مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول


[ 143 ]
بموجب النظام اللغوي العام من قبيل المشترك، وفي هذه الحالة لا يمكن تعيين المراد من اللفظ على أساس تلك القاعدة، إذ لا يوجد معنى أقرب إلى اللفظ من ناحية لغوية لتطبق القاعدة عليه، ويكون الدليل في هذه الحالة مجملا. (الثالثة) أن يكون للفظ معان متعددة في اللغة وأحدها أقرب إلى اللفظ لغويا من سائر معانيه، ومثاله كلمة " البحر " التي لها معنى حقيقي قريب هو " البحر من الماء " ومعنى مجازي بعيد وهو " البحر من العلم "، فإذا قال الآمر: " إذهب إلى البحر في كل يوم " وأردنا أن نعرف ماذا أراد المتكلم بكلمة البحر من هذين المعنيين ؟ يجب علينا أن ندرس السياق الذي جاءت فيه كلمة البحر ونريد ب‍ " السياق " كل ما يكتف اللفظ الذي نريد فهمه من دوال أخرى، سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكل مع اللفظ الي نريد فهمه كلاما واحدا مترابطا، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع. فلا بد لنا لكي نفهم المعنى الذي أراده المتكلم من لفظ " البحر " في المثال المتقدم أن ندرس السياق الذي جاءت فيه كلمة البحر ونحدد المدلول اللغوي والمعنى الظاهر لكل كلمة وردت في ذلك السياق، فإن لم نجد في سائر الكلمات التي وردت في السياق ما يدل على خلاف المعنى الظاهر من كلمة البحر كان لزاما علينا أن نفسر كلمة البحر على أساس المعنى اللغوي الاقرب ونقرر أن مراد الآمر من البحر الذي أمرنا بالذهاب إليه في كل يوم هو بحر الماء لا بحر العلم تطبيقا للقاعدة العامة القائلة بحجية الظهور. وقد نجد في سائر أجزاء الكلام ما لا يتفق مع ظهور كلمة البحر، ومثاله


[ 144 ]
أن يقول الآمر: " إذهب إلى البحر في كل يوم واستمع إلى حديثه باهتمام " فإن الاستماع إلى حديث البحر لا يتفق مع المعنى اللغوي الاقرب إلى كلمة البحر، لان البحر من الماء لا يستمع إلى حديثه وإنما يستمع إلى حديث البحر من العلم أي العالم الذي يشابه البحر لغزارة علمه وفي هذه الحالة نجد أنفسنا نتسأل ماذا أراد المتكلم بكلمة البحر، هل أراد بها البحر من العلم بدليل أنه أمرنا بالاستماع إلى حديثه، أو أراد بها البحر من الماء ولم يقصد بالحديث هنا المعنى الحقيقي بل أراد به الاصغاء إلى صوت أمواج البحر ؟ وهكذا نظل مترددين بين كلمة البحر وظهورها اللغوي من ناحية، وكلمة الحديث وظهورها اللغوي من ناحية أخرى، ومعنى هذا أنا نتردد بين صورتين إحداهما صورة الذهاب إلى بحر من الماء المتموج والاستماع إلى صوت موجه، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة البحر. والاخرى صورة الذهاب إلى عالم غزير العلم والاستماع إلى كلامه، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة الحديث. وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعا ككل ونرى أي هاتين الصورتين أقرب إليه في النظام اللغوي العام ؟ أي إن هذا السياق إذا ألقي على ذهن شخص يعيش اللغة ونظامها بصورة صحيحة هل سوف تسبق إلى ذهنه الصورة الاولى أو الصورة الثانية ؟ فإن عرفنا أن إحدى الصورتين أقرب إلى السياق بموجب النظام اللغوي العام ولنفرضها الصورة الثانية تكون للسياق ككل ظهور في الصورة الثانية ووجب أن نفسر الكلام على أساس تلك الصورة الظاهرة. ويطلق على كلمة الحديث في هذا المثال اسم " القرينة "، لانها هي التي دلت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة البحر وظهورها. وأما إذا كانت الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أن الكلام أصبح مجملا ولا ظهور له، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامة.


[ 145 ]
القرينة المتصلة والمنفصلة: عرفنا أن كلمة " الحديث " في المثال السابق قد تكون قرينة في ذلك السياق، وتسمى " قرينة متصلة " لانها متصلة بكلمة البحر التي أبطلت مفعولها وداخلة معها في سياق واحد، والكلمة التي يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمى ب‍ " ذي القرينة ". ومن أمثلة القرينة المتصلة الاستثناء من العام، كما إذا قال الآمر: " أكرم كل فقير إلا الفساق "، فإن كلمة " كل " ظاهرة في العموم لغة، وكلمة " الفساق " تتنافى مع العموم، وحين ندرس السياق ككل نرى أن الصورة التي تقتضيها هذه الكلمة أقرب إليه من صورة العموم التي تقتضيها كلمة " كل "، بل لا مجال للموازنة بينهما، وبهذا تعتبر أداة الاستثناء قرينة على المعنى العام للسياق. فالقرينة المتصلة هي كل ما يتصل بكلمة أخرى، فيبطل ظهورها ويوجه المعنى العام للسياق الوجه التى تنسجم معه. وقد يتفق أن القرينة بهذا المعنى لا تجئ متصلة بالكلام بل منفصلة عنه فتسمى " قرينة منفصلة ". ومثاله أن يقول الآمر: " أكرم كل فقير " ثم يقول في حديث آخر بعد ساعة: " لا تكرم فساق الفقراء "، فهذا النهي لو كان متصلا بالكلام الاول لاعتبر قرينة متصلة ولكنه انفصل عنه في هذا المثال. وفي هذا الضوء نفهم معنى القاعدة الاصولية القائلة: إن ظهور القرينة مقدم على ظهور ذي القرينة سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة. وهناك فروق بين القرينة المتصلة والمنفصلة لا مجال لدراستها على مستوى هذه الحلقة.


[ 146 ]
2 - الدليل البرهاني تمهيد دراسة العلاقات العقلية: حينما يدرس العقل العلاقات بين الاشياء يتوصل إلى معرفة أنواع عديدة من العلاقة، فهو يدرك مثلا علاقة التضاد بين السواد والبياض، وهي تعني استحالة اجتماعهما في جسم واحد، ويدرك علاقة التلازم بين السبب والمسبب، فإن كل مسبب في نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه، نظير الحرارة بالنسبة إلى النار، ويدرك علاقة التقدم والتأخر في الدرجة بين السبب والمسبب. ومثاله: إذا أمسكت مفتاحا بيدك وحركت يدك فيتحرك المفتاح بسبب ذلك، وبالرغم من أن المفتاح في هذا المثال يتحرك في نفس اللحظة التي تتحرك فيها يدك فإن العقل يدرك أن حركة اليد متقدمة على حركة المفتاح وحركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية بل من ناحية تسلسل الوجود، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدث عن ذلك: " حركت يدي فتحرك المفتاح " فالفاء هنا تدل على الترتيب وتأخر حركة المفتاح عن حركة اليد مع أنهما وقعا في زمان واحد. فهناك إذن تأخر لا يمت إلى الزمان بصلة وإنما ينشأ عن تسلسل الوجود في نظر العقل، بمعنى أن العقل حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح ويدرك أن هذه نابعة من تلك، يرى أن حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد بوصفها نابعة منها، ويرمز إلى هذا التأخر بالفاء فيقول: " تحركت يدي فتحرك المفتاح "، ويطلق على هذا التأخر اسم " التأخر الرتبي " أي التأخر في الدرجة.


[ 147 ]
وبعد أن يدرك العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف وجود الشئ أو عدمه، فهو عن طريق علاقة التضاد بين السواد والبياض يستطيع أن يثبت عدم السواد في جسم إذا عرف أنه أبيض نظرا إلى استحالة اجتماع البياض والسواد في جسم واحد، فما دام أبيض وجب بحكم علاقة التضاد أن لا يكون أسود. وعن طريق علاقة التلازم بين المسبب وسببه يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبب إذا عرف وجود السبب نظرا إلى استحالة الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدم والتأخر يستطيع العقل أن يكتشف عدم وجود المتأخر قبل الشئ المتقدم، لان ذلك يناقض كونه متأخرا، فإذا كانت حركة المفتاح متأخرة عن حركة اليد في تسلسل الوجود فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح والحالة هذه موجودة بصورة متقدمة على حركة اليد في تسلسل الوجود، لان الشئ الواحد لا يمكن أن يكون متقدما على الشئ ويكون في نفس الوقت متأخرا عنه. وكما يدرك العقل هذه العلاقات بين الاشياء ويستفيد منها في الكشف عن وجود شئ أو عدمه، كذلك يدرك العلاقات القائمة بين الاحكام، ويستفيد من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكم أو عدمه، فهو يدرك مثلا التضاد بين الوجوب والحرمة كما كان يدرك التضاد بين السواد والبياض وكما كان يستخدم هذه العلاقة في نفي السواد إذا عرف وجود البياض كذلك يستخدم علاقة التضاد بين الوجوب والحرمة لنفي الوجوب عن الفعل إذا عرف أنه حرام. فهناك إذن أشياء تقوم بينها علاقات في نظر العقل، وهناك أحكام تقوم بينها علاقات في نظر العقل أيضا. ونطلق على الاشياء اسم " العالم التكويني " وعلى الاحكام اسم " العالم التشريعي ". وكما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشئ أو عدمه في العالم التكويني


[ 148 ]
عن طريق تلك العلاقات كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه في العالم التشريعي عن طريق تلك العلاقات. ومن أجل ذلك كان من وظيفة علم الاصول أن يدرس تلك العلاقات في عالم الاحكام بوصفها قضايا عقلية صالحة لان تكون عناصر مشتركة في عملية الاستنباط. الطريقة القياسية: وهذه العلاقات تدخل في عملية الاستنباط ضمن دليل يشكله الفقيه بطريقة قياسية، وهي الطريقة التي نستنتج فيها نتيجة خاصة من قانون عام، من قبيل قولنا: " هذا مثلث وكل مثلث له ثلاثة أضلاع فهذا المثلث له ثلاثة أضلاع " فإن هذا القول يشتمل على استنتاج عدد أضلاع هذه المثلث وأنها ثلاثة من القانون العام القائل: " إن كل مثلث له ثلاثة أضلاع ". وهكذا الحال في العلاقات التي ندرسها في العالم التشريعي، فإنها تشكل قوانين عامة ويستنتج الفقيه منها نتائج خاصه بطريقة قياسية فيقول مثلا: " الصلاة في المكان المغصوب حرام، وكل حرام لا يمكن أن يكون واجبا لعلاقة التضاد القائمة بين الوجوب والحرمة، فالصلاة في المكان المغصوب إذن لا يمكن أن تكون واجبة ". ومن الطبيعي على هذا الاساس أن نتكلم عن العلاقات العقلية القائمة في عالم الاحكام تحت عنوان " الدليل القياسي "، لانها تكون العناصر المشتركة في الدليل القياسي، ولكنا بالرغم من ذلك استبدلنا كلمة القياس ب‍ " البرهان "، لان كلمة القياس قد يختلط معناها المنطقي الذي نريده هنا بمعان أخرى، فأثرنا أن نضع الدليل البرهاني عنوانا لدراسة تلك العلاقات العقلية. وقد تعرضت الطريقة القياسية في الاستدلال لنقد شديد من الناحية


[ 149 ]
المنطقية وبخاصة في عصرنا الحديث، وسوف نتناول ذلك في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى. تقسيم البحث توجد في العالم التشريعي أقسام من العلاقات: فهناك قسم من العلاقات قائم بين نفس الاحكام أي بين حكم شرعي وحكم شرعي آخر، وقسم ثان من العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه، وقسم ثالث بين الحكم ومتعلقه، وقسم رابع بين الحكم ومقدماته، وقسم خامس وهو العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد، وقسم سادس وهو العلاقات القائمة بين الحكم وأشياء أخرى خارجة عن نطالق العالم التشريعي. وسوف نتحدث عن نماذج لاكثر من هذه الاقسام (1) في فصول: الفصل الاول في العلاقات القائمة بين نفس الاحكام علاقة التضاد بين الوجوب والحرمة: من المعترف به في علم الاصول أنه ليس من المستحيل أن يأتي المكلف بفعلين في وقت واحد أحدهما واجب والآخر حرام، فيعتبر مطيعا من ناحية إتيانه بالواجب وجديرا بالثواب، ويعتبر عاصيا من ناحية إتيانه للحرام

--------------------------------------------------------------------------------
(1) أي لغير القسم السادس، وأما القسم السادس فنريد به ما كان من قبيل علاقة التلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المقررة في المبدأ القائل: " كلما حكم به العقل حكم به الشرع "، فإن هذه العلاقة تقوم بين الحكم الشرعي وشئ خارج عن نطاق العالم التشريعي، وهو حكم العقل. وقد أجلنا دراسة ذلك إلى الحلقات المقبلة. (*)


[ 150 ]
ومستحقا للعقاب. فشرب الماء النجس مثلا حرام ودفع الزكاة إلى الفقير واجب، فلو أن إنسانا حمل الماء النجس بإحدى يديه وشربه وأعطى باليد الاخرى في نفس الوقت زكاته للفقير فقد عصى وامتثل وأتى بالحرام والواجب في وقت واحد. وأما الفعل الواحد فلا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا، لان العلاقة بين الوجوب والحرمة هي علاقة تضاد ولا يمكن اجتماعهما في فعل واحد كما لا يمكن أن يجتمع السواد والبياض في جسم واحد، فدفع الزكاة إلى الفقير لا يمكن أن يكون وهو واجب حراما في نفس الوقت، وشرب النجس لا يمكن أن يكون وهو حرام واجبا في نفس الوقت. وهكذا يتضح: (أولا) أن الفعلين المتعددين كدفع الزكاة وشرب النجس يمكن أن يتصف أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ولو أوجدهما المكلف في زمان واحد. (وثانيا) أن الفعل الواحد لا يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة معا. والنقطة الرئيسية في هذا البحث عند الاصوليين هي أن الفعل قد يكون واحدا بالذات والوجود ومتعددا بالوصف والعنوان، وعندئذ فهل يلحق بالفعل الواحد لانه واحد وجودا وذاتا ؟ أو يلحق بالفعلين لانه متعدد بالوصف والعنوان ؟ ومثاله: أن يتوضأ المكلف بماء مغصوب، فإن هذه العملية التي يؤديها إذا لوحظت من ناحية وجودها فهي شئ واحد وإذا لوحظت من ناحية أوصافها فهي توصف بوصفين، إذ يقال عن العملية: إنها وضوء، ويقال عنها في نفس الوقت: إنها غصب وتصرف في مال الغير بدون إذنه، وكل من الوصفين يسمى " عنوانا ". ولاجل ذلك تعتبر العملية في هذا المثال واحدة ذاتا ووجودا ومتعددة وصفا وعنوانا.


[ 151 ]
وفي هذه النقطة قولان للاصوليين: " أحدهما " أن هذه العملية ما دامت متعددة بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعددين، فكما يمكن أن يتصف دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة كذلك يمكن أن يكون أحد وصفي العملية وعنوانيها واجبا وهو عنوان الوضوء والوصف الآخر حراما وهو عنوان الغصب. وهذا القول يطلق عليه اسم " القول بجواز اجتماع الامر والنهي ". " والقول الآخر " يؤكد على إلحاق العملية بالفعل الواحد على أساس وحدتها الوجودية، ولا يبرر مجرد تعدد الوصف والعنوان عنده تعلق الوجوب والحرمة معا بالعملية. وهذا القول يطلق عليه اسم " القول بامتناع اجتماع الامر والنهي ". وهكذا اتجه البحث الاصولي إلى دراسة تعدد الوصف والعنوان من ناحية أنه هل يبرر اجتماع الوجوب والحرمة معا في عملية الوضوء بالماء المغصوب ؟ أو أن العملية ما دامت واحدة وجودا وذاتا فلا يمكن أن توصف بالوجوب والحرمة في وقت واحد. ونحن نعتقد أن العملية التي لها وصفان وعنوانان يمكن أن يتعلق الوجوب بأحدهما والحرمة بالآخر، ولا تمنع عن ذلك وحدة العملية وجودا، ولكن هذا لا ينطبق على كل وصف بل إنما تتسع العملية الواحدة للوجوب والحرمة معا إذا كان لها وصفان وعنوانان يتوفر فيهما شرائط خاصة لا مجال لتفصيلها الآن. هل تستلزم حرمة العقد فساده ؟ إن صحة العقد معناها أن يترتب عليه أثره الذي اتفق عليه المتعاقدان، ففي عقد البيع يعتبر البيع صحيحا ونافذا إذا ترتب عليه نقل ملكية السلعة


[ 152 ]
من البائع إلى المشتري ونقل ملكية الثمن من المشتري إلى البائع، ويعتبر فاسدا وباطلا إذا لم يترتب عليه ذلك. وبديهي أن العقد لا يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا في وقت واحد فإن الصحة والفساد متضادان كالتضاد بين الوجوب والحرمة، فكما لا يمكن أن يكون الفعل الواحد واجبا وحراما كذلك لا يمكن أن يكون العقد الواحد صحيحا وفاسدا. والسؤال هو هل يمكن أن يكون العقد صحيحا وحراما ؟ ونجيب على ذلك بالايجاب، إذ لا تضاد بين الصحة والحرمة ولا تلازم بين الحرمة والفساد لان معنى تحريم العقد منع المكلف من إيجاد البيع، ومعنى صحته أن المكلف إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتب الاثر على بيعه وانتقلت الملكية من البائع إلى المشتري، ولا تنافي بين أن يكون عليه الاثر في حالة صدوره من المكلف، فلا تلازم إذن بين حرمة العقد وفساده ولا تضاد بين حرمته وصحته بل يمكن أن يكون العقد حراما وصحيحا في نفس الوقت. ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية: أنك قد لا تريد أن يزورك فلان وتبغض ذلك أشد البغض، ولكن إذا اتفق وزارك ترى لزاما عليك أن ترتب الاثر على زيارته وتقوم بضيافته. فكما أمكن في هذا المثال أن تبغض زيارة فلان لك وفي نفس الوقت ترتب الاثر عليها إذا اتفق له أن زارك كذلك يمكن في مسألتنا أن يبغض الشارع صدور عقد البيع من المكلف ويمنع عنه، ولكنه يرتب الاثر عليه إذا عصى المكلف ومارس البيع، فيحكم بنقل الملكية من البائع إلى المشتري كما ترتب أنت الاثر على زيارة فلان لك إذا زارك بالرغم من أنك تبغض زيارته. وهذا يعني أن النهي عن المعاملة أي عقد البيع ونحوه لا يستلزم


[ 153 ]
فسادها بل يتفق مع الحكم بصحة العقد في نفس الوقت، خلافا لعدد من الاصوليين القائلين بأن النهي عن المعاملة يقتضي فسادها إيمانا منهم بوجود علاقة تضاد بين الصحة والحرمة. الفصل الثاني في العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه الجعل والفعلية: حين حكمت الشريعة بوجوب الحج على المستطيع وجاء قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " أصبح الحج من الواجبات في الاسلام وأصبح وجوبه حكما ثابتا في الشريعة، ولكن إذا افترضنا أن المسلمين وقتئذ لم يكن يوجد فيهم شخص مستطيع تتوفر فيه خصائص الاستطاعة شرعا فلا يتوجه وجوب الحج إلى أي فرد من أفراد المسلمين، لانهم ليسوا مستطيعين والحج إنما يجب على المستطيع، أي إن وجوب الحج لا يثبت في هذه الحالة لاي فرد بالرغم من كونه حكما ثابتا في الشريعة، فإذا أصبح أحد الافراد مستطيعا اتجه الوجوب نحوه وأصبح ثاتبا بالنسبة إليه. وعلى هذا الضوء نلاحظ أن للحكم ثبوتين: أحدهما ثبوت الحكم في الشريعة، والآخر ثبوته بالنسبة إلى هذا الفرد أو ذاك. فحين حكم الاسلام بوجوب الحج على المستطيع في الآية الكريمة ثبت هذا الحكم في الشريعة ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذ إطلاقا، بمعنى أن شخصا لو سأل في ذلك الوقت ما هي أحكام الشريعة ؟ لذكرنا من بينها وجوب الحج على المستطيع سواء كان في المسلمين مستطيع فعلا أو لا، وبعد أن يصبح هذه الفرد أو ذاك مستطيعا يثبت الوجوب عليه. ونعرف على هذا الاساس أن الحكم بوجوب الحج على المستطيع لا يتوقف


[ 154 ]
ثبوته في الشريعة بوصفه حكما شرعيا إلا على شريعة وجعله من قبل الله تعالى سواء كانت الاستطاعة متوفرة في المسلمين فعلا أو لا. وأما ثبوت وجوب الحج على هذا المكلف أو ذاك فيتوقف إضافة إلى تشريع الله للحكم وجعله له على توفر خصائص الاستطاعة في المكلف. والثبوت الاول للحكم أي ثبوته في الشريعة يسمى بالجعل " جعل الحكم ". والثبوت الثاني للحكم أي ثبوته على هذا المكلف بالذات أو ذاك يسمى بالفعلية " فعلية الحكم "، فجعل الحكم معناه تشريعه من قبل الله، وفعلية الحكم معناها ثبوته فعلا لهذا المكلف أو ذاك. موضوع الحكم: وموضوع الحكم مصطلح أصولي نريد به مجموع الاشياء التي تتوقف عليها فعليه الحكم المجعول بمعناها الذي شرحناه، ففي مثال وجوب الحج يكون وجود المكلف المستطيع موضوعا لهذا الوجوب، لان فعلية هذا الوجوب تتوقف على وجود مكلف مستطيع. ومثال آخر: حكمت الشريعة بوجوب الصوم على كل مكلف غير مسافر ولا مريض إذا هل عليه هلال شهر رمضان، وهذا الحكم يتوقف ثبوته الاول على جعله شرعا، ويتوقف ثبوته الثاني أي فعليته على وجود موضوعه، أي وجود مكلف غير مسافر ولا مريض وهل عليه هلال شهر رمضان، فالمكلف وعدم السفر وعدم المرض وهلال شهر رمضان هي العناصر التي تكون الموضوع الكامل للحكم بوجوب الصوم. وإذا عرفنا معنى موضوع الحكم استطعنا أن ندرك أن العلاقة بين الحكم والموضوع تشابه ببعض الاعتبارات العلاقة بين المسبب وسببه كالحرارة


[ 155 ]
والنار، فكما أن المسبب يتوقف على سببه كذلك الحكم يتوقف على موضوعه لانه يستمد فعليته من وجود الموضوع. وهذا معنى العبارة الاصولية القائلة: " إن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه " أي إن وجود الحكم فعلا يتوقف على وجود موضوعه فعلا. ويحكم هذه العلاقة بين الحكم والموضوع يكون الحكم متأخرا في درجته عن الموضوع، ويكون الموضوع متقدما عليه كما يتقدم كل سبب على مسببه. وتوجد في علم الاصول قضايا تستنتج من هذه العلاقة وتصلح للاشتراك في عمليات الاستنباط لا مجال للدخول في تفاصيلها الآن. الفصل الثالث العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلقه عرفنا أن وجوب الصوم مثلا موضوعه مؤلف من عدة عناصر تتوقف عليها فعلية الوجوب، فلا يكون الوجوب فعليا وثابتا إلا إذا وجد مكلف غير مسافر ولا مريض وهل عليه هلال شهر رمضان، وأما متعلق هذا الوجوب فهو الفعل الذي يؤديه المكلف نتيجة لتوجه الوجوب إليه، وهو الصوم في هذا المثال. وعلى هذا الضوء نستطيع أن نميز بين متعلق الوجوب وموضوعه، فإن المتعلق يوجد بسبب الوجوب، فالمكلف إنما يصوم لاجل وجوب الصوم عليه، بينما يوجد الحكم نفسه بسبب الموضوع، فوجوب الصوم لا يصبح فعليا إلا إذا وجد مكلف غير مريض ولا مسافر وهل عليه الهلال. وهكذا نجد أن وجود الحكم يتوقف على وجود الموضوع، بينما يكون سببا لايجاده المتعلق وداعيا للمكلف نحوه ؟.


[ 156 ]
وعلى هذا الاساس نعرف أن من المستحيل أن يكون الوجوب داعيا إلى إيجاد موضوعه ومحركا للمكلف نحوه كما يدعو إلى إيجاد متعلقه، فوجوب الصوم على كل مكلف غير مسافر ولا مريض ولا يمكن أن يفرض على المكلف أن لا يسافر وإنما يفرض عليه أن يصوم إذا لم يكن مسافرا، ووجوب الحج على المستطيع لا يمكن أن يفرض على المكلف أن يكتسب ليحصل على الاستطاعة وإنما يفرض الحج على المستطيع، لان الحكم لا يوجد إلا بعد وجود موضوعه، فقبل وجود الموضوع لا وجود للحكم لكي يكون داعيا إلى إيجاد موضوعه، ولاجل ذلك وضعت في علم الاصول القاعدة القائلة: " إن كل حكم يستحيل أن يكون محركا نحو أي عنصر من العناصر الدخيلة في تكوين موضوعه بل يقتصر تأثيره وتحريكه على نطاق المتعلق ". الفصل الرابع العلاقات القائمة بين الحكم والمقدمات المقدمات التي يتوقف عليها وجود الواجب على قسمين: أحدهما المقدمات التي يتوقف عليها وجود المتعلق، من قبيل السفر الذي يتوقف أداء الحج عليه، أو الوضوء الذي تتوقف الصلاة عليه، أو التسلح الذي يتوقف الجهاد عليه. والآخر المقدمات التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب، من قبيل نية الاقامة التي يتوقف عليها صوم شهر رمضان، والاستطاعة التي تتوقف عليها حجة الاسلام. والفارق بين هذين القسمين أن المقدمة التي تدخل في تكوين موضوع الوجوب يتوقف على وجودها الوجوب نفسه، لما شرحناه سابقا من أن الحكم الشرعي يتوقف وجوده على وجود موضوعه، فكل مقدمة دخيلة في تحقق


[ 157 ]
موضوع الحكم يتوقف عليها الحكم ولا يوجد بدونها، خلافا للمقدمات التي لا تدخل في تكوين الموضوع وإنما يتوقف عليها وجود المتعلق فحسب، فإن الحكم يوجد قبل وجودها، لانها لا تدخل في موضوعه. ولنوضح ذلك في مثال الاستطاعة والوضوء: فالاستطاعة مقدمة تتوقف عليها حجة الاسلام، والتكسب مقدمة للاستطاعة، وذهاب الشخص إلى محله في السوق مقدمة للتكسب، وحيث أن الاستطاعة تدخل في تكوين موضوع وجوب الحج فلا وجوب للحج قبل الاستطاعة وقبل تلك الامور التي تتوقف عليها الاستطاعة. وأما الوضوء فلا يدخل في تكوين موضوع وجوب الصلاة، لان وجوب الصلاة لا ينتظر أن يتوضأ الانسان لكي يتجه إليه بل يتجه إليه قبل ذلك، وإنما يتوقف متعلق الوجوب وهو الصلاة على الوضوء، ويتوقف الوضوء على تحضير الماء الكافي، ويتوقف تحضير هذا الماء على فتح خزان الماء مثلا. فهناك إذن سلسلتان من المقدمات: الاولى سلسلة مقدمات المتعلق، أي الوضوء الذي تتوقف عليه الصلاة وتحضير الماء الذي يتوقف عليه الوضوء وفتح الخزان الذي يتوقف عليه تحضير الماء. والثانية سلسلة مقدمات الوجوب، وهي الاستطاعة التي تدخل في تكوين موضوع وجوب الحج والتكسب الذي تتوقف عليه الاستطاعة وذهاب الشخص إلى محله في السوق الذي يتوقف عليه التكسب. وموقف الوجوب من هذه السلسلة الثانية وكل ما يندرج في القسم الثاني من المقدمات سلبي دائما، لان هذا القسم يتوقف عليه وجوب موضوع الحكم، وقد عرفنا سابقا أن الوجوب لا يمكن أن يدعوا إلى موضوعه. وتسمى كل مقدمة من هذا القسم " مقدمة وجوب " أو " مقدمة وجوبية ". وأما السلسلة الاولى والمقدمات التي تندرج في القسم الاول فالمكلف


[ 158 ]
مسؤول عن إيجادها، أي إن المكلف بالصلاة مثلا مسؤول عن الوضوء لكي يصلي، والمكلف بالحج مسؤول عن السفر لكي يحج، والمكلف بالجهاد مسؤل عن التسلح لكي يجاهد. والنقطة التي درسها الاصوليون هي نوع هذه المسؤولية، فقد قدموا لها تفسيرين: أحدهما أن الواجب شرعا على المكلف هو الصلاة فحسب دون مقدماتها من الوضوء ومقدماته، وإنما يجد المكلف نفسه مسؤولا عن إيجاد الوضوء وغيره من المقدمات لانه يرى أن امتثال الواجب الشرعي لا يتأتى له إلا بإيجاد تلك المقدمات. والآخر أن الوضوء واجب شرعا لانه مقدمة للواجب ومقدمة الواجب واجبة شرعا، فهناك إذن واجبان شرعيان على المكلف: أحدهما الصلاة، والآخر الوضوء بوصفه مقدمة للصلاة. ويسمى الاول ب‍ " الواجب النفسي " لانه واجب لاجل نفسه. ويسمى الثاني ب‍ " الواجب الغيري "، لانه واجب لاجل غيره، أي لاجل ذي المقدمة وهو الصلاة. وهذا التفسير أخذ به جماعة من الاصوليين إيمانا منهم بقيام علاقة تلازم بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته، فكلما حكم الشارع بوجوب فعل حكم عقيب ذلك مباشرة بوجوب مقدماته. الفصل الخامس في العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد قد يتعلق الوجوب بشئ واحد، كوجوب السجود على كل من سمع آية السجدة، وقد يتعلق بعملية تتألف من أجزاء وتشتمل على أفعال متعددة، من قبيل وجوب الصلاة، فإن الصلاة عملية تتألف من أجزاء وتشتمل على


[ 159 ]
أفعال عديدة، كالقراءة والسجود والركوع والقيام والتشهد وما إلى ذلك. وفي هذه الحالة تصبح العملية بوصفها مركبة من تلك الاجزاء واجبة ويصبح كل جزء واجبا أيضا، ويطلق على وجوب المركب اسم " الوجوب الاستقلالي " ويطلق على وجوب كل جزء فيه اسم " الوجوب الضمني "، لان الوجوب إنما يتعلق بالجزء بوصفه جزءا في ضمن المركب لا بصورة مستقلة عن سائر الاجزاء، فوجوب الجزء ليس حكما مستقلا، بل هو جزء من الوجوب المتعلق بالعملية المركبة. ولاجل ذلك كان وجوب كل جزء من الصلاة مثلا مرتبطا بوجوب الاجزاء الاخرى، لان الوجوبات الضمنية لاجزاء الصلاة تشكل بمجموعها وجوبا واحدا استقلاليا. ونتيجة ذلك قيام علاقة التلازم في داخل إطار الحكم الواحد بين الوجوبات الضمنية فيه. وتعني علاقة التلازم هذه أنه لا تمكن التجزئة في تلك الوجوبات أو التفكيك بينها، بل إذا سقط أي واحد منها تحتم سقوط الباقي نتيجة لذلك التلازم القائم بينها. مثال ذلك: إذا وجب على الانسان الوضوء وهو مركب من أجزاء عديدة كغسل الوجه وغسل اليمنى وغسل اليسرى ومسح الرأس ومسح القدمين، فيتعلق بكل جزء من تلك الاجزاء وجوب ضمني بوصفه جزءا من الوضوء الواجب، وفي هذه الحالة إذا تعذر على الانسان أن يغسل وجهه لآفة فيه وسقط لاجل ذلك الوجوب الضمني المتعلق بغسل الوجه كان من المحتم أن يسقط وجوب سائر الاجزاء أيضا، فلا يبقى على الانسان وجوب غسل يديه فقط ما دام قد عجز عن غسل وجهه، لان تلك الوجوبات لا بد أن ينظر إلهيا بوصفها وجوبا واحدا متعلقا بالعملية كلها أي بالوضوء، وهذا الوجوب إما أن يسقط كله أو يثبت كله، ولا مجال للتفكيك. وعلى هذا الضوء نعرف الفرق بين ما إذ وجب الوضوء بوجوب استقلالي ووجب الدعاء بوجوب استقلالي آخر فتعذر الوضوء، وبين ما


[ 160 ]
إذا وجب الوضوء فتعذر جزء منه كغسل الوجه مثلا، ففي الحالة الاولى لا يؤدي تعذر الوضوء إلا إلى سقوط الوجوب الذي كان متعلقا به، وأما وجوب الدعاء فيبقى ثابتا، لانه وجوب مستقل غير مرتبط بوجوب الوضوء. وفي الحالة الثانية حين يتعذر غسل الوجه ويسقط وجوبه الضمني يؤدي ذلك إلى سقوط وجوب الوضوء وارتفاع سائر الوجوبات الضمنية. قد تقول: نحن نرى أن الانسان يكلف بالصلاة، فإذا أصبح أخرس وعجز عن القراءة فيها كلف بالصلاة بدون قراءة، فهل هذا إلا تفكيك بين الوجوبات الضمنية ونقض لعلاقة التلازم بينها. والجواب أن وجوب الصلاة بدون قراة على الاخرس ليس تجزئة لوجوب الصلاة الكاملة، وإنما هو جوب آخر وخطاب جديد تعلق منذ البدء بالصلاة الصامتة، فوجوب الصلاة الكاملة والخطاب بها قد سقط كله نتيجة لتعذر القراءة وخلفه وجوب آخر وخطاب جديد.


[ 161 ]
3 - الدليل الاستقرائي تمهيد الاستقراء هو استنتاج قانون عام من تتبع حالات جزئية كثيره. ومثال ذلك أن نلاحظ هذه القطعة من الحديد فنراها تتمدد بالحرارة، ونلاحظ تلك فنراها تتمدد بالحرارة، وهكذا الثالثة والرابعة، فنستنتج من تتبع هذه الحالات الجزئية قانونا عاما، وهو أن كل حديد يتمدد بالحرارة. وهذه الطرقة من الاستدلال هي الطريقة التي يستخدمها العلماء الطبيعيون في العلوم الطبيعية لاكتشاف قوانين الكون والطبيعة. ونحن إذا تأملنا في الدليل الاستقرائي نجد أن كل حالة من الحالات الجزئية التى نلاحظ فيها تمدد الحديد بالحرارة تشكل قرينة على القانون العام القائل: " إن كل حديد يتمدد بالحرارة " غير أن كل حالة بمفردها تعتبر قرينة إثبات ناقصة، أي أنها لا تؤدي بنا إلى القطع بالقانون العام، ولكن حين نضيف إليها حالة جزئية أخرى مماثلة يقوى في ظننا أن ظاهرة التمدد بالحرارة عامة، فإذا لاحظنا التمدد في حالة ثالثة مماثلة أيضا تأكد ظننا بالتعميم نتيجة لتجمع ثلاث قرائن، وهكذا تزداد القرائن كلما ازدادت الحالات التي نستقرؤها، وبالتالي يزداد ظننا بالقانون العام حتى نصل إلى القطع به. ونحن هنا نسمي كل دليل يقوم على أساس القرائن الناقصة ويستمد قوته من تجمع تلك القرائن " دليلا استقرائيا ". ومن أمثلة الدليل الاستقرائي بهذا المعنى الذي نريده هنا " التواتر "


[ 162 ]
وهو أن يخبرك عدد كبير جدا من الناس بحادثة رأوها بأعينهم، فأنت حين تسمع الخبر من أحدهم تحتمل صدقه ولكنك لا تجزم بذلك فتعتبر خبره قرينة ناقصة على وقوع الحادثة، فإذا سمعت الخبر نفسه من شخص آخر تقوى في نفسك احتمال وقوع الحادثة نتيجة لاجتماع قرينتين، وهكذا يظل احتمال وقوع الحادثة ينمو ويكبر كلما جاء مخبر جديد عنها حتى يصل إلى درجة العلم. وقد نطلق على الدليل الاستقرائي بالمعنى الذي حددناه اسم " الدليل الاحتمالي " أو " الدليل القائم على حساب الاحتمالات " لان الدليل الاستقرائي لما كان مرده في التحليل العلمي إلى عملية تجميع القرائن فهو يتضمن قياس قوة الاحتمال الناتج عن كل قرينة وجمع القوى الاحتمالية لمجموع القرائن وفقا لقوانين سوف نشير إليها في الحلقات المقبلة وقياس تلك القوى الاحتمالية وجمعها هو ما يسمى بحساب الاحتمالات وحيث أن الدليل الاستقرائي يتضمن ويعتمد عليه فهو يقوم على أساس حساب الاحتمالات. وسوف نتحدث فيما يلي عن دور الدليل الاستقرائي في استنباط الاحكام وذلك في فصلين: الفصل الاول الاستقراء في الاحكام من ألوان الدليل الاستقرائي أن ندرس عددا كبيرا من الاحكام الشرعية فنجد أنها تشترك جميعا في اتجاه واحد، فنكتشف قاعدة عامة في التشريع الاسلامي عن طريقها. ولنذكر على سبيل المثال لهذا الدليل محاولة ذكرها الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابيه الحدائق والدرر النجفية تستهدف إثبات قاعدة عامة عن


[ 163 ]
طريق الاستقراء، وتلك القاعدة العامة هي القاعدة القائلة بمعذورية الجاهل، أي إن كل جاهل إذا ارتكب خطأ نتيجة لجهله بالحكم الشرعي فلا تترتب على ذلك الخطأ تبعة. وقد استدل الفقيه البحراني على هذه القاعدة بحالات كثيرة في الفقه ثبت شرعا أن الجاهل بالحكم معذور فيها، واستكشف عن طريق استقراء تلك الحالات القاعدة القائلة بمعذورية الجاهل شرعا في جميع الحالات. وتلك الحالات التي أقام عليها الفقيه البحراني استقراءه واستنتاجه للقاعدة العامة هي الحالات التي نصت عليها الادلة التالية: (أولا) ما دل من الشرع في أحكام الحج على أن الجاهل معذور، فمن لبس وهو محرم ثوبا لا يجوز له لبسه جهلا منه بالحكم لا شئ عليه. (وثانيا) ما دل في أحكام الصوم على أن الجاهل معذور، فمن صام في السفر وهو لا يدري أن الصوم في السفر غير جائز صح صومه ولا شئ عليه. (وثالثا) ما دل في أحكام النكاح على أن الجاهل معذور، فمن تزوج امرأة في عدتها جهلا منه بحرمة ذلك لم تحرم عليه بالحرمة المؤبدة نظرا إلى جهله، بل كان له أن يتزوجها من جديد بعد انتهاء عدتها. (ورابعا) ما دل في أحكام الحدود على أن الجاهل معذور، فمن شرب الخمر جهلا منه بحرمته لا يحد. (وخامسا) ما دل في أحكام الصلاة على أن من صلى أربعا وهو مسافر جهلا منه بوجوب القصر صحت صلاته ولم يجب عليه القضاء. فكل حالة من هذه الحالات قرينة إثبات ناقصة بالنسبة إلى القاعدة العامة القائلة بمعذورية الجاهل شرعا في جميع الحالات. وبتجمع تلك القرائن يقوى في نفس الفقيه احتمال القاعدة العامة ووثوقه بها.


[ 164 ]
ومثال آخر: وهو أنا حين نريد أن نعرف اشتمال الاقتصاد الاسلامي على القاعدة القائلة: إن العمل في الثروات الطبيعية أساس للملكية، قد نستعرض حالات عديدة من العمل ثبت أن العمل فيها أساس للملكية، فنستنتج من استقراء تلك الحالات صحة القاعدة العامة، إذ نرى مثلا أن العمل في إحياء الارض ينتج ملكيتها، والعمل في إحياء المعدن ينتج ملكيته، والعمل في حيازة الماء ينتج ملكيته، والعمل في اصطياد الطائر ينتج ملكيته، فنستدل باستقراء هذه الحالات على قاعدة عامة في الاقتصاد الاسلامي، وهي أن العمل في الثروات الطبيعية أساس للملكية. وموقفنا من الاستقراء يتلخص في التمييز بين القطعي منه وغيره، فإذا كان قطعيا أي أدى إلى القطع بالحكم الشرعي فهو حجة، لانه يصبح دليلا قطعيا ويستمد حجيته من حجية القطع، وإذا لم يكن قطعيا فلا حجية فيه مهما كانت قوة الاحتمال الناجمة عنه، لاننا عرفنا سابقا أن كل دليل غير قطعي ليس حجة ما لم يحكم الشارع بحجيته، والشارع لم يحكم بحجية الاستقراء الذي لا يؤدي إلى العلم. القياس خطوة من الاستقراء: وقد تؤخذ خطوة واحدة من خطوات الاستقراء ويكتفى بها في الاستدلال كما إذا اكتفينا بحالة واحدة من الحالات التي أقام صاحب الحدائق عليها استقراءه وجعلنا منها دليلا على كون الجاهل معذورا في سائر الحالات الاخرى. ويمسى هذا ب‍ " القياس " عند أبي حنيفة وغيره من فقهاء السنة الذين يكتفون في الاستدلال على ثبوت حكم لموضوع بثبوت حكم من نفس النوع على موضوع واحد مشابه له، ولا يكلفون أنفسهم بتتبع موضوعات مشابهة عديدة واستقراء حالات كثيرة. فبينما كان الاستقراء


[ 165 ]
يكلفنا بملاحظة حالات كثيرة يعذر فيها الجاهل لكي نصل إلى القاعدة العامة القائلة: " إن كل جاهل معذور "، لا يكلفنا القياس الحنفي إلا بملاحظة حالة واحدة واتخاذها دليلا على إثبات حكم من نفس النوع لسائر الحالات الاخرى. وما دام الاستقراء ليس حجة ما لم يحصل منه القطع بالحكم الشرعي فمن الطبيعي أن لا يكون القياس حجة، لانه خطوة من الاستقراء فصلت عن سائر الخطوات. الفصل الثاني الدليل الاستقرائي غير المباشر كان الدليل الاستقرائي الذي درسناه في الفصل السابق يشتمل على استقراء عدد من الاحكام الخاصة واستنتاج حكم عام منها، فالحكم العام يكتشف بالاستقراء مباشرة، ولهذا نطلق عليه اسم " الدليل الاستقرائي المباشر ". ويوجد قسم آخر من الدليل الاستقرائي، وهو الدليل الاستقرائي غير المباشر، ونريد به أن نستدل بالاستقراء لا على الحكم مباشرة بل على وجود دليل لفظي يدل بدوره على الحكم الشرعي، ففي هذا الاستقراء نكتشف بصورة مباشرة الدليل اللفظي، وبعد اكتشاف الدليل اللفظي عن طريق الاستقراء نثبت الحكم الشرعي بذلك الدليل اللفظي. ومثال ذلك " التواتر "، فقد عرفنا سابقا أن التواتر دليل استقرائي يقوم على أساس تجميع القرائن، فإذا أخبرنا عدد كبير من الرواة بنص عن المعصوم عليه السلام أصبح النص متواترا، وحينئذ نستدل بالتواتر بوصفه دليلا استقرائيا على صدور ذلك الكلام من المعصوم (عليه السلام) أي على دليل


[ 166 ]
اللفظي ثم نستدل بالدليل اللفظي أي بذلك الكلام الثابت صدوره من المعصوم (عليه السلام (بالتواتر على الحكم الشرعي الذي يدل عليه. وللدليل الاستقرائي غير المباشر بهذا المعنى الذي شرحناه أمثلة عديدة منها " الاجماع " و " الشهرة " و " الخبر " و " السيرة ". الاجماع والشهرة: إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن نجد أنها تشكل قرينة إثبات ناقصة على وجود دليل لفظي مسبق يدل على هذا الوجوب لان فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها: أحدهما أن يكون قد استند في فتواه إلى دليل لفظي مثلا بصورة صحيحة، والآخر أن يكون مخطئا في فتواه. وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معا فهي قرينة إثبات ناقصة. فإذا أضفنا إليها فتوى فقيه آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضا، كبر احتمال وجود دليل لفظي يدل على الحكم نتيجة لاجتماع قرينتين ناقصتين، وحين ينضم إلى الفقيهين فقيه ثالث نزداد ميلا إلى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي. وهكذا نزداد ميلا إلى الاعتقاد بذلك كلما ازداد عدد الفقهاء المفتين بوجوب الخمس في المعادن، فإذا كان الفقهاء قد اتفقوا جميعا على هذه الفتوى سمي ذلك " إجماعا "، وإذا كانوا يشكلون الاكثرية فقط سمي ذلك " شهرة ". فالاجماع والشهرة على ضوء مفهومنا الخاص عن الدليل الاستقرائي دليلان استقرائيان على وجود دليل مسبق على الحكم قام على أساسه الاجماع أو الشهرة. وحكم الاجماع والشهرة من ناحية أصولية أنه متى حصل العلم بسبب الاجماع أو الشهرة وجب الاخذ بذلك في عملية الاستنباط وأصبح الاجماع


[ 167 ]
والشهرة حجة، وإذا لم يحصل العلم بسبب الاجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما. الخبر: الخبر هو نقل شئ عن المعصوم (عليه السلام) استنادا إلى الحس كما يصنع الرواة، إذ ينقلون نصوصا سمعوها من المعصوم (عليه السلام) بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويعتبر الخبر قرينة إثبات ناقصة، لاننا إذا سمعنا سخصا ينقل شيئا عن المعصوم عليه السلام احتملنا صدقه واحتملنا كذبه، فيكون قرينة إثبات ناقصة، وتزداد قوة الاثبات إذا نقل شخص آخر نفس الشئ عن المعصوم (عليه السلام) أيضا نتيجة لاجتماع قرينتين. وهكذا كبر احتمال الصدق كلما كثر المخبرون حتى يحصل الجزم، فيسمى الخبر " متواترا ". وكما يكبر احتمال الصدق بسبب زيادة عدد المخبرين كذلك يكبر بسبب نوعية المخبر، فالمخبر الواحد يزداد احتمال صدقه كلما ازداد اطلاعنا على دينه وورعه وانتباهه. وحكم الخبر أنه إذا ازداد احتمال صدقه إلى درجة شارفت على القطع كان حجة، سواء نشأت زيادة احتمال الصدق فيه من كثرة عدد المخبرين أو من خصائص الورع والنزاهة في المخبر الواحد، وأما إذا لم يؤد الخبر إلى القطع فيجب أن يلاحظ الراوي، فإن كان ثقة أخذنا بروايته ولو لم نقطع بصحتها، لان الشارع جعل خبر الثقة حجة، ولكن هذه الحجية ثابتة ضمن شروط لا مجال هنا لتفصيلها. وإذا لم يكن الراوي ثقة فلا يؤخذ بروايته ولا يجوز إدخالها في عملية الاستنباط. سيرة المتشرعة: سيرة المتشرعة هي السلوك العام للمتدينين في عصر التشريع من قبيل اتفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلا عن صلاة الجمعة، أو على


[ 168 ]
عدم دفع الخمس من الميراث. وهذا السلوك العام إذا حللناه إلى مفرادته ولاحظنا سلوك كل واحد بصورة مستقلة، نجد أن سلوك الفرد المتدين الواحد في عصر التشريع يعتبر قرينة إثبات ناقصة عن صدور بيان شرعي يقرر ذلك السلوك، لاننا نحتمل استناد هذا السلوك إلى البيان الشرعي، وإن كنا نحتمل في نفس الوقت أيضا الخطأ والغفلة وحتى التسامح. فإذا عرفنا أن فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك ويصليان الظهر مثلا في يوم الجمعة ازدادت قوة الاثبات. وهكذا تكبر قوة الاثبات حتى تصل إلى درجة كبيرة، عندما نعرف أن ذلك السلوك كان سلوكا عاما يتبعه جمهرة المتدينين في عصر التشريع، إذ يبدو من المؤكد حينئذ أن سلوك هؤلاء جميعا لم ينشأ عن خطأ أو غفلة أو تسامح، لان الخطأ والغفلة والتسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتدينين في عصر التشريع جيمعا. وهكذا نعرف أن السلوك العام مستند إلى بيان شرعي يدل على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة وعدم وجوب الخمس في الميراث. ولاجل هذا نعتبر سيرة المتشرعة دليلا استقرائيا كالاجماع والشهرة، وهي في الغالب تؤدي إلى الجزم بالبيان الشرعي ضمن شروط لا مجال لتفصيلها الآن. ومتى كانت كذلك فهي حجة، وأما إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها. السيرة العقلائية: وهناك نوع آخر من السيرة يطلق عليه في علم الاصول اسم " السيرة العقلائية ". والسيرة العقلائية عبارة عن ميل عام عند العقلاء المتدينين وغيرهم نحو سلوك معين دون أن يكون للشرع دور إيجابي في تكوين


[ 169 ]
هذا الميل. ومثال ذلك: الميل العام لدي العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام المتكلم. وفي هذا الضوء نعرف أن السيرة العقلائية تختلف عن سيرة المتشرعة، فإن سيرة المتشرعة التي درسناها آنفا كانت وليدة البيان الشرعي ولهذا تعتبر كاشفة عنه، وأما السيرة العقلائية فمردها كما عرفنا إلى ميل عام يوجد عند العقلاء نحو سلوك معين لا كنتيجة لبيان شرعي بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثرات الاخرى التي تتكيف وفقا لها ميول العقلاء وتصرفاتهم، ولاجل هذا لا يقتصر الميل العام الذي تعبر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتدينين خاصة، لان الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل. وعلى هذا الاساس يتضح أن طريقة الاستدلال التي كنا نستخدمها في سيرة المتشرعة لا يمكننا استعمالها في السيرة العقلائية، فقد كنا في سيرة المتشرعة نكتشف عن طريق السيرة البيان الشرعي الذي أدى إلى قيامها بوصفها نتيجة للبيان الشرعي وناشئة عنه، إذ لم يكن من المحتمل أن يتفق المتشرعة جميعا على أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة مثلا دون أن يكون هناك بيان شرعي يدل على ذلك. وأما الميل العام الذي تمثله السيرة العقلائية فهو ليس ناشئا عن البيان الشرعي ولا ناتجا عن دوافع دينية ليتاح لنا أن نكتشف عن طريقه وجود بيان شرعي أدى إلى تكونه وقيامه. ولاجل هذا يجب أن ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجا آخر يختلف عن نهجنا في الاستدلال بسيرة المتشرعة. ويمكننا تلخيص هذا المنهج فيما يلي: إن الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوك معين يعتبر قوة دافعة لهم نحو ممارسة ذلك السلوك، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع عن الانسياق معه كشف سكوتها هذا عن رضاها بذلك السلوك وانسجامه مع التشريع الاسلامي. ومثال ذلك: سكوت الشريعة عن الميل العام عند


[ 170 ]
العقلاء نحو الاخذ بظهور كلام المتكلم وعدم ردعها عنه، فإن ذلك يدل على أنها تقر هذه الطريقة في فهم الكلام وتوافق على اعتبار الظهور حجة وقاعدة لتفسير ألفاظ الكتاب والسنة، والا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العام وردعت عنه في نطاقها الشرعي. والاستدلال بالسيرة العقلائية يقوم على أساس تجميع القرائن كما رأينا سابقا في سيرة المتشرعة أيضا لاننا إذا حللنا السيرة العقلائية إلى مفرداتها وجدنا أن الميل العام عند العقلاء نحو سلوك معين كالاخذ بالظهور مثلا يعبر عن ميول متشابهة عند عدد كثير من الافراد تشكل بمجموعها ميلا عاما، وحين نأخذ فردا من أولئك الافراد الذين يميلون إلى الاخذ بالظهور مثلا ونلاحظ ؟ سكوت المولى عنه وعدم ردعه له عن الجري وفق ميله، يمكننا أن نعتبر سكوت المولى هذه قرينة ناقصة على حجية الظهور عند المولى، لان من المحتمل أن يكون هذا السكوت نتيجة لرضا المولى وموافقته، وهذا يعني الحجية. ومن المحتمل في نفس الوقت أيضا أن لا يكون السكوت ناتجا عن رضا المولى بالاخذ بالظهور وإنما سكت عن ذلك الفرد بالرغم من أنه لا يقر العمل بالظهور بالادلة الشرعية لسبب خاص نظير أن يكون المولى قد اطلع على أن هذا الفرد لا يرتدع عن العمل على وفق ميله ولو ردعه فتركه وشأنه، أو أن المولى قد اطلع على أن هذا الفرد سوف لن يجري على وفق ميله ولن يأخذ بالظهور في الدليل الشرعي دون سؤال من الشارع، أو أن هذا الفرد لن يصادفه ظهور في النطاق الشرعي ليحاول الاخذ به وفقا لميله.. إلى غير ذلك من الامور التي يمكن أن تفسر سكوت المولى عن ذلك الفرد وتجعل منه قرينة ناقصة لا كاملة على رضا المولى، ولكن إذا أضيف إلى ذلك فرد آخر له نفس الميل وسكت عنه المولى فيقوى احتمال الرضا لاجتماع قرينتين، وهكذا يكبر هذا الاحتمال حتى يؤدي إلى العلم حين يوجد ميل عام ويسكت عنه المولى


[ 171 ]
4 - التعارض بين الادلة بعد أن استعرضنا الادلة التي يمكن أن تساهم في عملية الاستنباط بأقسامها الثلاثة يتحتم علينا أن ندرس موقف عملية الاستنباط منها إذا وجد بينها تعارض، كما إذا دل دليل على وجوب شئ مثلا ودل دليل آخر على نفي ذلك الوجوب، فما هي الوظيفة العامة للفقيه في هذه الحالة ؟. والتعارض على قسمين: لانه يوجد تارة في نطاق الدليل اللفظي بين كلامين صادرين من المعصوم، وأخرى بين دليل لفظي ودليل من نوع آخر استقرائي أو برهاني أو بين دليلين من غير الادلة اللفظية. وسوف نتحدث عن كل من القسمين في فصل: الفصل الاول في حالة التعارض بين دليلين لفظيين توجد قواعد نستعرض فيما يلي عددا منها: 1 - من المستحيل أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كل منهما بصورة قطعية عن نوع من الحكم يختلف عن الحكم الذي يكشف عنه الكلام الآخر، لان التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل يؤدي إلى وقوع المعصوم في التناقض، وهو مستحيل. 2 - قد يكون أحد الكلامين الصادرين من المعصوم صريحا وقطعيا، ويدل الآخر بظهوره على ما ينافي المعنى الصريح لذلك الكلام. ومثاله: أن يقول النبي (صلى الله عليه وآله) في نص مثلا: " يجوز للصائم أن يرتمس في الماء حال صومه " ويقول في نص آخر: " لا ترتمس في الماء وأنت صائم "، فالنص


[ 172 ]
الاول دال بصراحة على إباحة الارتماس للصائم، والنص الثاني يشتمل على صيغة نهي، وهي تدل بظهورها على الحرمة، لان الحرمة هي أقرب المعاني إلى صيغة النهي وإن أمكن استعمالها في الكراهة مجازا، فينشأ التعارض بين صراحة النص الاول في الاباحة وظهور النص الثاني في الحرمة، لان الاباحة والحرمة لا يجتمعان. وفي هذه الحالة يجب الاخذ بالكلام الصريح القطعي، لانه يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، فنفسر الكلام الآخر على ضوئه ونحمل صيغة النهي فيه على الكراهة لكي ينسجم مع النص الصريح القطعي الدال على الاباحة، وعلى هذا الاساس يتبع الفقيه في استنباطه قاعدة عامة، وهي الاخذ بدليل الاباحة والرخصة إذا عارضه دليل آخر يدل على الحرمة أو الوجوب بصيغة نهي أو أمر، لان الصيغة ليست صريحة ودليل الاباحة والرخصة صريح غالبا. 3 - قد يكون موضوع الحكم الذي يدل عليه أحد الكلامين أضيق نطاقا وأخص دائرة من موضوع الحكم الذي يدل عليه الكلام الآخر. ومثال أن يقال في نص: " الربا حرام " ويقال في نص آخر: " الربا بين الوالد وولده مباح " فالحرمة التي يدل عليها النص الاول موضوعها عام، لانها تمنع بإطلاقها عن التعامل الربوي مع أي شخص، والاباحة في النص الثاني موضوعها خاص، لانها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصة، وفي هذه الحالة نقدم النص الثاني على الاول، لانه يعتبر بوصفه أخص موضوعا من الاول قرينة عليه، بدليل أن المتكلم لو أوصل كلامه الثاني بكلامه الاول فقال: " الربا في التعامل مع أي شخص حرام، ولا بأس به بين الوالد وولده " لابطل الخاص مفعول العام وظهوره في العموم. وقد عرفنا أن القرينة تقدم على ذي القرينة، سواء كانت متصلة أو منفصلة.


[ 173 ]
ويسمى تقديم الخاص على العام تخصيصا للعام إذا كان عمومه ثابتا بأداة من أدوات العموم، وتقييدا له إذا كان عمومه ثابتا بالاطلاق وعدم ذكر القيد. ويسمى الخاص في الحالة الاولى " مخصصا " وفي الحالة الثانية " مقيدا ". وعلى هذا الاساس يتبع الفقيه في الاستنباط قاعدة عامة، وهي الاخذ بالمخصص والمقيد وتقديمهما على العام والمطلق. 4 - وقد يكون أحد الكلامين دالا على ثبوت حكم لموضوع، والكلام الآخر ينفي ذلك في حالة معينة بنفي ذلك الموضوع. ومثاله أن يقال في نص " يجب الحج على المستطيع " ويقال في نص آخر: " المدين ليس مستطيعا "، فالنص الاول يوجب الحج على موضوع محدد وهو المستطيع، والنص الثاني ينفي صفة المستطيع عن المدين، فيؤخذ بالثاني ويسمى " حاكما " ويسمى الدليل الاول " محكوما ". 5 - إذا لم يوجد في النصين المتعارضين كلام صريح قطعي، ولا ما يصلح أن يكون قرينة على تفسير الآخر ومخصصا له أو مقيدا أو حاكما عليه، فلا يجوز العمل بأي واحد من النصين المتعارضين، لانهما على مستوى واحد ولا ترجيح لاحدهما على الآخر. الفصل الثاني في التعارض بين الدليل اللفظي ودليل آخر وحالة التعارض بين دليل لفظي ودليل من نوع آخر أو دليلين من غير الادلة اللفظية، لها قواعد أيضا نشير إليها ضمن النقاط التالية: 1 - الدليل اللفظي القطعي لا يمكن أن يعارضه دليل برهاني أو استقرائي قطعي، لان دليلا من هذا القبيل إذا عارض نصا صريحا من المعصوم


[ 174 ]
عليه السلام أدى ذلك إلى تكذيب المعصوم " عليه السلام " وتخطئته، وهو مستحيل. ولهذا يقول علماء الشريعة: إن من المستحيل أن يوجد أي تعارض بين النصوص الشرعية الصريحة وأدلة العقل القطعية. وهذه الحقيقة لا تفرضها العقيدة فحسب، بل يبرهن عليها الاستقراء في النصوص الشرعية ودراسة المعطيات القطعية للكتاب والسنة، فإنها جميعا تتفق مع العقل ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أحكام العقل القطعية إطلاقا. وبذلك تتميز الشريعة الاسلامية عن الاديان الاخرى المحرفة التي تعيش الآن على وجه الارض، فإنها زاخرة بالتناقضات التي تعارض مع صريح العقل السليم. ولهذا نشأت في المسيحية مثلا مشكلة الدين والعقل، وأن الانسان كيف يتاح له الاعتقاد بهما معا على تناقضهما، بينما يقوم العقل في الاسلام بدور الرسول الباطني، وتحتم الشريعة أن يقوم الاعتقاد بأصولها على أساس العقل وترفض أخذها على سبيل التقليد. 2 - إذا وجد تعارض بين دليل لفظي ودليل آخر ليس لفظيا ولا قعطيا قدمنا الدليل اللفظي لانه حجة، وأما الدليل غير فهو ليس حجة ما دام لا يؤدي إلى القطع. ومثاله أن يدل النص على أن الجاهل بأحكام الزكاة ليس معذورا، ويدل الاستقراء غير القطعي الذي نقلناه سابقا عن الفقيه البحراني على القاعدة العامة القائلة بمعذورية الجاهل في جميع الحالات. 3 - إذا عارض الدليل اللفظي غير الصريح دليلا عقليا قطعيا برهانيا أو استقرائيا قدم العقلي على اللفظي، لان العقلي يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، وأما الدليل اللفظي غير الصريح فهو إنما يدل بالظهور، والظهور إنما يكون حجة بحكم الشارع إذا لم نعلم ببطلانه، ونحن هنا على ضوء الدليل العقلي القطعي نعلم بأن الدليل اللفظي لم يرد المعصوم (عليه السلام) منه معناه الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل، فلا مجال للاخذ بالظهور.


[ 175 ]
4 - إذا تعارض دليلان من غير الادلة اللفظية فمن المستحيل أن يكون كلاهما قطعيا، لان ذلك يؤدي إلى التناقض، وإنما قد يكون أحدهما قعطيا دون الآخر، فيؤخذ بالدليل القطعي.


[ 176 ]
النوع الثاني العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الاصل العملي تمهيد: استعراضنا في النوع الاول العناصر الاصولية المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل، فدرسنا أقسام الادلة وخصائصها وميزنا بين الحجة منها وغيرها. ونريد الآن أن ندرس العناصر المشتركة في حالة أخرى من الاستنباط، وهي حالة عدم حصول الفقيه على دليل يدل على الحكم الشرعي وبقاء الحكم مجهولا لديه، فيتجه البحث في هذه الحالة إلى محاولة تحديد الموقف العلمي تجاه ذلك الحكم المجهول بدلا عن اكتشاف نفس الحكم. ومثال ذلك: حالة الفقيه تجاه التدخين، فإن التدخين نحتمل حرمته شرعا منذ البدء، ونتجه أولا إلى محاولة الحصول على دليل يعين حكمه الشرعي، فلا نجد دليلا من هذا القبيل ويبقى حكم التدخين مجهولا لدينا لا ندري أحرمة هو أم إباحة ؟ وحينئذ نتسأل ما هو الموقف العملي الذي يتحتم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول، هل يتحتم علينا أن نحتاط فنجتنب عن التدخين، لان من المحتمل أن يكون التدخين حراما ؟ أو لا يجب الاحتياط بل نكون في حرية وسعة ما دمنا لا نعلم بالحرمة ؟. هذا هو السؤال الاساسي الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة، ويجيب


[ 177 ]
عليه في ضوء الاصول العملية بوصفها عناصر مشتركة في عملية الاستنباط. وهذه الاصول هي موضع درسنا الآن: 1 - القاعدة العملية الاساسية ولكي نعرف القاعدة العملية الاساسية التي نجيب في ضوئها على سؤال " هل يجب الاحتياط تجاه الحكم المجهول ؟ " لا بد لنا أن نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع، ونلاحظ أن هذا المصدر هل يفرض علينا الاحتياط في حالة الشك وعدم وجود دليل على الحرمة، أو يسمح لنا بترك الاحتياط واستعمال الدخان مثلا ما دامت حرمته لم تثبت بدليل ؟. ولكي نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى سبحانه لا بد لنا أن نحدده، فما هو المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع، ويجب أن نستفتيه في موقفنا هذا ؟ والجواب أن هذا المصدر هو العقل، لان الانسان يدرك بعقله أن لله سبحانه حق الطاعة على عبيده، وعلى أساس حق الطاعة هذا يحكم العقل على الانسان بوجوب إطاعة الشارع لكي يؤدي إليه حقه فنحن إذن نطيع الله تعالى ونمتثل أحكام الشريعة، لان العقل يفرض علينا ذلك لا لان الشارع أمرنا بإطاعته، وإلا لاعدنا السؤال مرة أخرى ولماذا نمتثل أمر الشارع لنا بإطاعة أوامره ؟ وما هو المصدر الذي يفرض علينا امتثاله ؟ وهكذا حتى نصل إلى حكم العقل بوجوب الاطاعة القائم على أساس ما يدركه من حق الطاعة لله سبحانه على الانسان. وإذا كان العقل هو الذي يفرض إطاعة الشارع على أساس إدراكه لحق الطاعة فيجب الرجوع إلى العقل في تحديد الجواب على ذلك السؤال الاساسي " هل يجب علينا الاحتياط تجاه الحكم المجهول أولا ؟ "، ويتحتم علينا عندئذ أن ندرس حق الطاعة الذي يدركه العقل ويقيم على أساسه حكمه بوجوب


[ 178 ]
إطاعة الشارع وندرس حدود هذا الحق فهل هو حق لله سبحانه في نطاق التكاليف المعلومة فقط بمعنى أن الله سبحانه ليس له حق الطاعة على الانسان إلا في التكاليف التي يعلم بها وأما التكاليف التي يشك فيها ولا علم له بها فلا يمتد إليها حق الطاعة أو إن حق الطاعة كما يدركه العقل في نطاق التكاليف المعلومة يدركه أيضا في نطاق التكاليف المحتملة بمعنى أن من حق الله على الانسان أن يطيعه في التكاليف المعلومة والمحتملة، فإذا علم بتكليف كان من حق الله عليه أن يمتثله وإذا احتمل تكليفا كان من حق الله عليه أن يحتاط فيترك ما يحتمل حرمته أو يفعل ما يحتمل وجوبه. وهكذا يتضح أن الموقف العملي في حالة عدم وجدان الدليل يجب أن يحدد على ضوء ما نعرفه من حق الطاعة وحدوده ومدى شموله. والصحيح في رأينا هو أن الاصل في كل تكليف محتمل هو الاحتياط نتيجة لشمول حق الطاعة للتكاليف المحتملة، فإن العقل يدرك أن للمولى على الانسان حق الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب بل في التكاليف المحتملة أيضا، ما لم يثبت بدليل أن المولى لا يهتم بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تدعوا إلى إلزام المكلف بالاحتياط. وهذا يعني أن الاصل بصورة مبدئية كلما احتملنا حرمة أو وجوبا هو أن نحتاط، فنترك ما نحتمل حرمته ونفعل ما نحتمل وجوبه نيتجة لامتداد حق الطاعة إلى التكاليف المحتملة. ولا نخرج عن هذا الاصل إلا إذا ثبت بالدليل أن الشارع لا يهتم بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تفرض الاحتياط ويرضى بترك الاحتياط، فإن الانسان يصبح حينئذ غير مسؤول عن التكليف المحتمل. فالاحتياط إذا واجب عقلا في موارد الشك، ويسمى هذا الوجوب أصالة الاحتياط أو أصالة الاشتغال أي اشتغال ذمة الانسان بالتكليف


[ 179 ]
المحتمل ونخرج عن هذا الاصل حين نعرف أن الشارع يرضى بترك الاحتياط. وهكذا تكون أصالة الاحتياط هي القاعدة العملية الاساسية. ويخالف في ذلك كثير من الاصوليين إيمانا منهم بأن الاصل في المكلف أن لا يكون مسؤولا عن التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهميتها بدرجة كبيرة، ويرى هؤلاء الاعلام أن العقل هو الذي يحكم بنفي المسؤولية، لانه يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة المكلف للتكليف الذي لم يصل إليه ولاجل هذا يطلقون على الاصل من وجهة نظرهم اسم " قاعدة قبح العقاب بلا بيان " أو " البراءة العقلية "، أي إن العقل يحكم بأن عقاب المولى للمكلف على مخالفة التكليف المشكوك قبيح، ومنا دام المكلف مأمونا من العقاب فهو غير مسؤول ولا يجب عليه الاحتياط. ولكن لكي ندرك أن العقل هل يحكم بقبح معاقبة المولى تعالى للمكلف على مخالفة التكليف المشكوك أو لا ؟ يجب أن نعرف حدود حق الطاعة الثابت للمولى تعالى، فإذا كان هذا الحق يشمل التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلف أهميتها بدرجة كبيرة كما عرفنا فلا يكون عقاب المولى للمكلف إذا خالفها قبيحا، لانه بمخالفتها يفرط في حق مولاه فيستحق العقاب فالقاعدة الاولية إذن هي أصالة الاحتياط. 3 - القاعدة العملية الثانوية وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الاساسية إلى قاعدة عملية ثانوية، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط. والسبب في هذا الانقلاب أنا علمنا عن طريق البيان الشرعي أن الشارع لا يهتم بالتكاليف المحتملة إلى الدرجة التي تحتم الاحتياط على المكلف، بل يرضى


[ 180 ]
بترك الاحتياط. والدليل على ذلك نصوص شرعية متعددة، من أهمها النص النبوي القائل: " رفع عن أمتي ما لا يعلمون ". وهكذا أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلا عن وجوبه، وأصالة البراءة بدلا عن أصالة الاشتغال. وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشك في الوجوب وموارد الشك في الحرمة على السواء، لان النص النبوي مطلق، ويسمى الشك في الوجب ب‍ " الشبهة الوجوبية " والشك في الحرمة ب‍ " الشبهة التحريمية " كما تشمل القاعدة أيضا الشك مهما كان سببه. ولاجل هذا نتمسك بالبراءة إذا شككنا في التكليف، سواء نشأ شكنا في ذلك في عدم وضوح الحكم العام الذي جعله الشارع، أو من عدم العلم بوجود موضوع الحكم. ومثال الاول: شكنا في وجوب صلاة العيد أو في حرمة التدخين، فإن هذا الشك ناتج عن عدم العلم بالجعل الشرعي، ويسمى بالشبهة الحكمية. ومثال الثاني: شكنا في وجوب الحج لعدم العلم بتوفر الاستطاعة، فإن هذا الشك لم ينشأ من عدم العلم بالجعل الشرعي، لاننا جميعا نعلم أن الشارع جعل وجوب الحج على المستطيع، وإنما نشأ من عدم العلم بتحقق موضوع الحكم وتسمى الشبهة " موضوعية ". 4 - قاعدة منجزية العلم الاجمالي تمهيد: قد تعلم أن أخاك الاكبر قد سافر إلى مكة، وقد تشك في سفره لكنك تعلم على أي حال أن أحد أخويك " الاكبر أو الاصغر " قد سافر فعلا إلى مكة، وقد تشك في سفرهما معا ولا تدري هل سافر واحد منهما إلى مكة أو لا ؟.


[ 181 ]
فهذه حالات ثلاث، ويطلق على الحالة الاولى اسم " العلم التفصيلي " لانك في الحالة الاولى تعلم أن أخاك الاكبر قد سافر إلى مكة، وليس لديك في هذه الحقيقة أي تردد أو غموض، فلهذا كان العلم تفصيليا. ويطلق على الحالة الثانية اسم " العلم الاجمالي "، لانك في هذه الحالة تجد في نفسك عنصرين مزدوجين: أحدهما عنصر الوضوح، والآخر عنصر الخفاء، فعنصر الوضوح يتمثل في علمك بأن أحد أخويك قد سافر فعلا، فأنت لا تشك في هذه الحقيقة، وعنصر الخفاء والغموض يتمثل في شكك وترددك في تعيين هذا الاخ، لانك لا تدري أن المسافر هل هو أخوك الاكبر أو الاصغر، ولهذا تسمى هذه الحالة ب‍ " العلم الاجمالي "، فهي علم لانك لا تشك في سفر أحد أخويك، وهي إجمال وشك لانك لا تدري أي أخويك قد سافر. ويسمى كل من سفر الاخ الاكبر وسفر الاصغر طرفا للعلم الاجمالي، لانك تعلم أن أحدهما لا على سبيل التعيين قد وقع بالفعل. وأفضل صيغة لغوية تمثل هيكل العلم الاجمالي ومحتواه النفسي بكلا عنصريه هي " إما وإما " إذ تقول في المثال المتقدم: " سافر إما أخي الاكبر وإما أخي الاصغر " فإن جانب الاثبات في هذه الصيغة يمثل عنصر الوضوح والعلم، وجانب التردد الذي تصوره كلمة " إما " يمثل عنصر الخفاء والشك وكلما أمكن استخدام صيغة من هذا القبيل دل ذلك على وجود علم إجمالي في نفوسنا. ويطلق على الحالة الثالثة اسم " الشك الابتدائي " أو " البدوي " أو " الساذج "، وهو شك محض غير ممتزج بأي لون من العلم، ويسمى بالشك الابتدائي أو البدوي تمييزا له عن الشك في طرف العلم الاجمالي، لان الشك في طرف العلم الاجمالي يوجد نتيجة للعلم نفسه، فأنت تشك في أن المسافر هل هو أخوك الاكبر أو أخوك الاصغر نتيجة لعلمك بأن أحدهما


[ 182 ]
لا على التعيين قد سافر حتما، وأما الشك في الحالة الثالثة فيوجد بصورة ابتدائية دون علم مسبق. وهذا الحالات الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي، فوجوب صلاة الصبح معلوما تفصيلا، ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك شكا ناتجا عن العلم الاجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة في ذلك اليوم، ووجوب صلاة العيد مشكوك ابتدائي غير مقترن بالعلم الاجمالي. وهذه الامثلة كلها من الشبهة الحكمية، وأما أمثلة الحالات الثلاث من الشبهة الموضوعية فيمكن توضيحها في " الماء "، فأنت إذا رأيت قطرة من دم تقع في كأس من ماء تعلم علما تفصيليا بنجاسة ذلك الماء، وأما إذا رأيت القطرة تقع في أحد كأسين ولم تستطع أن تميز الكأس الذي وقعت فيه بالضبط فينشأ لديك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين ويصبح كل واحد منهما طرفا للعلم الاجمالي، وقد لا تكون متأكدا من أن هناك قطرة دم لا في هذا الكأس ولا في ذاك، فيكون الشك في النجاسة عندئذ شكا ابتدائيا ساذجا. ونحن في حديثنا عن القاعدة العملية الثانوية التي قبلت القاعدة العملية الاساسية كنا نتحدث عن الحالة الثالثة، أي حالة الشك الساذج الذي لم يقترن بالعلم الاجمالي. والآن ندرس حالة الشك الناتج عن العلم الاجمالي، أي الشك في الحالة الثانية من الحالات الثلاث السابقة، وهذا يعني أننا درسنا الشك بصورته الساذجة وندرسه الآن بعد أن نضيف إليه عنصرا جديدا وهو العلم الاجمالي، فهل تجري فيه القاعدة العملية الثانوية كما كانت تجري في موارد الشك الساذج أو لا ؟. منجزية العلم الاجمالي: وعلى ضوء ما سبق يمكننا تحليل العلم الاجمالي إلى علم بأحد الامرين وشك في هذا وشك في ذاك. ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الامرين


[ 183 ]
" صلاة الظهر أو صلاة الجمعة "، ونشك في وجوب الظهر كما نشك في وجوب الجمعة، والعلم بوجوب أحد الامرين بوصفه علما يشمله مبدأ حجية العلم الذي درسناه في بحث سابق، فلا يسمح لنا العقل لاجل ذلك بترك الامرين معا الظهر والجمعة، لاننا لو تركناهما معا لخالفنا علمنا بوجوب أحد الامرين، والعلم حجة عقلا في جميع الاحوال سواء كان إجماليا أو تفصيليا. ويؤمن الرأي الاصولي السائد في مورد العلم الاجمالي لا بثبوت الحجية للعلم بأحد الامرين فحسب بل يؤمن أيضا بعدم إمكان إنتزاع هذه الحجية منه واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته بترك الامرين معا، كما لا يمكن للشارع أن ينتزع الحجية من العلم التفصيلي ويرخص في مخالفته وفقا للمبدأ الاصولي المتقدم الذكر في بحث حجية القطع القائل باستحالة صدور الدرع من الشارع عن القطع. وأما كل واحد من طرفي العلم الاجمالي أي وجوب الظهر بمفرده ووجوب الجمعة بمفرده فهو تكليف مشكوك وليس معلوما. وقد يبدو لاول وهلة أن بالامكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية، أي أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة، لان كل واحد من الطرفين تكليف مشكوك. ولكن الرأي السائد في علم الاصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة العملية الثانوية لطرف العلم الاجمالي، بدليل أن شمولها لكلا الطرفين معا يؤدي إلى براءة الذمة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معا، وهذا يتعارض مع حجية العلم بوجوب أحد الامرين، لان حجية هذا العلم تفرض علينا أن تأتي بأحد الامرين على أقل تقدير. فلو حكم الشارع بالبراءة في كل من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص


[ 184 ]
منه في مخالفة العلم، وقد مر بنا أن الرأي الاصولي السائد يؤمن باستحالة ترخيص الشارع في مخالفة العلم ولو كان إجماليا وعدم إمكان انتزاع الحجية منه. وشمول القاعدة لاحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤد إلى الترخيص في ترك الامرين معا لكنه غير ممكن أيضا، لاننا نتسأل حينئذ أي الطرفين نفترض شول القاعدة له ونرجحه على الآخر، وسوف نجد أنا لا نملك مبررا لترجيح أي من الطرفين على الآخر، لان صلة القاعدة بهما واحدة. وهكذا ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية " أصالة البراءة " لاي واحد من الطرفين، ويعني هذا أن كل طرف من أطراف العلم الاجمالي يظل مندرجا ضمن نطاق القاعدة العملية الاساسية القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزة عن شموله. وعلى هذا الاساس ندرك الفرق بين الشك الابتدائي والشك الناتج عن العلم الاجمالي، فالاول يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة والثاني يدخل في نطاق القاعدة الاولية وهي أصالة الاحتياط. وفي ضوء ذلك نعرف أن الواجب علينا عقلا في موارد العلم الاجمالي هو الاتيان بكلا الطرفين أي الظهر والجمعة في المثال السابق، لان كلا منهما داخل في نطاق أصالة الاحتياط. ويطلق في علم الاصول على الاتيان بالطرفين معا " الموافقة القطعية "، لان المكلف عند إتيانه بهما معا يقطع بأنه وافق تكليف المولى، كما يطلق على ترك الطرفين معا اسم " المخالفة القطعية ". وأما الاتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق عليهما اسم " الموافقة الاحتمالية " و " المخالفة الاحتمالية " لان المكلف في هذه الحالة يحتمل أنه وافق تكليف المولى ويحتمل أنه خالفه.


[ 185 ]
انحلال العلم الاجمالي: إذا وجدت كأسين من ماء قد يكون كلاهما نجسا وقد يكون أحدهما نجسا فقط ولكنك تعلم على أي حال بأنهما ليسا طاهرين معا، فينشأ في نفسك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين. فإذا اتفق لك بعد ذلك أن اكتشفت نجاسة في أحد الكأسين وعلمت أن هذا الكأس المعين نجس، فسوف يزول في رأي كثير من الاصوليين علمك الاجمالي بسبب هذا العلم التفصيلي، لانك الآن بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس المعين لا تعلم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين، بل تعلم بنجاسة ذلك الكأس المعين علما تفصيليا وتشك في نجاسة الآخر. ولاجل هذا لا تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبر عن العلم الاجمالي " إما وإما "، فلا يمكنك أن تقول: " إما هذا نجس أو ذاك "، بل هذا نجس جزما وداك لا تدري بنجاسته. ويعبر عن ذلك في العرف الاصولي ب‍ " انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشك البدوي في الآخر " لان نجاسة ذلك الكأس المعين أصبحت معلومة بالتفصيل ونجاسة الآخر أصبحت مشكوكة شكا ابتدائيا بعد أن زال العلم الاجمالي، فيأخذ العلم التفصيلي مفعوله من الحجية وتجري بالنسبة إلى الشك الابتدائي أصالة البراءة، أي القاعدة العملية الثانوية التي تجري في جميع موارد الشك الابتدائي. موارد التردد: عرفنا أن الشك إذا كان ابتدائيا حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية القائلة بأصالة البراءة، وإذا كان مقترنا بالعلم الاجمالي حكمت فيه القاعدة العملية الاولية.


[ 186 ]
وقد يخفى أحيانا نوع الشك فلا يعلم أهو من الشك الابتدائي أو من الشك المقترن بالعلم الاجمالي أو الناتج عنه بتعبير آخر ؟ ومن هذا القبيل مسألة دوران الامر بين الاقل والاكثر كما يسميها الاصوليون، وهي أن يتعلق وجوب شرعي بعملية مركبة من أجزاء كالصلاة ونعلم باشتمال العملية على تسعة أجزاء معينة ونشك في اشتمالها على جزء عاشر ولا يوجد دليل يثبت أو ينفي، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدد الموقف العملي فيتسأل هل يجب الاحتياط على المكلف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها هذا العاشر الذي يحتمل دخوله في نطاق الواجب لكي كون مؤديا للواجب على كل تقدير ؟ أو يكفيه الاتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر المجهول وجوبه ؟. وللاصوليين جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثل كل منهما اتجاها في تفسير الموقف، فأحد الاتجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقا للقاعدة العملية الاولية، لان الشك في العاشر مقترن بالعلم الاجمالي، وهذا العلم الاجمالي هو علم المكلف بأن الشارع أوجب مركبا ما ولا يدري أهو المركب من تسعة أو المركب من عشرة أي من تلك التسعة بإضافة واحد ؟. والاتجاه الآخر يطبق على الشك في وجوب العاشر القاعدة العملية الثانوية بوصفه شكا ابتدائيا غير مقترن بالعلم الاجمالي، لان ذلك العلم الاجمالي الذي يزعمه أصحاب الاتجاه الاول منحل بعلم تفصيلي، وهو علم المكلف بوجوب التسعة على أي حال، لانها واجبة سواء كان معها جزء عاشر أولا، فهذا العلم التفصيلي يؤدي إلى انحلال ذلك العلم الاجمالي، ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التي تعبر عن العلم الاجمالي، فلا يمكن القول بأنا نعلم إما بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة، بل نحن نعلم بوجوب التسعة على أي حال ونشك في وجوب العاشر. وهكذا يصبح


[ 187 ]
الشك في وجوب العاشر شكا ابتدائيا بعد انحلال العلم الاجمالي فتجري البراءة. والصحيح هو القول بالبراءة من غير الاجزاء المعلومة من الاشياء التي يشك في دخولها ضمن نطاق الواجب تبعا لتفصيلات لا مجال للتوسع فيها. 4 - الاستصحاب على ضوء ما سبق نعرف أن أصل البراءة يجري في موارد الشبهة البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي. ويوجد في الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة، وهو ما يطلق عليه الاصوليون اسم " الاستصحاب ". ومعنى الاستصحاب حكم الشارع على المكلف بالالتزام علميا بكل شئ كان على يقين منه ثم شك في بقائه. ومثاله: أنا على يقين من أن الماء بطبيعته طاهر، فإذا أصابه شئ متنجس نشك في بقاء طهارته، لاننا لا نعلم أن الماء هل تنجس بإصابة المتنجس له أو لا ؟ وكذلك نحن على يقين مثلا بالطهارة بعد الوضوء ونشك في بقاء هذه الطهارة إذا حصل الاغماء، لاننا لا نعلم أن الاغماء هل ينقض الطهارة أو لا ؟ والاستصحاب يحكم على المكلف بالالتزام عمليا بنفس الحالة السابقة التي كان على يقين بها، وهي طهارة الماء في المثال الاول والطهارة من الحدث في المثال الثاني. ومعنى الالتزام عمليا بالحالة السابقة ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية، فإذا كانت الحالة السابقة هي الطهارة نتصرف فعلا كما إذا كانت الطهارة باقية، وإذا كانت الحالة السابقة هي الوجوب نتصرف فعلا كما إذا كان الوجوب باقيا. والدليل على الاستصحاب هو قول الامام الصادق عليه السلام


[ 188 ]
" لا ينقض اليقين أبدا بالشك ". ونستخلص من ذكل أن كل حالة من الشك البدوي يتوفر فيها القطع بشئ أولا والشك في بقائه ثانيا يجري فيها الاستصحاب. الحالة السابقة المتيقنة: عرفنا أن وجود حالة سابقة متيقنة شرط أساسي لجريان الاستصحاب، والحالة السابقة قد تكون حكما عاما نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم التشريعي ولا ندري حدود هذا الحكم المفروضة له في جعله ومدى امتداده في عالمه التشريعي، فتكون الشبهة حكمية، ويجري الاستصحاب في نفس الحكم. ومثاله: حكم الشارع بطهارة الماء فنحن نعلم بهذا الحكم العام في الشريعة ونشك في حدوده ولا ندري هل يمتد الحكم بالطهارة بعد إصابة المتنجس للماء ايضا أو لا ؟ فنستصحب طهارة الماء. وقد تكون الحالة السابقة شيئا من أشياء العالم التكويني، نعلم بوجوده سابقا ولا ندري باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعي، فتكون الشبهة موضوعية ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم. ومثاله: أن نكون على يقين بأن عامرا عادل وبالتالي يجوز الاتمام به، ثم نشك في بقاء عدالته فنستصحب العدالة فيه بوصفها موضوعا لجواز الائتمام. ومثال آخر: أن يكون المكلف على يقين بأن الثوب نجس ولم يغسل بالماء، ولا ندري هل غسل بالماء بعد ذلك وزالت نجاسته أو لا ؟ فنستصحب عدم غسله بالماء، وبالتالي نثبت بقاء النجاسة. وهكذا نعرف أن الحالة السابقة التي نستصحبها قد تنتسب إلى العالم التشريعي، وذلك إذا كنا على يقين بحكم عام ونشك في حدوده المفروضة له في جعله الشرعي وتعتبر الشبهة شبهة حكمية ويسمى الاستصحاب


[ 189 ]
ب‍ " الاستصحاب الحكمي "، وقد تنتسب الحالة السابقة التي نستصحبها إلى العالم التكويني، وذلك إذا كنا على يقين بوجود موضوع الحكم الشرعي ونشك في بقائه وتعتبر الشبهة شبهة موضوعية، ويمسى الاستصحاب ب‍ " الاستصحاب الموضوعي ". ويوجد في علم الاصول اتجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ويخصه بالشبهة الموضوعية. الشك في البقاء: والشك في البقاء هو الشرط الاساسي الآخر لجريان الاستصحاب. ويقسم الاصوليون الشك في البقاء إلى قسمين تبعا لطبيعة الحالة السابقة زمانيا وإنما نشك في بقائها نتيجة لاحتمال وجود عامل خارجي أدى إلى ارتفاعها. ومثال ذلك: طهارة الماء، فإن طهارة الماء تستمر بطبيعتها وتمتد إذا لم يتدخل عامل خارجي، وإنما نشك في بقائها لدخول عامل خارجي في الموقف، وهو إصابة المتنجس للماء. وكذلك نجاسة الثوب، فإن الثوب إذا تنجس تبقى نجاسته السابقة التي من هذا القبيل ب‍ " الشك في الراقع ". وقد تكون الحالة السابقة غير قادرة على الامتداد زمانيا، بل تنتهي بطبيعتها في وقت معين ونشك في بقائها نتيجة لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخل عامل خارجي في الموقف. ومثاله: نهار شهر رمضان الذي يجب فيه الصوم إذ شك الصائم في بقاء النهار، فإن النهار ينتهي بطبيعته ولا يمكن أن يمتد زمانيا فالشك في بقائه لا ينتج عن احتمال وجود عامل خارجي وإنما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته وقدرته على البقاء. ويمسى


[ 190 ]
الشك في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب‍ " الشك في المقتضي "، لان الشك في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء. ويوجد في علم الاصول اتجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشك في بقاء الحالة السابقة من نوع الشك في المقتضضي ويخصه بحالات الشك في الرافع. وحدة الموضوع في الاستصحاب: ويتفق الاصوليون على أن من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع، ويعنون بذلك أن يكون الشك منصبا على نفس الحالة التي كنا على يقين بها فلا يجري الاستصحاب. مثلا: إذا كنا على يقين بنجاسة الماء ثم صار بخارا وشككنا في نجاسة هذه البخار، لان ما كنا على يقين بنجاسته هو الماء وما نشك فعلا في نجاسته هو البخار والبخار غير الماء، فلم يكن مصب اليقين والشك واحدا. التعارض بين الاصول. ويواجهنا بعد دراسة الاصول العملية السؤال التالي: ماذا يصنع الفقيه إذا اختلف حكم الاستصحاب عن حكم أصل البراءة ؟ ومثاله: أنا نعلم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر رمضان حتى غروب الشمس ونشك في بقاء الوجوب بعد الغروب إلى غياب الحمرة، ففي هذه الحالة تتوفر أركان الاستصحاب من اليقين بالوجوب أولا والشك في بقائه ثانيا، وبحكم الاستصحاب يتعين الالتزام عمليا ببقاء الوجوب. ومن ناحية أخرى نلاحظ أن الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة، لانها شبهة بدوية في التكليف غير مقترنة بالعلم الاجمالي، وأصل البراءة ينفي وجوب الاحتياط ويرفع عنا الوجوب عمليا، فبأي الاصلين نأخذ ؟


[ 191 ]
والجواب أنا نأخذ بالاستصحاب ونقدمه على أصل البراءة، وهذا متفق عليه بين الاصوليين، والرأي السائد بينهم لتبرير ذلك أن دليل الاستصحاب حاكم على دليل أصل البراة، لان دليل أصل البراءة هو النص النبوي القائل " رفع ما لا يعلمون " وموضوعه كل ما لا يعمل، ودليل الاستصحاب هو النص القائل " لا ينقض اليقين أبدا بالشك "، وبالتدقيق في النصين نلاحظ أن دليل الاستصحاب يلغي الشك ويفترض كأن اليقين باق على حاله، فيرفع بذلك موضوع أصل البراءة. ففي مثال وجوب الصوم لا يمكن أن نستند إلى أصل البراءة عن وجوب الصوم بعد غروب الشمس بوصفه وجوبا مشكوكا، لان الاستصحاب يفترض هذا الوجوب معلوما، فيكون دليل الاستصحاب حاكما على دليل البراءة، لانه ينفي موضوع البراءة.


[ 192 ]
أحكام تعارض النوعين استعرضنا حتى الآن نوعين من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط: أحدهما العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل، والآخر العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الاصل العملي. وقد عرفنا أن العناصر من النوع الاول تشكل أدلة على تعيين الحكم الشرعي، والعناصر من النوع الثاني تشكل قواعد عملية لتعيين الموقف العملي تجاه الحكم المجهول. ووجود نوعين من العناصر على هذا الشكل يدعوا إلى البحث عن موقف الفقيه عند افتراض وقوع التعارض بينهما، كما إذا دل دليل على أن الحكم الشرعي هو الوجوب مثلا وكان أصل البراءة أو الاستصحاب يقتضي الرخصة. والحقيقة أن الدليل إذا كان قطعيا فالتعارض غير متصور عقلا بينه وبين الاصل، لان الدليل القطعي على الوجوب مثلا يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي، ومع العلم بالحكم الشرعي لا مجال للاستناد إلي أي قاعدة عملية لان القواعد العملية إنما تجري في ظرف الشك، إذ قد عرفنا سابقا أن أصل البراءة موضوعة كل ما لا يعلم والاستصحاب موضوعه أن نشك في بقاء ما كنا على يقين منه، فإذا كان الدليل قطعيا لم يبق موضوع لهذه الاصول والقواعد العملية. وإنما يمكن افتراض لون من التعارض بين الدليل والاصل إذا لم يكن الدليل قطعيا، كما إذا دل خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة وخبر الثقة كما مر بنا دليل ظني حكم الشارع بوجوب اتباعه واتخاذه دليلا وكان أصل البراءة من ناحية أخرى يوسع ويرخص. ومثاله: خبر الثقة


[ 193 ]
الدال على حرمة الارتماس على الصائم، فإن هذه الحرمة إذا لاحظناها من ناحية الخبر فهي حكم شرعي قد قام عليه الدليل الظني الحجة، وإذا لاحظناها بوصفها تكليفا غير معلوم نجد أن دليل البراءة رفع ما لا يعلمون يشملها فهل يحدد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظني أو على أساس الاصل العملي ؟. ويسمى الاصوليون الدليل الظني بالامارة، ويطلقون على هذه الحالة اسم التعارض بين الامارات والاصول. ولا شك في هذه الحالة لدى علماء الاصول في تقديم خبر الثقة وما إليه من الادلة الظنية المعتبرة على أصل البراءة ونحوه من الاصول العملية، لان الدليل الظني الذي حكم الشارع بحجيته يؤدي بحكم الشارع هذا دور الدليل القطعي، فكما أن الدليل القطعي ينفي موضوع الاصل ولا يبقي مجالا لاي قاعدة عملية، فكذلك الدليل الظني الذي أسند إليه الشارع نفس الدور وأمرنا باتخاذه دليلا، ولهذا يقال عادة: إن الامارة حاكمة على الاصول العملية. وكان أصل البراءة من ناحية أخرى يوسع ويرخص. ومثاله: خبر الثقة


[ 193 ]
الدال على حرمة الارتماس على الصائم، فإن هذه الحرمة إذا لاحظناها من ناحية الخبر فهي حكم شرعي قد قام عليه الدليل الظني الحجة، وإذا لاحظناها بوصفها تكليفا غير معلوم نجد أن دليل البراءة رفع ما لا يعلمون يشملها فهل يحدد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظني أو على أساس الاصل العملي ؟. ويسمى الاصوليون الدليل الظني بالامارة، ويطلقون على هذه الحالة اسم التعارض بين الامارات والاصول. ولا شك في هذه الحالة لدى علماء الاصول في تقديم خبر الثقة وما إليه من الادلة الظنية المعتبرة على أصل البراءة ونحوه من الاصول العملية، لان الدليل الظني الذي حكم الشارع بحجيته يؤدي بحكم الشارع هذا دور الدليل القطعي، فكما أن الدليل القطعي ينفي موضوع الاصل ولا يبقي مجالا لاي قاعدة عملية، فكذلك الدليل الظني الذي أسند إليه الشارع نفس الدور وأمرنا باتخاذه دليلا، ولهذا يقال عادة: إن الامارة حاكمة على الاصول العملية.


[ 194 ]
كلمة الختام هذا آخر ما أردنا استعراضه من بحوث ضمن الحدود التي وضعناها لهذه الحلقة. وبذلك تكتمل في ذهن الطالب تصورات علمية عامة عن العناصر المشتركة بالدرجة التي تؤهله لدراستها على مستوى أرفع في الحلقة الآتية. والحمد لله أولا وآخرا، ومنه نستمد التوفيق لما يحب ويرضى، إنه ولي الاحسان وهو على كل شئ قدير.

السابق

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله