موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

ملاحظات اساسية في تاريخ المجتمع الاسلامي
د. عماد الدين خليل



تشكل المجتمع الاسلامي الأول على عين الله ورسوله (ص) وكانت الخطوط الأساسية للتناقض لا تكمن في بنية هذا المجتمع، وإنما تمتد صوب الخارج، أي بينه وبين المجتمعات الجاهلية من حوله. فمثلاً لم يكن هنالك صراع بين الرجل والمرأة، أو الغني والفقير، بل بين المسلم وغير المسلم، وكان هذا يدفعه إلى مزيد من التوحد أفقياً وعمودياً.
في الحالة الأولى كان يزداد تماسكاً ووضوحاً بين أفراده كافة، وفي الحالة الثانية كان كل فرد من هؤلاء يسعى لمزيد من التحقق بالعقيدة الجديدة لكي يكون أكثر قدرة على التعبير عن مطالبها.
كانت هناك _بطبيعة الحال _ مساحات في النسيج الإجتماعي لم تقدر _لسبب أو آخر _ على التواؤم والانسجام مع الإيقاع العام للمجتمع الإسلامي، ولكنها في نهاية التحليل مساحات محدودة فحسب، وتبقى المساحات الأكثر امتداداً واتساعاً تحمل توحدها وانسجامها.
لقد تمكن الرسول (ص) من تشكيل المجتمع (القدوة)، المجتمع النموذج الذي بلغ مرتقى صعباً لم يكن بمقدور مجتمع في تاريخ البشرية أن يبلغه، وكان هذا يدل على النجاح الباهر لرسول الله (ص) في مهمته من جهة، وعلى قدرة الإسلام من جهة أخرى على تغيير الإنسان والنسيج الاجتماعي بالتالي، أو إعادة بنائهما بتعبير أدق.
ان هذا السموق الذي يتميز به المجتمع الإسلامي الأول، مجتمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم، لا يقتصر على حالة دون حالة، ولا يتحدد في نطاق دون آخر. لقد أعيد بناء الإنسان من جديد، وكانت الخيوط المتفرقة التي تنسج رقعة المجتمع الوليد على قدر من المتانة والإتقان بحيث كان بمقدور المجتمع المتمخض عن الحركة الإسلامية أن يصنع المستحيلات، وأن يضرب مثلاً عملياً على قدرة الجماعة البشرية المؤمنة أن تمارس بحق مهمة استخلافها العمراني في العالم.
على كافة المستويات وبتوازٍ ملحوظ كان المجتمع الإسلامي يتحرك إلى فوق، ابتداءً من أولويات التحقق بالمنظور العقيدي للعالم. وانتهاءً بالتنفيذ النادر لمطالب العبادة بمفهومها الشامل، مروراً بمسألة القيم الخلقية، والمعاملات والآداب والسلوك، وبمسألة أخرى لا تقل أهمية، هي قدرة هذا المجتمع على العطاء الدائم، والاستجابة المتواصلة للتحديات، على حماية ذاته من التراخي الذي هو نقيض التوتر، وعلى أن يكون باستمرار قديراً على الفعل الحضاري.
وكان هذا المجتمع (حركياً) بالمفهوم الشامل للحركة، رفض السكون أو الانغلاق منذ اللحظات الأولى، وظل يتقدم صعداً صوب الأهداف المرسومة، وهو في الوقت نفسه يتسع ويزداد امتداداً في الطول والعرض والعمق، لكي ما يلبث بعد فترة لا تتجاوز العقود المحدودة من الزمن، أن يكون أكثر المجتمعات البشرية تميزاً وتألقاً واتساعاً في العالم.
***
إن الإسلام الذي كان يقود هذا المجتمع، ويصنعه، إنما هو دين الحركة الدائمة، والمجتمع الذي يعبّر عنه سوف يتحرك باستمرار دون أن تكون هناك جدران نهائية يقف عندها ويلقي عصا الترحال. ليس ثمة تجلّ للعقل الكلي المتوحد في العالم كما يرى المثاليون، وليس ثمة توقف لصراع النقائض باستلام الطبقة العاملة مقاليد السلطان كما يرى الماديون، إنما هو الجهاد الماضي الى يوم القيامة كما يقول الرسول (ص) جهاد على مستوى النفس هو الجهاد الأكبر، وآخر على مستوى الزمن والمكان هو الجهاد الأصغر، ولن يتوقف الجهاد على جبهتيه العريضتين هاتين ما دامت هنالك نفس بشرية تتشكل بالإيمان فتزداد نضارة وتألقاً، وما دام هنالك ضلال أو كفر أو طاغوت أو ظلم أو مروق على صفحة العالم، يتطلب حركة للوي عنقه، ووقفة عن ابتزاز الإنسان وإصابته بسرطان العجز والعبودية والتآكل والدمار.
***
إن حركة المجتمع الإسلامي ترتبط بقضية الإنسان في الأرض، فما دام للإنسان قضية فإنه يتوجب على المجتمع المسلم أن يتحرك تلبية للنداء. إنها عملية صياغة مستمرة، أو تشكل مفتوح يمضي على جبهات ثلاث: حركة ذاتية عُمقية لتمكين الإنسان الفرد من المزيد من التحقق بالإيمان، وحركة جماعية أفقية لتمكين المجتمع المسلم من حماية نسيجه وتمتين حبكته، وحركة صوب الخارج، صوب العالم، تحمل بعداً عقيدياً يتوسل بالسياسة أو القوة العسكرية حيناً، وبالكلمة أو الفعل الحضاري حيناً آخر. ومن خلال هذا الجهد ذي المستويات الثلاث ينداح لكي يحتضن مساحات أوسع من المجتمعات، ويضيف إلى كيانه عناصر جديدة فما يلبث أن يزداد قدرة على الفاعلية والعطاء.
***
إننا بمجرد إلقاء نظرة سريعة على حشد من المجتمعات الأخرى، الدينية أو الوضعية، سنرى بأم أعيننا تلك الملامح المتفردة التي تصبغ المجتمع الإسلامي وتميزه عن سائر المجتمعات في التاريخ. قد تكون هناك مجتمعات منفتحة كالمجتمعات النصرانية لكنها ما كانت تلم رؤيتها المتوحدة التي تعرف كيف تتعامل مع العالم كما فعلت مجتمعات الإسلام. وقد تكون هناك مجتمعات شديدة الفاعلية كالمجتمعات اليهودية، إلا إنها ما كانت تملك انفتاحاً يجعلها تسعى للتعامل مع الإنسان في العالم كلّه. ها هنا في تجربة المجتمع الإسلامي نلتقي بالانفتاح والفاعلية والتوحد، ومن ثم تكون القدرة على الامتداد والإنجاز دون أن يحدث ذلك أيما شرخ في القيم التي يقوم عليها هذا المجتمع، إلا في حالات تكاد تكون استثناءات من القاعدة لا يقاس عليها.
ومرة أخرى، فإن الإسلام هو الذي يقود ويصنع، فحركة البنيان الاجتماعي التي تتمخض عنه تحمل قدرتها الدائمة على التجدد والاتساع والإضافة والإغناء، وعلى العكس فإن السكون والإنكماش والتراجع والسقوط كانت غالباً المصير الذي ينتظر المجتمعات التي كان الإسلام فيها يعزل لسبب أو آخر عن ممارسة دوره الأصيل في التشكيل والقيادة.
وما دمنا هنا بصدد تحليل معطيات تاريخنا الإسلامي، وليس عقيدتنا أو فكرنا الإسلامي، فإن الممارسة المشهودة في الزمن والمكان هي الحكم الفصل فيها نحن بصدده: تغرّد المجتمع الإسلامي الأول، مجتمع الرواد الذي صنعه الرسول (ص) على كل المستويات.
ورغم تبدل القيادات الإسلامية، رغم تخلي بعض هذه القيادات عن الإلتزام بدرجة أو أخرى، فإن المجتمعات الإسلامية واصلت التزامها على كافة المستويات: العبادات، المعاملات، القيم الخلقية وآداب السلوك، وصولاً إلى مطالب العقيدة الكبرى: الحركة الجهادية لإسقاط الطاغوت من أجل أن تكون الكلمة أو الدين أو المنهج لله وحده.
ثمة خطأ (تاريخي) كثيراً ما مارسناه: إنه بمجرد ضلال قيادة ما عبر التاريخ الإسلامي، وبخاصة في مراحله الأولى، بمجرد تخليها عن الإلتزام وتسيبها وأنفلاتها، فإن المجتمع الذي تحكمه سيتسيّب وينفلت ويضل الطريق هو الآخر.
ولم يكن الأمر بهذه البساطة أبداً، ولشدّ ما كانت المجتمعات الإسلامية تواصل التزامها وتحققها دون أن يكون هنالك ارتباط مباشر محتوم بين الحاكم والمحكوم، بل قد تجد هذه المجتمعات نفسها في حالة ردّ فعل، أو دفاع عن الذات إزاء حكامها الذين فقدوا الإلتزام كنوع من الاستجابة لتحدّ واضح قد يدفع إلى مزيد من التحصّن ضد عوامل التفكك والتسيّب والدمار.
***
ومهما يكن من أمر فإن المجتمعات الإسلامية كانت تملك القدرة على حماية ذاتها العقائدية لفترات زمنية قد تطول أو تقصر، ولكنها ما كانت _بحال _ بالسرعة الميكانيكية التي تتجاوب كأصداء الأجراس مع أي خطأ أو انشقاق أو تفلّت قد يحدث فوق، في دوائر الحكم والقيادة والسلطان. فرغم الأخطاء التي شهدها عصر أموي أو عباسي أو أندلسي أو مملوكي أو عثماني.. إلى آخره.. على مستوى الحكم، فإن المجتمعات الإسلامية ظلت تواصل مسيرتها العقيدية باذلة جهداً مزدوجاً هذه المرة إذ كان عليها أن تحمي التزامها أولاً، وأن تسعى بهذه الصيغة أو تلك إلى ردّ السلطان إلى جادة الصواب.
فما استسلمت المجتمعات الإسلامية بهذه السهولة، والمؤثرات الإسلامية تشكلها وتؤثر فيها صباح مساء. إن علينا ها هنا أن نلحظ نوعين من القيادات. قيادات فقدت التزامها، بدرجة أو أخرى، لكنها لم تمارس عملاً مضاداً فتحجب حق الإلتزام أو سبله عن المجتمع الذي تحكمه، وهذا النموذج هو الذي يغطي معظم مساحات تاريخنا الإسلامي. وقيادات أخرى، أقل عدداً، أبحرت بالاتجاه المضاد فاستخدمت سائر الوسائل لحجب حق الالتزام وسد الطرق والمنافذ أمام المجتمعات الإسلامية التي تحكمت فيها من أن تمارس حقها في أن تحيا _على النطاق الإجتماعي على الأقل _ الحياة التي يريدها الله ورسوله(ص).
وإذا كانت الضغوط المضادة في هذه الحالة الثانية لم تستطع إلغاء الإلتزام الإجتماعي بالإسلام بلمسة سحرية، بل إنها في بعض المساحات ولدت ردود فعل شديدة زادت بعض المجتمعات الإسلامية أصالة والتزاماً، فكيف سنصدق _إذاً _ تلك المقولة الخاطئة من أن المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، حيث ما كان الحاكم يلجأ _إلاّ نادراً _ إلى ممارسة ضغوطه المضادة، سوف تنفلت بقدرة قادر من التزاماتها الإسلامية وسوف تخرج بسرعة غير مبرّرة إلى طريق الضلال؟
إننا قد نجد العكس من هذا تماماً، ممارسات تاريخية كانت تعبّر عن رغبة المجتمعات الإسلامية بمزيد من الإلتزام، إنها ما استسلمت بسهولة لتقاليد الحكام بل شقّت طريقها المستقل بمواجهتهم، بل إنها أعلنت ثورتها عليهم من أجل إعادتهم إلى جادة الصواب، أو إرغامهم على تسليم مواقعهم لمن يسلك جادة الصواب وهي كانت تعلم جيداً أنه مهما طال الزمن بقدرة المجتمع الإسلامي على الإلتزام فإن القيادة المنحرفة ستفكك يوما بعد يوم عرى هذا الإلتزام عروة عروة، وسيجد المجتمع الإسلامي نفسه يوماً غير قادر، بهذه الدرجة أو تلك على حماية التزامه بعد أن انهارت خطوط دفاعه الواحدة تلو الأخرى.
إنه من الصعوبة بمكان تصوّر بقاء المجتمع المسلم تاريخياً بدون دولة تسعى لحمايته، أمداً طويلاً، إذ أنه لابد وأن يتعرض لعوامل التحلّل التي سمّمت الأجواء الخارجية، ورغم طول فترة مقاومته إلا أن الجراثيم لابدّ وأن تنقل العدوى إليه فيتجه صوب التحلل والدمار. ولذا كان هناك ارتباط متين في الرؤية الإسلامية بين الدولة والحضارة من جهة، وبين الانسان والمجتمع من جهة أخرى، ولن يتم التوحد والتماسك والتقدم إلا بوجود هذه الأقطاب الأربعة: ابتداء من الإنسان صانع الحضارة، فالمجتمع مشكل قيم الحضارة ومنفذها، فالدولة حارسة الكيان الإجتماعي والحضاري، فالحضارة نفسها التي لن تكسب تفردها وحيويتها ونموها إلا بتوفر الإنسان الفعال (المحسن) والمجتمع الحركي (المجاهد) والدولة القوية (الراشدة).
--------------------------------
* المصدر: مجلة المسلم المعاصر /العدد44/1405


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع