حياتنا اليومية وفي ادارتنا
لشؤون البلاد.
علم "الاستغراب" في مؤلفاتنا السابقة
وبعد هزيمة 1967 ظهر المشروع في بدايته من جديد على مستوى جماهير
القراء وليس على مستوى المتخصصين على أنه جدل بين الأنا والآخر في
قضايا معاصرة بجزأيه: الأول "في فكرنا المعاصر" عن الأنا، والثاني
"في الفكر الغربي المعاصر" عن الاخر. وتكاد لا تخلو دراسة واحدة عن
الاعلان عن احتمال قيام مثل هذا العلم. وكانت أول دراسة مفصلة لذلك
"موقفنا من التراث الغربي" وإعطاء نماذج لكيفية قراءة الآخر من
منظور الأنا وطبقاً لحاجاته مثل العقلانية والتنوير وفلسفات الدين
وفلسفات الثورة. وقد تم نفس الشيء في دراساتنا باللغة الانجليزية
التي ألقيت في مؤتمرات خارجية كنموذج لقراءة الآخر من منظور الأنا
سواء فيما يتعلق بالنص الديني، والقرآن أي الأنا إنما قرأ اليهودية
والمسيحية أي الآخر من منظوره، أو فيما يتعلق بمسائل التحرر
والثورة على مستوى الفكر ومقابلة عقيدة بعقيدة، وثورة بثورة.
واستمر هذا الجدل بين الأنا والآخر عنصراً دائماً في مؤلفاتنا
التالية سواء بإعطاء نماذج من القدماء كيف كان الفارابي وابن رشد
شارحين لأرسطو أو بالقيام بنفس المحاولة من جديد مع المعاصرين
مباشرة ولإبراز التمايز بين الموقفين الحضاريين.
وبعد الردة، وفي عصر الثورة المضادة، صدر البيان النظري عن الجبهة
الأولى "التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم" لتحديد طرق
النظر في ثقافة الأنا دون أن يغيب عن الذهن أن هذا التحديد أيضاً
يتم بالنسبة لثقافة الآخر على نحو غير مباشر. وقد تم ذلك صراحة في
نقد التغيير بواسطة الجديد وبيان بعض أخطائه مثل التبعية الفكرية
للغرب وهو ما سمى فيما بعد "الاستغراب المعكوس"، والإشارة إلى
الجبهة الثانية كجبهة مستقلة، وبيان أن منهج الأثر والتأثر الذي
استعمله المستشرقون إنما هو علاقة أحادية الطرف من الآخر إلى الأنا
ليقضي على إبداعها الذاتي. ولكن تظل المحاولة الأخيرة لهذه الصياغة
قبل الآن هي "العلم الاجتماعي الجديد" بالانجليزية حاولت أن أقدمه
مشروعاً لجامعة الأمم المتحدة في خطتها الخمسية الثانية وأنا أحدد
معالم هذا العلم الجديد، وأربطه بفترة التحولات التاريخية الرئيسية
في تاريخ الشعوب والحضارات وأجدد دوافعه وأقسامه وموضوعاته ومناهجه
ونتائجه. ولكن تم إلغاء قسم الدراسات الإنسانية كلية بالجامعة بعد
أن عصفت بها الهيمنة الغربية كما عصفت باليونسكو بعد مشروع "النظام
الاعلامي الجديد". ويتم الآن جمع دراسات عديدة باللغة الانجليزية
والفرنسية عن نفس الموضوع، جدل الأنا والآخر، وإن كان التركيز على
الأنا أكثر من التركيز على الآخر. فالموضوع يهمنا ولذلك اكتب
بالعربية، ويهمهم ولذلك أكتب بلغاتهم.
----------------------------
* المصدر: مقدمة في علم الاستغراب