موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

المواطنة الفاعلة
د. منصور الجمري



عندما تنعدم المواطنة الفاعلة في أي مجتمع فستجد انتشارا لانتهاكات حقوق الإنسان ، وسينتشر عدم التسامح بين الحكومة والشعب وبين أفراد الشعب ذاتهم ، وستنتشر اللا ابالية وستنعدم المسئولية ، وسينتشر الفساد الإداري والسياسي و سينعدم حكم القانون.. الخ. والموضوع الذي نتطرق إليه هذه الأمسية يتعلق بالمواطنة التي تمنع هذه الظواهر.
المواطنة بمفهومها الحديث لها أساس فلسفي قديم ، ارتبطت بمفهوم الدولة-المدنية التي تكونت في اليونان بعدة قرون قبل الميلاد . والمواطنة ترجع إلى مفهوم اليونان حول الـ POLIS وهي الوحدة الأساسية في التكوين السياسي ، والمقصود بها "المدينة" وعلاقات الأفراد الذين يعيشون في تلك المدنية بين بعضهم الآخر .
كما أن مفهوم "الوطـن" الذي ورد في الفقه الإسلامي كان يتحدث عن المدينة أو عن المنطقة التي يبلغ محيطها قرابة 44 كيلومتر ، وعلى هذا الأساس اعتبر من يقطع هذه المسافة قد خرج من وطنه وتتحول بذلك صلاته الي "القصـر" .
وقد عرف الشيخ ميثم البحراني المتوفي في العام 1299م السياسة في كتابه (مائة كلمة للأمام علي عليه السلام) بأنها الفعل الذي "يكون عائداً إلى الإنسان مع عامة الخلق " ، و أضاف أن الحكمة السياسية هي "كيفية المشاركة فيما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء الإنسان". وقد ربـط الشيخ ميثم بين السياسة والمدينة بقوله بأن للسياسة فرع هام يسمى "الحكمة المدنية" وعرف هذه الحكمة بـ "كيفية بناء المدينة وترتيب أهلها" .
إلا أن المفهوم الحديث للمواطنة قد تطور قبل قرابة مائتين سـنة عندما تشكلت الدول القومية الأوربية . فالدولة القومية تعتبر لنفسها السيادة المطلقة داخل حدودها ، وان أوامرها نافـذة على كل من يقطن داخل تلك الحدود الجغرافية . ومن اجل منع استبداد الدولة وسـلطاتها فقد نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من قبل الدولة. فهذه الحقوق هي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي ، وحقوق جماعية ترتبط بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
وقد تطورت منظومة الحقوق على المستوى الدولي من خلال معاهدتين صادرتين عن الأمـم المتحـدة وهما (العهـد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية) و (العهـد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) .
ما تشير اليه النقاط المذكورة اعلاه هو اعتبار الموازنة بين سـلطات الدولة وحقوق المواطن أسـاسا للمجتمعات المتطورة ، بحيث لو انعدمت حقوق المواطن أصبحت الدولة مسـتبدة وتخلف بسبب ذلك المجتمع .
والمواطنة بهذا المفهوم تختلف عن الأخـوة الدينية . فالمسلم أخ المسلم ويرتبـط معه بروابـط معنوية فوق الزمان والمكان ، أما المواطنة فهي رابطة التعايش السلمي بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان معين (اي جغرافية محددة). والمواطنة لا تتناقض مع المبدأ الإسلامي لان العلاقة الدينية تعـزز الروابط الزمنية أيضا، ولا خلاف في ارتباط الإنسان المسلم مع غير المسلم ضمن إطار اجتماعي يتم الاتفاق عليه تحت عنوان المواطنة. فهذا ما تجـده أيضا في ما فعله الرسول(ص) عندما هاجر للمدينة المنورة وعقـد اتفاقاً مع المسلمين من المهاجرين والأنصار ومع القبائل اليهودية ومع المشركين. اتفق معهم على حماية بعضهم الآخر من أي اعتـداء خارجي قد يقع على المدينة واتفق معهم على حـرية كل فئة في معتقداتها، ولكن اليهود خالفوا العهد وتعاونوا مع مشركي المدينة ومشركي مكـة ضـد المسلمين فانتهى ذلك الاتفاق الذي اطلق عليه اسم "صحيفـة المدينة". ونلاحظ أن الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في الاتفاقية بأنهم أمة من دون الناس بمعنى انهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها وهذا يتطابق مع مفهوم المواطنة القائم على أتفاق دستوري بين أفـراد المجتمع الواحـد .
المواطنة الفاعلة تعتمد أذن على الاتفاق والجماع القائم على أساس التفاهم من اجل تحقيق السـلم الأهلي وضمان الحقوق الفردية والجماعية . والمواطنة تتطلب الاعتراف بالقواعد والدسـتور الذي يقوم عليه الحكم والالتزام به من قبل الحاكم والمحكوم.
والمواطنة أساسا شـعور وجداني بالارتباط بالأرض وبإفـراد المجتمع الآخرين الساكنين على تلك الأرض . وهذا الارتباط الوجداني تترجمه مجموعة من القيـم الاجتماعية التي تربط الناس ببعضهم الآخر وتحضهم على فعل الخير من اجل الصالح العام .
هذه المواطنة لا تتحقق إلا إذا علم المواطن حقوقه كاملة سواء كانت هذه الحقوق مدنية أو سـياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية . وبعد أن يتعلم هذه الحقوق فإن عليه أن يمارسها ويسعى لتحقيقها وعدم التنازل عنها ، لان الحـق يؤخـذ ولا يعطى . المواطنة هى اسـتشعار المسئولية وتحمل الأمانـة والقيام بكل ما يتطلبه الصالح العام من اجل حفظ الكرامة الإنسانية .
تستلزم المواطنة الفاعلة توافـر صفات أساسية في المواطن تجعل منه شـخصية مؤثرة في الحياة العامة. والتأثير في الحياة العامة هو القدرة على المشاركة في التشريع واتخاذ القرارات.
أن هذه المواطنة الفاعلة تقوم على أساس الكفاءة وقدرة المواطن على فهم طبيعة المجتمع وكيفية التعاون والتنافس وحـل الخلافات على أسس عقلانية تهدف لخدمـة الصالح العام ودعـم الترابـط الاجتماعي.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع