موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

العلوم الشرعية الأصلية لابن خلدون
عبد الله العروي



من يقرأ المقدمة لأول مرة يلاحظ ولا شك ازدواجية واضحة في أحكام ابن خلدون على حاملي العلوم الشرعية، فيتوهم أشياء في غير محلها. أما إذا انتبه لموقع كل حكم أدرك أن الازدواجية ليست خاصة بالمؤلف بل متعلقة بالموضوع ذاته. |إن علوم الشرع داخل العمران البدوي ليست، ولا يمكن أن تكون، هي نفسها في إطار العمران المدني، إذ ننتقل من ثقافة أمية إلى أخرى كتابية|. كلام ابن خلدون في الباب 2 هو من قبيل الأثنوغرافية، فنراه يقارن باستمرار العرب البدو بأجيال أمية أخرى، منقرضة كعاد وثمود، أو حية كالبربر والأكراد والأتراك. أما كلامه في الباب 3 والباب 6 فهو كلام المؤرخين إذ يقارن الحضارة الإسلامية بحضارات أخرى قديمة كالفارسية واليونانية والرومانية، أو معاصرة له هو كالبيزنطية والإفرنجية. يتغير موقع الشرع في الحالتين، والسبب هو بالطبع التدوين الذي لا يفتأ ابن خلدون يذكرنا بأنه طارىء على الملّة. عندما يقول مثلاً إن اللغة ملكة صناعية (ص 1071)، فهذا القول لا يفهم إلا في إطار مجتمع مدني. أما في مجتمع بدوي أمي فالملكة اللغوية طبيعية وتبدو كذلك للجميع، زيادة على أن لا أحد يستبعد، في مجتمع بدوي، أن ينطق المرء بغتة بلغة لم يتعلمها قط.
كل ما قرره ابن خلدون حول دور الشرع في المجتمع البدوي يبقى قائماً في نطاق العمران المدني. فالشرع هنا كما كان هناك قانون لتنظيم الحياة العامة وقاعدة سلوكية لتهذيب أخلاق الأفراد. إلا أن العلوم المرتبطة بالشرع تتأثر لا محالة، كماً وكيفاً، بعملية التدوين. ما كان مروياً ومحفوظاً يعود مادة مدونة يشتغل بها وعليها العقل النظري. لابد إذن أن يتحول الحديث إلى فقه، والفقه إلى أصول. الحديث هو مجموع المرويات حول السلوك الأمثل، أي السنة، تجتمع فيه شؤون السياسة والأخلاق. لما يتحول إلى فقه فإنه يكون قد خضع إلى تنظيم وتبويب بواسطة تولي قاعدة أعم من القواعد العملية المضمنة فيه. وقد يكون موطأ مالك دليلاً على هذه الخطوة التمهيدية. ثم لما يخضع المسند الفقهي بدوره إلى قاعدة أعلى، كالتي تقول مثلاً إن النص القرآني يفهم على ضوء الحديث، فإنه ينحل في أصوله، وقد تكون رسالة الشافعي دليلاً على هذه الخطوة الثانية. وهكذا تقود عملية التدوين طبيعياً وبالتدريج إلى تأصيل، إلى مَنطَقة أوامر الشرع. بقدر ما يصبح تعليم العلم من جملة الصنائع (ص 770)، بقدر ما يخضع المروي (النقل) إلى عقل يهذبه وينظمه، عقل الفقهاء والمتكلمين، لا عقل الفلاسفة والحكماء. فهذا العقل، رغم محدوديته، هو جديد بالمقارنة مع ما كان موجوداً في نطاق المجتمع البدوي الأمي. يتطور بتطور العمران والصنائع، له بالتالي علاقة بالعقل التجريبي. هذه الفكرة هي التي نود أن نلفت النظر إلى أهميتها لفهم الأحكام الخلدونية.
العمران مرتبط بالصنائع، وهذه بالعقل التجريبي، فحيثما كان عمران ظهر عقل تجريبي، ومتى ظهر هذا العقل أثر في سلوك الأفراد، وتأسست بذلك أخلاق عقلية (مدنية)، كالتي لخصها مسكويه، وتأسست سياسة عقلية (مدنية)، كالتي فصلها الفلاسفة المسلمون من الفارابي إلى ابن طفيل. لكن بما أن العمران البدوي ملازم للمدني بصفته قاعدته الدائمة، وبما أن الشرع هو نظام العمران البدوي ملازم للمدني بصفته قاعدته الدائمة، وبما أن الشرع هو نظام العمران البدوي، فلا مناص من أن تتساكن السياسة الشرعية والعقلية، الأخلاق السنية والمدنية. ولا أدل على هذا مما نقرأ عند الأدباء أمثال ابن المقفع وابن قتيبة والجاحظ وغيرهم حيث نجد قولة لأفلاطون أو سقراط أو كسرى مدعمة بحديث نبوي أو آية قرآنية.
يتميز موقف ابن خلدون في هذه القضية بالواقعية التامة. ما حصل من تساكن كان من توابع العمران، فلا معنى لثورة الفقهاء على ما يعتبرونه من البدع. لم يكن في الإمكان أن تبقى العلوم الشرعية على حالها من الوضوح والإيجاز بعد كل ما لحقها من التدوين على أثر تقدم الصنائع. بسبب هذا التدوين، وما رافقه من تحول في البنى الذهنية، اصطبغ كثير مما كان واضحاً بصبغة الإشكال. ليس من الصدفة أن يأتي الكلام في المقدمة على المتشابه من الكتاب والسنة (ص 848) ضمن الفصل المخصص لعلم الكلام.
تحتل مسألة المتشابه موقعاً محورياً في التحليل الخلدوني، إذ هي مقدمة كل الأحكام على الكلام والفلسفة والتصوف وكل العلوم الرامية إلى إدراك الغيب أو التصرف في الأكوان.
لابد لنا هنا من الإيجاز لكي لا نخرج عن القصد. نذكر فقط أن ابن خلدون بقي طول حياته وفياً لمنطق الفقه، معتبراً الشرع بالأساس قانوناً تنظيمياً وتهذيبياً لمجتمع مختلط، أمي وكتابي في آن، كما كان المجتمع الإسلامي في جلّ أطواره. لكن، لهذا السبب بالذات، يتغير وضع الشرع بتغير الأحوال المجتمعية. إذا رجع المجتمع إلى طور البداوة عاد الشرع أمراً يُسمع وقاعدة تتبع، وإذا ما استبحر العمران _ وهي حالة لم يكن ابن خلدون يعرف دقائقها بالتجربة وإنما كان يقرأ عنها ويتوهمها في بعض جهات الشرق الإسلامي _يقترب الشرع من السياسة العقلية إلى حدّ التداخل والامتزاج. وفي اعتبار تحول الظروف هذا يبدو وفاء ابن خلدون لأصول الفقه، وربما لمنهجية مقاصد الشريعة، أي لذلك العقل المصلحي النفعي الذي يتلو بالضرورة تغلغل العقل التجريبي في المجتمع المدني.
------------------------------------
المصدر : مفهوم العقل


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع