موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

عقائد الشرك.. البواعث والمظاهر
نوري حاتم



لقد دشن الانسان حياته على الأرض موحداً مؤمناً بالله، انطلاقاً من فطرته، ومن الوحي الإلهي الذي اقترن مع وجود الانسان فوق هذا الكوكب، إلا أن احتكاكه مع قوى الطبيعة ومع أسرارها المغلقة آنذاك، وابتعاده عن هدي الأنبياء، دفعه إلى اتخاذ آلهة إلى جانب الاعتقاد بالله، أو مع الكفر به سبحانه في بعض الأحيان. وهكذا برزت في حياة الانسان ظاهرة ألوهية الأشياء (الشمس، القمر، الأصنام) إلى جانب ظاهرة التوحيد.
ولا نستطيع ـ في ضوء المعلومات المستكشفة من الآثار التاريخية ـ أن نحدد بدقة أول شريك عبده الانسان.. فهل كان شيئاً واحداً، كالشمس أو القمر، أو النار، أو الصنم، أم أن ظاهرة الشرك ولدت ـ من حين ولادتها ـ متعددة الآلهة؟
ويميل الباحث هنا إلى الرأي الثاني، وذلك للأسباب التالية:
إن بواعث الشرك متنوعة، فمن الطبيعي أن تؤدي إلى تعدد الآلهة.
إن المجتمع الانساني في فجر تاريخه، عاش في جماعات متفرقة، فلابد أن يستقل كل منها بإله، أو بآلهة مختلفة عن آلهة الجماعات الأخرى.. كما أشارت إلى ذلك بعض الدراسات الأثرية، حيث ترى أن آلهة الشمال ـ في العراق ـ انتقلت إلى الجنوب مع الغزاة وغيرهم.
إن القرآن الكريم سجل ظاهرة تعدد الآلهة والأرباب في عصر إبراهيم (ع) وهذا النمط ظل ثابتاً في عصر إبراهيم (ع) وهذا النمط ظل ثابتاً إلى عصر موسيى-ع-، كما ورد في القرآن الكريم، فمن الطبيعي أن يكون هذا اللون من الشرك ثابتاً قبل عصر إبراهيم (ع)، وأيضاً إلى ما بعد عصر موسى (ع)، نظراً إلى بطء حركة تطور العقائد في المجتمعات الانسانية.. فاليونانيون القدماء "جعلوا السماء هي الإله (أورانوس) والقمر هو الإله (بوزيدن) وأما الإله (پان) ففي كل أرجاء الغابات في وقت واحد"، "وأشهر الكواكب المعبودة بعد القمر كوكب الزهرة (عشتار) وكوكب المريخ (مردوخ)، وينسبون إلى الزهرة أنها ربة الحب لتألقها وزهوها وتقلب أحوالها، وينسبون إلى المريخ انه رب الحرب لاحمرار لونه كلون الدماء، على انهم عبدوا الشمس قديماً باسم (شماس)، وإن لم تكن عبادتها عامة بينهم كعموم عبادة القمر"، "ومنها أيضاً (ميروداخ) إله الآلهة و(أي) إله القانون والعدل، والإله (زاماما) والإلهة (اشتار) إلهة للحرب و(شاماش) الإله القاضي في السماء والأرض و(سين) إله السماوات و(حاداد) إله الخصب و(نيرغال) إله النصر و(پل) إله القدر والإلهة (بيلتيس) والإلهة (نينو) والإله (ساجيلا) وغيرها"، "وكان للفينقيين آلهة كثيرة، فكان لكل مدينة إلهها الخاص".
وفي الواقع، من العسير إحصاء الآلهة التي عبدتها الأمم القديمة بسبب قلة المعلومات في هذا الميدان، ولكن ـ بشكل عام ـ إن تلك المجتمعات ألّهت مختلف القوى المنظورة وغير المنظورة.
إن بعض الآلهة تفقد اعتبارها مع مرور الزمن، وتطور وعي الانسان، كألوهية الجن والكواكب بعد ظهور الاسلام، إلا أن ثمة آلهة لم تتزحزح عن موقعها الألوهي لفترات طويلة، وهي الأصنام والأوثان، حيث نجد القرآن قد أكد وجودها في عصر نوح (ع)، وربما قبله، مروراً بعصر إبراهيم (ع)، وانتهاءً بعصر رسول الله (ص)، وهي فترة تناهز الـ(ثلاثة آلاف) عام.. بل إلى هذا اليوم، حيث نجد في شعوب الصين والهند مَن يعبد الأصنام، ويتقرب إليها بالشعائر والقرابين.
إن ظاهرة الثبات في ألوهية الأصنام، رغم التطورات العقائدية في المجتمعات، تستدعي التأمل والبحث عن أسباب بقاء الأصنام آلهةً على امتداد تلك الأزمنة الطويلة، وفي الواقع يمكن الإجابة بما يلي:
إن الصنم الحجري يمكن وضعه في مكان معيّن ـ في هيكل العبادة ـ وترتيب الطقوس العبادية من خلال فئة كهنوتية تشرف على هذه الآلهة، وتدير مراسيم الطقوس المرتبطة بها، مما يخلق نمطاً عبادياً في المجتمع، يوظفه الكاهن لتأمين مصالحه.
إن الصنم أقرب لإشباع هوى الانسان من خلال صنعه، فالإله الذي يصنعه الانسان، أقرب فهماً من إله يسبح في عمق السماء لا يعرف عنه إلا قرصه المدور، وأشعته الحارقة.
كانت الأصنام تتحمل الرموز التي يخلعها الانسان عليها، كجعلها رموزاً لأبطال ماتوا، لهم وجود مؤثر في قبائلهم، ثم مع مرور الزمن، صارت آلهة تقام لها الشعائر والمراسيم العبادية.
وقد يحمل الصنم رمزاً لمعانٍ محددة، ذات صلة مع أعمال القبيلة التجارية أو الزراعية أو الحربية.
إن الأصنام المتخذة للعبادة، إنما كانت مثالاً للكواكب التي يعتقد المشركون بألوهيتها، ولكنها حيثكانت تختفي في النهار بسبب ضوء الشمس، وفي بعض أوقات الليل، أوهم بعض حكمائهم أن يجعلوا لها أصناماً وتماثيل على صورها وأشكالها.
إن الحيوانات والكواكب المتخذة كآلهة تسقط عن اعتبارها الألوهي عند اكتشاف سر قوتها، أو ضعفها، إزاء ظواهر الطبيعة، بخلاف الحال مع الأصنام، التي منشأ اعتبارعها هو الانسان نفسه، فليست ثمة اكتشافات تطيح بألوهيتها، فالانسان هو الذي يسبغ عليها طابع القداسة، وهو الذي يصونها من السقوط.
ورغم شيوع ظاهرة تأليه الأصنام، إلا أن تأليه سائر الأشياء لم يزل تماماً، حيث ظلت بعض الشعوب تعبد الكواكب، وبعض الأحياء إلى جانب الأصنام.
- بواعث الشرك:
إن جوهر حركة الانسان الحضارية يكمن في جوانبه المعنوية، وبشكل أدق في الجانب العقائدي والغيبي، والذي تقع على رأسه مسألة الإيمان بالله. إن بعض المؤرخين لمسألة الإلهة يثير كل التفاصيل المرتبطة بتأليه الانسان للكواكب والحيوانات، والنباتات، وحتى للأعضاء الجنسية للانسان، ولكنه لا يهتم ـ بشكل كاف ـ بالجانب المتعلق بفكرة التوحيد ودور الأنبياء (ع) في نشره، رغم تأثيرها البارز في المسار الحضاري للانسان، ورغم ان عظماء التاريخ حملوا راية الإيمان بالإله الواحد على امتداد التاريخ.
يتفق المؤرخون على أن المسألة الإلهية -أي البحث عن الإله- اقترنت مع وجود الانسان على الأرض، إلا أنهم يختلفون في الدوافع التي ساقت الانسان إلى تناول هذه المسألة. إن الاتجاه العام في تفسير ظاهرة البحث عن الإله، يرى أن منشأها هو خوف الانسان من قوى الطبيعة التي تكتنف وجوده، أو من الطمع في استنزال خيراتها، يقول ديورانت: "كان الخوف أساس الطوطمية كما هو أساس كثير من العبادات، وذلك بأن يكون الانسان قد عبد الحيوان لقوته، فلم ير بُدّاً في استرضائه، فلما أن طهّر الصيدُ الغابة من وحشها ومهّد الطريق للطمأنينة التي تتوافر في الحياة الزراعية قلّت عبادة الحيوان".
ويقول السيد الطباطبائي في ميزانه: "إن الذي بعثهم ـ أي المشركين ـ إلى اتخاذ الآلهة وعبادتها أحد أمرين: الخوف من سخطها وقهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الأرضي، أو رجاء البركة والسعادة منها، وأشد الأمرين تأثيراً في نفوسهم هو الأمر الاول أعني الخوف، وذلك أن الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة والسعادة المادية ملك أنفسهم، أما مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الأموال واكتساب المقام والجاه أو مما ملكهم إياه الجد الرفيع أو البخت السعيد، كمن ورث مالاً من مورثه أو صافد كنزاً فتملكه أو ساد قومه برئاسة أبيه".
إلا أن ثمة دوافع أخرى غير الخوف والطمع، حرّكت الانسان، على الدوام لإثارة المسألة العقائدية، وهي شوق للارتباط بخالق السماوات والأرض، وبحسب الحقيقة لقد "توصل الانسان إلى الإيمان بالله منذ أبعد الأزمان وعبده، وأخلص له وأحس بارتباط عميق به، قبل أن يصل إلى أي مرحلة من التجريد الفكري الفلسفي، أو الفهم المكتمل لأساليب الاستدلال.. ولم يكن هذا الإيمان وليد مخاوف وشعور بالرعب تجاه كوارث الطبيعة وسلوكها المضاد، ولو كان الدين وليد خوف وحصيلة رعب، لكان أكثر الناس تديناً على مر التاريخ هم أشدهم خوفاً وأسرعهم هلعاً، مع ان الذين حملوا مشعل الدين على مر الزمان، كانوا من أقوى الناس نفساً، وأصلبهم عوداً، بل ان هذا الإيمان يعبّر عن نزعة أصيلة في الانسان إلى التعلق بخالقه، ووجدان راسخ يدرك بنظرته علاقة الانسان بربه وكونه".
إن الانسان يتمتع بقدرات عقلية تتيح له التأمل العميق في ظواهر الوجود، ومعرفة علتها الأولى. إن عقله الكبير أرشده إلى وجود خالق لهذا الكون الواسع ومظاهره المتنوعة، فطفق يبحث عنه، إلا أنه أخطأ في الوصول إليه في التجارب التي لم تستضيئ بهدى الأنبياء، فهذه المعرفة بلزوم الخالق، وهذا الشوق العظيم لمعرفته، الذي أودعه الله في فطرة الانسان، كانا يلهبان وجدانه، ويدفعانه باستمرار للبحث عنه، ومعرفة هدفه من وراء عمليات الابداع التي تغمر الانسان والحياة، قال تعالى حاكياً عن موسى (ع): "قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى".
لقد شعر الانسان من إحساسه بفقره وحاجته، إن ثمةآفاقاً رحبة للتطور المعنوي يمكن كسبها لو اتصل بالخالق الذي وهب كل هذه النعم والخيرات للانسان، وأفاض على الطبيعة كل مظاهر الجمال والاتقال والكمال، فهبَّ الانسان يبحث عن مصدر الكمال للاتصال به، والتضرع إليه ليمنحه القوة، والكمال. قال تعالى: "يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه".
فالانسان يبحث عن خالقه، وخالق جميع المخلوقات، وعن مصدر الكمال والنعم، ليتقرب إليه، ويظفر بالمزيد من فضله، انه عطش أزلي للاتصال بالله، ذلك الذي يسوق الانسان دوماً لطرق باب العقيدة.
إن ثمّة شوقاً حاراً يغلي في أعماق الانسان لمعرفة الخالق، إلا أنه في كثير من الأحيان لم يعِ هذا الشوق بموضوعية، وحسبه رغبة يمكن إشباعها ي تأليه الصنم، أو الكواكب، واقامة الشعائر والطقوس الغريبة لعله يروي عطشه الفطري لمعرفة الإله الحق، لكنه أخطأ في معرفة المصداق الواقعي والوحيد لإله الحق، فظن أنه الشمس التي تهبه الحرارة والنور، أو القمر الذي يملأ وجدانه سحراً وخيالاً، أو الأرض التي تمنحه الغلات والخيرات، أو السلطان الحاكم الذي يمسك بيديه سيف القوة والبطش، وهكذا ضل الانسان بين معرفة حيقة شعوره الداخلي، وبين خطئه في معرفة المصداق الواقعي للإله.
- بواعث بقاء عقائد الشرك:
إن امتداد ظاهرة ألوهية الكواكب والأصنام والأشخاص زماناً ومكاناً، تستدعي إثارة تساؤلات حول سبب هذا الامتداد رغم جهود الأنبياء-ع-في بيان العقيدة الإلهية الصحيحة، ورغم أن تلك العقائد كلّفت المجتمع الكثير من الشقاء والعذاب. فمثلاً "حدث في قرطاجنة أثناء حصارها (307ق.م) إن أحرق على مذبح الإله (مولوخ) مائتا غلام من أبناء أرقى أسرها" فلماذا هذا الاصرار على التعلق بهذه الآلهة المزيفة؟.
ويمكن تسجيل أهم أسباب استمرارية تلك العقائد الباطلة بما يلي:
السلاطين والحكام.
الكهنة والنبلاء.
الجهل والتقليد.
- السلاطين والحكام:
إن الدراسات التاريخية المرتبطة بالعقيدة الدينية ترى ان عبادة السلاطين والحكام نشأت في مرحلة متأخرة من عبادة الشمس والقمر وسائر الكواكب، إلا أنها لم تحدد نقطة التحول من عبادة تلك الكواكب إلى عبادة الحكام. وفي الحقيقة، ان نقطة التحول تكمن في أن الحكام حين لمسوا حجم النفوذ والسلطة والطاعة التي يمنحها أفراد المجتمع لتلك الآلهة الكوكبية سعوا لكسب هذا الميل الاجتماعي لحسابهم الشخصي، من أجل تعميق سلطانهم، وبسط نفوده على الناس.. وهكذا أشاع في المجتمع انه ابن الآلهة. أو ان روح الآلهة قد حلت به، أو أنه يحيي أو يميت كما قال نمرود لإبراهيم الخليل (ع)، أو انه المالك والرب الأعلى، كما قال فرعون لموسى (ع).. وهذا يعني ان الحاكم شعر ان قوته المجردة التي أوصلته إلى الحكم، أو بنوته للسلطان الذي قبله لا يكفي لبسط طاعته، ونفوذه على رعيته، لذلك أسبغ على نفسه طابعاً إلهياً ليكسب المزايا الخاصة التي تتمتع بها الآلهة، وهكذا صار السلطان ابن الإله، ثم صار إلهاً مستقلاً، ثم رباً أعلى. كل ذلك من أجل تثبيت سلطانه، وحكومته على الناس.
وإذا كان السلطان هو إله إلى جانب تلك الآلهة، فمما يهدد موقعه اعترافه بدعوة الأنبياء.. ان هذه الدعوة تعني خلع ثيابه الإلهية، والتخلي عن سلطانه السياسي لحساب الأنبياء (ع) وهو أمر لا يمكن القبول به اطلاقاً! وفي هذا الضوء يتضح أن السلاطين يتخذون دائماً موقع المعارضة لرسالات الأنبياء (ع) إلا ما شذّ عن هذه القاعدة.
- الكهنة:
وهم فئة من الناس مارست دور تفسير الدين، والتوسط بين الآلهة وبين الناس وارشادهم إلى كيفية الوصول إلى عالم النور والأمن بعد الموت من خلال تعليمهم الطقوس، والأدعية الخاصة، وكانت ـ هذه الفئة ـ تتمتع بالسيادة العليا حتى على الملك نفسه، الذي كان يتودد إليها، ويحاول كسب رضاها، كما وفرت لنفسها موقعاً اقتصادياً ممتازاً من خلا وضع يدها على القرابين والهدايا التي يدفعها الناس إلى الآلهة، وكانت ـ في الواقع ـ تذهب إلى خزائن الكهنة. وقد عقد هؤلاء الكهنة المسائل الدينية، واخترعوا الطقوس والشعائر الكثيرة من أجل ضمان موقعهم الوسيط بين الناس والآلهة "وكان منصب الكاهن ينتقل من الأب إلى الابن، ومن ثم نشأت طبقة أصبحت على مرور الزمان، بفضل تقوى الشعب وكرم الملوك السياسي، أعظم ثراء، وأقوى سلطاناً من امراء الاقطاع، ومن الأسرة المالكة نفسها. وكان الكهنة يحصلون على طعامهم، وشرابهم من القرابين التي تقدم للآلهة، كما كانت لهم موارد عظيمة من ايراد الهياكل، ومن صلواتهم، وخدماتهم الدينية، وإذ كانوا معفيين من الضرائب التي تجبى من سائر الناس، ومن السخرة والخدمة العسكرية، فقد كان لهم من المكانة والسلطان ما تحسدهم عليه سائر الطبقات.
وقد تواطأ الملوك مع الكهنة على أن يعملوا ما بوسعهم لدعم نفوذهم مقابل منحهم الموقع المؤثر في الحياة الاجتماعية، فصار الكهنة بذلك دعامة العرش كما كانوا هم الشرطة السرية القوامة على النظام الاجتماعي.
يقول أحد الكهان في تلك الفترة، معبراً عن هذا التواطؤ: "أنا الكاهن المختص بالتعاويذ الذي يصلي إلى الإله وإلى الملك".
إن طبيعة موقعهم الديني الذي يستمد وجوده من ألوهية الكواكب والأصنام، وموقفهم السياسي المرتبط بالملك، قادهم إلى معارضة دعوة الأنبياء (ع) التي تستهدف نسف الآلهة المزيفة، والخضوع لله رب العالمين، فكان من الطبيعي أن يتآزر الملك مع الكهنة، ويقفا معاً صفاً واحداً مقابل الدعوة التوحيدية، حيث يمارس الملك قواه العسكرية والسياسية لمنع تأثير الأنبياء، وتحجيم عدد المؤمنين من خلال عمليات القمع والارهاب. في حين يمارس الكهنة موقف التهريج الديني لمواجهة الأنبياء (ع).
وثمة فئة أخرى من المجتمع تعاضدت مع كل من الملك والكهنة في مواجهة الأنبياء (ع) وهم (الملأ من القوم). وهم غالباً يحتلون مواقع اقتصادية، أو سياسية بارزة في هيكل النظام والمجتمع، وحيث إنهم ربطوا مصالحهم مع الآلهة المزيفة ومع الملك، فقد جاء موقفهم المعارض من دعوة الأنبياء (ع). ويسجل لنا القرآن ان هذه الفئة من الناس كانت أول المعارضين لدعوة نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ورسول الله (ص).
- الجهل والتقليد الأعمى:
اكتنفت حياة الانسان ظواهر عديدة، ومن أبرزها: الشمس، والقمر، والخسوف، والكسوف، والمرض والموت، وكان الانسان يجهل الكثير من الحقائق المرتبطة بهذه الأمور، فمثلاً تصور أن الشمس كائن حي مؤثر في مصير الانسان، حيث تمنح الدفء أو النور أو الحياة، فلو غضبت يوماً ما على الانسان فإنها تحجب نورها عنه، فيموت في ظلمات الأرض، وهكذا اعتقد الانسان ـ نتيجة جهله بحقائق هذه الظواهر ـ بأنها آلهة تحدد ـ وفق مشيئتها ـ مصائر الناس، والحياة، فراح يعبدها، ويتفنن في إبداء ألوان الخضوع، والتوسل إليها.
كما أن التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، ساهم بدوره في بقاء ألوهية الكواكب والأصنام، حيث كان الأنبياء يتبعون طريقة آبائهم في التعامل مع هذه الآلهة، ولا يحدثون أنفسهم بمدى صحة مسار آبائهم المنحرف عن الصراط المستقيم.
- دور الأنبياء (ع) في مواجهة الشرك:
رغم أن غالبية المجتمعات ألّهت الشمس والقمر والصنم والبشر، إلا أن الفكرة التوحيدية والإيمان بالله الواحد رب العالمين كانت تشق طريقها وسط ذلك الخضم الجاهلي بكل قوة، ونشاط وحيوية. صحيح ان عدد الموقنين بالله كان دائماً يشكل الرقم الأقل إلا أنهم بلغوا الدرجة القصوى من الإيمان بالله وبرسالته، ولذلك كانوا يشكلون المنعطفات الكبرى في تاريخ الانسان والحضارة، ويمكن أن نسجل موقف الرسل في مواجهة الشرك، ونشر فكرة التوحيد ضمن النقاط التالية:
1 ـ التصدي لأدعياء الألوهية من الملوك: إن ثمة سلوكاً واضحاً في دعوة الرسل، ويتمثل في محاورة ملوك ذلك الزمان، والسعي لهدايتهم، فهذا إبراهيم الخليل يحاور نمرود ويطرح عليه فكرة التوحيد. وهذا موسى (ع) يُكلّف بالذهاب إلى فرعون.
إن سبب ذلك، هو أن أولئك الطواغيت ظنوا أنفسهم آلهة، فنمرود يقول بصريح العبارة كما ينقل عنه القرآن: "أنا أحيي وأُميت". وفرعون يصرخ بالناس قائلاً: "ما عَلِمتُ لكم من إلهٍ غيري" فمن الطبيعي أن يتوجه النبي إلى هذه الآلهة البشرية لكشف زيفها، وإثبات انه لا إله إلا الله.. كما ان بطلان ألوهية الملوك، ورجوعهم إلى الحق معناه، ان جميع رعاياهم سوف ينسحبون عن تلك الآلهة المزيفة ليؤمنوا بالله الواحد رب العالمين.. وهذا ما يحقق الهدف الذي يتوخاه الرسل.
إن دعوة الرسل كما تستهدف تغيير الأفكار السائدة، تستهدف إعادة صياغة المجتمع وفق القيم الإيمانية، فهي دعوة سياسية في حركتها، وأسلوب عملها، فمن المنطقي أن تتجه مباشرة إلى الشخص الذي يمسك بيده القرار السياسي، ومصير المجتمع الفكري وتجريده منه.
إن توجيه الخطاب النبوي إلى الملوك لا يعني انهم اختصوا به، وإن الرسل (ع) لم يخاطبوا سائر الناس إنما ذلك يعني حرص الرسل على مخاطبة الملوك، جنباً إلى جنب مع مخاطبة سائر الناس، وذلك لأهمية موقع السلطان في العقيدة الدينية السائدة في ذلك المجتمع، ولحجم تأثير موقفه السلبي، أو الايجابي من دعوة الرسل على سائر أفراد المجتمع، على مستوى صلتهم بالعقيدة التوحيدية.
2 ـ مخاطبة أفراد المجتمع والعمل على هدايتهم: وكان الأنبياء (ع) يعملون بكل جد ومثابرة في ايصال ا لفكرة التوحيدية إلى عقول أفراد المجتمع، وقد استخدموا كل الوسائل المتاحة، فعن نوح (ع) يقول تعالى: "ثم إني دعوتهم جهاراً * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم اسراراً". "فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً".. ورسول الله محمد (ص) كادت نفسه تذهب عليهم حسرات، حيث حرموا من نعمة الإيمان واستكبروا على الله ورسوله.
وهكذا سار الأنبياء (ع) جميعاً على خط دعوة الناس والرفق بهم، وارشادهم إلى صراط الله المستقيم، وبفعل تلك المواقف الحكيمة وجدنا خط التوحيد خطاً مؤثراً في التاريخ الانساني، وفي صياغة أحداثه، وفي تشكيل انعطافاته الحاسمة.
3 ـ العمل على نسف رموز الشرك المادية: إبراهيم يكسر الآلهة الصنمية ويجعلها جذاذاً، وموسى-ع-ينسف العجل نسفاً ويذره في البحر، ورسول الله -ص-يهدم جميع الأصنام التي كانت يعبدها أهل مكة، وبسقوط تلك الأصنام ثبت ضعفها وهوانها، وإنها مجرد حجارة أو معدن لا يضر، ولا ينفع.
المصدر :مجلة التوحيد/العدد68/السنة1993


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع