إذا ربطنا الأصالة بإنجازات الماضي فقط، تاه كلامنا عن القصد لأنه
يشير إلى تاريخ بائد، وإذا ربطناها بالإنجازات الحالية كان كلامنا
فارغاً لأن ثقافتها الحالية مقتسبة في جل مظاهرها، باتفاق الجميع.
يبقى حل معقول وهو أن نربط الأصالة بطموح العرب وما يرغبون في
تحقيقه مستقبلاً.
ولا يستطيع عرب اليوم أن يقولوا إن لهم حضارة وثقافة بالمعنى
الدقيق إلا إذا كانت إنجازات اليوم في مستوى إنجازات الأمس، وفي
الوقت ذاته متميزة عن إنجازات الشعوب الأخرى، الأوروبية بخاصة التي
تدعي كونية زائفة.
هذا هو مؤدي تحليل المفاهيم.
إلا أن المشكلات الثقافية لا تنفصل عن الصراع السياسي والتنافس
الاجتماعي. لما ننتقل من التحليل إلى معاينة الواقع اليومي، نلاحظ
أن الكتّاب لا يستعملون كلمة الأصالة في النطاق المعقول الذي
حددناه. علينا أن نهتم بهذا الاستعمال الشائع الذي هو نتيجة وضع
اجتماعي معين وسبب خلط فكري منتشر.
يعطي البعض لكلمة أصالة مفهوماً لا يتجانس مع مفهوم الانبعاث، إلى
حد أن المفهومين يصبحان متباعدين إن لم نقل متناقضين. ويتسبب هذا
التناقض المفتعل في ظهور برنامجين يركز أحدهما على الأصالة والآخر
على الانبعاث عن طريق الاغتراب. ما يهمنا نحن هو السؤال التالي: هل
التناقض بين البرنامجين ناشىء عن اختلافات مصلحية فقط، أم هل هو
تعبير عن مفارقة تاريخية عميقة تكمن في صلب مفهوم الانبعاث كمشروع
إنساني عام؟ بعبارة أخرى: هل مسألة الانبعاث تؤدي حتماً أم لا إلى
التناقض بين الأصالة والمعاصرة؟
إذا فهمنا الأصالة بكيفية مطلقة معزولة عن كل الظروف القائمة، أي
إذا اقتنعنا بأنها تعني أنه واجب على عرب اليوم أن يضاهوا عرب
الأمس وأن يتميزوا عن الآخرين، وبخاصة عن الغربيين الذين كانوا إلى
غاية الأمس القريب أسياد العالم سياسياً وأساتذته تقنياً، جاز
التساؤل: أليس في هذا الإطلاق وهذا الطموح ميل إلى التعجيز،
والتعجيز للمحافظة على الأوضاع الفكرية والاجتماعية القائمة؟ وليس
من الضروري أن تكون إرادة التعجيز واعية، يكفي أن تكون محتملة
لتصبح سبب اختلاف سياسي عميق.
قد يبدو التساؤل مجانياً لأول وهلة. لكن إذا تذكرنا أن التراث
والانبعاث والأصالة، مفاهيم محددة كما أوضحنا ذلك تاريخياً
واجتماعياً، أي مرتبطة ببنية النخبة الحاكمة، أدركنا مغزاه
الحقيقي. ويعود برنامج الأصالة، في صورته المطلقة المتطرفة، وسيلة
رفض الاقتباسات من الخارج، حتى الصالحة والمفيدة، بدعوى أنها
معارضة لما يطمح إليه العرب من تمييز ومغايرة، إن لم نقل من تفوق.
وكلما قل الاقتباس من الخارج والتفاعل معه، تقوت حظوظ المحافظة على
التشكيلة الاجتماعية وعلى نفوذ النخبة التقليدية فيها. هذا رغم
استيراد منتجات استهلاكية ترفيهية لا تمس في شيء المثل والرموز
الموروثة.
وجدت منذ عهد النهضة _وتوجد الآن _ في المجتمع العربي أقلية تدعو
تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلاً، بهدف الخروج من
وضعنا البئيس. إن البعض يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي
ذكره ابن خلدون، والقاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل
شيء. قد يكون هذا القانون قد لعب دوراً في بداية الاحتلال
الاستعماري لدى أوساط غير مثقفة أو متأثرة بمصالحها الآنية. لكن
هناك دوافع أعمق تستحق الاعتبار، خاصة حينما تأتي دعوة الاغتراب
نتيجة أدلوجة عظيمة مثل الليبرالية الديمقراطية أو الماركسية.
الدافع الأول: هو إرادة توسيع قاعدة الانبعاث والإصلاح. قلنا إن
مفاهيم التراث والانبعاث والأصالة خاضعة كلها لبنية التشكيلة
الاجتماعية، فمن الطبيعي أن تستلزم مقاومة التشكيلية نقد المفاهيم
المذكورة. ونلاحظ بالفعل صراعات اجتماعية داخل النخبة نفسها أثناء
عهد النهضة وحتى يومنا هذا. إن الدعوة إلى الإغتراب لم تنشأ من لا
شيء ولا يمكن اعتبارها محرّكة من الخارج في كل مراحلها وظواهرها.
لا سبيل إلى إنكار أن لها جذوراً في المجتمع العربي نفسه، سواء
كانت ذات اتجاه ليبرالي أو اتجاه ماركسي. لهذا السبب ينظر أنصار
الاغتراب إلى التراث نظرة مخالفة لما حللناه سابقاً. يحاولون تجاوز
تراث النخبة، المهذب المكتوب، باللجوء إلى التراث الشعبي الأكثر
ارتباطاً بالمناخ والطبيعة والاقتصاد، والأقرب إلى التراث الإنساني
المشترك. في هذا المنظور يفقد مفهوم الخصوصية الثقافية طابعه
المحوري. يظهر التغاير كواقع مجتمعي وفكري خاضع هو نفسه لقوانين
تاريخية واجتماعية عامة. حينئذ لم تعد الخصوصية قمينة بأن تكون هدف
السياسة التعليمية والتثقيفية. يعني الانبعاث في هذه النظرة
استدراك التخلف واللحاق بركب الحضارة العالمية ولا يحتمل غير هذا
المعنى. والنبوغ يعني التفوق في نطاق المعطيات الحالية. بتحليل تلك
المعطيات يتضح أن النبوغ لا يستلزم الخصوصية، إذ النبوغ في نطاق
الثقافة التقليدية لا يعد نبوغاً بالنسبة للثقافة المعاصرة والنبوغ
في نطاق الثقافة المعاصرة لا يستوجب، بداهة، إحياء التراث القومي.
الدافع الثاني: هو ضرورة إختزال التطور، أو بعبارة أوضح لزوم ربح
الوقت. نواجه هنا نتيجة حتمية لمفهوم الانبعاث كاستدراك. إذا حصل
في الماضي تخلف في مسيرة الثقافة والمجتمع، فكيف يتأتى الاستدراك.
إذا لم ننطلق من مستوى ثقافي وعلمي أعلى من مستوى الثقافة الموروثة
التي هي بالتعريف مفوتة؟ وإذا لم نفعل ذلك، فسنحكم على أنفسنا
بإعادة اكتشافات الغير، كما وقع لمجتمعات أخرى في هذا القرن
بالذات. وإعادة اكتشافات الغير، ولو بفوارق طفيفة، لا تعد مساهمة
في التاريخ العالمي، لا تشير إلى خصوصية أو أصالة من أي نوع، ولا
تضمن بالأحرى أي نوع من التفوق، حيث الفارق الحضاري سيبقى على حاله
إن لم يتسع.
إن برنامج الاغتراب متميز ومتكامل. وهو نتيجة التشكيلية
الاجتماعية، مثل منافسه، برنامج الأصالة سواء بسواء. في نطاقه
تتغير مفاهيم التراث والانبعاث والإبداع.
هكذا يوجد على الساحة العربية برنامجان يتفقان في الهدف، محو
التخلف، ويفترقان في الغاية: الأصالة بالمحافظة على الموروث، أم
النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك (مهما كان مدلول هذه
الكلمة)؟ الواقع أن كلا البرنامجين بقي حتى اليوم مجرد دعوى ولم
يخرج أي واحد منهما إلى حيز الوجود. والنخبة العربية تتأرجح منذ
عقود بين البرنامجين لأسباب متعددة لا مجال لتفصيلها هنا، مع ما
لذلك التأرجح من عواقب سلبية على الوضع التعليمي والثقافي في الوطن
العربي.
لنذكر فقط أن كلا البرنامجين يستمد قوته من ضعف الآخر. كل واحد
ينقد الآخر ويعجز عن رد النقد الموجه إليه. يدور هذا النقد
المتبادل حول مسألة اللغة. يركز دعاة الأصالة اهتمامهم على التراث
كمجموعة إنجازات ولا يعنون في الغالب بالكشف عن منطقها الداخلي.
فيغيب عنهم أنها في كل الظروف مفوتة. ما كان في الماضي عنوان
النبوغ والتفوق، لا يتناوله إلا كبار العلماء، أصبح اليوم يدرس في
الصفوف الإعدادية. من الواضح أن رياضيات الخوارزمي أو ابن البنّا
لا يكسب المطلع عليها أي نبوغ في أي مجال من مجالات العلم الحديث.
هذه قضية لا ينازع فيها إلا معاند جاهل. لكن ما حكم القضية ذاتها
عندما يتعلق الأمر باللغة العربية؟ تمثل اللغة دائماً مرآة
للثقافة. إذا حافظنا عليها كما كانت في العصور الزاهرة، فإننا
نحافظ على الثقافة التي كانت مادتها ومضمونها. فنواجه الاختيار
الصعب: إما تنفتح اللغة على مفاهيم وأفكار مستحدثة، فتخلق تعابير
مواتية لها وتتحول من شكل إلى شكل آخر، وإما تتحجر وتبقى وفية
لتراكيب الماضي، فتعجز بعد حين عن استيعاب مبتكرات الحاضر بما يلزم
من دقة وشمولية ووضوح. في هذه الحال يمتنع النبوغ فيها وبها. إن
النبوغ لا يتحقق إلا إذا اعترف به الغير، والاعتراف لا يحصل إلا
إذا اطلع الغير على منجزات ثقافية في مستوى معين، والاطلاع يتطلب
إمكانية النقل السريع والأمين من لغة إلى لغة، والنقل السريع
يستوجب تساوي اللغتين، كل واحدة حسب قوانينها الخاصة، في القدرة
على الإشارة الواضحة إلى المبتكرات. إذا لم يتحقق هذا الشرط بقي
الإنجاز حبيس الثقافة الأصلية وبقيت الأصالة، بمعنى النبوغ
والابتكار، دعوى فارغة لا تعني ولا تهم ولا تقنع إلا أصحابها. هذا
بالطبع لا يمنع أفراداً معينين من النبوغ والتفوق لكن بلغة غير
لغتهم. فهؤلاء نوابغ خرس، وتبقى اللغة قادرة فقط على ترديد دعوى
الأصالة بدون أن تترجمها إلى الواقع المعترف به لدى الجميع.
إن منطق الاختزال وكسب الوقت يقود صاحبه في النهاية إلى إبدال
اللغة القومية بلغة أجنبية. إن تكوين الأساتذة الأكفاء وتوفير
الكتب المدرسية المتطورة وإصلاح البرامج، أعمال تتطلب وقتاً طويلاً
وخبرة عالية وأموالاً وافرة. في هذه الحال يقول أنصار برنامج
الاغتراب: لماذا لا نكتفي بجلب الأساتذة الأجانب الذين سيزودوننا
بكل ما نحتاج إليه؟ قد تمس هذه السياسة في البداية التعليم العالي
وحده، لكن سرعان ما تكتسح الثانوي وربما الابتدائي أيضاً، وفي آخر
المطاف تقطع العلاقات العضوية مع الماضي، رغم الاهتمام الظاهري
بالفولكلور ومساهمته في الثقافة الشعبية العالمية. لكن هل تضمن هذه
المغامرة النبوغ والإبداع؟ قبل سنوات قليلة كان الجواب بالإيجاب
على هذا السؤال يكاد يكون إجماعياً، ثم ظهرت في دائرة المنظمات
الدولية بحوث تؤكد أن التلقين باللغة الأجنبية لا يسهل الاستيعاب
الدقيق وأن الازدواجية اللغوية تعطل القدرة على الإبداع، عكس ما
كان يظن في الغالب. لا ندري في الحقيقة هل كان لدعوة الأصالة تأثير
فعال على بلورة هذا الرأي، أم هل نشأ كنتيجة طبيعية لتقدم البحث
الموضوعي. إذا كان الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى الحقيقة،
فالاتجاه الجديد يرجح بكيفية واضحة برنامج الأصالة.
إن السؤال الكامن في تعارض البرنامجين المذكورين هو: ما الهدف من
الانبعاث، الوفاء للماضي والانتقام من قسوة التاريخ، أم كسب موقع
مناسب من أجل المساهمة الفعلية في حياة الأمم؟ بعبارة أخرى، ما هي
القيمة الأساس لنظامنا الفكري والخلقي: الوفاء أم الإبداع؟
من هنا نرى أهمية النقد المفهومي الذي انطلقنا منه، شريطة أن لا
نظن أن المناقشة هي ذاتها تجاوز التناقضات، إنها خطوة فقط لإدراك
الاختيار. لكن الاختيار هو الذي يمثل الخطوة الحاسمة، والاختيار هو
بالتعريف اختيار جماعة معينة في زمن معين ضد جماعة معينة أخرى. إن
من يظن أن تعارض البرنامجين قد يحل على مستوى الفكر وحده إنما يجري
وراء شبح خادع.
وفي موضوع الإبداع بالذات، نقول إنه لا يتحقق في أعمال فنية أدبية
علمية إلا بعد تحقيق الشروط الضرورية، والشروط لا تتأتى _بواسطة
سياسية تعليمية معينة _ إلا إذا حصل إجماع حول مفهومي الأصالة
والانبعاث، والإجماع بدوره لا يكون إلا بالخضوع للمعطيات
الموضوعية، بعد أن يصبح وعينا الجماعي خاضعاً للتطور المستقل عن
رغبتنا الذاتية.
--------------------------
المصدر: ثقافتنا في ضوء التأريخ