مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

كتاب المدرسة الإسلامية

  المدرسة الاسلامية ::: 151 ـ 165
(151)
    ماذا نعني بوجود إقتصاد في الإسلام ؟
    وما هي طبيعة هذا الإقتصاد الإسلامي ، الذي تساءلنا في البدء عنه ، ثمّ أكدنا وجوده وإيماننا به ؟
    ان هذا هو ما يجب أن نبدأ بتوضيحه قبل كل شيء. لأننا حين ندّعي وجود إقتصاد في الإسلام ، لا يمكننا البحث عن إثبات الدعوى ، ما لم تكن محددة ومفهومة ، وما لم نشرح للقارئ ، المعنى الذي نريده من الإقتصاد الإسلامي.
    اننا نريد بالإقتصاد الإسلامي ، المذهب الإقتصادي لا علم الإقتصاد.
    والمذهب الإقتصادي ، هو عبارة عن : إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية ، تتفق مع وجهة نظر معينة عن العدالة.
    فنحن حين نتحدث عن اقتصاد الإسلام ، انما نعني طريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية ، وفقاً لتصوراته عن العدالة.
    ولا نريد بالإقتصاد الإسلامي ، أي لون من الوان البحث العلمي في الإقتصاد.
    وهذا النوع من التحديد للاقتصاد الإسلامي ، يجعلنا نواجه مسألة التمييز بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد. فما دام الإقتصاد الإسلامي مذهباً إقتصادياً ، وليس علماً للإقتصاد فيجب أن نعرف بوضوح اكبر ، ما معنى المذهب الإقتصادي وما معنى علم الإقتصاد ، وما هي معالم التمييز بينهما ؟ وما لم


(152)
يتضح ذلك وضوحاً كافياً ، مدعماً بالأمثلة ، فسوف تظل هوية الإقتصاد الإسلامي ، مكتنفة بالغموض.
    اننا حين نصف شخصاً بأنه مهندس ، وليس طبيباً. يجب أن نعرف معنى المهندس ، وما هي وظيفته ، وثقافته ، وما هو نوع عمله ، وبماذا يفترق عن الطبيب ، لكي نتأكد من صدق الوصف ، على ذلك الشخص ، وكونه مهندساً حقاً لا طبيباً. وكذلك حين يقال : ان الإقتصاد الإسلامي ، مذهب اقتصادي وليس علماً للاقتصاد ، يجب أن نفهم معنى المذهب الاقتصادي بصورة عامة ، والوظيفة التي تمارسها المذاهب الإقتصادية وطبيعة تكونها ، والفوارق بين المذهب الإقتصادي ، وعلم الإقتصاد. لكي نستطيع أن نعرف في ضوء ذلك ، هوية الإقتصاد الإسلامي ، وكونه مذهباً اقتصادياً ، لا علماً للاقتصاد.
    وفي عقيدتي ، ان ايضاح هوية الإقتصاد الإسلامي ، على أساس التمييز الكامل ، بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد وادراك ان الإقتصاد الإسلامي مذهب ، وليس علماً. ان هذا الايضاح ، سوف يساعدنا كثيراً ، على اثبات الدعوى ـ أي اثبات وجود اقتصاد في الإسلام ـ. وينقض المبررات التي يستند اليها جماعة ممن ينكرون وجود الإقتصاد في الإسلام ويستغربون من القول بوجوده.


(153)
    وعلى هذا الاساس ، سوف نقوم بدراسة للمذهب الإقتصادي وعلم الاقتصاد ، بصورة عامة وللفوارق بينهما.

    كل انسان منا يواجه لونين من السؤال في حياته الاعتيادية ويدرك الفرق بينهما. فحين نريد ان نسأل الاب عن سلوك ابنه مثلا : قد نسأله كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة ؟ وقد نسأله كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته ؟.
    وحين نوجّه السؤال الاول الي الاب ، ونقول له كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة ؟ يستوحي الاب جوابه ، من القيم والمثل والأهداف ، التي يقدسها ، ويتبناها في الحياة. فيقول مثلاً : ينبغي ان يكون ولدي شجاعاً جريئاً طموحاً أو يقول ينبغي ان يكون مؤمناً بربه ، واثقاً من نفسه ، مضحياً في سبيل الخير والعقيدة.
    وأما حين نوجّه السؤال الثاني للاب ، ونقول له : كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته ؟ فهو لا يرجع الى قيمه ومثله ليستوحي منها الجواب. وانما يجيب على هذا السؤال ، في ضوء اطلاعاته عن سلوك ابنه ، وملاحظاته المتعاقبة له. فقد يقول : هو فعلاً مؤمن واثق شجاع. وقد يقول : انه يسلك سلوكاً


(154)
متميعاً ، ويتاجر بايمانه ، ويجبن عن مواجهة مشاكل الحياة.
    فالأب يستمد جوابه على السؤال الأول من قيمه ومثله ، التي يؤمن بها. ويستمد جوابه على السؤال الثاني ، من ملاحظاته وتجربته لابنه في معترك الحياة.
    ويمكننا أن نستخدم هذا المثال ، لتوضيح الفرق بين المذهب الإقتصادي ، وعلم الإقتصاد. فإننا في الحياة الاقتصادية ، نواجه سؤالين متميزين ، كالسؤالين اللذين واجههما الأب عن سلوك ابنه فتارة نسأل : كيف ينبغي أن تجري الأحداث في الحياة الإقتصادية ؟ وأخرى نسأل : كيف تجري الاحداث فعلاً في الحياة الاقتصادية.
    والمذهب الإقتصادي ، يعالج السؤال الاول ، ويجيب عليه ويستلهم جوابه من القيم والمثل التي يؤمن بها ، وتصوراته عن العدالة ، كما استلهم الأب جوابه على السؤال الأول ، من قيمه ومثله.
    وعلم الاقتصاد يعالج السؤال الثاني ، ويجيب عليه ، ويستلهم جوابه من الملاحظة والتجربة. فكما كان الاب يجيب على السؤال الثاني ، على أساس ملاحظته لسلوك ابنه ، وتجربته له ، كذلك علم الاقتصاد ، يشرح حركة الاحداث في الحياة الإقتصادية ، على ضوء الملاحظة والخبرة.
    وهكذا نعرف ، ان علم الإقتصاد ، يمارس عملية الإكتشاف لما يقع في الحياة الإقتصادية من ظواهر اجتماعية وطبيعية ، ويتحدث


(155)
عن اسبابها وروابطها ، والمذهب الاقتصادي يقيم الحياة الاقتصادية ويحدد كيف ينبغي أن تكون ، وفقاً لتصوراته عن العدالة وما هي الطريقة العادلة في تنظيمها ؟.
    العلم يكتشف ، والمذهب يقيِّم.
    العلم يتحدث عما هو كائن ، وأسباب تكونه. والمذهب يتحدث عما ينبغي أن يكون ، وما لا ينبغي ان يكون.
    ولنبدأ بالأمثلة ، للتمييز بين وظيفة العلم ، ومهمة المذهب بين الاكتشاف والتقييم.
    المثال الأول :
    ولنأخذ هذا المثال : من ارتباط الثمن في السوق ، بكمية الطلب فكلنا نعلم من حياتنا الاعتيادية ، أن السلعة اذا كثر عليها الطلب ، وازدادت الرغبة في شرائها لدى الجمهور ، ارتفع ثمنها. فكتاب نؤلفه في الرياضيات ، قد يباع بربع دينار ، فاذا قررت المعارف تدريسه ، وأدى ذلك الى كثرة الطلب عليه ، من التلاميذ ، ارتفع ثمنه في السوق ، تبعاً لزيادة الطلب. وهكذا سائر السلع ، فان ثمنها ، يرتبط بكمية الطلب عليها في السوق فكلما زاد الطلب ارتفع الثمن.
    وارتباط الثمن هذا ، بالطلب ، يتناوله العلم والمذهب معاً. ولكن كلاً منهما يعالجه من زاويته الخالصة.


(156)
    فعلم الاقتصاد يدرسه ، بوصفه ظاهرة ، تتكون وتوجد في السوق الحرة ، التي لم يفرض عليها أثمان السلع من جهة عليا كالحكومة. ويشرح كيفية تكون هذه الظاهرة ، نتيجة لحرية السوق ويكتشف مدى الارتباط بين الثمن ، وكمية الطلب. ويقارن بين الزيادة النسبية في الثمن ، والزيادة النسبية في الطلب فهل يتضاعف الثمن ، اذا تضاعف الطلب ، او يزداد بدرجة أقل. ويشرح ما اذا كان ارتباط الثمن بكمية الطلب ، بدرجة واحدة في جميع السلع ، او ان بعض السلع ، يؤثر عليها ازدياد طلبها ، على ارتفاع ثمنها اكثر ، مما يؤثره في سلع أخرى.
    كل هذا يدرسه العلم ، لاكتشاف جميع الحقائق التي تتصل بظاهرة ارتباط الثمن بالطلب ، وشرح ما يجري في السوق الحرة ، وما ينجم عن حريته ، شرحاً علمياً ، قائماً على اساليب البحث العلمي والملاحظة المنظمة.
    والعلم في ذلك كله ، لا يضيف منه شيئاً الى الواقع ، وانما هدفه الاساسي ، تكوّن فكرة دقيقة عما يجري في الواقع ، وما ينجم عن السوق الحرة ، من ظواهر ، وما بين تلك الظواهر من روابط ، وصياغة القوانين التي تعبر عن تلك الروابط وتعكس الواقع الخارجي ، بمنتهى الدقة الممكنة.
    وأما المذهب الإقتصادي : فهو لا يدرس السوق الحرة ليكتشف نتائج هذه الحرية ، واثرها على الثمن ، وكيف يرتبط


(157)
الثمن بكمية الطلب في السوق الحرة. ولا يلقي على نفسه سؤال لماذا يرتفع ثمن السلعة في السوق الحرة اذا زاد الطلب عليها ؟.
    ان المذهب لا يصنع شيئاً من ذلك ، وليس من حقه هذا لان اكتشاف النتائج والاسباب ، وصياغة الواقع في قوانين عامة تعكسه وتصوره ، من حق العلم ، بما يملك من وسائل الملاحظة والتجربة والاستنتاج.
    وانما يتناول المذهب ، حرية السوق ، ليقيِّم هذه الحرية ويقيِّم ما تسفر عنه من نتائج ، وما تؤدي اليه من ربط الثمن بكمية الطلب الذي يغزو السوق.
    ونعني بتقييم الحرية ، وتقييم نتائجها ، الحكم عليها من وجهة نظر المذهب ، إلى العدالة. فإن كل مذهب اقتصادي ، له تصوراته العامة عن العدالة. ويرتكز تقييمه لأي منهج من مناهج الحياة الإقتصادية ، على أساس القدر الذي يجسده ذلك المنهج من العدالة ، وفقاً لتصور المذهب لها.
    فحرية السوق ، اذا بحثت على الصعيد المذهبي ، فلا تبحث باعتبارها ظاهرة موجودة في الواقع ، لها نتائجها ، وقوانينها العلمية بل بوصفها منهجاً اقتصادياً ، يراد اختبار مدى توفر العدالة فيه.
    فالسؤال القائل : ما هي نتائج السوق الحرة ، وكيف يرتبط الثمن بكمية الطلب فيها ، ولماذا يرتبط أحدهما بالآخر


(158)
يجيب عليه علم الإقتصاد.
    والسؤال القائل : كيف ينبغي أن تكون السوق ، وهل أن حريتها كفيلة بتوزيع السلع توزيعاً عادلاً ، وإشباع الحاجات بالصورة التي تفرضها العدالة الإجتماعية ؟ إن هذا السؤال ، هو الذي يجيب عليه المذهب الإقتصادي.
    وعلى هذا الأساس ، فمن الخطأ أن نترقب من أي مذهب إقتصادي ، أن يشرح لنا ، مدى ارتباط الثمن ، بكمية الطلب في السوق الحرة ، وقوانين العرض والطلب ، التي يتحدث عنها علماء الإقتصاد ، في دراستهم لطبيعة السوق الحرة.
    المثال الثاني :
    من رأي ريكاردو ، أن أجور العمال ، اذا كانت حرة وغير محدودة من جهة عليا ، كالحكومة ، تحديداً رسمياً ، فلا تزيد عن القدر الذي يتيح للعامل معيشة الكفاف. ولو زادت أحياناً عن هذا القدر ، كان ذلك شيئاً موقتاً ، وسرعان ما ترجع إلى مستوى الكفاف مرة أخرى.
    ويقول ريكاردو ، في تفسير ذلك ، أن أجور العمال ، اذا زادت عن الحد الأدنى من المعيشة ، أدى ذلك الى ازديادهم نتيجة لتحسن أوضاعهم ، وإقبالهم على الزواج والإنجاب. وما دام عمل العامل سلعة في سوق حرة ، لم تحدد فيها الأجور والأثمان


(159)
فهو يخضع لقانون العرض والطلب. فاذا ازداد العمال ، وكثر عرض العمل في السوق انخفضت الأجور.
    وهكذا ، كلما ارتفعت الأجور عن مستوى الكفاف ، وجدت العوامل التي تحتم انخفاضها من جديد ، ورجوعها الى حدها المحتوم. كما انها اذا نقصت عن هذا الحد. نتج عن ذلك ، ازديات بؤس العمال ، وشيوع المرض والموت فيهم ، حتى ينقص عددهم وإذا نقص عددهم ، ارتفعت الأجور ، ورجعت إلى مستوى الكفاف لأن كل سلعة اذا نقصت كميتها ، وقلَّت ، ارتفع ثمنها في السوق الحرة.
    وهذا ما يطلق عليه ريكاردو ، اسم القانون الحديدي للاجور.
    وريكاردو في هذا القانون ، انما يتحدث عما يجري في الواقع اذا توفرت السوق الحرة للاجراء. ويكتشف المستوى الثابت للاجور ، في كنف هذه السوق ، والعوامل الطبيعية والاجتماعية التي تتدخل في تثبيت هذا المستوى ، والحفاظ عليه ، كلما تعرض الاجر لارتفاع او هبوط استثنائيين.
    فريكاردو ، انما يجيب في هذا القانون ، على سؤال : ماذا يجري في الواقع ؟ لا عما ينبغي أن يجري. ولأجل هذا كان بحثه في نطاق علم الاقتصاد ، لأنه بحث يستهدف اكتشاف ما يجري من احداث وما تتحكم فيها من قوانين.


(160)
    والمذهب الاقتصادي ، حين يتناول أجور العمال ، لا يريد أن يكتشف ما يقع في السوق الحرة. وانما يوجد طريقة لتنظيمها ، تتفق مع مفاهيم العدالة عنده. فهو يتحدث عن الاساس الذي ينبغي أن تنظم بموجبه الاجور ، ويبحث عما اذا كان مبدأ الحرية الاقتصادية ، يصلح ان يكون أساساً لتنظيم الاجور ، من وجهة نظره عن العدالة أولاً.
    وهكذا لا نرى ، ان المذهب الإقتصادي ، يحدد كيف ينبغي أن تنظم السوق من وجهة نظره الى العدالة. هل تنظم على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية ، او على أساس آخر ؟ وعلم الاقتصاد ، يدرس السوق المنظمة ، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية ، مثلاً ، ليتعرف على ما يحدث في السوق المنظمة وفقاً لهذا المبدأ ، من أحداث ، وكيف تحدد فيها أثمان السلع واجور العمال ، وكيف ترتفع وتنخفض.
    وهذا معنى قولنا : ان العلم يكتشف ، والمذهب يقيِّم ويقدر.
    المثال الثالث :
    ولنأخذ المثال الثالث من الانتاج ، ولنحدد الزاوية التي منها يدرس علم الإقتصاد الانتاج ، والزاوية التي منها يدرس الانتاج في المذهب الإقتصادي. ونتبين الفارق بين الزاويتين.


(161)
    فعلم الإقتصاد ، يدرس من الانتاج الوسائل العامة ، التي تؤدي الى تنمية الانتاج ، كتقسيم العمل ، والتخصص ، فيقارن مثلاً ، بين مشروعين لإنتاج الساعات ، يشتمل كل منهما على عشرة عمال ، يكلف كل عامل في أحد المشروعين ، بانتاج ساعة كاملة. وأما في المشروع الآخر ، فيقسم العمل ، ويوكل الى كل عامل نوع واحد من العمليات ، التي يتطلبها انتاج الساعة. فهو يكرر هذا النوع الواحد من العملية ، باستمرار ، دون أن يمارس العلميات الاخري ، التي تمر بها الساعة ، خلال انتاجها. ان البحث العلمي في الاقتصاد ، يدرس هذين المشروعين وطريقتيهما المختلفتين ، وأثر كل منهما على الانتاج وعلى العامل.
    وهكذا يدرس علم الاقتصاد أيضاً ، كل ما يرتبط بالانتاج الإقتصادي ، من قوانين طبيعية ، كقانون تناقص العلة في الإنتاج الزراعي ، القائل أن نسبة زيادة الإنتاج الزراعي من الأرض تقل عن نسبة زيادة النفقات (1).
1 ـ بمعني أن الشخص الذي ينفق مئة دينار ، على استثمار أرضه ، ويحصل منها على عشرين أردباً من القمح. لو أراد أن يضاعف النفقات ، فأنفق على الأرض مئتين ، بدلاً من مئة دينار ، لم يحصل على ضعف الناتج السابق. أي أنه لا يظفر بأربعين أردباً من القمح ، بل يحصل على أقل من الضعف. ولو أنفق ثلاثمائة لم يحصل على ثلاثة أضعاف من القمح ، بل على زيادة أقل نسبياً من الزيادة التي يحصل عليها ، بإنفاق مئتين. وهكذا تظل الزيادة الناتجة عن مضاعفة النفقات ، تتناقض نسبياً ، حتى تندعم نهائياً ، ويعود الانفاق عبثاً باطلاً.
    وسبب هذا ، أن الأرض نفسها ، هي عامل أساسي في الانتاج ، فمضاعفة النفقات ، لا تكفي لمضاعفة الانتاج ، ما دامت كمية العامل الأساسي في الانتاج أي الأرض ، ثانية لم تضاعف.


(162)
    كل هذا يدرسه علم الإقتصاد. لأنه يعبر عن اكتشاف الحقائق على الصعيد الاقتصادي ، كما تجري ، ويحدد العوامل التي تؤثر بطبيعتها على الانتاج ، تأثيراً موافقاً او معاكساً.
    وأما المذهب ، فهو يبحث الأمور التالية.
    هل ينبغي أن يبقى الانتاج حراً ، أو يجب اخضاعه لتخطيط مركزي من قبل الدولة ؟
    هل ينبغي اعتبار تنمية الانتاج ، هدفاً أصيلاً ، او وسيلة لهدف أعلى ؟
    واذا كانت تنمية الإنتاج ، وسيلة لهدف أعلى ، فما هي الحدود والإطارات التي تفرضها طبيعة ذلك الهدف الأعلى ، على هذه الوسيلة ؟ وهل يجب أن تكون سياسة الإنتاج ، أساساً لتنظيم التوزيع ، أو العكس ؟ بمعنى ، أن أيهما يجب أن ينظم لمصلحة الآخر ؟ فهل ننظم توزيع الثروة ، بالشكل الذي يوفر الإنتاح ويساعد على تنميته ، فتكون مصلحة الإنتاج ، أساساً للتوزيع « فإذا اقتضت مصلحة الإنتاج ، تشريع الفائدة على القروض


(163)
التجارية ، لجذب رؤوس الأموال ، الى مجال الإنتاج. اتخذت الإجراءات بهذا الشأن ، ونظم التوزيع ، على أساس الإعتراف بحق رأس المال في الفائدة. » أو تنظم توزيع الثروة ، وفقاً لمقتضيات العدالة التوزيعية ، ونحدد تنمية الإنتاج ، بالمناهج والوسائل التي تتفق مع مقتضيات العدالة التوزيعية.
    كل هذا يدخل في نطاق المذهب الإقتصادي ، لا علم الإقتصاد لأنه يرتبط بتنظيم الإنتاج ، وكيف ينبغي أن تصمم سياسته العامة.

    يمكننا أن نستخلص من الأمثلة السابقة ، الخطين المتميزين للعلم والمذهب : خط الاكتشاف والتعرف على أسرار الحياة الإقتصادية ، وظواهرها المختلفة ، وخط التقييم ، وايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية ، وفقاً لتصورات معينة عن العدالة.
    وعلى هذا الأساس ، يمكننا أن نميز بين الأفكار العلمية والأفكار المذهبية. فالفكرة العلمية ، تدور حول اكتشاف الواقع ، كما يجري ، والتعرف على أسبابه ونتائجه ، وروابطه. فهي بمثابة منظار علمي ، للحياة الإقتصادية ، فكما أن الشخص حين يضع منظاراً على عينيه ، يستهدف رؤية الواقع ، دون أن يضيف اليه ، أو يغير فيه شيئاً ، وكذلك التفكير العلمي


(164)
يقوم بدور منظار للحياة الإقتصادية ، فيعكس قوانينها وروابطها. فالطابع العام للفكرة العلمية هو الإكتشاف.
    وأما الفكرة المذهبية ، فهي ليست منظاراً للواقع ، بل هي تقدير خاص للموقف ، على ضوء تصورات عامة للعدالة. فالعلم يقول : هذا هو الذي يجري في الواقع. والمذهب يقول : هذا هو الذي ينبغي أن يجري في الواقع.

    وهذا الفرق الذي تبيناه ، بين علم الإقتصاد والمذهب الإقتصادي ، ـ بين البحث عما هو كائن والبحث عما ينبغي أن يكون ـ ، يمكننا أن نجد نظيره بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية. فان علم التاريخ ، يتفق مع علم الإقتصاد في خطه العلمي العام. والبحوث الأخلاقية ، كالمذهب الإقتصادي ، في التقييم والتقدير.
    والناس يتفقون عادة ، على التفرقة بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية. فهم يعرفون ان علماء التاريخ ، يحدثونهم مثلاً عن الأسباب التي أدت الى سقوط الامبراطورية الرومانية ، في أيدي الجرمان. والعوامل التي دعت الى شن الحملات الصليبية على فلسطين ، وفشلها جميعاً. والظروف التي ساعدت على اغتيال قيصر ، وهو في قمة انتصاره ومجده ، او على قتل عثمان


(165)
ابن عفان والثورة عليه.
    كل هذه الاحداث ، يدرسها علم التاريخ ، ويكتشف أسبابها وروابطها ، مع سائر الاحداث الاخرى ، وما تمخضت عنه من نتائج ، وتطورات ، في مختلف الميادين. وهو بوصفه علماً ، يقتصر على اكتشاف تلك الاسباب ، والروابط ، والنتائج ، بالوسائل العلمية. ولا يقيم تلك الاحداث من الناحية الخلقية.
    فعلم التاريخ ، لا يحكم في نطاقة العلمي ، بأن اغتيال قيصر أو قتل عثمان ، كان عملاً صحيحاً ، خلقياً ، او منحرفاً عن المقاييس التي تحتم القيم العليا ، اتباعها في السلوك. وليس من شأنه ، أن يقيم الحملات الصليبية ، أو غزو البرابرة الجرمان للرومان ، ويحكم بأنها حملات عادلة أو ظالمة. وانما يرتبط تقييم تلك الاحداث ، جميعاً ، بالبحوث الاخلاقية. فعلى ضوء ما تتبنى من مقاييس للعمل ، في البحث الاخلاقي ، نحكم بأن هذا عدل او ظلم ، وان هذه استقامة أو انحراف.
    فكما ان علم التاريخ يصف السلوك والحادثة ، كما وقعت ويأتي البحث الخلقي ، بمقاييسه العامة ، فيقيمها. كذلك علم الاقتصاد ، يصف احداث الحياة الاقتصادية ، والمذهب يقيم تلك الأحداث ، ويحدد الطريقة ، التي ينبغي تنظيم الحياة الاقتصادية على أساسها ، وفقاً لتصوراته العامة عن العدالة.
السابق المدرسة الاسلامية ::: فهرس التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله