إذا نظرنا إلى التنوع الكبير في الأعراق (الاثنيات) واللغات،
والأوساط الاجتماعية والعلاقات البيئوية، والمدارس العقائدية،
والتجارب التاريخية... التي تتواجد في الفضاء الجغرافي الاسلامي،
فإن مفهوم الهوية الاسلامية، يبدو صعب التحديد. نوضح فنقول: ليس
القصد التغاضي عن تنوع ملحوظ وبارز انسياقاً مع أولئك الذين ينادون
للوحدة الاسلامية بهدف لاهوتي أو قومي. إن مفهوم الهوية الاسلامية
الذي نريده هنا هو مفهوم اجتماعي ثقافي. فهو يتيح توضيح وظيفة
الدمج السيكولوجي الاجتماعي والثقافي الذي يشكل مظهراً دائماً من
مظاهر الاسلام، منذ بداياته حتى ايامنا. قبل مجيء القوميات الحديثة
المرتكزة على الحدود السياسية الجامدة، كان التنوع معترفاً به من
قبل الضمير الاسلامي كأحد سبل التكامل فيما بين شعوب ومجتمعات
الأمّة الاسلامية: وهذا هو معنى الحديث النبوي الشهير الذي كرّس
تساوي المدارس الشرعية وذلك باعلانه ان "اختلاف الأئمة رحمة
بالأمّة".
في الهوية الاسلامية، يجب التفريق، عند التحليل بين: 1_ النواة
الدينية الثابتة المستمرة في الحياة المعتقدية وسلسلة من الشهادات،
حول المسعى نحو المطلق المنشود عبر العصور، من قبل شخصيات اسلامية
ضخمة.
2_ وبين عناصر اضافية حملتها الحياة الجماعية والعناصر التي الحقت
"بالدين" بفعل الوجدان الأسطوري المسيطر دوماً في المناخ الاسلامي،
لا شك أن ما يفصله التحليل يبقى مختلطاً في الحياة اليومية. ولكن
التحليل يكشف الحق والواقع المختفي وراء عمليات التمويه الأسطوري
أو العقائدي المسيطر في كل مجتمع. وإن نحن ركّزنا على هذه الوظيفة
الاستكشافية، فذاك لأن الفكر التحليلي المطبق على الحياة الدينية
هو من الضرورات الملحة من أجل مقاومة الأشكال المتواترة المتكررة
لاستعباد الانسان.
النواة الدينية للاسلام:
هنا مكان التثبت من ملاحظاتنا النظرية حول التداخل والتفاعل
المتبادل بين أشكال الاسلام _ كيف تبدو الممارسة التعبدية اليوم؟.
هل يمكن التكلم عن منحى في التعبير النقي حول الاسلام بشكله الأول،
أم بالعكس عن بديل، حتى في اطار التعبّد، للأهداف الدنيوية الآنية
سعياً وراء "الحق" وراء الله؟.
في البلدان حيث الاسلام أكثري، تعرف العبادة بجميع أشكالها حيوية
متنامية. إن القراءة لدى الجماهير والصحافة ووسائل الاعلام تؤمّن
للقرآن حضوراً دائماً لم يكن يعرفه قبل الماضي القريب. إن الاتصال
المباشر بالمصدر الأول لكل حياة دينية في الاسلام، مؤمّن أيضاً
بفضل تعدد الجوامع، وبفضل الاقبال على الحج إلى مكة، والاخلاص، حتى
عند الشبان _للصلوات الخمس اليومية، ثم الانتساب إلى الجمعيات
الدينية التي ليست إلا نسخة حديثة عن الأخويات، والالتزام العفوي
أو الاكراهي بصوم شهر رمضان والاحتفالات بالأعياد وبالموالد،
للصالحين المحليين.
إن العبادات التي ذكرتها الكتب الاسلامية المتخصصة بدقة متناهية
بدت دائماً خارج نطاق البحث العقلاني. وعندما أشار الغزالي، باسم
العقل إلى غرابة بعض الطقوس في الحج، سارع إلى القول إن الأمر
الإلهي هو الذي يوجب القيام بها. والخضوع للأمر بصفته أمراً يجعل
العمل واجباً ويقضي بعدم تحكيم العقل بشأنه وبالتالي تحويل النفس
والطبيعة عن مجالهما المألوف.
نعلم جميعاً أنه توجد في كل الثقافات منافسة دائمة بين هذين
الطريقين إلى المعرفة: الأسطورية (الخرافية) والعقلانية، الرمزية
والفكرية. في الأرض الاسلامية وجدت المعرفة الأسطورية دائماً أطراً
اجتماعية ثقافية ساعدت على دوامها وعلى انتشارها.
التوسع في الوصف الديني:
إن الهوية الاسلامية، كما فرضت نفسها عبر العصور، وكما هي مستمرة
في التكون أمام أعيننا، ليست مقصورة على النواة الدينية التي سبق
لنا وصفها. إنها تمتد، بحسب الأحقاب، والكتل الاجتماعية والأفراد
لتشمل مجالات متنوعة جداً تتعلّق، فعلاً بالنشاط الدنيوي للناس في
المجتمع. إننا، هنا ايضاً، نلامس ظاهرة عامة مشتركة بين كل الأديان
التي تكوّنت في كل مكان، في مجال المتناهي: تناهي معرفة الواقع،
تناهي بنية التأويل وانتشار الوجود البشري، المتوجه نحو "الخلاص"
أي المتميز عن بقية أشكال الوجود المعتبرة منحطة وجالبة للضعة. إن
قوّام السلطة الدينية يتبارون في ترجمة هذا المطمح في مؤسسات وفي
أنظمة ثقافية هي بالضرورة مسيطرة. وهكذا استمر التوتر المعروف بين
الأيمان والعقل. قانون ديني (شريعة) وقانون دنيوي، سلطة دينية
وسلطة علمانية. هذا الصراع يترجم اليوم، في بعض البلدان الاسلامية،
إلى تغييرات وتوجهات تساعد على قيام تحركات تكاملية.
رأينا كيف أن علم الأصول الذي وصفه الشافعي استمد جذوره من النصوص
المقدسة ومن الشريعة التي وضعها الفقهاء الحريصون على التمسك
بالسنّة السائدة في المدينة وفي العراق وفي سورية الخ. إن المنهجية
التي وضعت والتي علّمت كعلم مستقل، أضفت القداسة والسماوية على
أحكام يشكل مجموعها "الفقه الاسلامي"، هذا العمل الذي حول القواعد
الوضعية الشرعية إلى أصول ذات جوهر ديني استمر حتى في عصر التقليد،
أي العصر الذي وضع فيه الفقهاء الأولون من أصحاب المذاهب القواعد
والأحكام. ونتج عن ذلك تعميم للتصور التقديسي للشيء المعاش، ثمّ
معارضة منظمة من قبل العلماء للجهود المبذولة من أجل العلمنة ونزع
الصفة التقديسية.
يقول الشيخ محمد عبدة: "أقول إن الاسلام لم يعط لا للخليفة ولا
للقاضي ولا للمفتي ولا لشيخ الاسلام أية سلطة في مجال العقيدة أو
سنّ التشريعات. فمهما كانت السلطة الممنوحة لأي منهم، إنها سلطة
مدنية، يحددها الشرع الاسلامي. ومن غير المقبول أن يقوم أي واحد
فيطالب لنفسه بحق الرقابة على العقيدة أو على ايمان الفرد، او يطلب
إليه أن يدافع عن شكل تفكيره".
أن الحياة الدينية اليوم، يجب أن لا تكون موضوع مناظرات فكرية
متحذلقة ومتشاطرة، بعيدة عن الاستحقاق المزدوج المفروض على الدين:
الذين يتركون الأحياء الفقيرة البائسة ينفصلون، في الواقع، عن
حساسية جماعية وعن أسلوب في التفكير منفتح على عالم تقديسي. والذين
يجبرهم الاكراه البنيوي على البقاء في الفقر المادي، يحولون
بالضرورة الدين إلى "أفيون". وبناءً على ذلك، هناك ضرورة لتوسيع
الاستقصاء حول الحياة الدينية في المجتمعات الاسلامية المعاصرة،
بحيث تشمل أبعاد العلاقة بين الدين والمجتمع والتاريخ.
-----------------------------
المصدر : الاسلام.. الامس والغد