موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

ملاحظات أولية حول الاستنارة والحداثة وما بعد الحداثة
. عمرو الحمزاوي



أن فهمنا في العالم العربي للفكر الاستناري قد حكمه الى حد بعيد الكيفية التي تم بها نقل أفكار ومسلمات الاستنارة الينا والاطار التاريخي الذي تمت فيه (وهو الاطار الذي تميز باختلال واضح في علاقات القوة - المادية وغير المادية - بيننا وبين الغرب وبوضعيتنا كموضوع للمعرفة وليس كذات عارفة) والقوى المجتمعية التي اثرت فيها. وهو ما ترتب عليه ظهوره وهيمنة مجموعة من التحيزات نظرت لجوانب بعينها في الفكر الاستناري وأهملت او همشت جوانب أخرى تلك التحيزات التي ما تزال تلعب دورها في مواجهة محاولات تخطى الاطار المعرفي الاستناري وفي استيعاب انتقادات ما بعد الحداثة Postmodernity له على انها تشكل نقطة في متصل مستمر لا انقطاع فيه.
والحقيقة ان النقلة من العصور الوسطى الى الحديثة في أوربا. قد تميزت من الناحية الفكرية ببروز اطار معرفي جديد. تخطى اطار العصور الوسطى الديني وقام في جوهره على النظر الى الطبيعة والحياة البشرية على انها موضوعات قابلة للتحول والتغير وتخضع بمنطق تطوري وصور تاريخ المجتمعات البشرية عليى انه تقدم مستمر لا تراجع فيه وهو ما عكس نظرة أحادية للتاريخ. وتطورية الاستنارة في هذه قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بفكرة او مفهوم العلمانية وتراجع الدور والوزن المجتمعي للظاهرة الدينية وسيادة مبدا جديد لتنظيم حياة المجتمعات البشرية وهو الترشيد ونقطة ارتكازها المتمثلة في الانسان الفرد الذي أصبح المرجعية المعرفية الوحيدة.
في هذا الاطار برزت اهمية مفهوم النقد، والذي اعطى - بدءا من كانط - مضامين عديدة صورته على انه هدف وموضوع النقل والادارة الرئيسية في هدم الحقائق الزائفة والمرتبطة بما وراء الطبيعة وأوهامها ومحاولة بناء حقائق جديدة قابلة باستمرار للتغير والتبديل. وقد كان هذا هو المدخل لبروز وتطور علم الاجتمع الحديث الذي نظر اليه على انه وسيلة اكمال عمل الثورة العلمية والتكنولوجية من خلال تطوير اقترابات ومناهج ونظريات شاملة تقوم بدارسة المجتمعات البشرية بصورة تتناسب مع المنطق التطورى - العلماني. واصبح علم الاجتماع يصور - خاصة بدءا من سان سيمون واوجست كونت - على انه دين الانسانية الجديد ومصدر قيمها واخلاقها الجديدة التي تحمي البشر من اخطار العدمية واللا معيارية، وعلماء الاجتماع على انهم كهنة النظام الجديد وحماته.
وطوال القرن التاسع عشر، اعتنق اغلب المفكرين الغربيين هذه الاطروحات وأرجعوها الى الارث اليوناني والحضارة الهلينية وربطوا العلمانية والرشادة بمرحلة النضج البشري والظاهرة الدينية وما وراء الاطبيعة بمرحلة الطفولة البشرية التي بدت لهم المجتمعات الغربية عليى انها في طريق الخروج منها ثم في مراحل لاحقة زمنيا تطورت هذه الاطروحات لترتبط بالايمان بتفوق الغرب وضرورة الشروع في مساعدة المجتمعات الاخرى في اللحاق بركب التطور وهو ما شكل فيما بعد التبرير الايديولوجي للظاهرة الاستعمارية وقد ارتبطت هذه التغيرات (المدركة) على المستوى المجتمعي في الغرب بتطور ونحو الرأسمالية الصناعية ونظمها الاجتماعية بما تضمنته. من تميز وتخصص مجتمي وهيكلي. ومن تحول من الريف الى الحضر ومن الجماعات الى المجتمعات الكبيرة.
والحقيقة ان بروز اطار الاستنارة الاستمولوجي وهو ما يمكن ان نسميه بالحداثة Modernity وهيمنته على الفكر والشفافة الغربية طوال الثلاث قرون الماضية، رغم الازمات العديدة التي تعرض لها والتي كان يمكن لها ان تهدم هذا الاطار لولا ان مكوناته وعناصره الاحاكمة قد وصلت الى مرتبة المقدسات التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ورغم الشواهد العديدة التي دللت على فساد منطق الاسنارة قد ارتبط الى حد بعيد بمصالح طبقات وفئات اجتماعية محددة واجهت في البداية النظام القديم والمؤسسة الكنيسية المتحالفة معه ثم بدأت - بعد انتصارها- في إرساء قواعد ثابتة لنظامها وفي محاولة الحفاظ على الوضع القائم الذي يضمن مصالحها.
وقد قدمت الثقافة الغربية الحداثة على انها الاطار العالمي الصالح في كل زمان ومكان لدراسة وفهم الجوانب المختلفة لحياة المجتمعات البشرية والتنبؤ بمسارات تطورها بغض النظر عن خصوصياتها الثقافية، وأصبحت الحداثة وتجسيداتها في العلوم الاجتماعية هي المعيار للحكم على مدى تقدم هذه المجتمعات. وقد افسح هذا المجال لسيادة منطق التنافضات الحديد او الثنائيات الجامدة الذي تجلي بصورة واضحة في كتابات الاستشراق ونظريات التنمية المختلفة (ديني/ علماني/ تخلف/ تقدم/ مجتمعات تقليدية / مجتمعات حديثة).
وعلى الرغم من ان ما بعد الحداثة ما زالت في إرهاصاتها الاولى ومازال دعاتها يميلون الى ابعاد وتمييز انفسهم عن منظمات فكرية محددة اكثر من الحديث بصورة ايجابية عما ينادون به، الا انه يمكن القول بأن ما بعد الحداثة تقوم على رفض مسلمات الاستنارة الاساسية تحديدا التطورية والنظرة الاحادية للتاريخ وترجمتها في العلوم الاجتماعية في صورة نظريات، ومقولات حاكمة تفسر التاريخ ومساراته، هذا الرفض هو ما يعبر عنه بوضوح مفهوم التفكيكية التي تتطور لتصبح منهجا او اداة تحليلية تبحث في النصوص عما لم يقل وتحاول ارجاع افكار الحداثة الى عناصرها الاساسية والنظر في خصوصيتها التاريخية وما صبغته بها المصالح والمتغيرات المجتمعية المختلفة، التفكيكية تستند الى حد كبير على فكرة النسبية او التعددية الثقافية، وعلى التأكيد على تاريخية واحتمالية المعارف البشرية - وعلاقاتها الجدلية بعلاقات القوة السائدة، ويرتبط بها (أي بالتفكيكية) - وان كانت معالم هذا لم تصبح جلية بعد واحتمالات تحققها يكتنفها العديد من الشكوك - عملية مكملة تقوم على اعادة بناء وتطوير مفاهيم جديدة تتناسب مع التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها المجتمعات المختلفة.
والحقيقة ان ما بعد الحداثة هي النتاج الفكري لتلاقي براجماتيه أمريكية معدلة مع تيارات ما بعد ماركسية وما بعد بنيوية، تلاقت على مهاجمة الاستنارة وانسانيتها القائمة على العقل المجرد والبحث عن التحرر من خلال قوة التكنولوجيا والعلم.
على الرغم من تأكيد دعاة ما بعد الحداثة على انفصالها التام عن الحداثة والفكر الاستناري، الا أنه يمكن القول بأن هناك استمرارية وتطوير لبعض المفاهيم والافكار التي كانت مهمشة في اطار الحداثة مثل الانقطاع التاريخي والنظرة الدائرية للتاريخ (التي ارتبطت بأفكار نيتشة». ومن جانب آخر، ما تزال هناك مفاهيم تعترض محاولات «تفكيكها» صعوبات وعقبات شديدة لقداستها ومركزيتها للفكر والممارسة الغربية، وأعني هنا تحديداً مفهوم العلمانية.
تمثل ما بعد الحداثة بالنسبة للباحثين الاجتماعيين غير الغربين امكانية للدخول في حوار متحرر نسبياً من مسلمات حكمت الحوارات السابقة وتعطى لنقد غير الغربي للمعارف الغربية - على الأقل جزئيا - شرعية متجددة، وهو ما بدأت تظهر بداياته في كتابات ما بعد الاستشراق ونقد دراسات التنمية.
-----------------------------------------
المصدر : اشكالية التحيز / 290 د.عبد الوهاب المسيري


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع