موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

التعقل والإصلاح
عبد الله العروي



يدعو ابن خلدون إلى العودة الى الأصول، أصول صدر الإسلام، ويدعو مفكر النهضة الأوروبية مثل ماكيافلي أو بودان إلى العودة إلى أصول روما القنصلية. الدعوة إذن واحدة، يتوخى الجميع الإصلاح عن طريق الإحياء. إلا أن هناك فرقاً أساسياً وهو أن ابن خلدون يعتقد اعتقاداً راسخاً أن دعوته لا تتحقق إلا بإلهام صادق، إلا بتدخل مالك الكون في مسار الكون، في حين أن مفكر النهضة الأوروبية لا يشترط ذلك. ينتظر قدراً من التوفيق الإلهي، لكنه يؤمن أن إحياء روح روما أمر ممكن، بل شبه مؤكد إذا خلصت الإرادة وقوي العزم.
عندما درس جاكوب بوركهارت عقلية النهضة استهل دراسته بفصل يحمل عنوان الدولة كعمل فنّي. وكان يمكن أن يعنونه بصناعة بناء الدولة. يقول ماكيافلّي: "إذا تأملنا بعمق أحوال الماضي أصبح في وسعنا أن نتنبّأ بما سيقع داخل جمهورية ما، فنستطيع أن نتفادى الضرر بتقليد مناهج القدماء، وإذا لم نجدها مذكورة بالذات نستطيع أن نبتكر وسائل جديدة اعتماداً على تشابه الظروف" يفند هكذا رأي من قال إن تقليد القدماء لم يعد يجدي بسبب تبدل الأحوال "كما لو عادت السماء غير السماء والأرض غير الأرض والإنسان غير الإنسان". الحاجز الوحيد من الانتفاع والاستلهام هو العقلية التي خلّفتها دعاية الكنيسة.
أما ابن خلدون فإنه، بالعكس، يحصر التاريخ حصراً. فيستبعد إمكانية التجديد بمعاكسة سنن الكون، إذ الملاحظ منها والمتواتر هو أن محاولات تدارك الانحطاط لا تنجح. "إذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني.. وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظن أنه ممكن الارتفاع، فيأخذ نفسه بتدارك الدولة وإصلاح مزاجها من ذلك الهرم ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبلَه مِن أهل الدولة وغفلتهم، وليس كذلك. فإنها أمور طبيعية للدولة والعوائد هي المانعة من تلافيها. قانون تفكيره هو التوقيف والحصر في كل المجالات: في السياسة، في العلم، في التعبير.. موضوع العلم الحق، العلم اليقيني، هو الواقعات، أي الحاصل المحقق بالفعل، وأما المقدر، المتوهم، المحتمل فهو وهم في كل مجال وفي كل حال، والوهم لا يحدّ فلا يعرف بحق.
ما عاكس ظهور حساب الاحتمال نظرياً، داخل الفكر الإسلامي، هو بالضبط المانع من إبداع نظرية عامة حول الفعل تهمّ الحرب والاقتصاد والسياسة وأخيراً التاريخ. قفز ابن خلدون مباشرة من الكلاميات إلى الاجتماعيات، ليس بالمصادفة بل بالضرورة. لم يتوقف لإبداع نظرية حول التاريخ أهميته تأتي من كون أن هذه القفزة خطوة ضرورية، وإن كانت غير كافية، لبناء نظرية عن التاريخ.
علم العمران الخلدوني علم طبيعي، علم ما هو محقق لأنه مطبوع بطبع أبدي ملازم. ليس علماً إنسانياً ناتجاً عن الإنشاء والمباشرة والإقدام. لا شيء يحتم في هذه الحال فحص ظروف الاختيار بعد المشاورة، المبادرة بعد التأمل، الحسم بعد التردد. كل إقدام على فعل يبدو نزوة إن لم يكن مبنياً على يقين يعقب كشفاً، فهو خطأ وزيغ وغواية.
طبق ابن خلدون على الواقعات، أحداث التاريخ البشري، منطق الكوائن والطبائع بمعنى المتكلمين والحكماء. فسدّ الطريق في وجه عقل العمل البشري وبالتالي عقل الطبيعة كما فهمها الفكر الحديث، مجال تجارب الإنسان المتجددة. فجعل العقل والعلم والحق في جانب والوهم والظن والباطل في جانب مقابل.
أبدل العقل التجريدي بالعقل التجريبي، فكان رائداً في ذلك. لكنه توقف عند حدّه ولم يطور العقل التجريبي إلى عقل سلوكي يعم كل أوجه المباشرة والمعاملة والمخاطرة. فحصر بذلك معنى العقل في التعقل والتعقيل. وحصرُه هذا هو حصر الجميع. من يتولاه اليوم يبقى سجين حدوده فيتيه في المفارقات.
--------------------------------
المصدر : مفهوم العقل


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع