موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

تربية شبابنا في ضوء الاتجاهات العالمية



الشباب ذخر الأمة، لأن الأمة لا تعده لحاضرها، وإنما هي تعده لمستقبلها، فصفحة الغد في تاريخ الأمة وديعة بين يديه، وهو قادر على أن يكتب هذه الصفحة بحروف من ذهب، وهو قادر ـ أيضاً ـ على أن يلطخها بالوحل.
والمسألة تتوقف على (إعداد) هؤلاء الشباب، لتحمل الأمانة، وكيفية هذا الإعداد، فهم قد يعدون ليتحملوا المسؤولية.. وقد يعدون بحيث لا يصلحون لشيء على الإطلاق.
ومن ثم كان مستقبل الأمة كله، رهناً (باستثمارها) في هؤلاء الشباب، ويحسن إعدادهم، لمواجهة المستقبل.
لماذا الشباب؟
وقد يقال: ولكن الأمر ليس وقفاً على الشباب، وإنما هو يشمل الأطفال والكبار أيضاً. وهو حق، لأن الشباب جزء من المجتمع، وهم يتأثرون بما يسود أطفاله وكباره، وهي تأثيرات تربوية مؤثرة وفعالة أيضاً، ومن غير المعقول عزل الشباب عن بقية أفراد المجتمع، ليتم تشكيلهم على النحو المراد. يضاف إلى ذلك، أن الشباب لا يعد لذاته، وإنما هو يعد للمستقبل، أي لمرحلة ما بعد الشباب، فالشباب في حد ذاته، قوة غير فعالة، وإنما تأتي فعاليته، من أنه يعد ليحمل الراية، من الجيل السابق، عندما ينتقل إلى سن الكبار، الذين يحملون الراية.
فالاهتمام بالشباب، مرجعه أن مرحلة الشباب، هي مرحلة النمو، التي ينتقل الانسان منها إلى حياة (الكبار)، ومن ثم فهي مرحلة التطور، تطوراً ينحو بها نحو التمايز والتباين.
توطئة لإعداد الفرد للتكيف الصحيح، لبيئته المتغيرة المعقدة. أي أن الطفولة تعج بمثابة (مادة أولية)، (تصاغ) في فترة الشباب، لتبدو في صورتها النهائية، بقية عمر الانسان.
كما يكون اهتمام الأديان السماوية بالشباب، اهتماماً منطقياً بمستقبل الدعوة الدينية، أي بمستقبل النهج الرباني وتحوله من فكر حبيس، إلى أسلوب حياة، ينتقل من خلال هؤلاء الشباب، إلى حياة المجتمع كله.
على أن الاهتمام بالشباب، لا يعني إغفال الطفولة، أو إهمال مرحلة النضج أو مراحله، وإنما هو يعني بذل مزيد من الاهتمام بمرحلة الشباب، بوصفها مرحلة (البلورة) أو (التشكيل)، بينما الطفولة لا تحتاج إلى أكثر من غشباع الحاجات الأساسية، ثم تلعب (القدوة) دورها في التوجيه، وبينما النضج لا أثر يذكر للتوجيه فيه، بعد أن ينتقل الانسان من الشباب إليه، وقد حددت بالفعل جوانب شخصيته إلى حد بعيد.
أنماط تربية الشباب:
تختلف تربية الشباب من مجتمع إلى مجتمع، باختلاف الظروف العامة المحيطة بكل مجتمع، من حيث التقدم والتخلف، والدين السائد، والنظرة إلى هذا الدين، ومن حيث العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة، المحيطة بكل مجتمع.
وليس الأمر هنا قاصراً على تربية الشباب، وإنما هو يتعداه إلى التربية بمعناها الواسع، الذي يرى أن التربية بأوسع مظاهرها، هي عملية ارتباط الانسان بالثقافة، وأنها عمل يتصل بالأطفال والكبار على السواء، من خلال اتصال الجميع بمصادر الثقافة، كالكتب والشخصيات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية، والمواقع والأضرحة التاريخية.
وفي هذا المعنى الواسع للتربية، نرى التربية تعني تطور كل قوى الانسان ونموها، وأنها تمتد مدى الحياة.
وإذا كانت التربية ـ بهذا المعنى الواسع لها ـ تعني النمو، فإن هذا النمو ـ على حد تعبير جون ديوي ـ إن هو إلا قيادة نحو المستقبل، أو هو عملية ترق من الناحية الجسمية والفكرية والعقلية جميعاً.
ومن ثم كانت التربية عند مفكريها، هي الحياة وليست الإعداد للحياة، بمعنى أن التربية ليست عملاً (مصطنعاً)، يتم من خلاله إعداد الفرد للحياة، وإنما التربية الحقة تتم من خلال مواقف الحياة العادية، فالانسان ـ على حد تعبير كاندل ـ يعيش ما يتعلمه.
والمتصفح للخريطة الانسانية المعاصرة، يستطيع بسهولة، أن يرى أن هناك نمطين أساسيين لتشكيل الانسان في مرحلة الشباب، أو لتربية الشباب: أولهما هو النمط السائد في البلاد المتقدمة، بخلفياتها التاريخية والسياسية والاجتماعية، وبتوزيعها بين مختلف قارات كرتنا الأرضية.
وفي البلاد المتقدمة، نرى (الخط العام) واضحاً أمام الجميع، بغض النظر عن النظام السياسي أو الاقتصادي، الذي يعيشون في ظله، ولذلك فالحياة في هذه البلاد تتميز بشيء من (الاستقرار). وهي ـ رغم هذا الاستقرار ـ تتطور نحو المستقبل تطوراً طبيعياً، لا حاجة فيه إلى (الثورة)، التي تهز القيم، وتزلزل الحياة.
وفي ضوء هذا (الخط العام) الواضح، ينشأ الشباب، على فلسفة الحياة التي نشأوا فيها، منذ تفتحت أعينهم على الحياة، من خلال وسائل التعليم المباشر، ومن خلال وسائل التعليم غير المباشر أيضاً، كالإذاعة والصحافة والتليفزيون وغيرها ـ فكلها تسير في نفس الخط الذي تسير فيه وسائل التعليم المباشر (نظم التعليم)، وإن كانت تختلف في ذلك فيما بينها، فهي تسير كذلك بطريقة تلقائية، نتيجة لارتفاع المستوى الحضاري في بلاد الغرب ـ الرأسمالي.
وتشتق تربية الشباب في المجتمعات الغربية ملامحها، من الفلسفة الليبرالية، التي تصبغ الحياة في الغرب، والتي تركز على الحرية الفردية، وعلى المناقشة، سواء في داخل النظام التعليمي وفي الحياة العامة، وعلى هذين المبدأين، ينمي الشباب في الغرب الرأسمالي، من خلال وسائل التعليم المباشر، ووسائل التعليم غير المباشر أيضاً.
وعلى النقيض من هذا النمط الغربي ذلك النمط الذي نراه في العام الثالث، حيث عدم الاستقرار، وحيث التذمر وحب الفوضى، والدعايات الظاهرة والمستترة بين الناس، أصبحت من الأمور المألوفة، وحيث الإحساس (بالدونية) نحو الحضارة لاغربية، والتطلع المستمر إلى هذه الحضارة، واستيراد نظمها ومؤسساتها، ولذلك فمناهج تربية الشباب فيها، تخدم في إبعاد الطالب عن ثقافته، واغترابه عنها، ولم يكن تأثير هذا في زيادة التفكك والتباين فحسب، وإنما في خلق الحاجات والرغبات، التي تتعارض والتنمية، حتى في أضيق معنى اقتصادي.
النمط الغربي في تربية الشباب:
إن النمط الغربي في تربية الشباب، يقوم على مبدأين، هما الحرية والمنافسة. والحرية والمنافسة، هما الوليد الشرعي للفلسفة الليبرالية، المنتشرة في حياة الغرب.
ولهذه الفلسفة الليبرالية، وانعكاساتها في مجال التربية، جذورها الضاربة في (تراب) الغرب، حيث قامت الحياة في العصور الوسطى على (التحكم) في الانسان الأوربي، تمارسه الدولة والإقطاع والكنيسة، ومن ثم كان رد فعل هذه العصور الوسطى بعد الإصلاح الديني سنة 1515، هو الحرية، خاصة بعد اتصال الغرب ـ منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي ـ بالحضارة الاسلامية، من خلال (معابر الحضارة)، التي يحددونها بالأندلس والحروب الصليبية والتجارة والكتب العربية المترجمة من العربية إلى اللاتينية وغيرها.
وقد بلور هذه الفلسفة أول الأمر جون لوك (1561 ـ 1626)، وبه تأثر كل المفكرين، الذين أثرت آراؤهم وأفكارهم، في حركات التحرير الكبرى التي شبت في القارة، من أمثال فوليترو مونتسيكيو وجان جاك روسو ـ فحركة التحرير الكبرى، التي سادت أوربا في القرن الثامن عشر، لم تكن سوى امتداد طبيعي لفلسفة لوك، تلك الفلسفة التي كانت تقوم على احترام القيم الانسانية، والحرية الفردية، سواء في الدين أو الفكر أو السياسة، وتنادي بتحرير الفرد، الذي كان قد انطمست شخصيته، في ظل من استبداد الكنيسة، وتلاشت حقوقه، وانصهرت في نار من طغيان الملوك، فأصبحت حياته كلها واجبات، بلا حقوق.
وقد انعكست هذه الفلسفة الليبرالية بوضوح، على كل جوانب الحياة في الغرب الرأسمالي، كما انعكست على فلسفة التعليم وأهدافه، وعلى مؤسسات التربية بمعناها الواسع، فأصلحت طرق التعليم بما يناسب الفلسفة الجديدة، كما ظهرت فكرة التعليم الإلزامي من وحيها، وفي ضوئها أعيد تنظيم المدارس الثانوية، وظهرت فكرة التعليم الحر liberal Education ، التي تمثل تمرداً ضد سلطة الدولة، وضد المذهب الديني، وضد كل عناصر النظام القديم، وصار ينظر إلى التربية، على أنها تعد للحياة، وعلى أنها أصبحت ضرورة اجتماعية.
وفي ظل هذه الفلسفة الجديدة للتربية، تطورت المجتمعات الغربية بعد الإصلاح، خاصة بعد ظهور الثورات ـ الصناعية والقومية وغيرها، ثم عادت هذه التطورات فانعكست ـ بدورها ـ على التربية في هذه المجتمعات، فصارت أكثر دعماً لحرية الشباب، سواء في اختيار التعليم الذي يناسبه، وفي (الوفاء) بمتطلبات هذا التعليم، وفي الانضمام بحرية إلى هذه الجماعة أو تلك، من الجماعات العديدة، السياسية والاجتماعية والدينية، التي تنتشر في هذه المجتمعات الرأسمالية، وإن كان ذلك قد أدى إلى ظهور العديد من الجماعات المضادة للمجتمع، والتي يقبل عليها الشباب الغربي اليوم بشكل واضح، والتي يبدو أن تحطم نظام الأسرة في الغرب، وعجز هذه الأسرة ـ لذلك ـ عن القيادة بوظائفها الطبيعية في حياة أبنائها ـ من أسبابها الرئيسية، بالإضافة إلى ما توفره القوانين لهؤلاء الشباب، من حق الخروج على الأسرة، والحياة حياة خاصة.
ومن ثم فتربية الشباب في المجتمعات الغربية تربية قوامها (الحرية)، وهي حرية لها منطقها في الغرب، بعد سنوات طويلة، من حياته في ظل العصور الوسطى.
التراب الوطني وتربية الشباب:
و (التراب الوطني) الغربي، الذي جرب (استبداد) الدولة والكنيسة والإقطاع، صمم ـ من أجل ذلك ـ على الحرية، مهما كانت آثارها السلبية، لأن هذه الآثار السلبية للحرية، لا تعد شيئاً إذا ما قورنت بالآثار السلبية للاستبداد، كما جربه طوال قرون العصور الوسطى، خاصة وأن هذه الحرية أدت به إلى التقدم والانطلاق، بعد الإصلاح الديني، ليشيد الحضارة العالمية المعاصرة.
وعلى النقيض من ذلك نجد ذلك النمط السائد في العالم الثالث، حيث نرى الشباب ـ لأسباب كثيرة ـ بعيداً عن هذا التراب، مرتبطاً باللفحات التي تهب عليه من هنا وهناك، من خارج الحدود.
وليت هذا الشباب، يرتبط بلفحات علمية أو حضارية، تأتيه من خارج الحدود، ولو أنه فعل ذلك، لكان ارتباطه هذا في خدمة التراب الوطني، ولكنه يرتبط بلفحات غير علمية وغير حضارية، متمثلة في أحدث الأزياء، وفي التحلل من القيم، وفي التمرد، وفي غيرها، مما يعتبر ثمرة الحضارة الغربية، ولكنه ليس هذه الحضارة.
ومن ثم صار هذا الشباب يعيش على فتات الغرب، لأنه ـ بتطلعه الدائم إلى الغرب ـ غير قادر على أن يشاركه مائدته.
وأدى عيش شباب العالم الثالث على فتات الغرب، على هذا النحو المرزي، إلى إبعاده عن مائدته الحقيقية، متمثلة في ترابه الوطني.
وتساهم أجهزة التعليم والإعلام والثقافة، بشتى السبل، فيزرع هذا الإحساس (بالغربة) في نفوس شباب العالم الثالث، من خلال تصويرها كل ما يأتي به الغرب، على أنه هو الكمال وحده، وهي تزرع هذا التصور في ضمير الشباب، عن قصد منها، أو عن غير قصد، وتكون النتيجة زيادة إحساس هذا الشباب (بالغربة)، ويتمثل هذا الإحساس، في محاولات الشباب الهجرة وترك التراث، والتخلي عن القيم والتقاليد، وتقليد الغربيين ي كل شيء، إلا ما كان مفيداً في حياتهم، وما أكثر المفيد في هذه الحياة، كالإخلاص في العملن واحترام الانسان لذاته، والوقوف على أهمية الوقت، واحترام العمل اليدوي، والتعاون، والإيمان بالعمل الجماعي، وغيرها وغيرها.
وكأنما فهم شباب العالم الثالث، أن الحضارة تعني التحلل من كل القيام، ناسين أن الحضارة في حد ذاتها، قيمة من هذه القيم، وأنها ثمرة تكامل عقلي وخلقي وروحي، وليست شيئاً يصل إليه الانسان ـ والمجتمع ـ بلا كد ولا تعب.. ولا أخلاق.
ويشهد العالم الثالث اليوم عودة إلى هذا التراب الوطني، بعد سنوات طويلة من التمرغ في الوحل، بعيداً عنه، وتتمثل هذه العودة في (العودة) إلى (التراث)، فها هي الكونفوشيوسية والبوذية والتاوية، تعود إليها الحياة من جديد، على يد الشباب، في بلاد جنوب شرقي آسيا، وها هي العودة العارمة إلى الاسلام، في البلاد الاسلامية، رغم أن القوى العالمية تتخوف من هذه العودة، تساندها في ذلك قوى محلية كثيرة، ترتبط مصالحها، ويرتبط وجودها ذاته، بهذه القوى العالمية، لأن القوى العالمية تدرك أن العودة إلى التراث، عودة إلى التراب، وأن العودة إلى التراب ستزيل العوائق التي تحول بين بلاد العالم الثالث وبين استغلال مواردها وإمكانياتها، وتحقيق ما تبغى تحقيقه من حضارة وتقدم ـ يعتبران أكبر تهديد للقوى العالمية، التي لا مورد لها، سوى تخلف هذه البلاد المتخلفة، أو بلاد العالم الثالث، التي تتركز فيها المواد الخام، اللازمة للصناعة، والأسواق، التي تباع فيها المنتجات الصناعية للبلاد المتقدمة.
تربية شبابنا في ضوء هذه الاتجاهات:
وقد عاد شبابنا إلى التراث، مع جملة العائدين إليه، من شباب العالم الثالث، فلم يكن في ذلك بدعاً عن شباب العالم الثالث كله، الذي جرب الشرق والغرب، فلفظ التمرغ في وحل هذا أو ذاك، ورأى الطريق الوحيد له، هو هذه العودة.
ولقد كان حصاد المرحلة السابقة في ضمير شباب اليوم، ما يفعله شباب الأمس، الذي أرغم على عدم العودة، والذي يدير اليوم مرافق المجتمع، إدارة يعاني منها الكبار والصغار على السواء.
وتثبيت أقدام شبابنا على الطريق الصحيح، ليس مسؤوليته، وإنما هو مسؤوليتنا نحن فإن لم نقم بها نح الكبار، كان له عذره إن وقع في أيدي، قد تبدو متدينة، ولكنها قد تكون على عكس ما تبدو، تركب الموجة، لتوجه ـ من خلال ركوبها ـ الأحداث، إلى حيث تهدم، إلى حيث تبني.
وهذا هو واجب التربية بالدرجة الأولى
التربية المدرسية، من خلال المناهج والكتب والمقررات، ومن خلال هيئات التدريس في المدارس، ومن خلال إدارة كل مدرسة.
ـ والتربية اللا مدرسية، في الإذاعة والصحافة والتليفزيون، وحركة الحياة في مجتمعنا، الذي بعد عن الدين فيما سبق مرغماً، فبعد عن الفضيلة والشجاعة والإخلاص والتفاني، كما أبعد عن أبسط ما يطلب إلى الانسان أن يحافظ عليه، وهو الإخلاص في العمل.
وهو واجب لا تقف منه الجامعة بمعزل بوصف الجامعة في أي مجتمع، هي العقل المدبر له، وهي القائدة لحركة الحياة فيه، أرادت ذلك أم لم ترده، لأن الناس هكذا ينظرون إليها.
-------------------------------------------------------
* المصدر: في التربية الاسلامية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع