موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

كيف نستوحي الإسلام
سيد قطب



إذا كان المستقبل ـ كما أسلفنا ـ لفكرة الإسلام عن الحياة، وللنظام الاجتماعي الذي ينبثق من هذه الفكرة، بحكم أنه أكثر النظم التي عرفتها البشرية قبولاً لنمو الحياة ورقيها، وبحكم أن الفكرة التي ينبثق منها هي أحد الأفكار التي عرفتها البشرية حيوية، وأكثرها سعة وشمولاً لحاجات البشرية المتجددة.
إذا كانت هذه حقيقته ـ وأرجو أن ينجج هذا بعد عرض مقومات المجتمع الإسلامي في المقالات التالية ـ فكيف نستوحي الإسلام إذن في استخلاص تلك المقومات وتصويرها! أنه لا بد قبل محاولة استخلاص تلك المقومات من الاتفاق على أصول معنية، أو اتخاذ منهج معين في استحياء الإسلام واستلهامه كي لا يكون الأمر فوضى، أو يكون متروكاً للفرض والهوى:
يجب في المقدمة أن نجلو حقيقتين كبيرتين:
أولاهما:
إن الشريعة الإسلامية شيء والفقه الإسلامي شيء آخر، وإنهما ليسا متساويين لا في المصدر، ولا في الحجية، وأن موقفنا في استحياء مقومات المجتمع الإسلامي ونظمه منهما ليس واحداً.
وثانيتهما،
إن الصورة أو الصور التاريخية للمجتمع الإسلامي، ليست هي الصورة أو الصور النهائية لهذا المجتمع؛ بل إن هنالك صوراً متجددة أبداً، يمكن أن تحمل هذا الوصف "إسلامي" وتنبثق من الفكرة الإسلامية الكلية، وتعيش في إطارها العام.
ولبيان هاتين الحقيقتين وجلائهما قيمة كبرى في تحديد المنهج الذي نتبعه في استيحاء الفكرة الإسلامية، واستلهامها في الميدان الاجتماعي.
إن الشريعة الإسلامية ثابتة لا تتغير.. لأنها المبادئ الكلية الأساسية لهذا الدين القيم الذي ارتضاه الله للناس كافة: (إن الدين عند الله الإسلام) (سورة آل عمران/ 19) (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (سورة آل عمران/ 85) وقد كملت هذه الشريعة في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهت إلى غايتها التي أراد الله لها الدوام أبداً: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً) (سورة المائدة/ 3) وتقررت كذلك نظاماً للحكم، ودستوراً للعدل، لا مفر من اتباعه، ولا يقبل من المسلم أن ينحرف عنه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (سورة المائدة/ 44) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (سورة الحشر/ 7)
ولكن الحياة تندفع دائماً إلى الإمام، وتتجدد حاجاتها ومطالبها وتتغير علاقات الناس فيها ووسائل العمل وطرق الإنتاج، وتبرز إلى الوجود أوضاع جديدة، ومشاعر جديدة، وأهداف جديدة، فكيف إذن يمكن لفكرة ثابتة أن تواجه حاجات وأحوالاً متجددة؟ وكيف يمكن لهذه الحاجات والأحوال أن تتحرك وتنمو في ظل فكرة ثابتة؟
هذا ما فطنت إليه الشريعة الإسلامية قبل كل شيء؛ فجاءت في صور مبادئ كلية وقواعد عامة يمكن أن تنبثق منها عشرات الصور الاجتماعية الحية وتعيش في داخل إطارها العام، وتتخذ منها مقوماتها الأساسية، ثم تختلف بعد ذلك في التفريعات والتطبيقات ما تشاء، دون أن تصادم الأهداف الثابتة والغايات الدائمة، التي تتعلق بالإنسان بوصفه إنساناً لا بوصفه فرداً معيناً في حيز من الزمان والمكان، ولا جيلاً محدوداً في فترة من فترات التاريخ.
ونحن نعرف مدى كراهية بعض المذاهب المادية ـ وبخاصة الماركسية ـ للمذاهب الثابتة، والمبادئ الدائمة، لأنها تصادم فكرتها عن التطور الدائم، وتعارض اتجاهها إلى تحطيم المثل المجرد، ولكننا ننظر إلى الموضوع نظرة أوسع من نظرة الماديين المحدودة، فلا نرى أن هنالك تعارضاً بين وجود الأهداف الثابتة وتحقق التطور الدائم.
إن اعتبار ارتقاء الحياة هدفاً ثابتاً لا ينفي تطور الحياة نحو هذا الهدف، واعتبار الإنسانية وشيجة متصلة ذات أهداف مترابطة لا ينفي حاجات كل جيل وأهدافه تتخذ شكلاً معيناً، يناسب ظروفه ووراثاته ودوافع حياته، ولكنها في عمومها لا تخرج عن هذه الوشيجة المتصلة ولا عن ذلك الهدف الثابت.
وهكذا يبدو أن النظرة الضيقة وشدتها، والرغبة التحكمية في إثبات نظرية معينة هي التي تجعل الماركسيين ينفرون من الأفكار والأهداف الثابتة، وينكرونها إنكاراً شديداً.
أما النظرة الواسعة وحرية التفكير الطليقة، والتأمل في خط سير البشرية الطويل فهي كلها في جانب النظرة الإسلامية التي تعد الحياة كما تعد الإنسانية وشيجة متصلة الحلقات، متعاقبة الأطوار، فتضع للغايات الحيوية والإنسانية الدائمة أصولاً عامة ثابتة في الشريعة، وتدع للفقه الإسلامي تلبية الحاجات والأوضاع المتطورة المتجددة في نطاق تلك الشريعة الثابتة.
الشريعة الإسلامية إذن ثابتة لا تتغير لأنها ترسم إطاراً واسعاً شاملاً يتسع لكل تطور. أما الفقه الإسلامي فمتغير لأنه يتعلق بتطبيقات قانونية لتلك المبادئ العامة في القضايا والأوضاع المتجددة التي تنشأ من تطور الحياة، وتغير العلاقات، وتجدد الحاجات.
الشريعة الإسلامية من صنع الله. ومصدرها القرآن والسنة. والفقه الإسلامي من صنع البشر استمدوه من فهمهم وتفسيرهم وتطبيقهم للشريعة، في ظروف خاصة، وتلبية لحاجات خاصة، واستيحاء لأوضاع جيلهم الذي عاشوا فيه، وفهمه للأمور وتقديره للغايات والأهداف، ومصالحه التي تمليها الوقائع والأشياء، وأيّاً ما كان بصر هؤلاء الرجال الذين وضعوا الفقه الإسلامي، وأياً ما كان إدراكهم لروح هذه الشريعة ومراميها، وأياً ما كانت آفاقهم ودقة تقديراتهم ـ وهو الواقع فعلاً ـ فإنه ينبغي أن نضع في الاعتبار دائماً أن تشريعاتهم الفقهية كانت تلبية لحاجات زمانهم الواقعية. وحتى الفروض النظرية التي افترضوها وأجابوا عليها لم تكن إلا من وحي هذه الحاجات، أو من وحي منطق البيئة التي أحاطت بهم والعصر الذي عاشوا فيه، والعلاقات والارتباطات الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك البيئة وفي هذا العصر.
وهذه النظرية العامة لا تقتصر على فقهاء الإسلام الذين عرفوا بهذا اللقب، إنما تشمل كذلك حتى صحابة رسول الله ـ بعد موته صلى الله عليه وسلم ـ فأبو بكر وعمر وعلي وابن عباس وابن عمر وإخوانهم ـ رضي الله عنهم ـ هم أكثر بصراً بشريعة الإسلام من غير شك، وأعمق إدراكاً لمبادئها واتجاهاتها بلا جدال. ولكن تطبيقاتهم لهذه الشريعة لا تخرج عن تلك القاعدة، وهي أنها جاءت تلبية مباشرة لحاجات البيئة ومقتضيات العصر، ولا يمكن أبداً أن تصبح جزءاً مقدساً من الشريعة ـ ومصدرها هو القرآن وسنة رسول الله وحدهما ـ وما عدا هذين المصدرين فهو فقه إسلامي تختلف درجة حجيته بقياس بعضه إلى بعض؟ وينير الطريق للأجيال التالية ويساعدها على الفهم، ويرشدها في طريقة التطبيق والاستنتاج.
----------------------------------------------
المصدر : نحو مجتمع إسلامي ص46-51


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع