موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

القبلية ونظامها
الشيخ عبد الله العلايلي



فالقبيلةُ طائفة متبدية من الناس تعيش متقلقلة فوق بقاع من الأرض تصلح للحياة بأضيق معانيها. ومن فرط تماسكها تذهب إلى أنها أسرةٌ حقيقة لها أب واحد قديم، كرموه بأنه مصدر التاريخ أو التاريخ نفسه.
هذا النص يعدل، من حيث القيمة الفنية الآثارية، نقوش مِسلةٍ من مسال قدماء الفراعين، واعني النصّ اللغوي القاطع بأن التاريخ كلمةٌ في مقدمة معانيها الأصيلة: الجد، أي الأب الأعلى الأكبر.
والقبيلة، من وجه عام، وحدة العرب الاجتماعية، ونظامها يميل إلى الاشتراكية الساذجة، إلا أنها استطاعت أن تُذيب الفردية تماماً من جهة، وأن تحقق صلة الجماعة بالفرد من جهة أخرى. فكما لم يكن له استقلال شخصي فيما تتجه إليه الجماعة، كان عليها أن تكلأ جانب الفرد وتحوطه من العدوان. وكان يُشرف على هذا النظام رئيس له شبه سلطة مطلقة، ومن فرط خضوعهم لنوع هذا النظام، استجابة لمطالب البيئة التي لا تسمح للفرد أن يعيش وحدة، فيطلب دائما الاندماج في الجماعة، سيطرَ عليهم الحماس للقبيلة وتوهج بناره في نفوسهم. وهكذا تكونت العصبية العنيفة عند القبيلة للفرد، وعند الفرد للقبيلة. هذه العصبية التي كان من شعارها "أُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً".
حَنَت نفوس العرب على اعتبارات شديدة الخطورة في توزيع الشعور وبدوات الإحساس، وقامت ميولهم على قاعدة بالغة الضيق بالغة الحرج، وبرغم أضرارها كانت ضرورةً من ضرورات المحافظة على البقاء في حدود القبيلة، من حيث ركّزت في طباعهم وحدة المطالب والغايات والأفكار والعادات، ووسمتهم بسمة التكافل والتضامن السابغين. فكان هذا الوضع الحيوي لديهم يُشبه نظيره عند الإسبرطيين، وإن كان وضع الحياة في إسبرطة أكثر ميلاً إلى اللون الحضاري والطابع القومي.
إن ضرورة التعاون في الدفاع عن النفس، صيرَ بين القبيلة آصرة قوية ولحمة تكاد تكون عضلية مجتمعة الألياف، وأقامت المجتمع العربي على العصبية النكراء. ولقد غلت بهم حتى امتدت بآثارها الى القانون والعرف، وحتى استحال تاريخ العرب القبلي إلى تاريخ للدّماء. فاستحكامُ القبلية على هذه الشاكلة عند الجاهليين يظهرنا على مقدار الجهود الواجب بذلها، لتطهير النفس العربية، وإعدادها بسبيل المبادىء الجديدة.
والنبي (ص) اعتمد في كفاح العصبية على شتى الوسائل، وطاولها مطاولة كانت قمينة بأن تأتي عليها، وبالفعل رأينها أنّها استترت في زمن النبي (ص) واستخفت كما يستخفي الميكروب في أنحاء الدم، حتى إذا هادنه العلاج ظهر بعنفه وقويه وانتشر بحماه. وسياسة النبي (ص) تتلخص بالسمو ببيئة العرب، والقضاء على المزاج العقلي القبلي بإعطائهم مزاجاً عقلياً جديداً خليقاً بتصريف حركاتهم في كيانهم الدولي الجديد، وتهيئتهم مع الزمن لما يسمونه بخلق الأمة على شكل صالح. وهذا يستدعي من العناية العمليّة أكبرها، وإلا فمجرد التعاليم لا تكفي لتغيير روح الأمة، ولذا قال نُقّاد الثورة الفرنسية إنّ الشعب الفرنسي سار في طرق الملكية من حيث لا شعور، وكذلك الشأن في العرب فإنهم عادوا، في ظل الحكومة الجديدة والتعليم الجديدة، إلى مزاجهم العقلي القديم. وعندي أن في جملة الأسباب التي أعانت على أن تنجم العصبية مرة أخرى أمرين مهمين:
1_ التعجُّل بالفتوح قبل الاختمار الديني الذي يؤلف من مجموع الصفات النفسية للأفراد صفة عامة، وهي التي يعبر عنها لدى الباحثين القوميين بخلق الأمة. مما أدى إلى أن يخرج هذا الخليط الكبير من العرب، وينتشر في بقاع واسعة من الأرض، حاملاً غريزته الاجتماعية التي كانت لا تزال أكثر اتصالاً بأسباب نفسه، ولقد تمتد فتصبغ كل صفاته الأدبية بصبغتها.
2_ عدم عناية حكومة الخلفاء ببث التربية الدينية على النحو الذي جرى عليه النبي (ص)، هذه التربية التي إذا اقترنت بالزمن كونت المزاج العقلي للأمة الذي هو الوحدة الحقيقية لها، والرّباطُ المعنوي الثابت. فإنه يعمل في تطور الأمم من وراء النظم والفنون والتقلبات السياسية.
----------------------------
المصدر : مقدمات لفهم التأريخ العربي


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع