موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

المجتمع والأدب في مرايا طه حسين
جابر العصفور



يؤكد طه حسين أن الظواهر الثقافية ـ ومنها الأدب ـ ظواهر اجتماعية أساساً، ذلك لأن الطبيعة الاجتماعية للإنسان ترد كل أشكال الثقافة التي ينتجها إلى عصره وبيئته. لن يصل بنا هذا التأكيد إلى شيء من العلاقة المعقدة بين البنية الفوقية والبنية التحتية، ليس حديث محدد عن العلاقة بين قوى الإنتاج وصلتها بإيديولوجية، تتوسط بينهما وبين الأعمال الأدبية، وإنما نحن إزاء لون من الحتمية الاجتماعية المبسطة، إذا صح هذا التعبير، وتتصف هذه الحتمية بآلية واضحة، تربط بين كل تغير في الظواهر الثقافية وأي تغير في المجتمع، بحيث تبدو العلاقة بين الإثنين أشبه بالعلاقة بين الصورة في المرآة وموضوعها الموازى لها. كما تتصف هذه الحتمية بتبسيط بالغ، فما نسميه الواقع الاجتماعي، ونرده إلى علاقات اجتماعية محددة، يمكن ضبطها ووصفها، ليس له مقابل محدد عند طه حسين، بل نحن إزاء أو صاف عامة، تتحدث عن البيئة مثلاً، وعلى نحو قد تعنى معه البيئة العوامل الجغرافية، أو الأدوات الإنتاجية، أو علاقات الإنتاج، أو النظم السياسية، أو المناخ الفكري بوجه عام، بل قد تضيق دلالة المصطلح لتنحصر في الوضع العائلي للأديب، وقد تتسع هوناً لتلمح صلة هذا الوضع العائلي بالوضع الطبقي العام، وقد تعني البيئة كل هذه الأشياء مجتمعة. وما يقال عن البيئة يمكن أن يقال عن بقية المصطلحات، من مثل العصر، أو الحياة، أو المجتمع أو ما أسماه طه حسين ـ في بداية حياته العلمية ـ ((العلل الاجتماعية والكونية)).
والذي لا شك فيه أن التبسيط الواضح لمثل هذه المصطلحات كان يتجارب مع المفهوم الآلي للعلاقة بين الظواهر الثقافية وأساسها المادي. وهو تجاوب يقوم على محاولة توفيقية تضم معطيات فكرية متعددة. وسنجد ـ في هذه المحاولة ـ إشارة إلى أرسطو الذي وصف الإنسان بوصفه حيواناً اجتماعياً، وإفادة من ابن خلدون الذي ((آمن .. في الحقيقة بمبدأ الجبر التاريخي، ولنا كل الحق في أن نعتبر أنه قد سبق مونتسكيو من تلك الوجهة))، ومحاولة للربط بين قوانين ابن خلدون وقوانين أوجست كونت عن طبيعة الظواهر الاجتماعية، ومقارنة بين مقدمته و ((روح القوانين)) و ((العقد الاجتماعي)) لمونتسكيو وروسو. وسنجد في هذه المحاولة ـ أيضاً ـ بعض الأفكار الأحدث التي ترجع إلى دوركايم أو سان سيمون، وهما مفكران يلتقيان في ذهن طه حسين ـ مع غيرهما ـ ليؤكد الجميع تطور المجتمع الإنساني، وخضوع التاريخ إلى قوانين أساسية تحكمه. وإذا وضعنا إلى جانب هؤلاء مفهوم تين عن ثلاثية الجنس والبيئة والزمان، أدركنا وجهاً آخر من أوجه المحاولة التوفيقية في صياغة هذه الحتمية الاجتماعية.
ولقد تجلت هذه الحتمية، في البداية، من خلال ((تجديد ذكرى أبي العلاء)) (1914)، واستمرت بعد ذلك مقترنة ـ بدرجات مختلفة ـ بنوع من ((الجبر في التاريخ)) يلغي الفاعلية الإنسانية. صحيح أن درجة الإلغاء تقل تدريجياً مع تغير طه حسين وتنوع ممارساته، ولكن المنظور الآلي المرتبط بالحتمية يظل باقياً لا ينتفي وجوده، كما يظل ((الجبر)) موجوداً بأكثر من شكل.
ولقد تحول الإنسان مع هذا ((الجبر)) إلى محصلة آلية لطائفة من العلل تحكم حركته، مثلما تحكم حركة كل شيء سواه. ومن الخطأ ـ كل الخطأ ـ فيما يقول طه حسين في ((تجديد ذكرى أبي العلاء)) أن ننظر إلى الإنسان نظرنا إلى الشيء المستقل عما قبله وما بعده. إن استقلال الإنسان أمر مستحيل استحالة المصادفة في هذا العالم الذي نعيش فيه. والحق كل الحق ـ فيما يقول طه حسين ـ أن هذا العالم يأتلف من أشياء يتصل بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض. فليس في هذا العالم شيء إلا وهو نتيجة من جهة، وعلة من جهة أخرى. ولذلك، فالإنسان بكل ماله من آثار وأطوار ((نتيجة لازمة وثمرة ناضجة، لطائفة من العلل اشتركت في تأليف مزاجه وتصوير نفسه، من غير أن يكون له عليها سيطرة أو سلطان)). وما ينطبق على الإنسان تعميماً ينطبق على الأديب تخصيصاً، فقد كان أبو العلاء ـ مثل غيره من الشعراء أو الأدباء ـ ثمرة من ثمرات هذه العمل ((قد عمل في إنضاجها الزمان والمكان، والحال السياسية والاجتماعية، بل والحال الاقتصادية، ولسنا نحتاج إلى أن نذكر الدين، فإنه أظهر أثراً من أن نشير إليه)).
إن الإنسان ـ على هذا النحو ـ جزء من حركة التاريخ، وحركة التاريخ حركة جبرية ليس للاختيار فيها مكان. ويعني الجبر في التاريخ ((أن الحياة الاجتماعية إنما تأخذ أشكالها المختلفة، وتنزل منازلها المتباينة، بتأثير العلل والأسباب التي لا يملكها الإنسان، ولا يستطيع لها دفعاً ولا اكتساباً)). ويترتب على هذا الفهم أن كل أثر مادي أو معنوي، وكل ظاهرة اجتماعية أو كونية ينبغي أن ترد إلى أصولها، وتعاد إلى مصادرها، وليست هذه المصادر والأصول إلا هذه العلل المادية والمعنوية التي تتحكم في حركة التاريخ، كما تتحكم في ظواهر الحياة وفي مظاهر الأدب. ولذلك، تشبه القصيدة الخطبة والرسالة، وتشبه كلتاهما الحادثة التاريخية، من حيث هي نسيج من العلل ((يخضع للبحث والتحليل خضوع المادة لعمل الكيمياء)).
وتقودنا الإشارة إلى الكيمياء ـ في هذا السياق ـ إلى قانون العلية الأساسي، ذلك القانون الذي ترتد إليه الحتمية الاجتماعية، وترتد إليه طبيعة الظواهر الثقافية، بوصفها معلولات تفضي إلى علتها. ولكن التشبيه بخضوع المادة لعمل الكيمياء يشير إلى تحولات تمر بها المعطيات داخل عمليات التفاعل الكيميائي التي تغير من عناصر المعطيات ذاتها، فهل ينطبق الأمر نفسه على الظواهر الثقافية؟ وهل يمكن القول إن الظواهر الثقافية ـ رغم قيامها على قانون العلية ـ إنما هي ثمرة لتفاعل معقد لا يتسم بالثبات، بين عناصر تتحول عما كانت عليه في البداية، مما يعني أن الصلة بين الظواهر الثقافية وعللها ليست صلة مباشرة، أو بسيطة، وإنما هي صلة معقدة تقوم على دخول وسائط متعددة، تساهم في تعقيد عملية التفاعل ذاتها؟ إن الأمر لا يبدو على هذا النحو عند طه حسين. ولا يلعب تشبيه الكيمياء ـ في هذا السياق ـ سوى دور يتصل بتأكيد قانون العلية الذي يدعم ـ بدوره ـ الحتمية فحسب. أما فكرة التفاعل الذي يحول العناصر، فإنها فكرة تتضاءل تحت سطوة الفكرة المقابلة عن الحتمية الاجتماعية التي تربط بين الظواهر الثقافية وعللها، في علاقة آلية، ويوازي فيها المعلول علته دون تحول جذري، أو توسط أو تفاعل بين الطرفين.
وتعكس الظواهر الثقافية ـ مع هذه الحتمية ـ المراحل التي يمر بها المجتمع، فتمثل الأوضاع القائمة فيه. ويقال إن الآداب والآراء تصور الجماعة، لأنها أثر من آثارها، وإن الأديب كائن اجتماعي، بل هو ((أجدر الناس بأن يكون هذا الحيوان الاجتماعي الذي تحدث عنه الفيلسوف القديم)).
قد يقول طه حسين ـ في سياق آخر ـ إن هذه الحتمية الاجتماعية تهون من الدور الفردي للأديب، ولا تستطيع أن تفسير العنصر الجوهري في الفن، وهو مشكلة الفرد، فتعجز عن مواجهة السر المزدوج الذي يجمع بين العبقرية الخاصة المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالفرد والاتجاه الأدبي المرتبط ارتباطاً مباشراً بالحتمية الاجتماعية. ولكن طه حسين يتجاوز هذا التناقض الظاهر بتأكيد صيغة تقوم على تولد العلل إحداها من الأخرى، وعلى نحو يوفق ظاهرياً بين الجبر الاجتماعي في حياة الجماعة والجبر النفسي في حياة الفرد، بحيث يصبح الجبر الأول علة للجبر الثاني، فيكون الأديب نفسه معلولاً لعلل اجتماعية تولد ـ بدورها ـ عللاً فردية، تنعكس جميعها في ناتج عمله الأدبي، وعلى نحو يمكن معه رد هذا الناتج إلى أصوله التي يتولد ثانيها عن أولها.
وبمثل هذا النحو من التفكير يمكن أن يقال إن الفرد قوة، قد تختلف عظَماً وضآلة ولكنها تظل قوة لها أثرها العظيم في تكوين القوة الاجتماعية فليس من المنطقي أن نعتبر الفرد كماً مهملاً. ولكن هذا الفرد لم ينشئ نفسه. وإنما هو أثر اجتماعي في وجوده المادي والمعنوي، فليس المأمون ـ مثلاً ـ هو الذي ابتدع فتنة القول بخلق القرآن، وإنما تلك فتنة أحدثها عصره، واندفع المأمون بحكم العلل الاجتماعية والكونية إلى أن يكون مظهرها. وينطبق القياس نفسه على شعر أبي نواس في المجون، فالمحقق ـ عند طه حسين ـ ((أن أبا نواس لم يبتدع مذهبه ... ولم يتكلفه تكلفاً، وإنما عاش في عصر وبيئة كانا يضطر انه إلى أن يرى هذا الرأي وينهج هذا النهج)). إن الفرد ظاهرة اجتماعية. و ((إذن فليس من البحث القيم العلمي في شيء أن تجعل الفرد كل شيء وتمحو الجماعة التي أنشأته وكونته محواً. إنما السبيل أن تقدر الجماعة وأن تقدر الفرد، وأن تجتهد ما استطعت في تحديد الصلة بينهما، وفي تعيين ما لكليهما من أثر في الآداب والآراء الفلسفية والنظم الاجتماعية والسياسية المختلفة)).
إن هذه الصيغة التوفيقية تظل قائمة في كتابات طه حسين، وهي تعمل عملها لتبقى العلل الاجتماعية في موضع الصدارة، وتحول العلل الفردية إلى معلولات لها إلى حين. ولذلك، يقول طه حسين في ((قادة الفكر)) (1925):
((إن هذه الآداب والآراء على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية: أي أنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر منها أثراً من آثار الفرد الذي رآها وأذاعها)).
ثم يعود طه حسين ليؤكد الأمر نفسه في ((خصام ونقد)) (1955) حيث يقول:
((الشاعر والكاتب لا يستمد أدبه من شخصه وحده. ولو استطعت لقلت إنه لا يستمد شخصيته من شخصه وحده. وإنما أكثر فنه يستمد أكثر شخصيته من أشياء أخرى ليس له حيلة فيها وليس لطبيعته ومزاجه وفرديته فيها كل ما نظن من التأثير. وأكاد أقول مع القائلين إن الفرد نفسه ظاهرة اجتماعية. فهو لم يأت من لا شيء وإنما جاء من أسرته أولاً. ولم يكد يرى النور حتى تلقته الحياة الاجتماعية فصورته في صورتها وصاغته على مثالها وأخضعته لمؤثراتها التي لا تحصى، فعنصر الفردية فيه ضئيل لا يكاد يحس إلا أن يمتاز هذا الفرد. وامتيازه نفسه يرد في كثير من الأحيان إلى الحياة الاجتماعية التي أنشأته)).
وتبدو العلاقة بين الأدب وبقية الظواهر الثقافية ـ في سياق هذه الحتمية ـ علاقة وثيقة. إذ يعكس الأدب ـ كبقية الظواهر الثقافية ـ شيئاً خارجه. قد يكون هذا الشيء المنعكس هو الحياة المادية أو الحياة المعنوية. ولكن هناك ـ في كل الأحوال ـ صورة تنعكس عما هو خارج الظواهر الثقافية ذاتها. ولذلك، تتحدد لاستخدام تشبيه المرآة في وصف هذه الظواهر ـ بما فيها الأدب ـ وظيفته الدالة التي تتصل بطبيعة العلاقة بين ظواهر الثقافة المختلفة وما تمثله، أو تصوره.
ويبدو أن طه حسين اقترب من هذا الفهم أثناء دراسته في الجامعة المصرية (1910 ـ 1914) على يد مجموعة من المستشرقين. ويبدو أن لكاركو نالينو ـ تحديداً ـ أثراً بارزاً في هذا الجانب، إذ يقول طه حسين عن دروسه:
((لأول مرة تعلمنا أن الأدب مرآة لحياة العصر الذي ينتج فيه، لأنه إما أن يكون صدى من أصدائها، وإما أن يكون دافعاً من دوافعها، فهو متصل بها على كل حال، وهو مُصَوّرُ لها على كل حال. ولا سبيل إلى درسه وفقهه إلا إذا درست الحياة التي سبقته فأثرت في إنشائه، والتي عاصرته فتأثرت به وأثرت فيه)).
وإذا تركنا ((الجبر التاريخي)) الذي يقابلنا ـ بشكل مباشر ـ في ((تجديد ذكرى أبي العلاء)) إلى ((قادة الفكر))، وجدنا أن الفلسفة ـ مثل الأدب ـ مرآة تعكس المجتمع الذي أنتجها. لذلك، كانت فلسفة السوفسطائيين ((مرآة صادقة لحياة اجتماعية كانت تنكر كل شيء في نفسه، ولا تعترف إلا بشيء واحد هو المنفعة الفردية)). وكما كانت فلسفة سقراط وأفلاطون ((مرآة تمثل)) الحياة الاجتماعية في عصرهما، كانت فلسفة أرسطاطاليس ((مثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلاً صحيحاً)). وإذا قلنا كيف يمكن أن تكون فلسفة السوفساطئيين وفلسفة سقراط مرآة لحياة اجتماعية واحدة على الرغم من تعارضهما، أو تكون فلسفة أرسطو وأفلاطون تمثيلاً لحياة اجتماعية واحدة، على الرغم من اختلاف كل فلسفة عن غيرها، ومن ثم عكسها لجوانب مغايرة عن الجوانب التي تعكسها الأخرى؟ قالت كتابات طه حسين إن القاعدة واحدة. وإن كل فلسفة تمثل جانباً دون آخر من حياة اجتماعية واحدة، فالأمر أشبه بازدهار شعر الزهد وشعر المجون في القرن الثاني للهجرة. يعارض كلاهما الآخر، لكن كليهما ينشأ عن المصدر الموحد الذي نشأ عنه غيره. فالحياة الاجتماعية ليست قطاعاً واحداً، بل قطاعات متعددة، تنعكس بأشكال متعددة في ظواهر ثقافية متعددة. ولذلك، تظل القاعدة قائمة، ويظل المبدأ المحرك للانعكاس متمثلاً في الطبيعة التأسيسية لتشبيه المرآة. وليس من المصادفة ـ والأمر كذلك ـ أن يؤكد طه حسين أن ((رسائل إخوان الصفا)) تمثل الحياة العقلية لعصرها مثلما تعكس الحياة السياسية ((فهي مرآة تنعكس فيها هذه الحياة السياسية انعكاساً مباشراً)).
وما يقال عن الفلسفة، في عمومها، يقال عن التاريخ، فالتاريخ ليس عرضاً لمجموعة عشوائية من الأحداث تخضع للمصادفة، وإنما هو تعاقب حتمي لأحداث تترابط ترابطاً علياً. ولكن يمكن لأحداث التاريخ ـ في هذا السياق ـ أن تتحول لتصبح صوراً تتعاقب بتعاقب المجتمعات في علاقاتها المتباينة، فيغدو التاريخ ((مرآة للأمم)) نفهم منها ما خضعت له الأمم من ألوان النظم المختلفة، وما نتجت عنه هذه النظم من علل مختلفة)).
ويشبه الدين التاريخ والفلسفة ـ في هذا السياق ـ فهو مرآة لحياة من يعتنقونه، صحيح أن الأديان لها رسالتها الإنسانية التي تتجاوز من أنزل عليهم الدين، لكن لها ـ مع ذلك ـ جوانب ترتبط بالمجتمع الذي أنزل فيه الدين من ناحية، وترتبط بتفسير المجتمعات لهذا الدين وممارسة شعائره من ناحية أخرى. فالدين ـ في النهاية ـ مرآة لحياة مَن يعتنقونه. ولذلك، كان ((الدين في لورد تجارة رابحة ولكنه في بريطانيا والإلزاس مرآة صادقة لقلوب مؤمنة خاشعة))، ولذلك كان القرآن الكريم ـ في جانب منه ـ ((مرآة الحياة الجاهلية))، بل ((أصدق مرآة للعصر الجاهلي)) فهو ((أصدق تمثيلاً للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي)).
وإذا تركنا الدين إلى بقية الظواهر واجهنا مبدأ العلية نفسه، بل يستمر المبدأ ليبرر اللغة التي تصبح ـ بدورها ـ عاكساً يعكس المجتمع من ناحية، والفرد من ناحية أخرى. ولذلك، كانت اللغة مظهراً من مظاهر التاريخ ((ومرآة لحياة الأمة))، فهي ((مرآة الأطوار المختلفة التي يتقلب فيها المتكلمون))، وتعني ((المتكلمون)) ـ في هذا السياق ـ الفرد والمجتمع، على السواء، مما يجعل اللغة ((مرآة حياتنا)) من ناحية، ومرآة لحياة الفرد وصورة صادقة له من ناحية أخرى. إن اللغة ((مرآة الحس والشعور، والعقل والقلب))، وهي تعكس صاحبها مثلما تعكس مواقفه، فإذا افترضنا ـ مثلاً ـ أن طه حسين مفكر يتخذ موقفاً وسطاً بين ما يسميه القديم والجديد، فلابد أن تكون لغته انعكاساً لهذا الموقف، لسبب يحدده طه حسين عندما يقول:
((أرى أن لغتي يجب أن تكون مرآة صادقة لنفسي. ولن تكون لغتي مرآة صادقة لنفسي إذا كانت قديمة جداً أو حديثة جداً. وإنما هي مرآة صادقة لنفسي إذا كانت مثلي وسطاً بين القديم والحديث)).
ويمتد الانعكاس الكامن وراء كل هذه المقارنات بالمرآة ـ عند طه حسين ـ ليشمل المؤسسات الاجتماعية نفسها، فتصبح وزارة المعارف ـ مثلاً ـ ((مرآة صافية أو قل إنها مرآة كدرة للحياة السياسية في مصر، فلها في كل يوم رأى إذا تغير الوزير في كل يوم، أو إذا اقتضت ظروف السياسة أن يغير الوزير رأيه في مسألة من المسائل)).
هكذا نجد أنفسنا ـ في مرات كثيرة ـ نواجه تشبيه المرآة يتكرر ملحاً على ارتباطه بهذه الحتمية التي تصل بين الظواهر والمؤسسات من ناحية وبين أشكال الحياة الاجتماعية من ناحية أخرى. ويقودنا التشبيه ـ في كل مرة ـ إلى علاقة بين طرفين، ثانيهما صورة تنعكس عن أولهما، فنرجع ـ دائماً ـ من الصورة إلى أصلها. وقد يكون هذا الأصل مادياً مرة أو فكرياً مرة أخرى، لكنه يرتبط ـ في كل المرات ـ بمجتمع يتكون من أفراد، وينطوي على نسيج من العلل، تنتج ظواهر هي معلولات لها ومرايا في الوقت نفسه.
وما ينطبق على الظواهر الثقافية ينطبق على الأدب، لأن الأدب واحد منها، يخضع لما تخضع له من قانون أساسي يجعلها انعكاساً لشكل أو أكثر من أشكال الحياة الاجتماعية. صحيح أن مصطلح الحياة غامض في هذا السياق، ولكنه مصطلح مرتبط بإطار التفكير العام عند طه حسين. وهو تفكير فيه من آثار الفكر الاشتراكي المثالي ما يجعله يرد الظواهر الثقافية إلى أساس آخر كامن وراءها، ولكنه يتوقف عند هذا الحد، فلا يفهم هذا الأساس على نحو محدد صارم، بل على نحو توفيقي يتمثل في توليفة متعددة العناصر، فيصبح الأدب ـ شأنه شأن التاريخ والفلسفة والدين واللغة والمؤسسات ـ مرآة تمثل مجموعة من الحقائق المستقلة، تصدر عن المجتمع، أي العلة النهائية في العملية الأدبية، وعن الفرد، المنتج المباشر لهذه العملية.
وإذا نظرنا إلى العملية الأدبية ـ من منظور المجتمع ـ قلنا ـ مع طه حسين ـ إن الأدب عموماً ((مرآة لعصره وبيئته))، والشعر خصوصاً ((مرآة لحياة ... البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الشاعر بوجه عام)). ويترتب على ذلك مبدأ مهم يرتبط بالدرس الأدبي ويتصل بالاستجابة التاريخية التي تحدثت عنها من قبل، وأعني مبدأ يؤكد معه طه حسين أننا إذا أردنا أن نتخذ لعصر من العصور ((صورة صادقة)) فلابد من الرجوع إلى الشعراء والكتاب لأنهم ((يمثلون الجماعة حقاً))، ولأن ((الحياة الأدبية هي الخلاصة النقية، وهي فيا لوقت نفسه المرآة لكل ما اضطربت به الأمة العربية في حياتها)). ولن يوجد شيء يصور الأمة العربية أصدق تصوير كالشعر العربي الذي هو ((مرآة لحياة هذه الأمة)).
ويطرح طه حسين ـ عند هذا المستوى ـ تمييزاً مهما بين الصور التي تعكسها مرآة الأدب والتاريخ السياسي بمعناه الضيق. لقد أدى الخلط بين الإثنين، فيما يرى طه حسين، إلى إغفال المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية في الأدب، وتحول الأدب إلى مجرد تابع للسياسة بمعناها الضيق. وكأنه ظل من ظلال الخلفاء. والحق ـ فيما يرى طه حسين ـ أن هناك فرقاً بين المؤرخ السياسي والمؤرخ الأدبي. وإذا جاز للأول أن يؤقت قيام الدولة العباسية ـ مثلاً ـ بسنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة، فليت يصح للمؤرخ الأدبي أن يجعل هذه السنة مبدأ حياة جديدة للأدب، لأن الظاهرة الأدبية تمتاز بأنها أشد ما تكون استعصاءً على مَن يريد التدقيق في حصرها وتحديد وقتها، إذ إنها لا تظهر إلا بعد مقدمات عدة يتوافق بعضها مع البعض الآخر، ويغالب بعضها البعض الآخر. و ((من هذا التوافق والتغالب تنتج الظاهرة الأدبية ممثلة تلك المقدمات التي اشتركت في إظهارها. وتلك المقدمات نفسها نتائج علل أخرى. ومن الظاهر أن حركة الحياة الأدبية، وانتقالها من طور إلى طور، واستبدالها شكلاً بشكل، كل ذلك يجري خلف ستار لا تخترقه إلا أبصار الباحثين المجودين. بينما الحوادث السياسية تظهر واضحة لكل باحث، ولا يخفى إلا ما انبعثت عنه من العلل والأسباب)).
ويرجع تعقد الظاهرة الأدبية ـ على هذا النحو ـ وتميزها عن الحوادث السياسية بمعناها الضيق، إلى أن الصور التي تمثلها مرآة الأدب لا تعكس الحوادث السياسية في ذاتها، أي لا تعكس موت خليفة وتولي آخر، أو سقوط دولة وقيام دولة أخرى فحسب، بل تعكس ـ بالإضافة إلى ذلك ـ العلل والأسباب التي تصنع هذه الحوادث. ولذلك، لا توازي مرآة الأدب ـ في تغيرها ـ حركة هذه الحوادث في ذاتها بقدر ما توازي مراحل التحول الاجتماعي الأساسية التي تصنعها، والتي يمثل تعاقبها التاريخ الحقيقي للأمة العربية. ويعني ذلك أن مرآة الأدب لا ترتبط في وجودها أو عدم وجودها بأنظمة الحكم السياسي الفردي، كما أنها لا تتطابق ـ فيما تعكسه ـ مع موت خليفة وتولي آخر، وإنما تتطابق مع مراحل التحول الاجتماعي الأساسية.
وإذا كان الشعر العربي ـ في مجمل تاريخه ـ مرآة شاملة تعكس مراحل التحول الاجتماعي، فإنه في كل مرحلة من المراحل مرآة خاصة ـ أو مرايا خاصة ـ تعكس المرحلة المتميزة التي أنتجته، على الأقل في جانب أو أكثر من جوانبها. صحيح أننا لا يمكن أن نلتمس الجوانب الدينية والاقتصادية والاجتماعية للحياة الجاهلية من الشعر الجاهلي، بسبب ما في هذا الشعر من انتحال لا يجعل منه مرآة صافية صادقة تماماً للعصر الجاهلي، ولكن الموثق الصحيح من هذا الشعر يمكن أن يمثل لنا بعض جوانب هذا العصر، فيطلعنا على بعض صوره.
وما يقال عن الشعر الجاهلي يمكن أن يقال عن غيره من الشعر عبر مراحل التاريخ العربي. ولذلك، كان الغزل في بادية نجد، في القرن الأول للهجرة، ((مرآة صادقة لطموح هذه البادية إلى مثلها الأعلى في الحب من جهة، ولبراءتها من ألوان الفساد التي كانت تعمر أهل مكة والمدينة من جهة أخرى)). وإذا تركنا بادية نجد إلى مدن الحجاز قابلنا شعر عمر بن أبي ربيعة الذي كان ((مرآة للحياة الاجتماعية الحجازية في القرن الأول للهجرة))، و ((مرآة لنفس المرأة الحجازية وحياتها بوجه عام))، و ((مرآة لنفس عمر ومظهراً لشخصيته ومثالاً لقوة حسه ودقة شعوره)). وما يقال عن الشعر في القرن الأول للهجرة يمكن أن يقال عن غيره من القرون، فلم يتخذ الناس من أبي نواس، في القرن الثاني للهجرة، مثالاً يكلفون به أشد الكلف إلا لأن أبا نواس كان ((مرآة للعصر الذي كان يعيش فيه، أو مرآة، إن شئت، للون من ألوان الحياة في العصر الذي كان يعيش فيه)).
وما ينطبق على الشعر القديم ينطبق على الأدب الحديث عموماً. قد لا نجد مرآة صادقة للعصر في كثير من شعر حافظ وأضرابه من شعراء الإحياء، لأن هؤلاء الشعراء لم يكونوا يعيشون عصرهم ويصورونه في شعرهم، بل كانوا مقلدين للشعر القديم ((فليس لهم إلا فضل واحد هو فضل الإحياء))، ولكن ((ليس من شك في أن حياتنا الحديثة قد وجدت من أدبنا الحديث مرآة صادقة تصورها أحسن التصوير وأدقه وأعظمه حظاً من إمتاع العقل وإرضاء الذوق وملاءمة الطبع)).
ويمكن ـ في داخل المساحة الممتدة للأدب الحديث ـ الإشارة إلى الأدب البدوي الشعبي في الجزيرة العربية ((من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب في باديتهم))، ويمكن الحديث عن الشعر الصادق لحافظ إبراهيم من حيث هو ((مرآة صافية صادقة لحياة نفسه ولحياة شعبه))، والحديث عن كتابات عبدالعزيز البشري من حيث هي ((أصدق مرآة وأصفاها للحياة المصرية في عصر الانتقال)). ويقال مثل ذلك عن مسرحيات عزيز أباظة، خصوصاً ((شهريار)) التي نجد فيها ((مرآة صادقة لآلام الناس وآمالهم وحياتهم كلها ما ظهر منها وما بطن))، أو يقال عن مسرحية محمود المسعدي ـ ((السد)) ـ لأنها ((مرآة للبطولة التونسية في مقاومة الاستعمار الفرنسي)).
وما يقال عن الأدب العربي يمكن أن يقال عن الآداب الغربية الحديثة، خصوصاً عندما يؤكد طه حسين إعجابه بقصص موليير ـ على سبيل المثال ـ لأن هذه القصص ((كانت مرآة صافية لحياة الناس وما يكون لهم من الأخلاق وما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال))، أو يؤكد إعجابه بالأدب الأمريكي لأنه ((مرآة رائعة لحياة ليست أقل منه روعة)). فهو ((مرآة لهذا الشعب (الأمريكي) ولكل ما اكتنفه واختلف عليه من المصاعب والخطوب)).
إن تشبيه المرآة، في كل هذه النصوص السابقة، مرتبط بهذه الحتمية الاجتماعية التي أشرت إليها في أول الفصل. ومن التبسيط المخل أن نقول إن هذه الحتمية هي التي أدت إلى استخدام التشبيه، ومن التبسيط ـ أيضاً ـ أن نقول إن التشبيه هو الذي قاد إلى هذه الحتمية. إن كلاً منهما يفضي إلى الآخر، كما أن كليهما يعمل على تحديد الآخر وتأسيسه. ولذلك، يتكرر التشبيه، بوصفه عنصراً تأسيساً، ليحدد العلاقة التي تصل بين كل الظواهر الثقافية ـ بما فيها الأدب ـ وأشكال الحياة الاجتماعية المختلفة، فيؤكد صلة الأدب بأصل خارج عنه. على نحو يجعل من الأدب نفسه مرآة للمجتمع.
وبقدر ما يؤكد التشبيه ـ في هذا السياق ـ جانباً من طبيعة الدراسة الأدبية، عندما تقترن دلالته بنوع من الاستجابة التاريخية للأعمال الأدبية، يؤكد التشبيه جانباً من طبيعة الأدب نفسه، وأعني الجانب الذي يجعل الأدب عاكساً لحياة اجتماعية قائمة قبل إبداعه، فيرتبط الأدب بهذه الحياة ارتباط المعلول بعلته. هذا الارتباط العلي يؤدي ـ في النهاية ـ إلى نتيجة لازمة تتصل بتغير المعلول بتغير علته. وما دام الأدب ـ المرآة يعكس الحياة الاجتماعية، وما دامت الحياة الاجتماعية نفسها تتغير من عصر إلى عصر، فلابد أن يتغير الأدب يتغير هذه الحياة، لأن كل تغير في الأصل ينعكس في صورته، ولذلك لا نواجه مرايا ثابتة في الأدب، بل مرايا متغيرة بتغير الحياة التي تعكسها. والفرق بين مرآة عمر بن أبي ربيعة ومرآة أبي نواس ـ من هذا المنظور ـ هو الفارق في الغزل الذي كان على حال في عصر فتحول إلى حال آخر في عصر مغاير. ولكن مهما كان التغير الحادث في مرايا الأدب بتغير موضوعها، فإن علاقة هذه المرايا بالأصل تظل ثابتة.
إن علاقة الانعكاس التي تربط بين الأدب والمجتمع ترجع إلى حقيقة مؤداها: ((أن الأديب، مهما يكن أمره، كائن اجتماعي لا يستطيع أن ينفرد ولا أن يستقل بحياته الأدبية، ولا يستقيم له أمر إلا إذا اشتدت الصلة بينه وبين الناس. فكان صدى لحياتهم، وكانوا صدى لإنتاجه، وكان مرآة لما يذيع فيهم من رأي وخاطر. وما يغذوهم من هذه الآثار الأدبية على اختلاف ألوانها)).
ولا شك أن هذه الحقيقة تنطوي على مفارقة لافتة: إن نتاج الأديب ـ من ناحية ـ صدى لحياة الناس فهو مرآة لهم. ولكن هؤلاء الناس يتحولون ـ من ناحية ثانية ـ ليصبحوا صدى لإنتاج الأديب عندما يتلقونه، فهم مرآة له. ومعنى هذا أن مبدأ العلية الذي يحكم علاقة الأدب بالمجتمع مبدأ متحول، ينقلب فيه المعلول ليصبح علة بالدرجة نفسها التي تنقلب بها العلة لتصبح معلولاً. ولذلك، ويبدو صدى لحياة الناس، ويبدو الناس صدى لإنتاجه. وتشبيه الصدى ـ في هذا السياق ـ يقودنا إلى مجال صوتي، قد يختلف عن المجال البصري للمرآة. ولكن كلا المجالين يلتقيان جذرياً في علاقة العلة بالمعلول، تلك التي تحكم الصلة بين الصوت والصدى، مثلما تحكم الصلة بين الموضوع وصورته في المرآة، لنقل إن المجتمع هو الأصل الصوتي لما ينتج من صدى عند الأديب، ولكن سرعان ما يعود الأديب فيتحول إلى أصل صوتي لما يحدث من صدى في المجتمع. وإذا كان المجتمع، في الحالة الأولى، علة للصدى الناتج عند الأديب، فإن هذا المجتمع ينقلب فيصبح معلولاً في الحالة الثانية.
هذا الوضع المتميز للعلاقة بين الطرفين يقودنا إلى طبيعة العلاقة نفسها، وما تقوم عليه من مفارقة لافتة ذات دلالة، ذلك لأننا إزاء علاقة تقوم على التبادل، أشبه في وضعها بوضع المرايا المتقابلة، حيث تنعكس صور الأولى في الثانية، مثلما تنعكس صورة الثانية في الأولى، لكن الانعكاس لا يتوقف عند مجرد التبادل المكاني، وإنما يمتد لينطوي على ما يلازمه من تبادل التأثر والتأثير. هذا الانعكاس المزدوج في تبادله، يكشف عن الطبيعة الاجتماعية للعملية الأدبية من حيث مصدرها، ومن حيث آثارها التي تحدثها في المجتمع. وبقدر ما تؤكد هذه الطبيعة أن الإنتاج الأدبي لا يمكن أن يحدث إلا بعد تأثر بالمجتمع، فإنها تؤكد أن هذا الإنتاج لا يمكن أن يتحقق إلا بعد تأثير في المجتمع.
ومن الممكن اختزال هذا الوضع المتبادل في فكرتين متوازيتين: أولاهما أن المجتمع يصنع الأديب الذي يصنع، بدوره، العمل الأدبي. وثانيتهما أن الأديب يصنع العمل الأدبي الذي يساهم، بدوره، في صنع المجتمع. ومحصلة الفكرتين هي هذه الصيغة التي تتضمن أن الأديب مصنوع وصانع، وعلة ومعلول. ولكن العلاقة بين الفكرتين، في هذا الوضع، علاقة تجاور وليست علاقة تركيب، وعلاقة التجاور تقوم على تعاقب في الزمان، فالمجتمع يصنع ـ أولاً ـ الأديب، على أساس من هذه الحتمية التي تلغي الفاعلية الإنسانية، غير مرة، ثم يعود الأديب فيساهم ـ ثانياً ـ في صنع المجتمع، مما يؤكد الفاعلية الإنسانية، ويلغي الجبر الآلي في التاريخ. وإذا كان التجاور يكشف عن التوفيق، فإن التعاقب يكشف عن التناقض، فيكشف التناقض ـ بدوره ـ عن خلل في الصيغة، ما لم تعتمد منطقاً مخالفاً، يرفع التناقض بين الفكرتين، بعملية جدلية تحتويهما معاً في تركيب جديد.
ويتمثل إشكال الصيغة التوفيقية في هذا الوضع المتجاور المتعاقب الذي لا يفارقها. والحق أننا ـ على عكس ما تطرحه صيغة طه حسين ـ لسنا إزاء حالتين متعاقبتين في الزمان، بحيث يؤثر المجتمع، في الأولى، تأثيراً يلغى فاعلية الفرد الأديب، ثم يؤثر الفرد الأديب ـ في الثانية ـ تأثيراً يتضاءل أمامه المجتمع، وإنما نحن إزاء وضع واحد، تقوم العلاقة بين طرفيه على جدل متزامن، إن صح التعبير، وليس على مجاورة متعاقبة، ذلك لأن المجتمع يعبر عن نفسه في الأفراد وبالأفراد، والأفراد يختارون أنفسهم في مجتمعهم وعن طريقه في آن. أي أننا إزاء علاقة بين طرفين حقاً، ولكنها علاقة لا تتسم بالتعاقب، أو التجاور، وإلا انطوت على تناقض لا يحل، وإنما علاقة تتسم بالآنية، وتقوم على جدل بين الطرفين (المجتمع ـ الأديب) بحيث يوجد الطرفان معاً في الوقت نفسه، ويتحولان معاً خلال الجدل، ولكن وجودهما وتحولهما لا يمكن إدراكه بفكر يجزئ الظاهرة الأدبية، حين يوفق بين تفسيراتها المتعددة، بل بفكر يفتش عن الكلية التركيبية لهذه الظاهرة، ويفسرها بمفهوم مبدؤه أن الكل، مهما كان، يختلف في طبيعته عن مجموع أجزائه، وأن الجزء لا يكتسب أبعاده إلا داخل الكل.
ولكن الإشكال الذي تطرحه صيغة طه حسين يمكن أن يُفضّ بطريقة أخرى جزئية، وذلك عن طريق التعاقب الذي يلغي بعض العناصر السابقة في التجاور ليؤكد عناصر لاحقة، لا تمثل عائقاً في صياغة الفكر التوفيقي إن الفكر، هنا، يبدأ بالفكرة الأولى، وهي أن الفرد نتاج لحتمية اجتماعية، يصبح فيها الأدب انعكاساً، أي مرآة ساكنة للمجتمع، ثم يترك الفكر هذه الفكرة لينتقل إلى الثانية، وهي نقيضها، فيؤكد ـ بالتعاقب لا الجدل ـ أثر الفرد في المجتمع، ويثبت طبيعة أدبه كمرآة متحركة، يصبح المجتمع ذاته صدى لها، ولكي لا يمثل التناقض عقبة، يتغافل الفكر عن الفكرة الأولى، بل يحذفها، وهو يمضي إلى الثانية، لا من حيث جدلها مع الأولى، بل من حيث مجاورتها، التي لا تمثل عقبة أمام التعاقب، وعندئذ يبدو وضع العلاقة المتبادلة بين المجتمع والأدب وضعاً تجميعياً، للجزء فيه علاقة مستقلة عن الأجزاء. ولا بأس لو أكد طه حسين مع الفكرة الثانية ما يعد متناقضاً مع ما أكده في الفكرة الأولى.
ومن اليسير ـ عندئذ ـ أن تُنسى الحتمية الاجتماعية، عن تأثير المجتمع في الفرد، ليحل محلها، في حركة التعاقب، دور الفرد الأديب في التأثير على المجتمع. ويزداد الأمر يسراً لو افترض طه حسين أن مطالعة المجتمع لصورته في المرآة التي تعكسه، والتي هي من صنعه، تؤثر فيه فتعيد صنعه، فهي ـ أولاً ـ صدى له، وهو ـ ثانياً ـ صدى لها، وبذلك ينحل إشكال وضع العلاقة من حيث لظاهر، لكن التناقض الكامن في الوضع نفسه لم يحل.
---------------------------------
* المصدر: المرايا المتجاورة


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع