إن فكرة النهضة الإسلامية التي تنظر إلى الإسلام لا من حيث قدرته
فقط على تهذيب الإنسان وإنما أيضاً على تنظيم العالم، سوف تصطدم
دائماً بنوعين من الناس وهم: المحافظون ودعاة الحداثة. يتعلق
المحافظون بالأشكال القديمة، ويتطلع دعاة التحديث إلى الأشكال
الأجنبية. يجر الأولون الإسلام إلى الوراء نحو الماضي، ويقحم
الآخرون الإسلام في متاهات مستقبل أجنبي.
ورغم هذا الاختلاف، فإن هذين النوعين من الناس بينهما شيء مشترك،
فكلاهما ينظر إلى الإسلام من زاوية ضيقة، حيث لا يرى فيه إلا
((دينا مجردا)) بالمعنى الأوربي لهذه العبارة. ونحن نرى في هذا
الموقف قصوراً في فهم لغة الإسلام ومنطقه، بل إخفاقاً أكبر في فهم
روح الإسلام ودوره في التاريخ وفي العالم. لقد أدى هذا القصر إلى
سوء فهم جسيم للإسلام باختزاله إلى مجرد ((دين))، وتلك فكرة خاطئة
تماماً.
قد يبدو من قبيل التكرار تأكيد الحقائق الأساسية فيما يتعلق بأصل
الإنسان ورسالته، إلا أن مدخل الإسلام في هذه الناحية يعتبر مدخلاً
متميزاً حيث يدعو إلى الجمع بين الإيمان والعلم. بين الأخلاق
والسياسة .. بين المثل العليا والمصالح. وبالاعتراف بوجود عالمين:
العالم الطبيعي والعالم الروحي الداخلي، يعلمنا الإسلام أن الإنسان
بتكوينه الفريد هو الذي وصل بين هذين العالمين، وبدون هذا التوحيد
بين العالمين سنجد الدين يميل إلى التخلف (حيث يرفض أي نوع من
أنواع الحياة المنتجة)، ونجد العلم يميل إلى الإلحاد.
وانطلاقاً من وجهة النظر التي تذهب إلى أن الإسلام مجرد دين سنرى
أن المحافظين يستنتجون أن الإسلام ((لا ينبغي له)) أن يسعى لتنظيم
العالم الخارجي، ونرى دعاة الحداثة يستنتجون أن الإسلام ((لا
يستطيع)) تنظيم العالم الخارجي، والنتيجة العملية واحدة.
إن النصير الرئيسي ـ إن لم يكن الأوحد ـ للفكر المتحفظ في العالم
المسلم اليوم هم ((الحُجاج والمشايخ)) هؤلاء الناس ـ خلافاً
للتعاليم الواضحة أنه لا كهنوت في الإسلام ـ جعلوا من أنفسهم طبقة
منظمة هيمنت على تفسير الإسلام ووضعت نفسها وسيطاً بين الإنسان
والقرآن. ولأنهم جعلوا من أنفسهم طبقة فقد أصبحوا ((لاهوتيين))
متحجرين في معتقداتهم. ولأن العقيدة الإسلامية في نظرهم قد تنزلت
وتم تفسيرها بصفة نهائية فإن أفضل شيء ممكن هو أن نترك كل الأمور
كما وصلت إلينا وتم تحديدها منذ ألف سنة مضت أو أكثر، وبهذا المنطق
المتحجر أصبحوا أعداء أشداء لكل جديد، فأي محاولة لتطوير الشريعة
كقانون ـ بمعنى تطبيق مبادئ القرآن على المواقف المستجدة التي ما
فتئت تظهر خلال تطور الحياة ـ يواجهها هؤلاء بطعن في سلامة إيمان
أصحاب هذه المحاولات. لعلهم يفسرون موقفهم بأنه حب للإسلام وغيرة
عليه .. ولكنه حب مَرَضي لأناس متخلفين ضيقي الأفق .. لقد اختنق
الفكر الإسلامي الحي بعناقهم المميت.
ولكن قد يكون من الخطأ الاعتقاد بأن الإسلام قد ظل كتاباً مغلقاً
في يد هؤلاء ((اللاهوتيين). حقاً لقد ازداد انغلاقاً عن المعرفة
المستنيرة، ولكنه في نفس الوقت ازداد انفتاحاً على الغيبيات. فقد
سمح هؤلاء ((اللاهوتيين)) بتدوين كثرة من الأشياء اللامعقولة في
هذا الكتاب .. أشياء غريبة تماماً عن الفكر الإسلامي اشتملت على
خرافات محضة. إن كل مَن عرف طبيعة اللاهوت يعلم لم كان عاجزاً عن
الصمود أمام إغراء الأساطير؟ بل أكثر من هذا يرى فيها إثراء للفكر
الديني. وهكذا رأينا عقيدة الوحدانية التي جاء بها القرآن ـ وهي
أنقى وأكمل الأفكار الدينية التي ظهرت في التاريخ ـ يُضحى بها
تدريجياً بينما ظهرت في الممارسة تجارة بغيضة في العقيدة. إن هؤلاء
الذين يسمون أنفسهم شُراح العقيدة أو حُراسها قد جعلوا من هذا
وظيفة مقبولة ومربحة .. ودون وخز من ضمير وصلوا إلى وضع رضوا فيه
باستبعاد العقيدة عن مجالات تطبيقها في الحياة.
لقد تبين أن اللاهوتيين أناس غير صالحين في مكان غير مناسب. والآن
وقد بدأت جميع الدلائل تشير إلى أن العالم الإسلامي يصحو من رقدته
فإن هذه الفئة أصبحت تمثل التعبير عن كل ما هو كئيب ومتصلب في هذا
العالم. لقد برهنت هذه الفئة على عجزها عن اتخاذ أي نوع من الخطوات
الإيجابية لتدعيم العالم المسلم في مجابهة الخطوب الفادحة التي
تنزل به في كل يوم.
أما أولئك الذين يُدعون بالتقدميين أو العصريين أو المستغربين إلى
غير ذلك مما يسمون به أنفسهم .. فإنهم يمثلون في الحقيقة سوء حظ
هذه الأمة المسلمة. إنهم كثرة كثيرة .. ذات نفوذ وتأثير. إنهم
يهيمنون بشكل ملحوظ على الحكومات وعلى التعليم والحياة العامة. وهم
يرون في فئة المحافظين تشخيصاً للإسلام .. ويدعون الآخرين إلى أن
ينظروا نفس النظرة .. وهكذا استطاع دعاة الحداثة أن ينشئوا جبهة ضد
كل ما تمثله الفكرة الإسلامية. ونستطيع التعرف على هؤلاء الذين
أقاموا اليوم من أنفسهم مصلحين في البلاد المسلمة من خلال فخرهم
بما كان يجب أن يخجلوا منه، وخجلوا مما كان يجب أن يفخروا به .. !
إنهم ((أبناء آبائهم)) فقد تعلموا في أوربا ثم عادوا من هناك بشعور
عميق بالدونية تجاه العالم الغربي المتقدم الغني، وشعور بالاستعلاء
على مجتمعاتهم التي جاءوا منها وقد أحاط بها الفقر والتخلف. لقد
حُرموا من التربية الإسلامية الصيحة وفقدوا كل صلة روحية أ أخلاقية
بشعوبهم ومن ثم فقدوا معاييرهم الأولى وأصبحوا يتخيلون أنهم بتخريب
الأفكار المحلية والتقاليد والمعتقدات وبتقديم أفكار غريبة سيقيمون
أمريكا ـ التي يكنون لها إعجاباً مبالغاً فيه ـ على أرض بلادهم في
يوم وليلة. إنهم بدلاً من العمل على تطوير إمكانات بلادهم الخاصة
ذهبوا ينفخون في شهوات الناس ويضخمون رغباتهم المادية، فأفسحوا
بذلك الطريق أمام الفساد والفوضى الأخلاقية، إنهم لم يستطيعوا أن
يفهموا أن قوة العالم الغربي لا تكمن في طريقته في الحياة. وإنما
في طريقته في العمل .. وأن قوته ليست في الموضة والإلحاد وأوكار
الليل وتمرد الشباب على التقاليد، وإنما تكمن في الكدح الذي لا
مثيل له، وفي المثابرة والعلم والشعور بالمسؤولية التي تتميز بها
شعوبهم.
المشكلة إذن ليست في أن مستغربينا قد استخدموا أساليب أجنبية،
وإنما في أنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونها أو يضعونها في موضعها
الصحيح .. وأنهم لم يفلحوا في تطوير حس قوي يكفي للتمييز بين ما هو
صحيح وما هو غير صحيح، ومن ثم أخفقوا في اختيار المنتج الحضاري
المفيد واستعاروا لمجتمعاتهم بدلاً منه عرضاً مرضياً من أعراض هذه
الحضارة فكان منتجاً ضاراً بل قاتلاً.
ومن بين السلع المشكوك في قيمتها ـ مما يجلبه مستغربونا معهم إلى
أوطانهم ـ أفكار ((ثورية)) مختلفة وبرامج إصلاح، و ((مذاهب إنقاذ))
موصوفة لعلاج جميع المشكلات. فإذا تأملناها ملياً نجد ـ لدهشتنا ـ
نماذج لا يصدقها عقل في قصر نظرها وارتجالها.
خذ لذلك مثلاً ((مصطفى كمال أتاتورك)) الذي كان قائداً عسكرياً
أكثر منه مصلحاً ثقافياً، والذي ينبغي وضع خدماته لتركيا في حجمها
الصحيح، ففي أحد برامجه الإصلاحية منع لبس الطربوش .. وطبعاً ظهر
على الفور أن تغيير غطاء الرؤوس لا يعني تغيير ما في هذه الرؤوس
ولا تغيير عادات أصحابها.
لقد واجهت أمم كثيرة خارج العالم الغربي ـ على مدى قرن من الزمن ـ
مشكلة: كيف تنتسب إلى الحضارة الغربية، هل ترفضها كلية .. أم تختار
منها بحذر .. أم تأخذها كلها بخيرها وشرها؟ ولقد تحددت عوامل سقوط
كثير من هذه الأمم أو ارتفاعها بالطريقة التي أجابت بها على هذا
السؤال المصيري. فهناك إصلاحات تعكس حكمة أمة ما، وإصلاحات تمثل
خداع أمة لنفسها، والمثل على ذلك قائم في نموذجين هما: اليابان
وتركيا.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يجد المتأمل أن
كلا الدولتين تُقدمان صورة شبيهة جداً لدول أخرى مثيلة. فقد كانت
الدولتان تمثلان إمبراطوريتين قديمتين، كل منها له ملامحه ومكانته
التاريخية. كلاهما وجدت نفسها على نفس المستوى من التطور .. كلاهما
يمتلك ماضياً باهراً .. وهذا يشير إلى الامتياز العظيم وإلى العبء
العظيم في نفس الوقت .. وفي كلمة واحدة كانت فرصتهما في المستقبل ت
عند نقطة معينة ـ تكاد تكون متساوية.
ثم جاءت الإصلاحات المشهورة في كل من الدولتين. أما اليابان ـ فلكي
تستمر في الحياة بطريقتها الخاصة وليس بأي طريقة أخرى ـ حاولت أن
توحد بين تقاليدها الخاصة وبين متطلبات التقدم. بينما اتجه
التقدميون دعاة الحداثة في تركيا إلى سلوك الطريق المعاكس (فتخلوا
عن تقاليدهم واندفعوا في طريق التغريب). فماذا كانت النتيجة؟ أصبحت
اليوم تركيا من الدرجة الثالثة، بينما اليابان ترتفع إلى القمة بين
أمم العالم.
ويبدو الاختلاف بين فلسفة الإصلاح الياباني وفلسفة الإصلاح التركي
أكثر وضوحاً في موقفهما المختلف من مسألة حروف الكتابة: حيث قامت
تركيا بإلغاء حروف الكتابة العربية في حين أن هذه الحروف لبساطتها
ولأنها تتألف من ثمانية وعشرين حرفاً فقط ـ تعتبر واحدة من أكمل
وأرقى حروف الكتابة وأكثرها انتشاراً في العالم. أما اليابان فقد
رفضت دعوة مستغربيها في تبني حروف الكتابة اللاتينية وأصرت على
الاحتفاظ بنظام كتابتها المعقد الذي يحتوي على 880 ((إيديوجرام))
(شكلاً صينياً) بالإضافة إلى 46 حرفاً أخرى. ورغم ذلك فلا يوجد في
اليابان أمية بينما نجد تركيا بعد أربعين سنة من استخدام الحروف
اللاتينية تزيد الأمية فيها خمسين في المائة من تعداد السكان الذي
يجهلون القراءة والكتابة. وتلك نتيجة تجعل الأعمى يسترد بصره.
وليس هذا هو كل شيء، فقد أصب واضحاً أن القضية لم تكن مجرد حروف
كتابة هي مجرد وسيلة للتسجيل، ولكن الأسباب الحقيقية وبالتالي
النتائج التي ترتبت عليها كانت أكثر عمقاً وأكبر خطراً. فجوهر كل
حضارة أو تقدم إنساني يكمن في الاستمرارية وليس في التخريب والتنكر
للماضي. إن طريقة الأمة في الكتابة هي الطريقة التي تتذكر بها
الأمة وتستمر في وجودها التاريخي. وعندما ألغت تركيا الحروف
العربية فقدت كل ثراء الماضي الذي حفظته الكلمة المكتوبة. وبهذا
الإجراء وحده وضعت الأمة على حافة البربرية. ومع سلسلة أخرى من
الإصلاحات المماثلة وجدت الأجيال التركية نفسها بلا دعامة روحية
تقوم حياتها .. وجدت نفسها في فراغ روحي بعد أن فقدت ذاكرتها
الماضية .. فمن الذي استفاد بهذا الوضع؟.
إن دعاة الحداثة في العالم المسلم حينذاك لم يكونوا من الحكماء
الذين انبثقوا من صميم شعوبهم .. يعرفون كيف يطبقون بطريقة جديدة
الأفكار والقيم القديمة على الظروف المتغيرة، إنما ناصبوا هذه
القيم العداء .. فعلوا ذلك بسخرية باردة، وبقصر نظر رهيب، وسحقوا
بأقدامهم كل ما هو مقدس عند الناس، فدمروا الحياة، واستزرعوا بدلاً
منها حياة مصطنعة غير حقيقية. ونتيجة لهذه البربرية التي سادت في
تركيا كما سادت في كل مكان ظهرت دول مزيفة أصابها الاضطراب الروحي
وفقدت ملامحها العريقة كما فقدت حاسة الاتجاه الصحيح. كل شيء فيها
أصبح سطحياً زائفاً، وفقد الإنسان فيها القوة والحماسة.
وهكذا أصبحت الأمة مسخاً مشوهاً يشبه مدنها الحديثة ذات البريق
المصطنع الذي يخفي وراءه باطناً خرباً.
فهل تستطيع دولة لا تعرف هويتها ولا تعرف أين تمتد جذورها أن تكون
لنفسها صورة واضحة عن الموقع الذي تنتمي إليه، والأهداف التي يجب
أن تسعى لتحقيقها؟.
قد يبدو النموذج الذي قدمه ((أتاتورك)) مفجعاً، ومع ذلك فإنه يمثل
النمط الغربي لفهم مشكلات العالم المسلم كما يمثل الطريقة التي
يفكر بها الغربيون والمستغربون لإصلاح هذه المشكلات. وقد أدى بنا
هذا إلى مصير واحد: التغريب والانسلاخ والهروب من مواجهة المشكلات
الحقيقية، ونم العمل الجاد للارتفاع بالناس أخلاقياً وتعليمياً ..
والتوجه كلية إلى الخارج والسطحي والمصطنع.
فما الذي يعنيه استقلال دولة مسلمة وقعت ادارة حياتها العامة في
أيدي هذا النوع من الناس؟ وما الذي استفادة الشعب من هذا الاستقلال
والحرية!؟
إن كل دولة بتقبلها هذه الطريقة من التفكير الأجنبي معتمدة على
الدعم السياسي الأجنبي سواء من الشرق أو الغرب ـ قد أذعنت للعبودية
من جديد. وهكذا وجدنا أمامنا نوعاً من الاستقلال يعتنق فلسفة
أجنبية وطريقة أجنبية في الحياة. استقلال يستند إلى المساعدات
الأجنبية ورؤوس الأموال الأجنبية. والدعم الأجنبي بصفة عامة. فالذي
اكتسبته هذه الدول ـ على وجه الحقيقة ـ إنما هو استقلال شكلي ..
ولكنها لم تحصل على حرية حقيقية، لأن كل حرية في صميمها حرية روحية
.. وأن استقلال لا يحقق هذا الشرط سرعان ما يختزل إلى مجرد السلام
الوطني وعلم جديد، وهما عنصران تافهان بالنسبة للاستقلال الحقيقي.
ومن ثم فإن الجهاد من أجل الاستقلال الحقيقي للشعوب المسلمة لابد
أن يبدأ من جديد.
جذور العجز:
هذان النوعان من الناس: المحافظون ودعاة الحداثة يمثلان المفتاح
لفهم الأوضاع الراهنة للشعوب المسلمة. إنهما وإن لم يكونا السبب
الوحيد لهذه الأوضاع إلا أن كلا الوجهين يعتبر المظهر الخارجي لسبب
أعمق .. ألا وهو: الحط من قدر الفكر الإسلامي من ناحية ورفض هذا
الفكر من ناحية أخرى.
ليس تاريخ الشعوب المسلمة فقط تاريخ التأكيد المتصل للإسلام في
الحياة العملية، بل إنه بنفس الدرجة قصة جهل وإهمال وسوء استخدام
وخيانة للفكر الإسلامي. ولذلك فإن تاريخ كل شعب مسلم هو قائمة
المنجزات العبقرية والانتصارات وفي نفس الوقت قائمة الأخطاء
الفاحشة والهزائم. وكل نجاحاتنا واخفاقاتنا من الناحيتين الأخلاقية
والسياسية هي مجرد انعكاس لفهمنا للإسلام وللكيفية التي طبقناه بها
في الحياة. لقد كان ضعف تأثير الإسلام في الحياة العملية للمسلمين
مصحوباً دائماً بانحطاطهم وانحطاط مؤسساتهم السياسية والاجتماعية.
وتاريخ الإسلام كله منذ بدايته إلى يومنا هذا يؤكد هذا التطابق،
كأن هذا التطابق هو المصير الذي لا مناص منه للشعوب المسلمة وأحد
قوانين التاريخ الاسلامي نفسه.
وهناك لحظتان متميزتان في مجرى التاريخ الإسلامي، إحداهما لحظة
ازدهار والأخرى لحظة انحطاط، وهما يصوران هذه الحقيقة أصدق تصوير.
لقد توفى محمد (ص) سنة 632م، وفي أقل من مائة عام من وفاته انتشرت
القوة الروحية والسياسية لرسالته على بقعة هائلة من الكرة الأرضية
ممتدة من المحيط الأطلسي إلى الصين ومن بحيرة آرال إلى منابع
النيل.
فُتحت سوريا سنة 634م وسقطت ((دمشق)) أمام الجيش الإسلامي سنة
635م، ووصل الإسلام إلى مصر والهند سنة 641م، وإلى ((قرطاج)) سنة
647م، وإلى ((سمرقند)) سنة 647م. وكان المسلمون على أبواب
القسطنطينية سنة 717م. وفي سنة 720م كانوا في جنوب فرنسا، وكان
هناك مساجد في شانتونج سنة 700م والي سنة 830 وصل الإسلام إلى
جزيرة جاوه.
هذا التوسع الفريد الذي لا يقارن بأي توسع آخر قبله أو بعده قد وفر
مساحة لتطوير الحضارة الإسلامية في ثلاثة عوالم: في اسبانيا والشرق
الأوسط والهند، وذلك على مدى حقبة من الزمن تبلغ حوالي ألف عام.
فما الذي يمثله المسلمون اليوم في العالم المعاصر؟ هذا السؤال يمكن
وضعه بطريقة أخرى: إلى أي مدى نحن مسلمن؟! إن الإجابة على هذين
السؤالين واحدة:
نحن مستعبدون: في نقطة معينة من التاريخ الحديث هي سنة 1919م لم
تكن توجد دولة مسلمة واحدة مستقلة .. ولم تتغير الأوضاع بعد هذه
النقطة تغيراً جوهرياً.
نحن غير متعلمين: ففي الفترة ما بين الحربين العالميتين لم توجد
دولة مسلمة واحدة بلغت نسبة القراءة والكتابة فيها أكثر من 50%
وعند الاستقلال وجد أن 75% من شعب الباكستان و 80% من الجزائريين و
90% من النيجريين يعانون من الأمية. وإذا قارنا هذا الوضع بما ذكره
((درابر) عن أسبانيا المسلمة ((الأندلس)) خلال القرن الحادي عشر
الميلادي تملكنا العجب، فقد أكد ((درابر)) أنه لم يكن يوجد في
اسبانيا حينذاك فرد واحد يجهل القراءة والكتابة.
نحن فقراء: فقد كان متوسط الدخل الفردي في إيران سنة 1966 يبلغ 220
دولاراً أمريكياً، وفي تركيا 240 دولاراًن وفي ماليزيا 250
دولاراً، وفي باكستان 90 دولاراً، وفي أفغانستان 85 دولاراً، وفي
أندونيسيا 70 دولاراًن مقارنة بـ 3000 دولار متوسط دخل الفرد في
الولايات المتحدة في نفس السنة. وكان إسهام الصناعة في الدخل
القومي للدول المسلمة يتفاوت من 10% إلى 20%، وكان نصيب الفرد من
السعرات الحرارية في وجبات الغذاء اليومية يبلغ 2000 وحدة في
المتوسط مقارنة بـ 3000 إلى 3500 وحدة من السعرات في أوربا
الغربية.
نحن مجتمعات ممزقة: فبدلاً من الحفاظ على مجتمع واحد خال من الفقر
الكافر والترف السفيه، تحولت المجتمعات المسلمة إلى عكس هذه
الصورة، مناقضة في ذلك لتعاليم القرآن التي تحول دون تركيز الثروة
في يد فئة قليلة من الناس دون بقية أفراد المجتمع (كي لا يكون دولة
بين الأغنياء منكم) الحشر/ 7، فالملكية تنتقل تدريجياً إلى يد
الأقلية الغنية. قبل الغصلاح الزراعي في العراق سنة 1958 كان كبار
الملاك يملكن 18 مليون دونم من الأرض الزراعية التي تبلغ جملتها 22
مليون دونم أي 82% بينما كان يوجد مليون وأربعمائة ألف فلاح عراقي
لا يملكون أرضاً على الإطلاق.
تلك هي حال المسلمين التي سماها البعض بحق ((ليل الإسلام المظلم))،
والحقيقة أن هذا اللديل قد بدأ بغروب في قلوبنا. وكل ما حدث لنا
وما يحدث لنا اليوم غنما هو صدى وتكرار لما حدث من قبل في داخلنا:
(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم) الأنفال/ 53.
إننا إذا استمسكنا بإسلامنا استمساكاً حقيقياً لا يمكن استعبادنا
أو إيقاعنا في الجهالة أو تجهيلنا أو تمزيق وحدتنا .. لا يمكن أن
نرتد عن الإسلام، لقد جاءت كل هزائمنا ابتداء من غزوة أحد حتى
هزيمتنا في سيناء لتؤكد هذه الحقيقة عندما نتخلى عن الإسلام يتخلى
النصر عنا.
وتتجلى ظاهرة التخلي عن الإسلام أو هجره بوضوح في محاولات قمع
الفكر الاسلامي واستبعاده من الحياة النشطة المتوثبة، كما تبدو في
تحجيم الاسلام إلى حالة من السلبية والتسطيح. ويمكن ملاحظة هذا
بأكبر قدر من الوضوح في طريقة تناولنا اليوم للقرآن وهو الفكرة
المركزية في الايديولوجية الإسلامية والممارسة الإسلامية.
ولابد هنا من الإشارة إلى أن كل تقدم حدث في الشعوب الإسلامية وكل
عصر من عصور الازدهار قد بدأ بالتأكيد على القرآن .. لم يكن امتداد
الفتح الإسلامي ـ الذي ألمحنا إلى مسلكه العبقري آنفاً والذي
استطاع خلال جيلين أن صل إلى شواطئ الأطلسي في الغرب وإلى أعماق
الصين في الشرق ـ لم يكن هذا المد هو الأمثل الأوحد بل المثل
الأعظم لهذه الحقيقة. وكل التحولات الكبرى في تاريخ الإسلام تؤكد
هذه الحقيقة.
فماذا كان وضع القرآن في الفترة السابقة على عصر الجمود والتقهقر؟
إن الإخلاص للكتاب لم يتوقف ولكنه فقد خصوصيته الفاعلة لقد استبقى
الناس في أفئدتهم من القرآن ما أشيع حوله من تصوف ولا عقلانية، فقد
القرآن سلطانه كقانون ومنهج حياة واكتسب قداسته ((كشيء)).
وفي دراسة القرآن وتفسيره استسلمت الحكمة للمماحكات اللفظية،
واستسلم الجوهر للشكل، وعظمة الفكر للمهارة والحفظ. وتحت التأثير
المستمر للشكلية الدينية قلّت قراءة القرآن وكثر الاستماع إلى
تلاوته بصوت غنائي. أما ما يحث عليه القرن من ـ جهاد واستقامة
وتضحية بالنفس والمال، وهي أمور شاقة بغيضة إلى النفوس الواهنة ـ
كل ذلك قد ذاب وتلاشى في ضباب الصوت الجميل لتلاوة القرآن وحفظه عن
ظهر قلب. هذه الحالة الشاذة قد أصبحت الآن مقبولة كنموذج سائد بين
الشعوب المسلمة. لأنها تتناسب مع أعداد متزايدة من المسلمين لا
يستطيعون الانفصام عن القرآن ولكنهم من ناحية أخرى لا يملكون القوة
أو الإرادة على تنظيم حياتهم وفق منهج القرآن.
ولعل التفسير النفسي لهذه المبالغة التي يخلعها الناس على التلاوة
المنغمة للقرآن يكمن في هذه الحقيقة. فالقرآن يتلى ثم يفسر ويتلى.
ثم يدرس ويتلى مرة أخرى. وهكذا تتكرر الآية ألف مرة ومرة حتى لا
نطبقها في حياتنا مرة واحدة .. لقد أنشئ علم كبير لتحري الدقة
المتناهية في نطق القرآن حتى نتجنب قضية كيف نمارس القرآن في
حياتنا اليومية. وهكذا تول القرآن (عندنا) إلى صوت مجرد من الوعي
ضبابي المعنى.
إن واقع المسلم بكل تناقضاته، وكل ما فيه من فصام بين الكلمة
والفعل، وانحرافه عن الواجب، وشيوع الفساد والظلم والجبن، ومساجده
الخالية وافتقاره إلى المثل العليا وإلى الشجاعة، وانتشار الشعارات
الإسلامية المثيرة والتشدد المتنطع في أداء التكاليف الدينية،
والاعتقاد بدون إيمان حقيقي فعال ـ كل هذا ليس إلا انعكاساً
خارجياً للتناقض الأساسي الذي أحطنا به القرآن والذي يتمثل في
الحماس المشتعل للكتاب من ناحية والإهمال الكامل لمبادئه في
الممارسة العملية من ناحية أخرى.
إن وضع القرآن هذا هو السبب الأول والأكبر أهمية لتخلف والعجز الذي
تعانيها الشعوب المسلمة. وهنالك سبب آخر ذو أهمية عامة وهو التعليم
القائم أو بالأحرى نظام التربية بأوسع معانيه.
كانت شعوبنا ـ عبر قرون كثيرة مضت ـ محرومة من وجود أناس متعلمين
تعليماً صحيحاً فعالاً. وبدلاً منذ لك توفر لهذه الشعوب نوعان
آخران من الناس كلاهما غير مرغوب فيه: الجهال والمتعلمون تعليماً
خاطئاً. فلا يوجد في دولة مسلمة واحدة نظام تعليمي مُعد إعداداً
مناسباً قادراً على التجاوب مع الفهم الأخلاقي للإسلام أو التجاوب
مع احتياجات الناس. فأصحاب السلطة عندنا إما أنهم قد أهملوا هذه
المؤسسة بالغة الحساسية في أي مجتمع، أو تركوها هباً للأجانب
يتصرفون فيها وفق مخططاتهم. فالمدارس التي يمولها الأجانب
بتبرعاتهم ويوفرون لها المعلمين والمديرين الذين يجلبون معهم
الأيديولوجية والمناهج، هذه المدارس لا تُعلم الناس ليكونوا مسلمين
ولا حتى ليكونوا وطنيين. إنما يحقن النشء فيها ((بفضائل)) الطاعة
والخضوع والانبهار بتقدم المجتمعات الأجنبية وسطوتها وثرائها.
وفيها يُربون في الصفوة عقلية التبعية لأنهم يعلمون أن هذه الصفوة
ستحل مكانهم في المستقبل بنجاح باهر، حيث يشعر أعضاء هذه الصفوة
بأنهم أجانب في بلادهم وسيترفون على هذا الأساس، ومما له دلالة
كاشفة تلك الكثرة الكثيرة من المدارس التي يديرها الأجانب بطريقة
مباشرة أو غير مباشرة .. ولابد أن نتأمل في أسباب هذا الكرم
العجيب، وأن نتفحص مناهج هذه المدارس ونحلل محتواها تحليلاً
عميقاً، وأن نتنبه إلى عدم اشتمالها على موضوعات بعينها. حينئذ
سيتضح لنا تماماً أن القضية الحقيقية ليست هي ما إذا كان أعضاء
النخبة عندنا يرغبون في أن يجدوا طريقاً للوصول إلى شعوبهم والتعرف
على طموحاتها ومصالحا الحقيقية،ولكن القضية هي أنهم وقد تشكلوا على
هذا النحو لا يمكن أن يهتدوا إلى هذا الطريق على الإطلاق والسبب
يرجع إلى تلك القيم والمثل التي نشأت عليها هذه النخبة، وإلى تلك
الفجوة النفسية التي أقيمت بينهم وبين شعوبهم. وهكذا لم يعد هناك
ضرورة للسلاسل الحديدية لإخضاع شعوبنا فإن الخيوط الحريرية للتعليم
الأجنبي لها نفس القوة .. إنها تشل عقول المتعلمين وإرادتهم. وبهذا
الوضع للتعليم فإن الأجانب من أصحاب النفوذ وأتباعهم من أبناء
البلاد المسلمة ليس عندهم ما يخشونه على مراكزهم .. فبدلاً من أن
يكون التعليم مصدراً للتمرد والمقاومة يصبح أكبر حليف للأجانب
وأتباعهم.
هذه الفجوة المأساوية بين النخبة وبين الشعوب في البلاد المسلمة ـ
وهي أحد أسوأ الملامح في وضعنا العام ـ قد ترسخت من الجانب الآخر.
فبسبب إحساس المسلمين بخصوصية هذه المدارس رفضوها رفضاً غريزياً ..
ومن هنا أصبح النفور متبادلاً. لقد قامت في الغرب اتهامات غامضة
بالنسبة لنفور البيئات المسلمة من المدرسة والتعليم .. والحقيقة أن
القضية ليست نفوراً بهذا المعنى وإنما هي نفور المسلمين من المدارس
الأجنبية التي تفتقد كل صلة روحية بالإسلام وبالشعوب المسلمة.
ـ لا مبالاة الجماهير المسلمة:
ما جاء به دعاة الحداثة إلى عدد من البلاد المسلمة يعتبر ـ كقاعدة
عامة ـ اتجاهاً ((لا دينياً)) يقودهم في هذا شعارات معينة تتأدى
بفصل الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية هذا الاتجاه يستدعي إلى
الذاكرة قصة الصراع الذي نشب بين الدول القومية وبين الكنيسة
الأوربية في مستهل العصر الحديث. لكن ذلك الذي كان يعني تقدماً
ومتفقاً مع الأوضاع التاريخية في الغرب كان بالنسبة للعالم
الإسلامي عملية غير طبيعية، تعجز عن إحداث أي تغيير إيجابي في حياة
شعوب هذا العالم. فالقوميات .. وكبح سلطان الدين والكنيسة الذي كان
يعني كل شيء في تاريخ الغرب الحديث لا يعني شيئاً على الإطلاق في
تاريخ العالم الإسلامي، ولأن هاتين الفكرتين (القومية وعزل الدين
عن الحياة العامة) فكرتان غريبتان في أصلهما وتكوينها، وكانت
انعكاساتهما في العالم المسلم عقماً روحياً عاماً. وباستزراعهما في
أرض المسلمين ارتفع الستار عن الفصل الأخير في مأساة العالم
المسلم. إننا يمكن أن نسمي هذا الفصل ((العلاقة المزدوجة)) أو
التوافق الداخلي بين عناصر الفكر والقيادة في المجتمع من ناحية
وبين الجماهير من ناحية أخرى، حيث تمثل النخبة القائدة الفكر
والإرادة بينما تمثل جماهير الشعب القلب والدم، وبتعاونهما معاً
بتحقق الشرط الأول لأي إنجاز عظيم وبدون هذا التعاون أو على الأقل
بدون رضاء الجماهير تبقى العمال مصطنعة مفتقرة إلى القوة الضاربة.
ويمكن التغلب على سلبية الجماهير وركودها إذا كان ذلك مجرد نتيجة
للمقاومة الطبيعية للعمل الشاق أو الهرب من مخاطر الكفاح. ولكن
يستحيل التغلب على هذه السلبية إذا كانت تمثل رفضاً لأهداف الكفاح
نفسها، لأن الجماهير حينذاك سترى هذه الأهداف متعارفة مع أعز
رغباتها ومشاعرها الحميمة.
هذه الحالة الأخيرة التي نشهدها اليوم ـ بدرجات متفاوتة ـ في جميع
البلاد المسلمة، حيث يحاول أدعياء الحداثة تنفيذ برامجهم الدخيلة
فتراهم يلجأون إلى منافقة الجماهير أحياناً وإلى التهديد أحياناً
أخر .. يدافعون ويحثون، يقيمون التنظيمات ثم يهجرونها إلى تنظيمات
أخرى .. يغيرون الأسماء والشخصيات .. ولكن يضربون برؤوسهم دائماً
في صخرة الرفض العنيد واللا مبالاة الدفينة من جانب الناس البسطاء
الذين يشكلون الغالبية العظمى للأمة. نذكر هنا على سبيل المثال
((الحبيب بورقيبة)) كنموذج لاتجاه شائع في بلاد المسلمين. كان ((بوريبة))
يلبس الملابس الأوربية ويتكلم الفرنسية في بيته، وكان حريصاً على
أن يعزل تونس لا عن العالم الإسلامي فقط بل عن العالم العربي
أيضاً، حاصر التعليم الديني وقيده. وكان يدعو لإلغاء الصوم في
رمضان لأن الصيام ـ كما يزعم ـ ((يقلل الإنتاج))، ولك يجعل من نفسه
قدوة مناسبة قام بشرب عصير البرتقال علانية (على شاشة التليفزيون)
في نهار رمضان. وبعد كل هذا يتعجب ((بورقيبة)) من سلبية وانعدام
التأييد من جانب الجماهير التونسية المسلمة لإصلاحاته
((التقدمية))!. حقاً إن أدعياء الحداثة لو لم يكونوا لهذا العمى
لبطل عجبهم .. ! .
إن الشعوب المسلمة لن ترضى بأي شيء يخالف الإسلام، لأن الإسلام ليس
مجرد مجموعة من الأفكار والقواعد والقوانين، وإنما يتجاوز هذا كله
ليصل ـ في الإنسان المسلم ـ إلى مكامن حبه وعميق مشاعره، وكل مَن
ينهض ضد هذا الدين لن يجني من عمله سوى الكراهية والمقاومة.
لقد خلق دعاة الحداثة حالة من الصراع الداخلي والاضطراب في
المجتمعات المسلمة بحيث أصبح كل برنامج (إصلاحي) سواء أكان
إسلامياً أم أجنبياً غير قابل للتطبيق. فالجماهير تتطلع إلى مشروع
اسلامي ولكنهم لا يستطيعون القيام به وحدهم بدون نخبة تقودهم،
والنخبة ـ من ناحية أخرى ـ تفرض على الجماهير برامج أجنبية ولكنها
لا تجد من هذه الجماهير استعداداً لكي يسهموا بعرقهم ودمائهم
وحماسهم لتنفيذ هذه البرامج المستغربة فتبقى أبداً حبراً على ورق
.. وهكذا تظل القوتان في تصادم .. تلغى إحداهما الأخرى .. وتبقى
على الساحة حالة من الشلل والعجز.
والحق أن هذه الساحة (التعيسة) يمكن أن تشهد نظاماً حياً وازدهاراً
وتقدماً .. ولكن لن يكون هذا النظام أو الازدهار والتقدم أوربياً
أو أمريكياً .. كلا .. فإن سلبية الجماهير المسلمة ليست سلبية
مطلقة وإنما هي في حقيقتها الطريقة التي يدافع بها الإسلام الشعبي
عن نفسه ضد الهجمات الخارجية والأجنبية. ولكن ما أن يظهر احتمال
لجهاد إسلامي حقيقي فإن الإنسان البسيط يبرهن على استعداده للجهاد
والمعاناة بل الموت. وتوجد في التاريخ الحديث أمثلة كثيرة على هذا
الموقف رأيناها في تركيا عندما هبت للنضال التحريري ضد اليونان بعد
الهزيمة التي لحقت بها خلال الحرب العالمية الأولى، ورأيناها في
المقاومة البطولية للشعب الليبي ضد الاحتلال الإيطالي، ورأيناها في
جهاد الفدائيين ضد الإنجليز في قناة السويس، وفي حرب التحرير
الجزائرية، وفي تحرير أندونيسيا وفي الهيمنة الإسلامية في باكستان.
وحيثما يراد استشارة حماس الجماهير كانت ترفع الشعارات الإسلامية
حتى وإن كانت مؤقتة أو غير مخلصة. وهكذا أينما وجد الإسلام تختفي
السلبية واللا مبالاة.
إن المشاعر القوية عند الجماهير المسلمة تحتاج إلى فكرة تحفزها
وتوجهها .. ولكن لن تكون هذه مجرد أي فكرة، وإنما يجب أن تكون فكرة
تتجاوب مع أعمق المشاعر الإسلامية ومن ثم لابد أن تكون فكرة
إسلامية.
ولسنا نرى ي الأوضاع الراهنة إمكانية حدوث أي توافق بين الجماهير
المسلمة وبين المثقفين والمفكرين والسياسيين المستغربين فلا أحد من
الجانبين لديه الاستعداد لكي يتخلى عن موقفه مهما طالت حالة التوقع
والحيرة. ولكن هناك طريقاً واحداً للخروج من الأزمة وهو تكوين نخبة
جديدة تفكر وتشعر إسلامياً .. هذه النخبة سترفع راية النظام
الإسلامي مع الجماهير المسلمة وتتخذ الخطوات العملية لتطبيقه.
---------------------------------------
* المصدر:الاعلان الاسلامي