موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

الأولياء والزوايا
عبدالعزيز الثعالبي



ما هو المقصود بالوليّ؟ فهل هو الرجل الذي استحق، بفضل استقامته، أن يكون قدوة للبشر وأهلاً للظفر بالنعيم الأبدي؟
إن كلمة ((وليّ))، بالنسبة لمتبعي الطرق الصوفية من المسلمين، تعني ما يلي:
يُعتَبر ((أولياء صالحين))، أولاً، رؤساء الطرق.
ـ والأقربون أولى بالمعروف؟ ـ ثم جميع أصحاب الفرق والمذاهب المتّسم تفكيرهم بالمراوغة والسفسطة، والقادرين على تحويل المؤمنين عن الطريق المستقيم، ثم كل الذين فقدوا رشدهم أو أصيبوا بعاهات أخرى.
ذلك أن المعنيين بالأمر يعتبرون من أولياء الله الصالحين، المجانين والمعتوهين والأغنياء وغيرهم من البؤساء القذرين المشوهين بالجروح والمرتدين للأسمال البالية. وما أكثر الأولياء المنتمين لهذا الصنف من البشر الموجودين في شوارع مدينة تونس! وما أشد دهشة السائح الأوروبي أو المسلم، عندما يلاحظ ما يتمتع به أولئك المشوهون من احترام! إن أمثال هؤلاء الناس يحظون بالعطف في جميع أنحاء العالم المتمدن، أما في الأقطار الإسلامية فإنهم محل عبادة!
وبعد وفاتهم تشيّد لهم الأضرحة في شكل قباب وتبني لهم الزوايا وتحبس الأوقاف على تلك المعالم ويزورها عدد لا يحصى من البشر للتضرع والتوسل.
وبالإضافة إلى ذلك فطوال مدة حياتهم، يعتبر الناس من السعادة بمكان أكل فضلات الأطعمة التي لمستها تلك الأيدي والأفواه القذرة، فتراهم يجمعون تلك الفضلات بكل اغتباط. ويبادر المرضى والراغبون في العلاج إلى أكل تلك القذارات المعتبرة في نظرهم بمثابة ((الترياق)) الصالح للعلاج والوقاية من جميع الأمراض. ويعمد بعضهم إلى الاحتفاظ بتلك الفضلات ووضعها مع مؤونتهم، حيث يعتقدون أنه بفضل تلك ((الخميرة)) ستنزل البركة الإلهية على تلك المؤونة فتضمن لها الدوام.
وبعد وفاتهم تصبح منازلهم الأخيرة أو الزوايا المخصصة لهم محاج للزائرين، مقدسة أكثر من بيت الله الحرام. فيقدم الناس من كل مكان لتعبئة الماء من الآبار أو الصهاريج التابعة للزوايا أو الأضرحة، ويصير ذلك الماء بمثابة البلسم الشافي من جميع العلل. وربما عمدوا إلى تابوت أو حلقة باب أو نافذة أو الشجرة التي كان يستظل تحتها الولي أو الصخرة التي كان يجلس عليها، فعقدوا بها خيطاً أو خرقة أو قطعة من القماش، معتقدين أن تلك العقدة ستنشئ بين الزائر والولي المتوفى، رباطاً وثيقاً يجبر الولي على إعانة صاحب ذلك الخيط أو الخرقة أو قطعة القماش.
وهكذا فإن الأولياء سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، يتمتعون بسلطة مماثلة لسلطة المولى عزوجل ويقدرون على تغيير مصير الإنسان، حسب زعمهم.
وإنّ كل الأماكن التي يقيمون ـ أو أقاموا بها ـ وكل المحلات التي خصتهم بها الخرافات قد أصبحت من أجل ذلك بقاعاً مقدسة يستجاب فيها الدعاء دوماً وأبداً.
وبناءً على ذلك فقد كان الزائرون يفدون من أقصى أنحاء العالم الإسلامي لتقديم القرابين إلى الزوايا أو بالأحرى إلى شيوخ تلك الزوايا، إذ من الواجب أن يكون الدعاء مقروناً دائما بالهدايا، لأن الولي لا يستجيب الدعاء بدون مقابل، فالرشوة موجودة حتى بالنسبة إلى الأولياء!
وبالإضافة إلى ذلك فقد أصبحت الزوايا في أقطار المغرب الإسلامي ملاذاً لمجرمي الحق العام. وقد اعترفت الحكومة التونسية بحق الالتجاء لأضرحة الصالحين.
وما أشد سعادة من أسعفه الحظ بشرب قليل من الماء الذي اغتسل به أولئك الأقذار! وما أشد سعادة من تحصل على خرقة من ثيابهم الرثة أو قطعة من الخشب الذي صنعت منه توابيتهم أو أي شيء آخر احتك بأجسامهم! وما أسعد مَن لمست شفتاه أجسادهم أو خرقة من ثيابهم أو جداراً من جدران أضرحتهم أو تابوتا من توابيتهم!
لقد أصبحت سلطة أولئك الأولياء تضاهي ـ كما قلنا ـ سلطة المولى جل جلاله. فالنساء العاقرات يقبلن عليهم طلباً لإنجاب الأطفال والفتيات طلباً للأزواج. والمسنون يتوجهون إليهم للتمديد في أعمارهم والبؤساء للظفر بالنعيم والعظماء للمزيد من العظمة. أما الضعفاء والمضطهدون فيلتمسون منهم الرعاية وتعويض ما لحقهم من ضرر.
فكيف أمكن لأولئك الأولياء وأصحاب الطرق ولهؤلاء الأشخاص الفاقدين للصواب والعقل والرشاد، كيف أمكن لأولئك المتطاولين على الدين، وقد خامرت عقولهم مثل تلك الفكرة المدنسة المدعية للارتباط الودي بالله، قلنا كيف أمكن لجميع هؤلاء الأشخاص أن يؤثروا في عقول الجماهير؟ لقد تمكنوا من ذلك لا فحسب بادعاء علم الغيب بل أيضاً بالتأكيد على أن لهم من الحظوة لدى المولى عزوجل ما يسمح لهم بتغيير المستقبل المسطر من قبل، حسب الشريعة الإسلامية، والراجع أمره إلى الله، حسب قول (الشاعر الفرنسي) فيكتور هوجو.
ولسنا في حاجة إلى إقامة الدليل على أن التصريح بهذه النظرية يخالف تماماً جميع مبادئ الدين الإسلامي ويعتبر أقبح بدعة وأفظع انتهاك لحرمة الدين.
ولإثبات ما ذهبنا إليه، سنتشهد ببعض الآيات القرآنية.
فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز:
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) سورة الأنعام، الآية 60.
وق في سورة أخرى:
(يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما عملها عند ربي لا يحليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون، قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً غلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) سورة الأعراف، الآيتان 187 و 188.
وهكذا فإن أولئك الأولياء والشيوخ وأصحاب الطرق الذين يعلمون الغيب ـ حسب زعمهم ـ ويستطيعون تغيير مصير البشرية، يتمتعون حينئذ بسلطة أكبر من سلطة الرسول ذاته. وإنها لنظرية منافية للعقل! حيث إن جميع المؤلفين وكافة المسلمين مقتنعون بهذا المبدأ المسّلم به: ألا وهو أنه لا أحد يستطيع أن يماثل الرسول (ص)!
فمثلما أثبتناه بالاستناد إلى عدة نصوص مستخرجة كلها من المنبعين الوحيدين للإسلام وهما القرآن والحديث، قد عمد الأولياء والطرق إلى تحريف الدين الإسلامي تحريفاً تاماً وذلك بإقامة نظام مماثل للوثنية التي قاومها الإسلام وقضى عليها.
وقد أسفرت تلك الطرق عن نتائج وخيمة وضارة. فما المقصود بالطريقة أو الفرقة الصوفية بالمعنى الإسلامي للكلمة؟
الطريقة هي عبارة عن تجمع يضم عدة أشخاص يسخرون أوقاتهم وطاقاتهم للرفع من شأن الجمعية التي ينتسبون إليها والزيادة في نفوذها المادي والأدبي. ولتحقيق تلك الغاية ينشرون لدى العموم أفكاراً، يعلمون أنها منافية للأخلاق وللحقيقة الدينية، ويحاولون إقناعهم بأنه لا يمكن القيام بأي عمل في هذه الحياة الدنيا دون التوسط بشيخ الطريقة الذي يمثلونه، وأن كل شيء ينبغي أن يكون خاضعاً لهم ومسخراً لمصلحة الطريقة وبالتالي لمصلحتهم.
إنه لا ترجى أية فائدة من تلك الطرق لأنها لا تعيش إلا من الأوهام والخرافات.
فقد أصبحت الزوايا وأضرحة الأولياء عبارة عن مآوي يلتجئ إليها المجرمون والزانيات المرفوقات بأخدانهن والفتيات القادامات لتنيس شرفهن والفتيان الملوثون لسمعتهم إلى الأبد.
فأي أب دُنّس شرفه في أماكن الفساد المذكورة، يتجاسر على طلب ابنه من شيخ إحدى تلك المؤسسات الموصوفة باطلاً بالدينية أو يستطيع تأنيب ذلك الابن على سوء سلوكه في الزاوية؟
وأي زوج يتجرأ على محاسبة زوجته لإقامتها مدة أطول من اللازم في تلك الأماكن المقدسة، حسب زعمهم؟
وأي زوج يستطيع أن يحاسب زوجته التي خانته ودنست شرفه، بما أنها التجأت إلى تلك الزاوية صحبة عشيقها؟
لا يستطيع أي أحد ذلك لأنه ليس لأي أحد القوة الكافية لمقاومة تلك الطرق. ومع ذلك فإن كل الناس يعرفون أن العاشقين موجودون هناك وأن الفاسقين يبحثون هناك عن غنيمة لهم.
ولقد أثرت تلك الطرق في الإسلام تأثيراً سيئاً، حيث أفقدت المسلمين كل روح مبادرة. فلماذا يجتهد الإنسان ما دام يكفيه أن يتوسل لأحذ الأولياء ليضمن لنفسه السعادة والثراء؟ ولماذا يعلاج نفسه، إذ يكفيه أن يتضرع إلى أحد الأولياء ليستعيد صحته! وما الفائدة من الكدّ إذا كانت نتيجة الكسل هي نفس نتيجة العمل وإذا كان العمل الشاق لا يكلل دائماً بالنجاح، بينما التوسل للولي يوفر ثروات لا تحصى؟ وما الفائدة من السير في طريق الرقي والحضارة، بما أنه بالإمكان بفضل الأولياء الوصول إلى نتيجة أعلى من النتيجة التي بلغتها أرقى الشعوب وأسماها حضارة؟
إن أبشع الجرائم المرتكبة ضد الخالق والمخلوق مسموح بها ولا يلحقها أي عقاب، لأن الزوايا تعتبر ملاذاً للمجرمين، والولي يحمي أتباعه في الحياة وبعد الممات.
وتبعاً لذلك نلاحظ أن المبادئ التي تنشرها وتبثها الطرق الصوفية هي مبادئ الفوضى الخرقاء التي لا تغتفر، المقامة على الأنانية والمصالح الشخصية الحقيرة. وهكذا فإن ما رغبت فيه الطرق الصوفية وما تحصلت عليه يتمثل في البحث عن أسمى ضروب ((المجد والربح)) بالنسبة إليها وتعطيل الحياة والحضارة بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، وذلك بواسطة نشر الأوهام والجهل والتعصب!
وهل نحن في حاجة إلى إثبات ما قلناه بالاستناد إلى بعض الأمثلة المستمدة من تاريخ الشعوب الإسلامية؟ أم هل نحن في حاجة إلى إقامة الدليل عن تأخر الحضارة في الأقطار الإسلامية؟ وهل نحن في حاجة إلى ذكر أسماء تلك الأقطار؟ ألا يدرك المسلمون أنهم باتباعهم للمبادئ الضارة التي تبثها الطرق الصوفية، يخالفون مبادئ دينهم وأي دين أو قانون آخر، لأن جميع القوانين والأديان صادرة عن منبع واحد ألا وهو الأخلاق.
وهل يدرك ملوك وقادة الأقطار الإسلامية مدى ما يتحملونه من مسؤولية عندما يتركون رعاياهم يتبعون مثل هذه الأضاليل؟ ألا يدركون روعة هذه الآية الكريمة التي تحدد بالضبط تلك المسؤولية:
(وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا "تهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كثيراً) سورة الأحزاب، الآيتان 67 و 68.
------------------------------------
* المصدر: روح التحرر في القران


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع