موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

معرفة الآخر في التوحش والتأنّس
موريس أبو ناضر



يبدو أن احتكاك الحضارات وتماسها وتبادلها التأثر والتأثير اقتباساً وتنازعاً وتضاداً في مجالات السياسة والفكر والايديولوجيا من المفاصل الأساسية في تاريخ الإنسانية.
والتبادل بين الحضارات لا يتوقف فقط على تبادل السلع والسفراء وآلات الحرب، وإنما يتعدى ذلك إلى مجال الأفكار من عداء وتعاطف أو تحقير وتقدير. فقبل أن تبدأ حضارة الغرب تبادلها مع الشرق وإصدار أحكامها منذ الصليبيين وحتى آخر المستشرقين حول أهله ومعتقداتهم، وشعوبه وعاداتهم الحياتية والفكرية والسياسية، كانت حضارة الشرق الممثلة بالفينيقيين والمصريين ومن بعدهم العرب _والأتراك أو المغول _ المسلمون يحركون تبادلهم التجاري والمعتقدي والسياسي والثقافي باتجاه الغرب، ويصدرون أحكامهم على أهل الغرب ومعتقداتهم وشعوبه وعاداتهم الحياتية والفكرية والسياسية.
في العصور الوسطى، حتى لا نعود إلى العصور القديمة، وبالضبط في بداية العقد الثاني من القرن السابع الميلادي بدأت بالظهور على مسرح التاريخ في جزيرة العرب ما يسمى _تجاوزاً _ دولة عربية واحدة تدين بالإسلام عقيدة وتشريعا. ولم يمض ربع قرن على ظهور هذه الدولة حتى كانت جيوش الفتح الإسلامي تطرق أبواب العراق والشام ومصر مهددة بالزوال الجزئي أو الكلي أعظم الدول المعاصرة لها، ومنطلقة إلى ما وراءها من بلدان، فطرقت أبواب أوروبا من الشرق بمحاولتها فتح القسطنطينية، ومن الجنوب بفتحها لصقلية وجنوب ايطاليا، ومن الغرب بفتح الأندلس والتوغل في بلاد الغال (فرنسا اليوم) حتى مدينة بواتييه، بعد فتحها لشمال أفريقيا، وطرقها أبواب أوروبا الشرقية ثم الوسطى زمن السلطان محمد الفاتح وخلفائه الأقوياء.
توسطت دولة الخلافة العربية _ الإسلامية والمغولية المؤسلمة في العصور الوسطى حضارات أقامت معها علاقات تبادل في السلع والسفراء وآلات الحرب، كما أصدرت أحكاماً حول معتقدات أهلها وعاداتهم الحياتية والفكرية والسياسية. فمن هؤلاء من اعتبر في حكم المتمدّن كالصينيين، ومن اعتبر في حكم الهمجي كالأفارقة، ومن اعتبر بين بين كالصقالبة والأوروبيين.
كانت دولة الخلافة العربية _ الإسلامية والمغولية المؤسلمة، تتمركز في العراق، وفي مركزية بغداد وسامراء، السوق العظمى للعالم على ما يقول عزيز العظمة في كتابه "العرب والبرابرة". سوق قامت على الدينار الذهبي والدرهم الفضي، والثقافة المدينية التي قامت على اللغة العربية ونتاجها الثقافي والعلمي، والآداب الإدارية، والتنظيمات المالية، والمؤسسات الخلافية والقضائية. كما قامت على منطقة تجارية عالمية كبرى تعاملت مع ما خرج عن إطارها الثقافي تعاملاً تجارياً وحربياً ومعرفياً تم عن طريق الرحلات التجارية في البرّ والبحر، وما حملت معها هذه الرحلات من مغانم واخبار ومرويّات جغرافية واتنوغرافية تتحدث عن الشعوب الأخرى في عاداتها وتقاليدها وأنماط معيشتها. مرويات شكلت بورودها إلى دار الإسلام تراثاً أدبياً جغرافياً تاريخياً يكشف عن تصورات المسلمين لغيرهم من سكان البلدان الأخرى.
كان التعرّف العلمي للثقافة العربية الإسلامية على غيرها من الحضارات تعرّفاً عن طريق سفر العرب المسلمين طلباً للربح التجاري، وكان التعرّف أيضاً من خلال معاينة العرب المسلمين لما عداهم من البشر ممن وجدوا لديهم في دار الإسلام.
لم تكن معرفة الثقافة العربية الإسلامية بالآخرين منزّهة عن الاستعلاء، فقد شكل تاريخ دار الإسلام تاريخاً عالمياً، بعسكره وثقافته وأسواقه التجارية. كما شكل تاريخ أوروبا في العصور الحديثة تاريخاً عالمياً فرض حروبه النابليونية وانتدابه الفرنسي والانكليزي ومستشرقيه المتعددي الجنسيات.
وكانت في المصاف الثاني معرفة قائمة بعبارة انتربولوجية على نظام الثقافة في مقابل الهمجية القائمة على نظام الطبيعة. الثقافة القائمة على أحكام الشريعة الإسلامية في الحياة اليومية من زواج ودفن ووراثة واختتان واغتسال. والطبيعة القائمة على العري وأكل اللحم غير المطهو وأكل لحوم البشر والسكن أينما سمحت الطبيعة به للاحتماء من المطر والحر.
اتخذت الصلات بين الغرب الأوروبي المسيحي والشرق العربي المسلم في العصور الحديثة اشكالاً شتى بحسب الظروف السائدة في كلا الطرفين. فمن الشكل الصدامي الحربي الذي تلبّس أثواباً دينية تارة واقتصادية تارة أخرى تمثل في الحروب الصليبية ثم في حركة الاستعمار وردود الفعل القومية والوطنية عليها ثم في قيام الكيان الصهيوني، إلى الشكل التجاري السياسي القائم على تبادل السلع والقناصل إلى الشكل الثقافي المتمثل بحركة الترجمة من اليونانية إلى العربية ومن العربية إلى اللاتينية، وبحركة الارساليات التبشيرية، وغيرها من الحركات التي تبدّت في الاستشراق كتابة وتأليفاً دفاعاً وهجوماً.
إن كل معرفة تتناول المجتمع الإنساني عربياً إسلامياً كان أم غربياً مسيحياً، خلافاً لتلك التي تتناول العالم الطبيعي، هي معرفة تاريخية، لذا فهي تقوم على الأحكام والتفسير. معنى ذلك أن الحقائق عن غير العرب المسلمين في البلدان المجاورة أيام دولة الخلافة العربية الإسلامية هي كالحقائق عن غير الأوروبيين المسيحيين في البلدان المجاورة، تستمد أهميتها مما يسبغه التفسير عليها.
إن الاستشراق كما الاستغراب خطاب أو إنشاء، لكنه لا يعكس حقائق أو وقائع بل يصوّر تمثلات أو ألواناً من التمثيل حيث تتخفى القوى والمؤسسة والمصلحة في القديم والحديث. إنه خلق جديد للآخر، أو إعادة إنتاج له على صعيد التصوّر والتمثيل على ما يقول أدوار سعيد في كتابه عن الاستشراق.
وانتاج الآخر الشرقي اليوم كما كان انتاج الآخر الغربي في العصور الوسطى تشكل انطلاقاً من نظام معرفي (الأبستمي حسب ميشال فوكو) هو الشريعة الإسلامية عند العرب المسلمين، والمركزية الأوروبية ذات الأصول التطوّرية عند الغربيين المسيحيين.
تعود جذور "النزعة الأوروبية المركزية" إلى كتابات داروين البيولوجية وسبنسر الاجتماعية. فقد نقل هذا الأخير التطورية من مستواها البيولوجي إلى المستوى الاجتماعي، وأحلّ في أعلى الهرم الاجتماعي للتطوّر، الجنس الأوروبي واتبعه بالعنصر الأسيوي، ثم جعل في أسفل الدرك العنصر الأفريقي. وجاء هيغل ومن بعده ماركس وأنجلز ليؤكدوا جميعاً أن الحضارة رديف لتراكم رأس المال، يُنصّب في أعلاه وفي سدرته الثقافة الأوروبية والغربية بعامة، وفي أسفله باقي الحضارات الأخرى التي عليها أن تختار مراحل الواحدة تلو الأخرى عن طريق التدرج التاريخي الحتمي: من المشاعية إلى الرق فالإقطاع فالرأسمالية فالاشتراكية.
إذا كانت الحضارة العربية الإسلامية في نظرتها إلى الآخر لم تكن دائماً قطعية في اتهام الآخر بالبربرية والهمجية، فالحضارة الأوروبية المسيحية هي الأخرى لم تكن قطعية، فقد كانت تأخذ أحياناً بتعدد الحضارات ونسبيّتها، وتذهب إلى اعتبار الحضارة العربية الإسلامية أدّت قسطها للعلى.
قام المستشرقون والمفكرون الأوروبيون باستكشاف علمي للحضارة العربية الإسلامية في الماضي، وساهم هذا الاستكشاف في تبيان حجم مساهمة هذه الحضارة في التاريخ العام للبشرية. صحيح أن هذا الاستكشاف كان ساعد أوروبا أحياناً على تغلغلها الاقتصادي والسياسي في الشرق العربي والإسلامي من أجل استعباده واستغلاله، ولكن من العدل والإنصاف أيضاً أن لا نعمّم هذه الحالات والأحداث الخاصة ونشمل بإدانتنا كل البحث الاستشراقي. صحيح أنه وجد بعض المستشرقين كعملاء لهذا الاستعمار وكأدوات له، ولكن عدداً لا بأس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميّزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف والغايات السياسية لبلدانهم.
إذا كان الاستغراب كحالة ذهنية رافق في القرون الوسطى توسع دولة الخلافة العربية الإسلامية والخلافة المغولية المؤسلمة، على ما يقول المفكر الأميركي مارشال هودجسن في كتابه "مغامرة الاسلام"، فإن الاستشراق كعلم وحالة ذهنية واكب الاستعمار وتجلياته في الدول الأوروبية التوسعية في العصور الحديثة. والاستغراب كالاستشراق يتمثل في التركيز على الذات في الحكم على الآخر من منظور تحكمه فلسفة الهوية النابعة من انتفاخ السلطة وتمددها في كل الاتجاهات. إلا أن هذا الحكم الذي ينطلق من مفاهيم بداهات حول الجغرافيا والتاريخ والهمجيّة والمدنية والتطوّر والتخلّف، وهي مفاهيم تسندها في حالة الاستغراب الهوية العربية الإسلامية المتماهية في دولة الخلافة والخلافة المؤسلمة والمستندة على ما حملته الشريعة الإسلامية من أحكام، تسندها في حالة الاستشراق الهوية الأوروبية المسيحية المستندة على التطورية البيولوجية والاجتماعية. هذه المفاهيم تؤدي في النتيجة الى اعتبار معرفة الآخر والمعرفة بشكل عام مجرد خادم مطيع للسلطة. وهنا نقع في خطر التشكيك بامكان وجود المعرفة من أساسها لكونها لا يمكن أن توجد من دون السلطة.
جغرافيا الآخر في المحصلة الأخيرة، سواء كان تاجراً وبحاراً أم مستكشفاً ومستشاراً، تتغلغل في مجاهل نفوس الناس بقدر ما تحد معرفة الأرض بحدود العصر الذي يعيشون فيه، لذلك كانت جغرافيا الوهم والحقيقة أكثر من مجرد صورة للأرض. إنها سبر لخلجات تلك النفوس ورحلة في أقاليمها المظلمة والمنيرة.
----------------------------------
المصدر : أفكار جديدة لعالم جديد


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع