موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

المثالية الغربية
عبد المجيد النجار



إن الانصراف عن الواقع كمنطلق للدرس في سبيل الإصلاح كما أفضى بالبعض من المسلمين إلى منزع منهجي يقوم على المثالية السلفية، فإنه أفضى ببعض آخر إلى منزع مثالي أيضاً ولكن يقوم على مثالية غربية؛ ذلك أن هؤلاء رفضوا الواقع الإسلامي، وتكوّنت في أذهانهم صورة مثالية لنمط من الحياة هو الكفيل بإحداث التحضّر والتقدم فيه، وهو نمط الحياة الغربية الذي يحدث بالفعل التحضّر في بلاد الغرب وينميّه ويتقدم به.
وقد تطوّرت هذه الصورة المثالية من فكرة معرفية إليه صفة منهجية في التفكير والسلوك، وذلك بأن أصبح هذا الشقّ من المسلمين يصدرون في كل نظر إلى الواقع الإسلامي بقصد تغييره ودفعه إلى النهوض عن تصوّرهم لمثالية الحياة الغربية، فإذا هم يصوغون صوراً لإصلاح برامجه من تلك المثالية، ويسعون إلى تنزيلها على واقع المسلمين لإنهاضه صرفاً للنظر عن مقوّمات ذلك الواقع وعناصره المحكومة بخصائص ذاتية متأتّية من خصوصيات ثقافية واجتماعية.
وفي هذا الإطار يندرج أصحاب النزعة العلمانية المنبثّون في العالم الإسلامي، والذين يحتلّون مراكز هامّة في مواقع القرارات التغييرية النظرية والعملية في مختلف مجالات الحياة. وهؤلاء في تفكيرهم التغييري للنهوض بالواقع الإسلامي كما يرون يخطّطون مشاريعهم للنهضة من منظور النمط الغربي للتحضّر باعتباره المثال الذي يؤدّي إلى النهوض، ثم ينزّلونها على الواقع دون اعتبار لمقتضياته الذاتية، وهذا النمط من المنهج له أثر كبير اليوم في الساحة الإسلامية، بالرغم من أنه لا يمتدّ عددياً على قاعدة عريضة من جموع الأمّة، ولكن حجم أثره يستمدّه من سيطرة أصحابه على مراكز النفوذ.
|وإذا كانت المثالية السلفية تعدّ خللاً منهجياً بمقتضيات الفكر الواقعي، فإن هذا الخلل يبدو أبين وأخطر في المثالية الغربية بوصفها منهجية تفكير وتطبيق؛ وذلك لأن المثالية السلفية مهما يكن من إمكان مغايرتها لمقتضيات الواقع الإسلامي الراهن فإن صلتها بهذا الواقع غير مبتوتة، إذ العامل المنشئ لهما هو عامل مشترك متمثّل في الفكرة الإسلامية مهما يكن من خلل في صلة الواقع الإسلامي الراهن بتلك الفكرة|. أما المثالية الغربية فهي مثالية منبتّة عن هذا الواقع لأنها متأتّية من أصول فكرية لا صلة لها به في جوهر تركيبه، إلا أن تكون تأثيرات تأتّت بسبب الغزو الثقافي الغربي للعالم الإسلامي وهي تأثيرات لم تشمل العمق الشعبي للأمّة وهو المشكّل للمجرى العامّ للحياة الإسلامية. فهذه المثالية إذن تعتبر أكثر انحرافاً منهجياً عن صفة الواقعية، وأعمق إخلالاً بها.
إن هذا الاختلال في الواقعية كاختلال منهجي سائد في الأمّة الإسلامية اليوم متمثّلاً في الانصراف عن دراسة واقع الأوضاع التي تجري بها الحياة ليُتّخذ ذلك منطلقاً للعلاج، ثم التفكير بدلاً من ذلك من خلال مثالية تُستدعى من التاريخ أو من حضارة الغرب، إن هذا الاختلال كان له أثر بالغ في الإعاقة عن الانطلاق الحضاري باعتباره خللاً في منهجية التعامل مع الوقع الذي يراد تغييره سواء من حيث التفكير أو التطبيق.
إن من شرط النهضة في أية أمّة أن يتكّون فيها وعي منهجي تتّجه به العقول إلى النظر الدارس لواقع الأوضاع التي تعيشها، فتحلّل تلك الأوضاع، وتقف على عناصرها وملابساتها، وتحدّد الأسباب والعلل التي تقضي بها إلى التخلّف، وتعوقها عن الانطلاق، وبناء على هذا الدرس يتّضح الداء المعيق، وهو الشرط الضروري لبناء تصوّر لخطّة العلاج، ثم لتطبيقها في الواقع. والشأن في هذا الأمر مثل شأن علل الأجسام التي تعيقها عن الحركة والنشاط، فإنّ علاجها لتستأنف الحركة يتوقّف أولاً على فحص واقعي لها يفضي إلى تشخيص العلّة التي على أساسها يوصف الدواء. وحينما تروم أمّة أن تنهض من كبوتها، ولكنها تسلك في ذلك مسلكاً مثالياً تقفز فيه فوق واقعها لتصوغ حلولاً لعجزها من مُثل في الأذهان، فإنها ستظلّ تراوح مكانها، إذ تلك الحلول سوف لن تصادف عللها لتشفيها، فهي علل غير مشخّصة أصلاً، وهي حلول غير مصاغة بالتالي بحسب مقتضياتها.
ولو ذهبت تتلمّس هذا الأمر في واقع ما يجري على الساحة الإسلامية من محاولات الإصلاح لرأيت أن هذا الواقع تتنازعه صورتان رئيسيتان تختلفان في المنطلق، ولكنّهما تشتركان في مساحة هامّة من المنهج، وبالتالي تلتقيان في قدر هامّ من النتيجة. أما الصورة الأولى فهي ما يمكن أن نسميّه بالمشروع الإسلامي للنهضة، وهو المشروع الذي تشترك فيه الحركة الإسلامية سواء تمثّلت في جهود جماعية أو فردية، فهذا المشروع تغلب عليه العمومية والإطلاقية، إنه مبني على أساس من التعاليم الكلّية التي ورد بها الوحي، وأساس من الاجتهادات الفقهية التي جاءت في التراث، وأما الواقع الذي تجري به حياة المسلمين فهو يكاد يكون مهملاً في ذلك البناء؛ إذ لم يكن له حظّ يذكر من التحليل والفهم لعناصره وأسبابه، حتى تُشتقّ حينئذ من تعاليم الوحي الكلية، ومن التجربة الاجتهادية في التراث صورة تلائم هذا الواقع، وتصادف علله فتعالجها، شأن ما كان يفعل الأيمّة المجتهدون في عهد الشهود حينما كانوا يصوغون من الدين صوراً من التدّين على قدر واقعهم في ظروفه وملابساته، فتعالجه وتنهض به، وهو صنيعُ الإمام الشافعي على سبيل المثال فيما كان له من مذهب قديم بالعراق، ومذهب جديد بمصر، إنه ذو عقلية واقعية في دفع الأمّة في سبيل التحضّر. ولكن فقدان هذه الخاصية اليوم جعل المشروع الإسلامي ينزع منزع التّجريد، فأين هي ـ في هذا المشروع ـ المعالجة الواقعية القابلة للتطبيق في شؤون التربية والاقتصاد والسياسة والثقافة بحيث يفضي تطبيقها إلى كسر المكبّلات التي تعوقها عن الانطلاق؟ قد تكون بعض الأعذار قائمة في تشكّل المشروع الإسلامي على هذا النحو، ولكنه كما هو مطروح ينمّ على عقلية اختلّت فيها المنهجية الواقعية مهما تكن الأسباب في ذلك.
إن المشروع الإسلامي لم تُتح له فرصة التطبيق الفعلي الشامل تحت ظلّ من السلطان السياسي حتى يُرى مداه الفعلي في قدرته عل الدفع إلى التحضّر أو عجزه عن ذلك، وإنما ما قلناه فيه نستنتجه من صياغته النظرية المثالية التي تنبئ منطقياً بأنّه سوف يلاقي عند التطبيق في صورته الحالية مصاعب كبيرة قد تعجزه عن إحداث التغيير، إلا أن يغيّر هو من ذاته في خضمّ التجربة العملية في التطبيق، بحيث يجنح إلى الواقعية في التعامل مع الوضع الإسلامي الراهن، ولا شكّ أن الممارسة العملية ترشِّد من التصوّر النظري، وتنزع به غالباً إلى الواقعية، وخاصّة إذا كان النسب قائماً بين الخطّة النظرية وبين الوضع المطبّقة عليه كما هو الأمر في قضية الحال، إذ تجمع بينهما الفكرة الإسلامية في الأصل مهما يكن حاصلاً من خلل فيها بالنسبة إليها.
وأما الصورة الثانية فهي ما يمكن أن نسميّه بالمشروع العلماني، وهو المشروع الذي يطرحه أولئك الذين يخرجون الدين من دائرة الفعل الاجتماعي العامّ، ويقصرونه على الشأن الشخصي، فهو مشروع مصاغ في أساسه خارج دائرة الفكرة الإسلامية في شمولها، بل هو من تدبير العقل المستقلّ اشتقاقاً في الأكثر من الأنموذج الغربي في التحضّر كمثال يُحتذى باعتباره الأنموذج الظاهر عالمياً اليوم، وهو لذلك يغفل إلى درجة كبيرة في صياغته المعطيات الواقعية للوضع الإسلامي الراهن، وخاصّة في عناصره الثقافية والنفسية والاجتماعية، وإن كان يدّعي أنه يقوم على الدرس المفصّل للواقع المادّي في حياة المسلمين باستخدام طرق الإحصاء وما إليها مما يستخدم في التقدير المادّي.
ومثالية هذا المشروع المتأتيّة من تقليد الأنموذج الغربي، والقفز عن خصوصيات الواقع الإسلامي لم تفض به إلى العجز عن إحداث التغيير في هذا الواقع كما يحكم بذلك السياق المنطقي فحسب، بل أفضت به إلى ذلك كما ثبت في التطبيق الفعلي؛ ذلك لأن هذا المشروع هو السائد في العالم الإسلامي منذ ما يقارب القرن، وقد ظهر عجزه البيّن عن إحداث النهضة في أيّ من البلاد التي طبّق فيها، بل هو أفضى في بعض الأحيان إلى تراجع في التحضّر عمّا كان عليه الأمر قبل سيادته، ولا أدلّ على ذلك من أن كثيراً من البلاد الإسلامية كانت تحظى بأقدار من الحرّيات الشخصية والعامّة، وبأقدار من الاكتفاء الذاتي في الغذاء، فإذا بها بعد تطبيق المشروع العلماني فيها ترسف في قيود الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، وتستورد غذاءها الضروري من وراء البحار.
إن هذه المثالية التي يتعامل بها اليوم الفكر الإسلامي مع واقع المسلمين في محاولات إنهاضه هي بقطع النظر عن لونها تمثّل عائقاً يعوق عن انطلاق هذا الواقع في سبيل التحضّر؛ ذلك لأنها تجعل هذا الفكر سواء في بنائه التصوّري لخطط النهوض، أو في إجرائه التطبيقي لتلك الخطط لا ينفذ إلى العلل الحقيقية التي تشدّ الأمّة إلى تخلّفها حتى يصف لها من العلاج ما يلائمها، وإنما هو يبني من المثال بمعزل عن أسباب الواقع وتفاعلاته، فتظلّ معالجاته تلامس الظواهر دون أن تصيب أصل الأدواء التي تبقى فاعلة بالتوهين في جسم الأمّة، فلا تنطلق قدراتها للشهود حتى يتحوّل التفكير من المثالية إلى الواقعية.
-------------------------
المصدر: عوامل الشهود الحضاري


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع