موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

موانع
عبد الله العروي



انطلاقاً من أواسط القرن 18م، بعد أن مرت 3 قرون على اكتشاف اميركا ووصول الأوروبيين إلى شواطىء الصين وتطويق العالم الإسلامي، وبعد أن اتضحت علامات التراجع والانحطاط داخل الممالك الإسلامية الثلاث (العثمانية والصفوية والمغولية) التي كانت تقف في وجه توسع الأوروبيين، تحقق هؤلاء أنهم انفردوا بالنفوذ والقوة على وجه البسيطة. كتب مونتسكيو: "إن أوروبا وصلت إلى حدّ من العظمة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها" (ص 674). وكتب فولتير وكوندورسه وهردر في نفس السياق. عندئذ بدأ التفكير في أمرين مترابطين: ما هي أسباب تفوق أوروبا؟ ما هي عوامل عجز الثقافات أو الحضارات أو الأديان الأخرى؟ وإدراك سرّ التقدم في حالة والتأخر في حالة هو الوسيلة للمحافظة على تفوق الغرب.
كان جواب مونتسكيو واضحاً: سرّ تقدم الغرب هو الاعتدال في الحكم وسرّ توقف وتأخر الشرق هو الاستبداد. أما الأسباب الأخرى الكثيرة فهي توابع ونتائج. فكرة قديمة، عبر عنها هرودوت وتوقديد، ولا زالت حية إلى يومنا هذا عند تلاميذ ماكس فيبر. هي في الواقع لبّ الليبرالية الأوروبية، تجتمع عليها الديمقراطية البورجوازية والاشتراكية العمالية. بقدر ما تتسع وتتعمق الدراسات التاريخية، بحثاً عن جذور الحضارة الأوروبية أو مقارنة لها بالحضارات الأخرى القريبة والبعيدة، بقدر ما يتقوى اقتناع الأوروبيين بأن حضارتهم تمتاز بالخصوصيات التالية: العقل اليوناني، القانون الروماني، الفيودالية الجرمانية، الأخلاق المسيحية، استقلال المدن، التقشف البروتستاني، الوَلَع بالتقنيات والعلوم. يقرّ الدارسون الغربيون أن هذه العناصر توجد مجتمعة في الحضارة الأوروبية ولا توجد مجتمعة متلازمة إلا فيها، حتى وإن وجدت متفرقة في سواها.
وفي هذه النقطة بالذات تعترضهم معضلة الحضارة الإسلامية (لا نقول العقيدة أو الدولة أو التاريخ). كان الأمر بسيطاً في نظر فلاسفة القرن 18م: الإسلام جزء من الشرق، ينطبق عليه ما ينطبق على الكل. لكن تقدم البحث التاريخي نفسه هو الذي عقّد الأمور بعد أن كشف عن تماثلات وتشابهات كثيرة بين الحضارتين (الإسلامية والغربية). من يعتقد أن مدينة جنيف الكالفينية تمثل المجال الملائم لنشأة النظام الرأسمالي، وهو عصارة الغرب المعاصر، لا يسعه أن يقول بكل بساطة إن الإسلام معاكس لنفس النظام مع أن الشبه بين المدينة الكالفينية والمدينة الإسلامية واضح لا ينكر. إما أن أصول الرأسمالية غير ما قيل وإما أن موانع الرأسمالية في الحضارة الإسلامية غير مرتبطة بالعقيدة. يبدو أن هذه المفارقة حيرت ماكس فيبر، مما جعله يتردد في أحكامه على الإسلام.
الأمر الذي لا نزاع فيه هو أن الرأسمال لم ينشأ في وسط إسلامي. لابدّ من البحث عن الموانع. لكن هذه لم تعد محصورة، بعد تقدم الدراسات الاستشراقية، في نطاق العقيدة ونظام الدولة كما تصور ذلك كتاب القرن 18م. انتقل البحث من الإسلاميات إلى الاجتماعيات، من النظر في "الأمانة" المضمنة في القرآن والحديث وكتب الفقه، إلى ملاحظة ورصد سلوك الأفراد والجماعات كما تشهد بذلك الأحكام القضائية. أعيدت عندئذ صياغة النقاط الست التي سبق ذكرها. واطرح منها ما لا يمكن إنكار وجوده في النظام الإسلامي، مثل العقل والقانون والعلم والتقشف، وانحصر الكلام في قضية المدينة الإسلامية، بما أنها كانت هي المرشحة لتكون مهد الرأسمالية. ما المانع من أن تظهر في بلاد الإسلام مدائن قوية حرة مستقلة مثل البندقية وفلورنسا وغيرها من مدن فلاندرا والراين، علماً بأن الإسلام نشأ في مدينة وحيثما انتشر مصّر الأمصار؟
يقول اليوم تلاميذ فيبر إن المانع هو بالضبط كون المدينة الإسلامية كانت باستمرار قاعدة الملك. استطاعت قرينتها الغربية أن تستقل لأنها لم تكن مركز الفيودالية. تحررت من قبضة السلطان القريب، الديني أو الدنيوي، بالتعلق بسلطان بعيد، البابا أو الامبراطور. من هنا جاءت أهمية ثنائية السلطة أمر فتح طريقاً في الغرب المسيحي ظل مقفلاً على الدوام في نطاق الإسلام.
في هذا الإطار نفهم أهمية مسألة الاحتكار. كان صاحب السلطة في نفس الوقت أميراً وتاجراً، حاكماً وحكماً، متهماً وقاضياً... المهم، في إطار هذا المنظور، ليس الاستبداد والتعسف والجور، لأن هذا أمر يحصل في كل نظام. بل المهم، أي العامل السلبي، هو عدم التخصص، القيام بوظيفة واحدة مع ترك الوظائف الباقية (التجارة، القضاء، الدفاع، إلخ) لمؤسسات أخرى.
استتبع هذا الوضع نتائج في غاية الأهمية نستخلص منها ثلاث:
لم يظهر قضاء تجاري مستقل. كان الأمير يتدخل باستمرار في حياة المدينة وحسب قواعد لا تستقرّ أبداً. فارتبط مستقبل المدينة بالدولة. تنشأ وتزدهر مع تأسيس الدولة ثم تنحط وتضمحلّ بسقوطها. ولا يقال: كتب الفقه مملوءة بفتاوى حول المعاملات. لا أهمية للأصول، المهم هو التطبيق، الحكم القضائي المتسق في اتجاه واحد. وهذا لا يحصل إلا بإقامة هيئة قضائية مستقلة.
لا شك أن هناك مظاهر عامة تجمع إمارة ماكيافلّي وملكية مونتسكيو ودولة الماركنتيليين والاستبداد النيّر الذي دعا إليه فولتير وغيره، وكذلك الدولة السلطانية الإسلامية. لكن بما أن الرأسمالية تعايشت مع كل الأنظمة الاستبدادية المذكورة سوى النظام الأخير، فلا بد أن هذا يحتضن موانع ونوافي للاقتصاد الرأسمالي. هذا ما حوّم عليه أنصار النظرية الفيبرية. الدولة في أراضي الإسلام كانت باستمرار دولة استملاك، وبالتالي دولة ترف واستمتاع. ترى في مكاسب الرعية مادّة استهلاكية. فكانت فئات المجتمع تعمل للحفاظ على ما لديها أكثر مما تفكر في إنمائه. لم يستقل الاقتصاد عن السياسة ولا المدينة عن الدولة. لم ينشأ فيها قضاء ينظم التعامل بين سكانها بدون تدخل من الأمير أو بتدخل خاضع لشروط وقواعد مضبوطة. لم يستقل القضاء، مادياً ومعنوياً، فيصبح قادراً على مراقبة الإدارة وجهاز الأمن. كان تدخل الأمير وارداً باستمرار. إذا عدل حسنت الأحوال وانتظمت، إذا ظلم وجار فسدت الأوضاع وتعطلت المعاملات. ولم يكن في استطاعة أحد أن ينبأ لا بدوام العدل ولا باستمرار العسف والجور. فلم يبق من وسيلة سوى الصبر والتوكل. أما التقدير المعقول فغير وارد.
من يقرر هذه الأمور؟ طبعاً الباحثون الغربيون المتأثرون باجتماعيات القانون والأخلاق العامة. هل يقررونها وحدهم؟ واضح من كل ما سبق أنهم لا يفعلون في الغالب سوى نقل أحكام ابن خلدون إلى لغات العصر. ومما يجب التنبيه عليه أن نظرية الدولة الاستبدادية الإسلامية موجودة عند مونتسكيو الذي اعتمد في رسمها على ما كتبه السفراء والرحالة الأوروبيون عن الامبراطوريات العثمانية والفارسية والمغولية. وعندما اكتشف الغربيون ابن خلدون في أواسط القرن الماضي فكأنما كان يؤكد ما قرره مونتسكيو.
التوافق بين التحليلات الخلدونية والاستشراقية أمر لا نزاع فيه. لا يمكن معارضة الثانية دون البحث في صلاحية الأولى.
لا بد إذن من طرح السؤال التالي: هل كانت سمات الدولة السلطانية موانع فعلية جعلت المجتمعات الإسلامية تصل إلى مستوى معين من العمران ولا تتخطاه أبداً، فتنحدر بكيفية تكاد أن تكون حتمية. فنسمع باستمرار "الحنيفية البيضاء تبكي وتنتحب"، ونرى كل دولة مستجدة تضع مسبقاً لنفسها سقفاً هو المعروف من زمان الصلاح.
إذا قلنا مثل البعض إن ابن خلدون اجتاز عتبة علم الاقتصاد، فذاك يعني أن المجتمع الإسلامي دخل بالفعل عالم الرأسمال الحديث، إذ لا يتصور أن يكون كاتب قد تنبأ بقوانين علم لم توجد بعد قاعدته المجتمعية.
لماذا لم يدخل المجتمع الإسلامي عالم الرأسمال؟ هذا سؤال لم يطرحه ابن خلدون، وما كان يستطيع أن يطرحه. لكن من واجبنا نحن أن ننظر فيه لكي نتمكن من فهم مغزى كلامه عن العمران.
----------------------
المصدر : مفهوم العقل


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع