موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

الإسلام والمجتمع: الحالة الراهنة للمسألة
محمد اركون



منذ أن كان التنقيب الاستشراقي الغربي قد ابتدأ بدراسة المجتمعات الاسلامية لاحظنا وجود صراع ضمني أو صريح ما بين موقفين نظريين يتعلقان بمكانة الدين ووظائفه في المجتمع. الموقف الأول يتمثل في الاتجاه الاسلامي التقليدي الذي لم يتغير قط منذ انتصار التعاليم القرآنية. وأما الموقف الثاني فهو موقف الاستشراق الذي يختلف قليلاً أو كثيراً حسب الباحثين، ولكن يكرس هو الآخر مجموعة من الفرضيات والمسلمات التي ينبغي أن توضع على محكّ المراجعة والنقد.
2_ الموقف الاسلامي
يلخص هذا الموقف بشكل تام ذلك المجاز اللفظي الذي طالما استخدمه القرآن وكرره: إنه نزول الكتاب أو الوحي من فوق إلى تحت، أو بلغة القرآن إنه التنزيل. راح هذا المجاز يفرض الرؤية العمودية للانسان تجاه المخلوقات والعالم والكون. كل المعاني الصحيحة والحقيقية أتت من الله ولا يمكن أن تأتي إلاّ منه. إن الله هو الكائن المطلق المتعالي الحي والفاعل في كل المخلوقات، وإذن في المجتمع والتاريخ. يمتلىء القرآن بالقصص النموذجية التي تحكي قصة الشعوب القديمة التي عصت الله فأهلكها، والشعوب التي أطاعته فأنقذها وحماها. لا شيء في تاريخ أي فرد ولا في التاريخ الكلي الجماعي يخفى على رقابته وحكمه. إنه ذلك الذي (لا تأخذه سنة ولا نوم) (البقرة: 255). (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بإذن الله لكل أجل كتاب. يمح الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 38، 39)
تساعدنا هاتان الآيتان على أن نفهم جيداً الرؤيا الاسلامية "للتاريخ" و "المجتمع". إنه لمن المهم فعلاً أن نقيس حجم المسافة التي تفصل مصطلحات الرؤيا العقلانية الحديثة عن تلك المصطلحات التي خلّدها القرآن في العقول ورسخها. إن مفهوم التغيُّر le changement بحسب القرآن _ ليس عائداً إلى لعبة القوى المتصارعة المختلفة والممكن معرفتها في المجتمع، وهو ليس عائداً حتى إلى تلك الفئة العليا من الرجال المدعوين أنبياء أو حواريين أو مرسلين والذين يقودون الشعوب من عصر إلى عصر، وإنما هو عائد إلى الله نفسه الذي يزود كل نبي جديد بكتاب يمحو فيه أو يثبت الأوامر والنواهي المعتبرة أنها الخير كل الخير للبشر في هذا العالم وفي العالم الآخر. إن سلسلة الوحي المتواصلة التي كان القرآن قد ختمها ليست إلاّ كشفاً جزئياً أو مؤقتاً عن الحقائق الخالدة والثابتة، التي لا يمكن سبرها والتي هي محفوظة في الكتاب الأكبر. إن هذا الأخير ليس في متناول أي إنسان. ولكن كل عضو من أعضاء الأمة المؤمنة يستطيع أن يقترب من ملكوت الله ضمن الحدود التي يستطيع فيها أن يقرأ ويفهم ويحيا معطيات النصوص المقدسة (كتب الوحي).
إن كتب الوحي لا تكتفي فقط بالتحدث عن كينونة الله وصفاته ومبادراته، وإنما هي تقدم أيضاً بواسطة لغة معروفة للجميع، معلومات نظرية وتطبيقية تصنّف اليوم تحت عناوين من مثل: الانتولوجيا، وعلم الفلك، والانتروبولوجيا، والبيولوجيا والقانون والأخلاق والسياسة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع. إن القرآن، تماما كالتوراة، يقدم بعض المعلومات الأولية العديدة والدقيقة قليلاً أو كثيراً والتي تنتسب إلى كل من هذه العلوم المذكورة. لكن هذا لا يعني أبداً بأن كل اكتشافات العلم الحديث كان قد نصّ عليها سابقاً في القرآن كما تحاول أن توهم بذلك الأدبيات الاسلامية التبريرية والتبجيلية المعاصرة. إن هذا خطأ يجب أن يدان فوراً. ينبغي أن نشير إلى أن الغنى الماقبل فلسفي والماقبل علمي لكتاب الله لم ينفك يمارس دوره إما كعقبة إبستمولوجية وإما كمصدر استلهام للنشاطية المعرفية. سوف نرى في كل الحالات أن خيال المجتمعات التي اخترقها الخطاب القرآني وترسخ فيها يستمد شكله وحيويته من هذا الخطاب بالذات. ذلك أن المعارف التوضيحية والمعيارية الصادرة عن الله، والتي نقلت وطبقت من قبل النبي، ليست محفوظة عن ظهر قلب ومستشهداً بها فقط، وإنما هي ملتحمة بجسد كل مؤمن (وبالمعنى الفيزيائي والحرفي للكلمة) وذلك نتيجة للممارسات العبادية والشعائرية اليومية التي يقوم بها المؤمن وحيداً أو ضمن الجماعة.
|إن تعقد وخصوبة المضامين والوظائف والغايات والمصائر الممكنة أو المحتملة التي أدخلها القرآن تصل إلى حد أن المجتمعات التي عاشت هذه الظاهرة (الظاهرة التوراتية والانجيلية والقرآنية) سوف تشكل فضاءها المعنوي طبقاً لتعارضات محورية تحرك الوجود البشري ضمن الاطار الاونتولوجي للميثاق العظيم|. الميثاق هو العهد الذي يفوض الله عن طريقه جزءاً من سلطته للانسان جاعلاً منه "خليفته في الأرض"، لأن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي قبل امتحان خدمة الخالق بدون أي شرط. سوف نعطي فيما يلي المزدوجات المتعارضة الأساسية (الثنائيات) التي تهيمن حتى اليوم على فكر وحساسية وأعمال الناس الذين يعيشون في مجتمعات الكتاب:
_ المقدس، والدنيوي أو بلغة القرآن دين/ ودنيا
يؤدي هذا التعارض المركزي الأساسي إلى جملة تعارضات أخرى تؤدي بدورها إلى تنظيم خاص للواقع ككل. هكذا نلاحظ وجود القَبل/ والبعد، أي ما قبل الوحي الأخير وما بعده. كما أن هناك فضاء (مكاناً) إسلامياً/ وفضاء فوضوياً لا معنى له (= الاسلام/ الجاهلية، دار الاسلام/ دار الحرب). ثم الخير والشر، الصواب والخطأ، الخلاص الأخير (النجاة) والهلاك، الخ...
_ القانون الديني (الشريعة) / ثم الضلال. يعلم القانون الديني الشروط والوسائل التي تتيح للحياة الفردية والجماعية أن تكون مطابقة تماماً للتعاليم الالهية. نلاحظ أن مجمل أنواع السلوك البشري تندرج ضمن خمسة أحكام فقهية_ دينية هي: الحلال والحرام ثم الجائز والمندوب والمكروه. كان الفكر الاسلامي قد أنجز علماً نظرياً يدعى بعلم أصول الفقه لكي ينظر للفعالية التفسيرية والاستنباطية التي تقع على كاهل الفقيه التيولوجي المكلّف بتوضيح الأحكام الشرعية. راح هذا العلم يدعم ويقوّي ويضاعف من انتشار العمل الموجّه للنصوص المقدسة (القرآن+ الحديث النبوي)، التي راحت بدورها تهيمن على وعي وتفكير وخيال وسلوك كل فرد من أفراد الأمة. لقد ساهم علم أصول الفقه خصوصاً في دعم الفكرة القائلة بأن المجتمع لا يحسم بنفسه أي شيء من الأشياء المتعلقة بوعي وسلوك الأفراد، وأن التاريخ الحاصل خارج "الحدود المثبتة من قبل الله" يؤدي إلى انحطاط المجتمع (المدنية) الأولي الذي أسّسه النبي. وأنه من أجل إصلاح المجتمع المهدد دائماً بالانحطاط فإنه من الضروري الرجوع إلى الأشكال الأصلية المولّدة للحقائق المؤصّلة والمطبّقة من قبل الله والنبي. هكذا نلاحظ أن الموقف الاصلاحي لا يزال مستمراً وفاعلاً في المجتمع الاسلامي مثله في ذلك مثل التأكيد على فكرة الوجود النموذجي المثالي للأمة، هذا الوجود الذي كان قد طبق على أرضية الواقع من قبل النبي والصحابة والمسلمين الأولين.
إن هذين المطلبين المتلازمين اللذين يشغلان وعي جماهي المسلمين يتمثلان في رفض فوضوية الحاضر وفي أسطرة قصوى للماضي المؤسّس. سوف نعود فيما بعد إلى مسألة الأهمية الراهنة لهذا التوتر بين الماضي والحاضر.
_ السيادة الشرعية ( أو المشروعية العليا المقدسة/ والسلطات الشيطانية المنحرفة، أي باللغة الاسلامية الكلاسيكية الخلافة، الامام/ في مواجهة الطاغوت والفرعون...
_ الرمز/ العلامة، او المجاز/ والمفهوم الاصطلاحي. أقصد بذلك صراع التفاسير والتأويلات السارية في الاسلام والمتمثل بقطبي المزدوجة التالية: الباطن/ والظاهر، أو المعنى الداخلي المخفي/ والمعنى الخارجي والظاهري والحرفي. هنا أيضا يمكن أن نقيس مدى أهمية التأثير الحاسم للنصوص المقدسة على العلاقة التي تربط الانسان باللغة، ثم ضغط هذا التأثير من خلال كل أشكال التعبير على الواقع الاجتماعي _ التاريخي وعلى العالم. لقد حول التراث الاسلامي المزدوجة (او الثنائية) باطن/ ظاهر الى صراع (أو معارضة) سياسية_ دينية بين الشيعة والسنة. هكذا راح هذا التراث يغطي ويحجب عن طريق الصراعات الأيديولوجية واللعنات المتبادلة الرهان الحقيقي لتمايز مشهور كان قد جيّش دائماً الفكر الفلسفي واللغوي. ينبغي الرجوع إلى كل الأدبيات التفسيرية والنحوية والبلاغية لكي نبين كيف أن المجاز إما أنه كان قد قلّص إلى وظائفه التزيينية (أي الفنية والجمالية) المحلية للتعبير (هنا كان الشارحون يبحثون دائماً عن المعنى الأصلي الأولي الحقيقي (المجاز ضد الحقيقة) لكي يكتشفوا العلاقة الحقيقية التي تربط الكلمة بالشيء الخارجي أو الدال بالمدلول (انظر تفسير الطبري) وإما أنه قد انخرط وانغمس في المناخ الرمزي للغة الصوفية للرؤيويين (من مشعوذين وسحرة وكيميائيين (بالمعنى القديم للكلمة) وقديسين وصوفيين وغنوصييتن وفلاسفة إشراقيين وشعراء... أي كل هؤلاء الأشخاص الذي يتجلّى فيهم نظام الكون كنظام رمزي محسوس ومعاش من قبل الفئات الشعبية). إنه لواضح فعلاً أن الاستخدامات المختلفة للمجاز تشير إلى أنماط ووظائف متنوعة للغة ترتبط بدورها بمواقع اجتماعية وأدوار سياسية محددة (انظر مثلاً خطابات السلطة وخطابات المعارضة. ثم خطابات التأمل أو الهروب من الواقع أو الخطابات المعرفية... الخ). هكذا نجد أن التفسير الظاهري الحرفي الذي يفسر القرآن على ضوء مفردات لغة التوصيل المباشر المؤسّسة "للمعنى الصحيح" و "المعنى المشترك" والمؤسّسة عليه، يقدّم القاعدة المعنوية (السيمانتية) والمصطلحية للأحكام والصيغ القضائية التي تستخدمها السلطة السياسية. نفس الشيء فيما يخص الصور والتصرفات والنماذج العليا المثالية التي تغذي خيال البائسين الهامشيين، ومعارضة اللامنسجمين في الخط العام، وتقوية (من تقى) وأخلاقية الطبقات الشعبية.
_ مكلَف/ جاهل، هامل، مهجور، سفيه، غير عاقل.
يعبر المصطلح الأول (المكلّف) عن الشخص الذي يتمتع بكافة قواه العقلية والذي يتصرّف بشكل مسؤول ومطابق للأحكام الشرعية للشريعة. أما المصطلحات الباقية المضادة (جاهل، هامل...) فهي تدل على الفرد المتوحش، الجاهلي،... الخ
إن هذا التمايز الأساسي لا يطرح فقط تلك المسألة العويصة الخاصة بمكانة الفرد البشري في سجل الأحوال الشخصية، وإنما هو يؤثر على كل الروابط التي تربط ما بين الشخص والفرد والمجتمع. سوف لن نتناول هنا دراسة درجات التكليف أو المسؤولية الأخلاقية_ الدينية والقضائية تبعاً لحالة الشخص فيما إذا كان حراً أو عبداً، رجلاً أو امرأة، طفلاً، مراهقاً أو بالغاً. سوف نذكّر فقط بالارتكاسات التي تنتج عن تطبيق مفهوم المكلّف على المؤسسات الأخلاقية_ القضائية والدينية للمجتمع ضمن المنظور الاسلامي. إن المكلّف لا يستطيع أن يقوم بعمله ويستأهل هذه الصفة إلاّ في مجتمع خاضع فعلاً لهيمنة رئيس ما (خليفة، سلطان، أمير) الذي هو نفسه مكلّف على أعلى المستويات، ومحكوم في الوقت نفسه بواجباته في "إطاعة أوامر الله" وبالاكراهات الناتجة عن قَسَم الخضوع للسلطة (البيعة). إن التكليف عبارة عن قوة كبرى للتمثُّل والانسجام والدمج اجتماعياً وسياسياً ودينياً في كل المناطق التي استطاعت أن تمارس فيها السلطة المركزية عملها، وعند الفئات المستقلة سياسياً ولكن التي سبق وأن اعتنقت عناصر عبادية وإيمانية مرتبطة بالنظام الرمزي الاسلامي. إن التكليف يلعب نفس الدور في جعل الفرد يندغم وينسجم ضمن هوية اجتماعية أو سياسية محدودة على مستوى القرية أو العشيرة أو القبيلة أو الزاوية الدينية...
----------------------------
المصدر: تأريخية الفكر العربي الاسلامي


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع