موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإجتماع

الكلي المجرد والكلية العيانية
محمد أركون / لوي غارديه : ترجمة علي المقلد



|إن فكرة الكلي أوليّة في كل الأديان. فذات الله كما هي مثبتة في القرآن، تقرب تماماً من ذات الله المسيحي كما يعرّفه باسكال: "إنه واحد في كل الأمكنة وبكماله موجود في كل موضع"|. وإنه بالاستناد لهذا الله يجوز الكلام بآنٍ واحد عن الكلي المجرد (الذي يدركه العقل خارج المشاهد التي تمثله) وعن الكلية العيانية، أو مجموع الكائنات، والأمكنة، والمعاني كما تظهرها التجربة. إن "المدرسيين" المسلمين، نصارى ويهود قد فكروا كثيراً حول هذا التمييز. فابن سينا مثلاً، يقول: الكل بصفته كلاً، ينوجد في الأشياء، أمّا الكلي فبحكم كليته، لا ينوجد إلا في التصور.
من جهته كتب القديس توما: "ليس للكلي، فقط، وجود بعد الشيء، في عقلنا، أي وجود شيئي، في الأشياء الخاصة، بل له وجود سابق على الأشياء، في العقل الإلهي.
قد يقول البعض: "هذه الأفكار من عصر آخر". بماذا يمكن أن تفيد حياة المسلمين المعاصرين؟ لماذا العودة إلى مفهومية "عتيقة"، في حين أن المجتمعات المعدمة تحتاج أولاً وقبل كل شيء _وكم في هذا التعبير "قبل كل شيء" من تهديد، ومن تهرّب ومن تحكم _ إلى آلة اقتصادية فعّالة وإلى فكر سياسي ثوري. تلاميذي العديدون ومحدّثي من المسلمين وجّهوا إليّ، غالباً، هذه الاعتراضات. وقد حاولت دائماً أن أبين أنه من الحيوي بالنسبة إلى الاسلام المعاصر أن يستبدل استغلال الماضي ايديولوجياً (أي التراث أو الارث الثقافي والديني للاسلام). بتمفصل دقيق لما يقدمه الفكر الحديث من مقدمات لا ترفض مع ما يرافقها من استجوابات ملحّة، ومن تجارب لا يمكن استبدالها، مثارة ومعاشة ضمن اطار الميتافيزيقا الاسلامية. وليس الأمر هنا مجرد استدراك سهل، بلاغي، في خدمة ايديولوجية عابرة، بل تضامن موثق بين الأجيال، وانتباه فكري تجاه كل ظروف ممارسات الفكر.
قد يحدث أن يكون المسلمون المعاصرون أكثر التصاقاً، من أي وقت مضى، بالرسالة الكونية للاسلام. والآية 107 من السورة 21 (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) هي من أكثر الآيات ذكراً. وهذا يترجم، بالتأكيد، رغبة في استدراك ما فات من خذلان تاريخي أصاب الأمّة. ولكن، وأساساً، نجد فيها القناعة، تغذيها ديانات الكتاب، بالوصول إلى الحقيقة المطلقة التي يجب اعلانها للجميع. ومن أجل دعم هذا الطموح المسكوني، يُكتفى باستراتيجية سياسية، وبالعودة إلى الوعد الإلهي، وإلى الاشكالات التي يثيرها اللاهوتيون والمناقشون الكلاسيكيون، وإلى الأمجاد المتراكمة في الماضي، وإلى التوازن وإلى استكمال العقيدة الاسلامية. هذا التصرف الشائع جداً يُبعد عن الهدف لأنه يكرّس عزلة الفكر الاسلامي بالنسبة إلى الفكر العلمي القائم. فهذا العلم الأخير، يفيد، خصوصاً، عن ثغرات في التاريخ: إن جغرافية الادريسي ليست مثل جغرافيتنا، وكيمياء جابر بن حيان ليست كيمياء، وطب ابن سينا وابن النفيس، وفلسفة ابن رشد، الخ، لم يعد له علائق ضرورية بما عندنا. والنظريات النحوية عند ابن جني، وأناسة، وسيكولوجية الغزالي ما تزال ذات أهمية تاريخية فقط، وأخطر من ذلك، إن فكرة الحقيقة الدينية لم تعد تفرض نفسها بنفس الاجماع، ونفس القوة الضاغطة، كما كان الحال في الاسلام الكلاسيكي الذي إليه يُعاد: "إن الأجزاء التي تركّب الكل" قد تكاثرت وتعددت. والكثير منها كشف عن سره. والفكر المسيحي يجهد في مفصلتها بحيث تنسجم مع مفهومه "للكلي". والاسلام يستنفد ذاته لانتاج نتف مستوردة من العلمية. إن فكرة المصنع الجاهز، تبرز هذا الوضع التاريخي لأمّة، تتباهى بحق، بتجربة للكلي، ولكنها تفتقر إلى الوسائل الروحية والفكرية التي كانت في الماضي، ولما تحصل حتى الآن على المعدات الحديثة، لكي تكتشف، حسب خطها هي، الشمولية (الكلية) العيانية. وتوضع آمال كبيرة في الأجيال الصاعدة التي تتربّى على التقنيات الأكثر تنوعاً، وعلى التعاليم العلمية الأكثر رقياً. ولكن لا بدّ من مضي وقت حتى يرى الجميع كل في بلده قيام المختبرات والجو السياسي الثقافي اللازم لمتابعة كل بحث أساسي. إنما في حال تحقق هذه الظروف الموآتية، وحتى في حال توقف هروب الأدمغة، يظل هناك، من وجهة النظر التي تهمنا، أن هناك القليل من العلماء الذين يهمهم الفكر الديني. فهذا يبقى من مهمات علماء الدين (اللاهوت) المتكوّنين في كليات متخصصة، أي قليلة الانفتاح حتى الآن على تقديمات الفكر العلمي.
إن الهرب أو تفجر الكُلي السابق على الشيئية كما أكّد عليه وعيش على الصعيد الديني، تزداد خطورتهما بفعل تردّي ما يُسمّى بالشعر الحر. فالشعر الكلاسيكي، والشعبي ساعد على تمتين الرؤية الأخلاقية الدينية التي تنتج عن دمج القيم الأكثر قدماً الخاصة بكل مجتمع، ضمن البنية الميتافيزيقية للاسلام. ولكن ها هم شعراء كبار يتخلّون عن الأوزان الشعرية التقليدية الضاغطة والضيقة، ولكن باحساس وايمان ورمزية الأقدمين، كبدر شاكر السياب وسميح القاسم وادونيس، ومحمود درويش، وتوفيق زيّاد ونزار قباني ومحمد علي شمس الدين. وعملياً كل الشعر الفلسطيني المقاتل، يضعون لغة الثورة المعتبرة الطريق الضروري الموصل إلى الشمولية (الكلية) العيانية، وإلى المحادثات البناءة، وإلى المدح والذم، وإلى الرهافات الجمالية التي ما تزال تلاقي الأنصار. كل الرمزية الدينية تهاجم انطلاقاً من التزام شعري خالص في الصراعات المأسوية والتمزقات الأكثر ايلاماً في المجتمعات العربية الاسلامية المعاصرة. ويسفّه التقليديون هذه الشهادات التي تعيش على مطلق محدد، لأنه معاش في تاريخ مضطرب. فهم يهاجمون الاتجاه الماركسي _أي الملحد _ عند الشعراء الثوريين. والواقع لدى الكثيرين، أن الثورة التي تعوّد الرجل الملتزم عن معرفة على هذه الأرض، وفي هذه الحياة، تستبعد علناً الله التقليدي، لأنه منطلق لمعتقدات العودة المتأججة، ولكنها استلابية.
وإنه لخطأ كبير رد العمل الضخم الجاري، من أجل جعل كل الشعر ملائماً _في منظور الكلية العيانية _ للجماهير العربية _ إلى مجرد نزاع ايديولوجي بائس. إذ أننا لا نعدو الحقيقة إن قلنا إنه بواسطة الشعر الجديد، وفيه تتم، منذ الخمسينات، الثورة الأكثر راديكالية في الوسط العربي الاسلامي: لا ثورة هدامة كما يقول الأخصام، بل تعبيراً عن الحساسية الجماعية وتعريض واعادة ارساء للخيالي. إن تجربة الهجرة الفلسطينية "المفسّرة" و "المبررة" من الجانب اليهودي بالطرح الديني القائم على "العودة إلى أرض الميعاد" يترجم، في احساس الشاعر، بالتصادم المدمر بين ميتافيزيقين دينيين: اسلامي يهودي أو مسيحي يهودي. وينتج عن ذلك رغبة في اعادة الترسيخ للخيالي في فضاء أكثر شمولاً وأكثر قوة. هكذا يثور نزار قباني ضد ألف سنة من الفسوق بالكلام (احدهم اعترف أنه قتل اماماً):
قتلتُ إذْ قتلتُهُ
كلّ الطفيليات في حديقة الإسلام
كلّ الذين يطلبون الرزق من دكّانة الاسلام
قتلتُ إذْ قتلته يا سادتي الكرام..
كلّ الذين منذ ألف عام..
يزفونَ بالكلام..
ولا يمكن بأفضل من ذلك ترجمة الثورة المحبوسة، والآلام المبرّحة، والأمل الراسخ، والمقاومة الصافية التي، من وراء الفلسطينيين، يتقاسمها عدد متزايد من المسلمين: ليس فقط كل الذين يتمتعون بكل امتيازات الحضارة الحديثة، بل الجماهير الموضوعة على الهامش، هامش هذه الحضارة. وفي الشعر الحديث، أكثر مما في الخطب الرسمية يستطيع الهامشيون وصغار الأجراء _بمقدار فهمهم للشعر_ أن يجدوا التعبير الأنسب عن الأموات، وعن الولادات أو البعث الذي يصيبهم نوعاً ما. وبالامكان اجراء نفس التحقيق في الكثير من القصائد والقصص. المهم أن نعي، أنه في هذه الألام المعممة، يتولّد رجل آخر وتنفتح سبل جديدة للوصول إلى الكلي العياني.
----------------------------------
المصدر : الاسلام _ الأمس والغد


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإجتماع