1- لقد تبين لنا الآن أن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في الغرب قد
حاولوا تطبيق مناهج البحث العلمي التي نجحت في دراسة الظواهر
الطبيعية على الدراسات المتصلة بالإنسان والمجتمع، ولكنهم لم
ينجحوا في ذلك.
2- وكان من أهم أسباب ضعف نظريات العلوم الاجتماعية وعجزها عن فهم
الإنسان والمجتمع الأمور الآتية:
(أ) أنها استبعدت تماماً كل ما لا يخضع للملاحظة الحسية من نطاق
الدراسة، وأخرجت الجوانب الروحية المتعلقة بصلة الإنسان بربه من
نطاق الدراسة العلمية، فأهملت بذلك قطاعاً كاملاً من العوامل
الحاكمة على السلوك البشري والتنظيم الاجتماعي.
(ب) أنها استبعدت الدين والوحي كمصادر للوصول إلى المعرفة العلمية
الصحيحة، وذلك نتيجة لما شاب الديانات السائدة في الغرب فيما يتصل
بنظرتها للعلم وفي تعاملها مع رجاله، فأضاعت بذلك كل أمل في
الهداية المستمدة من الوحي الصحيح المتمثل في دين الإسلام.
(ج) أنها زعمت لنفسها حياداً قيمياً لم تلتزم به في الواقع، فاتحة
المجال لاعتبار قيم الثقافة الغالبة بمثابة المعيار الذي يقاس إليه
كل تقييم إنساني، أو متجهة إلى نسبية قيمية أضاعت كل تقييم.
3- رغم إصرار المنظور التقليدي للعلم على أن الاختبار الصارم
للأفكار في الواقع المحسوس هو الأساس الوحيد للمعرفة العلمية
المعتمدة، فإن الصورة الواقعية التي تعيشها العلوم الاجتماعية تشير
إلى هذا الأصل قد تحول إلى اعتماد على "النظريات" التي تقوم في
أساسها على التخمين والخيال والمضاربة العقلية، أكثر مما تقوم فقط
على الحقائق الإمبيريقية الصلبة، في نفس الوقت الذي ثبت لدينا فيه
استعصاء تلك النظريات على الحسم بالرجوع إلى الواقع المحسوس.
4- ترتب على هذه الفوضى النظرية آثار هدامة لم تعد فقط على العلم
ذاته ولكنها عادت بالوبال أيضاً على المجتمعات التي تستهدي بمثل
هذا النوع الرديء من العلم ـ ذلك العلم الذي يستخدم لغة الصرامة
المنهجية ويتمتع بالاحترام الواجب للباحثين عن الحقيقة بتجرد،
ولكنه يسمح لنفسه في الوقت ذاته باعتماد السيَّر سنوات وسنوات وراء
التخمينات، مع الصدود عن المصادر الأفضل المتاحة لهم من وحي رب
الأرض والسماوات (وقد يُعذر غير المسلمين في ذلك، ولكن هل يُعذر
المسلمون؟).
5- فإذا انتقلنا من هذه الصورة المعتمة إلى عالم الإسلام لوجدنا
صورة قابلة للإشراق، فمعطيات الدين قائمة على العقل، والوحي دائب
الحض للناس جميعاً على المشاهدة القائمة على استخدام الحواس، وعلى
التدبر العقلي المتسم بالإخلاص لله سبحانه في البحث عن الحقيقة.
6- ويتجلى تكامل مصادر المعرفة ووسائلها بشكل مثالي في عالم
الإسلام (بما لا يمكن أن يقارن بالوضع الحالي) في أن الوحي (بعد
ثبوته عن طريق العقل) يقدم للبشر أطراً تصورية يقينية تتصل بكل مما
يلي:
(أ) المعارف المتصلة بعالم الغيب. (ب) كليات عالم الشهادة.
|وأن العقل المهتدي بالوحي يقوم بالربط بين معطيات الحواس لإضفاء
المعنى عليها، ولكنه لابد من الاعتماد على مجرد الخيال والتخمين
والأكروباتيات العقلية يعتمد على ما يأتي به الوحي من أطر تصورية
عامة.|
فهل أمامنا من بديل إلا أن نستخلص الأطر التصورية للنظريات العلمية
في العلوم الاجتماعية من معطيات الوحي الصادق، ثم نستمد فروضنا
استنباطاً من هذه الأطر التصورية لكي نقوم باختبارها في الواقع بكل
أبعاده الشاملة لما هو محسوس ولما ليس محسوساً كالجوانب العقلية
والمعرفية والروحية في تأثيرها على ما هو محسوس.
فإذا ثبتت صحة هذه الفروض فأننا نطمئن باضطراد لصحة فهمنا للوحي،
وإذا لم تثبت صحتها فإننا نعود للقاعدة التي تقوم على مراجعة
"فهمنا" للوحي من جهة ومراجعة إجراءاتنا البحثية من جهة أخرى حتى
يتم إزالة أي تناقض ظاهري.
ونحن بهذه الخطة لن نفقد شيئاً مما تتميز به النظرة التقليدية
للعلم، ولكن كل ما في الأمر أننا قد استبدلنا مجرد الخيال والتخمين
الذي يستخدمه الباحثون في الوصول إلى تفسيرات للظواهر التي
يدرسونها بأطر تصورية أرقى، مستمدة من علم علام الغيوب ـ والتي وإن
اعتمدت على مصادر مؤكدة اليقين في ذاتها، فإن فهمنا لها مفتوح
للمراجعة دون أي عداوة مسبقة للعقل.
كما أننا بهذا نبدأ في النظر للإنسان نظرة كلية وتكاملية غير
مختزلة ولا جزئية، إذ نأخذ العوامل الروحية المتصلة بمعرفة الإنسان
بالله ونوع صلته بربه في الاعتبار كعوامل حاسمة في تفسير السلوك.
وبطبيعة الحال فإن هذا لابد أن يترتب عليه ابتكار مناهج وأدوات بحث
تلائم إدخال هذه المتغيرات الجديدة ضمن قوائم المتغيرات التي
تتناولها الدراسات العلمية الجديدة المنطلقة من منطلقات المنهجية
الإسلامية في البحث العلمي على الوجه الذي بيناه.
-----------------------------
المصدر: التأصل الإسلامي للعلوم الاجتماعية