مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول


[ 92 ]
الاصول يشق طريقه إلى الظهور، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه. ومثال ذلك نظرية الحسن والقبح العقليين، وهي النظرية الكلامية القائلة بأن العقل الانساني يدرك بصورة مستقلة عن النص الشرعي قبح بعض الافعال كالظلم والخيانة وحسن بعضها كالعدل والوفاء والامانة، فإن هذه النظرية استخدمت أصوليا في العصر الثاني لحجية الاجماع، أي إن العلماء إذا اتفقوا على رأي واحد فهو الصواب، بدليل أنه لو كان خطأ لكان من القبيح عقلا سكوت الامام المعصوم عنه وعدم إظهاره للحقيقة، فقبح سكوت الامام عن الخطأ هو الذي يضمن صواب الرأي المجمع عليه. 3 - الفلسفة، وهي لم تصبح مصدرا لالهام الفكر الاصولي في نطاق واسع إلا في العصر الثالث تقريبا، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلا عن علم الكلام وانتشار فلسفات كبيرة ومجددة كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفي (1050) ه‍، فإن ذلك أدى إلى إقبال الفكر الاصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي. ومن أمثلة ذلك ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعددة، كمسألة اجتماع الامر والنهي ومسألة تعلق الاوامر بالطبائع والافراد، الامر الذي لا يمكننا فعلا توضيحه. 4 - الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكر الاصولي، فإن الاصولي قد يعيش في ظرف معين فيستمد من طبيعة ظرفه بعض أفكاره، ومثاله أولئك العلماء الذين كانوا يعيشون في العصر الاول ويجدون الدليل الشرعي الواضح ميسرا لهم في جل ما يواجهونه من حاجات وقضايا، نتيجة لقرب عهدهم بالائمة عليهم السلام وقلة ما يحتاجون إليه من مسائل نسبيا، فقد ساعد ظرفهم ذلك وسهولة استحصال الدليل فيه على أن يتصوروا أن هذه الحالة



[ 93 ]
حالة مطابقة ثابتة في جميع العصور. وعلى هذا الاساس ادعوا أن من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلا واضحا ما دام الانسان مكلفا والشريعة باقية. 5 - عامل الزمن، وأعني بذلك أن الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلما اتسع وازداد تجددت مشاكل وكلف علم الاصول بدراستها، فعلم الاصول يمنى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوان من المشاكل، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها. ومثال ذلك أن الفكر العلمي ما دخل العصر الثاني حتى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة تجعل أكثر الاخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور، ولا يتيسر الاطلاع المباشر على صحتها كما كان ميسورا في كثير من الاحيان لفقهاء العصر الاول، فبرزت أهمية الخبر الظني ومشاكل حجيته، وفرضت هذه الاهمية واتساع الحاجة إلى الاخبار الظنية على الفكر العلمي أن يتوسع في بحث تلك المشاكل ويعوض عن قطعية الروايات بالفحص عن دليل شرع يدل على حجيتها وإن كانت ظنية، وكان الشيخ الطوسي رائد العصر الثاني هو أول من توسع في بحث حجية الخبر الظني وإثباتها. ولما دخل العلم في العصر الثالث أدى اتساع الفاصل الزمني إلى الشك حتى في مدارك حجية الخبر ودليلها الذي استند إليه الشيخ في مستهل العصر الثاني، فإن الشيخ استدل على حجية الخبر الظني بعمل أصحاب الائمة به، ومن الواضح أنا كلما ابتعدنا عن عصر أصحاب الائمة ومدارسهم يصبح الموقف أكثر غموضا والاطلاع على أحوالهم أكثر صعوبة. وهكذا بدأ الاصوليون في مستهل العصر الثالث يتساءلون هل يمكننا أن نظفر بدليل شرعي على حجية الخبر الظني أو لا ؟ وعلى هذا الاساس وجد في مستهل



[ 94 ]
العصر الثالث اتجاه جديد يدعي انسداد باب العلم، لان الاخبار ليست قطعية وانسداد باب الحجة لانه لا دليل شرعي على حجية الاخبار الظنية، ويدعو إلى إقامة علم الاصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد، كما يدعو إلى جعل الظن بالحكم الشرعي أي ظن اساسا للعمل، دون فرق بين الظن الحاصل من الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلا شرعيا خاصا على حجصة الخبر يميزه عن سائر الظنون. وقد أخذ بهذا الاتجاه عدد كبير من رواد العصر الثالث ورجالات المدرسة التي افتتحت هذه العصر كالاستاذ البهبهاني وتلميذه المحقق القمي وتلميذه صاحب الرياض وغيرهما، وبقي هذا الاتجاه قيد الدرس والبحث العلمي حتى يومنا هذا. وبالرغم من أن لهذا الاتجاه الانسدادي بوادره في أواخر العصر الثاني فقد صرح المحقق الشيخ محمد باقر بن صاحب الحاشية على المعالم بأن الالتزام بهذا الاتجاه لم يعرف عن أحد قبل الاستاذ الوحيد البهبهاني وتلامذته، كما أكد أبوه المحقق الشيخ محمد تقي في حاشيته على المعالم أن الاسئلة التي يطرحها هذه الاتجاه حديثة ولم تدخل في الفكر العلمي قبل عصره. وهكذا نتبين كيف تظهر بين فترة وفترة اتجاهات جديدة، وتتضخم أهميتها العلمية بحكم المشاكل التي يفرضها عامل الزمن. 6 - عنصر الابداع الذاتي، فإن كل علم حين ينمو ويشتد يمتلك بالتدريج قدرة على الخلق والتوليد الذاتي نتيجة لمواهب النوابغ في ذلك العلم والتفاعل بين أفكاره. ومثال ذلك في علم الاصول بحوث الاصول العملية وبحوث الملازمات والعلاقات بين الاحكام الشرعية، فإن أكثر هذه البحوث نتائج أصولي خالص. ونقصد ببحوث الاصول العملية تلك البحوث التي تدرس نوعية القواعد الاصولية والعناصر المشتركة التي يجب على الفقيه



[ 95 ]
الرجوع إليها لتحديد موقفه العملي إذا لم يجد دليلا على الحكم وظل الحكم الشرعي مجهولا لديه. ونقصد ببحوث الملازمات والعلاقات بين الاحكام ما يقوم به علم الاصول من دراسة الروابط المختلفة بين الاحكام، من قبيل مسألة أن النهي عن المعاملة هل يقتضي فسادها أو لا ؟ إذ تدرس في هذه المسألة العلاقة بين حرمة البيع وفساده وهل يفقد أثره في نقل الملكية من البائع إلى المشتري إذا أصبح حراما أو يظل صحيحا ومؤثرا في نقل الملكية بالرغم من حرمته ؟ أي إن العلاقة بين الحرمة والصحة هل هي علاقة تضاد أو لا ؟ عطاء الفكر الاصولي وابداعه: وبودي أن أشير بهذا الصدد إلى حقيقة يجب أن يعلمها الطالب ولو بصورة مجملة، حيث لا يمكن توضيحها والتوسع فيها على مستوى هذه الحلقة. وهذه الحقيقة هي أن علم الاصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله الاصيل أي مجال تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بل كان له إبداع كبير في عدد من أهم مشاكل الفكر البشري، وذلك إن علم الاصول بلغ في العصر العلمي الثالث وفي المرحلة الاخيرة من هذا العصر بصورة خاصة قمة الدقة والعمق، ووعى بفهم وذكاء مشاكل الفلسفة وطرائقها في التفكير والاستدلال وبحثها متحررا من التقاليد الفلسفية التي تقيد بها البحث الفلسفي منذ ثلاثة قرون، إذ كان يسير في خط مرسوم ولا يجسر على التفكير في الخروج عن القواعد العامة للتفكير الفلسفي، ويستشعر الهيبة للفلاسفة الكبار وللمسلمات الاساسية في الفلسفة بالدرجة التي تجعل هدفه الاقصى استيعاب أفكارهم والقدرة على الدفاع عنها، وبينما كان البحث الفلسفي



[ 96 ]
على هذه الصورة كان البحث الاصولي يخوض بذكاء وعمق في درس المشاكل الفلسفية متحررا من سلطان الفلاسفة التقليديين وهيبتهم. وعلى هذا الاساس تناول علم الاصول جملة من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتصل بأهدافه، وأبدع فيها إبداعا أصيلا لا نجده في البحث الفلسفي التقليدي، ولهذا يمكننا القول بأن الفكر الذي أعطاه علم الاصول في المجالات التي درسها من الفلسفة والمنطق أكثر جدة من الفكر الذي قدمته فلسفة الفلاسفة المسلمين نفسهم في تلك المجالات. وفيما يلي نذكر بعض الحقول التي أبدع فيها الفكر الاصولي (1): 1 - في مجال نظرية المعرفة، وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة البشرية ومدى إمكان الاعتماد عليها، وتبحث عن المصادر الرئيسية لها. فقد امتد البحث الاصولي إلى مجال هذه النظرية وانعكس ذلك في الصراع الفكري الشديد بين الاخباريين والمجتهدين الذي كان ولا يزال يتمخض عن أفكار جديدة في هذا الحقل، وقد عرفنا سابقا كيف أن التيار الحسي تسرب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر العلمي عند فقهائنا، بينما لم يكن قد وجد في الفلسفة الاوروبية إلى ذلك الوقت. 2 - في مجال فلسفة اللغة فقد سبق الفكر الاصولي أحدث اتجاه عالمي في المنطق الصوري اليوم، وهو اتجاه المناطقة الرياضيين الذين يردون الرياضيات إلى المنطق والمنطق إلى اللغة، ويرون أن الواجب الرئيسي على الفيلسوف أن يحلل اللغة ويفلسفها بدلا عن أن يحلل الوجود الخارجي ويفلسفه. فإن المفكرين الاصوليين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي،


(1) هذه النماذج لا يطلب تدريسها بالتفصيل وإنما يكتفي المدرس إذا رأى مجالا بالاشارة إلى بعضها، وسوف نستعرضها بصورة أوضح في الحلقات المقبلة إنشاء الله تعالى. (*)



[ 97 ]
وليست بحوث المعنى الحرفي والهيئات في الاصول إلا دليلا على هذا السبق. ومن الطريف أن يكتب اليوم " برتراند رسل " رائد ذلك الاتجاه الحديث في العالم المعاصر محاولا التفرقة بين جملتين لغويتين في دراسته التحليلية للغة وهما: " مات قيصر " و " موت قيصر " أو " صدق موت قيصر " فلا ينتهي إلى نتيجة وإنما يعلق على مشكلة التمييز المنطقي بين الجملتين فيقول: " لست أدري كيف أعالج هذه المشكلة علاجا مقبولا " (1). أقول: من الطريف أن يعجز باحث في قمة ذلك الاتجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين، بينما يكون علم الاصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق في دراساته الفلسفية التحليلية للغة ووضع له أكثر من تفسير. 3 - وكذا نجد لدى بعض المفكرين الاصوليين بذور نظرية الانماط المنطقية، فقد حاول المحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني في الكفاية أن يميز بين الطلب الحقيقي والطلب الانشائي بما يتفق مع الفكرة الرئيسية في تلك النظرية. وبهذا يكون الفكر الاصولي قد استطاع أن يسبق " برتراند رسل " صاحب تلك النظرية، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا فقام بمناقشتها ودحضها وحل التناقضات التي بنى " رسل " نظريته على أساسها. 4 - ومن أهم المشاكل التي درستها الفلسفة القديمة وتناولتها البحوث الجديدة في التحليل الفلسفي للغة هي مشكلة الكلمات التي لا يبدو أنها تعبر عن شئ موجود، فماذا نقصد بقولنا مثلا " الملازمة بين النار والحرارة " وهل هذه الملازمة موجودة إلى جانب وجود النار والحرارة أو معدومة ؟ وإذا كانت موجودة فأين هي موجودة ؟ وإذا كانت معدومة ولا وجود لها


(1) أصول الرياضيات ج 1 ص 96 ترجمة الدكتور محمد موسى أحمد والدكتور أحمد فؤاد الاهواني. (*)



[ 98 ]
فكيف نتحدث عنها. وقد درس الفكر الاصولي هذه المشكلة متحررا عن القيود الفلسفية التي كانت تحصر المسألة في نطاق الوجود والعدم، فأبدع فيها. وكل هذه الامثلة والنماذج نذكرها الآن لينفتح لها الطالب على سبيل الاجمال، وأما توضيحها وشرحها فنؤجله إلى الحلقات المقبلة إنشاء الله تعالى.



[ 99 ]
الحكم الشرعي وتقسميه عرفنا أن علم الاصول يدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي، ولاجل ذلك يجب أن نكون فكرة عامة منذ البدء عن الحكم الشرعي الذي يقوم علم الاصول بتحديد العناصر المشتركة في عملية استنباطه. الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان والخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليست هي الحكم الشرعي نفسه. وعلى هذا الضوء يكون من الخطأ تعريف الحكم الشرعي بالصيغة المشهورة بين قدماء الاصوليين، إذ يعرفونه بأنه الخطاب الشرعي المتعلق بأفعال المكلفين، فإن الخطاب كاشف عن الحكم والحكم مدلول الخطاب. أضف إلى ذلك أن الحكم الشرعي لا يتعلق بأفعال المكلفين دائما، بل قد يتعلق بذواتهم أو بأشياء أخرى ترتبط بهم، لان الهدف من الحكم الشرعي تنظيم حياة الانسان، وهذا الهدف كما يحصل بخطاب متعلق بأفعال المكلفين كخطاب " صل " و " صم " و " لا تشرب الخمر " كذلك يحصل بخطاب متعلق بذواتهم أو بأشياء أخرى تدخل في حياتهم من قبيل الاحكام والخطابات التي تنظم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجة للرجل في ظل شروط معينة، أو تنظم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكا للمال في ظل شروط معينة، فإن هذه الاحكام ليست متعلقة بأفعال المكلفين بل الزوجية حكم شرعي متعلق بذواتهم والملكية حكم شرعي متعلق بالمال. فالافضل إذن استبدال الصيغة المشهورة بما قلناه من أن الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من



[ 100 ]
الله لتنظيم حياة الانسان سواء كان متعلقا بأفعاله أو بذاته أو بأشياء أخرى داخلة في حياته. تقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي: وعلى ضوء ما سبق يمكننا تقسيم الحكم إلى قسمين: أحدهما الحكم الشرعي المتعلق بأفعال الانسان والموجه لسلوكه مباشرة في مختلف جوانب حياته الشخصية والعبادية والعائلية والاقتصادية والسياسية التي عالجتها الشريعة ونظمتها جميعا، كحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة ووجوب الانفاق على بعض الاقارب وإباحة إحياء الارض ووجوب العدل على الحاكم. والآخر الحكم الشرعي الذي لا يكون موجها مباشرا للانسان في أفعاله وسلوكه، وهو كل حكم يشرع وضعا معينا يكون له تأثير غير مباشر على سلوك الانسان، من قبيل الاحكام التي تنظم علاقات الزوجية، فإنها تشرع بصورة مباشرة علاقة معينة بين الرجل والمرأة وتؤثر بصورة غير مباشرة على السلوك وتوجهه لان المرأة بعد أن تصبح زوجة مثلا تلزم بسلوك معين تجاه زوجها، ويسمى هذا النوع من الاحكام بالاحكام الوضعية. والارتباط بين الاحكام الوضعية والاحكام التكليفية وثيق، إذ لا يوجد حكم وضعي إلا ويوجد إلى صفه حكم تكليفي، فالزوجية حكم شرعي وضعي توجد إلى صفه أحكام تكليفية، وهي وجوب إنفاق الزوج على زوجته ووجوب التمكين على الزوجة، والملكية حكم شرعي وضعي توجد إلى صفه أحكام تكليفية من قبيل حرمة تصرف غير المالك في المال إلا بإذنه، وهكذا. أقسام الحكم التكليفي: ينقسم الحكم التكليفي وهو الحكم المتعلق بأفعال الانسان والموجه



[ 101 ]
لها مباشرة إلى خمسة أقسام، وهي كما يلي: 1 - " الوجوب " وهو حكم شرعي يبعث نحو الشئ الذي تعلق به بدرجة الالزام، نحو وجوب الصلاة ووجوب إعالة المعوزين على ولي الامر. 2 - " الاستحباب " وهو حكم شرعي يبعث نحو الشئ الذي تعلق به بدرجة دون الالزام، ولهذا توجد إلى صفه دائما رخصة من الشارع في مخالفته، كاستحباب صلاة الليل. 3 - " الحرمة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به بدرجة الالزام، نحو حرمة الربا وحرمة الزنا وبيع الاسلحة من أعداء الاسلام. 4 - " الكراهة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به بدرجة دون الالزام، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث، كما أن الحرمة في مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث، ومثال المكروه خلف الوعد. 5 - " الاباحة " وهي أن يفسح الشارع المجال المكلف لكي يختار الموقف الذي يريده، ونتيجة ذلك أن يتمتع المكلف بالحرية فله أن يفعل وله أن يترك.



[ 102 ]
* * *



[ 103 ]
القسم الثاني بحوث علم الاصول



[ 104 ]
* * *



[ 105 ]
تنويع البحث حينما يتناول الفقيه مسألة كمسألة الاقامة للصلاة ويحاول استنباط حكمها يتسأل في البداية: ما هو نوع الحكم الشرعي المتعلق بالاقامة أهو وجوب أو استحباب ؟ فإن حصل على دليل يكشف عن نوع الحكم الشرعي للاقامة أمكنه الجواب على السؤال الذي طرحه منذ البدء في ضوء هذا الدليل وكان عليه أن يحدد موقفه العملي واستنباطه على أساسه، فيكون استنباطا قائما على أساس الدليل. وإن لم يحصل الفقيه على دليل يعين نوع الحكم الشرعي المتعلق بالاقامة فسوف يضطر إلى الكف عن محاولة اكتشاف الحكم الشرعي ما دام لا يوجد في المجال الفقهي دليل عليه، ويظل الحكم الشرعي مجهولا للفقيه لا يدري أهو وجوب أو استحباب ؟ وفي هذه الحالة يستبدل الفقيه سؤاله الاول الذي طرحه في البداية بسؤال جديد كما يلي: ما هي القواعد الفقهية التي تحدد الموقف العملي تجاه الحكم الشرعي المجهول ؟ فبينما كان الفقيه يحاول تحديد الموقف العملي عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي وإقامة الدليل عليه، أصبح يحاول تحديد الموقف العلمي على ضوء القواعد التي تعالج مثل هذا الموقف تجاه الحكم المجهول، وهذه القواعد تسمى بالاصول العملية. ومثالها أصالة البراءة، وهي القاعدة القائلة إن كل إيجاب أو تحريم مجهول لم يقم عليه دليل فلا أثر له على سلوك الانسان وليس الانسان ملزما بالاحتياط من ناحيته والتقيد به، ويقوم الاستنباط في هذه الحالة على أساس الاصل العملي بدلا عن الدليل.



[ 106 ]
ولاجل هذا يمكننا تنويع عملية الاستنباط إلى نوعين: أحدهما الاستنباط القائم على أساس الدليل، كالاستنباط المستمد من نص دال على الحكم الشرعي، والآخر الاستنباط القائم على أساس الاصل العملي كالاستنباط المستمد من أصالة البراءة. ولما كان علم الاصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط فهو يزود كلا النوعين بعناصره المشتركة، وعلى هذا الاساس ننوع البحوث الاصولية إلى نوعين نتكلم في النوع الاول عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط القائمة على أساس الدليل، ونتكلم في النوع الثاني عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط القائمة على أساس الاصل العملي: العنصر المشترك بين النوعين: ويوجد بين العناصر المشتركة في عملية الاستنباط عنصر مشترك يدخل في جميع عمليات استنباط الحكم الشرعي بكلا نوعيها ما كان منها قائما على أساس الدليل وما كان قائما على أساس الاصل العملي. وهذا العنصر هو حجية العلم " القطع "، ونريد بالعلم انكشاف قضية من القضايا بدرجة لا يشوبها شك. ومعنى حجية العلم يتلخص في أمرين: (أحدهما) أن العبد إذا تورط في مخالفة المولى نتيجة لعمله بقطعه واعتقاده فليس للمولى معاقبته، وللعبد أن يتعذر عن مخالفته للمولى بأنه عمل على وفق قطعه، كما إذا قطع العبد خطأ بأن الشراب الذي أمامه ليس خمرا فشربه اعتمادا على قطعه وكان الشراب خمرا في الواقع فليس للمولى أن يعاقبه على شربه للخمر ما دام قد استند إلى قطعه، وهذا أحد الجانبين من حجية العلم ويسمى بجانب المعذرية. (والآخر) أن العبد إذا تورط في مخالفة المولى نتيجة لتركه العمل بقطعه فللمولى أن يعاقبه ويحتج عليه بقطعه، كما إذا قطع العبد بأن الشراب الذي



[ 107 ]
أمامه خمر فشربه وكان خمرا في الواقع، فإن من حق المولى أن يعاقبه على مخالفته، لان العبد كان على علم بحرمة الخمر وشربه فلا يعذر في ذلك، وهذا هو الجانب الثاني من حجية العلم ويسمى بجانب المنجزية. وبديهي أن حجية العلم بهذا المعنى الذي شرحناه لا يمكن أن تستغني عنه أي عملية من عمليات استنباط الحكم الشرعي، لان الفقيه يخرج من عملية الاستنباط دائما بنتيجة، وهي العلم بالموقف العملي تجاه الشريعة وتحديده على أساس الدليل أو على أساس الاصل العملي. ولكي تكون هذه النتيجة ذات أثر لا بد من الاعتراف مسبقا بحجية العلم، إذ لو لم يكن العلم حجة ولم يكن صالحا للاحتجاج به من المولى على عبده ومن العبد على مولاه لكانت النتيجة التي خرج بها الفقيه من عملية الاستنباط لغوا، لان علمه ليس حجة، ففي كل عملية استنباط لا بد إذن أن يدخل عنصر حجية العلم لكي تعطي العملية ثمارها ويخرج منها الفقيه بنتيجة إيجابية. وبهذا أصبحت حجية العلم أعم العناصر الاصولية المشتركة وأوسعها نطاقا. وليست حجية العلم عنصرا مشتركا في عمليات استنباط الفقيه للحكم الشرعي فحسب، بل هي في الواقع شرط أساسي في دراسة الاصولي للعناصر المشتركة نفسها أيضا، فنحن حينما ندرس مثلا مسألة حجية الخبر أو حجية الظهور العرفي إنما نحاول بذلك تحصيل العلم بواقع الحال في تلك المسألة، فإذا لم يكن العلم حجة فأي جدوى في دراسة حجية الخبر والظهور العرفي. فالفقيه والاصولي يستهدفان معا من بحوثهما تحصيل العلم بالنتيجة الفقهية " تحديد الموقف العلمي تجاه الشريعة " أو الاصولية " العنصر المشترك "، فبدون الاعتراف المسبق بحجية العلم تصبح بحوثهما عبثا لا طائل تحته. وحجية العلم ثابتة بحكم العقل، فإن العقل يحكم بأن المولى سبحانه



[ 108 ]
حق الطاعة على الانسان في كل ما يعلمه من تكاليف المولى وأوامره ونواهيه فإذا علم الانسان بحكم إلزامي من المولى " وجوب أو حرمة " دخل ذلك الحكم الالزامي ضمن نطاق حق الطاعة، وأصبح من حق المولى على الانسان أن يمتثل ذلك الالزام الذي علم به، فإذا قصر في ذلك أو لم يؤد حق الطاعة كان جديرا بالعقاب، وهذا هو جانب المنجزية في حجية العلم، ومن ناحية أخرى يحكم العقل أيضا بأن الانسان القاطع بعدم الالزام من حقه أن يتصرف كما يحلو له، وإذا كان الالزام ثابتا في الواقع والحالة هذه فليس من حق المولى على الانسان أن يمتثله ولا يمكن للمولى أن يعاقبه على مخالفته ما دام الانسان قاطعا بعدم الالزام، وهذا هو جانب المعذرية في حجية العلم. والعقل كما يدرك حجية القطع كذلك يدرك أن الحجية لا يمكن أن تزول عن القطع بل هي لازمة له، ولا يمكن حتى للمولى أن يجرد القطع من حجيته ويقول: إذا قطعت بعدم الالزام فأنت لست معذورا، أو يقول: إذا قطعت بالالزام فلك أن تهمله، فإن كل هذا مستحيل بحكم العقل، لان القطع لا تنفك عنه المعذرية والمنجزية بحال من الاحوال، وهذا هو معنى المبدأ الاصولي القائل باستحالة صدور الردع من الشارع عن القطع. قد تقول: هذا المبدأ الاصولي يعني إن العبد إذا تورط في عقيدة خاطئة فقطع مثلا بأن شرب الخمر حلال فليس للمولى أن ينبهه على الخطأ. والجواب أن المولى بإمكانه التنبيه على الخطأ وإخبار العبد بأن الخمر ليس مباحا، لانه بذلك يزيل القطع من نفس العبد ويرده إلى الصواب، والمبدأ الاصولي الآنف الذكر إنما يقرر استحالة صدور الردع من المولى عن العمل بالقطع مع بقاء القطع ثابتا، فالقاطع بحلية شرب الخمر يمكن للمولى أن يزيل قطعه ولكن من المستحيل أن يردعه عن العمل بقطعه ويعاقبه على ذلك ما دام قطعه ثابتا ويقينه بالحلية قائما.



[ 109 ]
النوع الاول العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل تمهيد: الدليل الذي يستند إليه الفقيه في استنباط الحكم الشرعي إما أن يؤدي إلى العلم بالحكم الشرعي أولا: ففي الحالة الاولى يكون الدليل قطعيا ويستمد شرعيته وحجيته من حجية القطع، لانه يؤدي إلى القطع بالحكم، والقطع حجة بحكم العقل فيتحتم على الفقيه أن يقيم على أساسه استنباطه للحكم الشرعي. ومن نماذج الدليل القطعي كل آية كريمة تدل على حكم شرعي بصراحة ووضوح لا يقبل الشك والتأويل، ومن نماذجه أيضا القانون القائل " كلما وجب الشئ وجبت مقدمته "، فإن هذا القانون يعتبر دليلا قطعيا على وجوب الوضوء بوصفه مقدمة للصلاة. وأما في الحالة الثانية فالدليل ناقص لانه ليس قطعيا، والدليل الناقص إذا حكم الشارع بحجيته وأمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط بالرغم من نقصانه، أصبح كالدليل القطعي وتحتم على الفقيه الاعتماد عليه. ومن نماذج الدليل الناقص الذي جعله الشارع حجة خبر الثقة، فإن خبر الثقة لا يؤدي إلى العلم لاحتمال الخطأ فيه أو الشذوذ، فهو دليل ظني ناقص، وقد جعله الشارع حجة وأمر باتباعه وتصديقه، فارتفع بذلك في عملية



[ 110 ]
الاستنباط إلى مستوى الدليل القطعي. وإذا لم يحكم الشارع بحجية الدليل الناقص فلا يكون حجة ولا يجوز الاعتماد عليه في الاستنباط، لانه ناقص يحتمل فيه الخطأ. وقد نشك ولا نعلم هل جعل الشارع الدليل الناقص حجة أو لا ولا يتوفر لدينا الدليل الذي يثبت الحجية شرعا أو ينفيها، وعندئذ يجب أن نرجع إلى قاعدة عامة يقررها الاصوليون بهذا الصدد، وهي القاعدة القائلة: " إن كل دليل ناقص ليس حجة ما لم يثبت بالدليل الشرعي العكس "، وهذا هو معنى ما يقال في علم الاصول من أن " الاصل في الظن هو عدم الحجية إلا ما خرج بدليل قطعي ". ونستخلص من ذلك أن الدليل الجدير بالاعتماد عليه فقهيا هو الدليل القطعي أو الدليل الناقص الذي ثبتت حجيته بدليل قعطي. تقسيم البحث: والدليل في المسألة الفقهية سواء كان قطعيا أو لم يكن ينقسم إلى ثلاثة أقاسم: 1 - " الدليل اللفظي " وهو الدليل المستمد من كلام المولى، كما إذا سمعت مولاك يقول: " أقيموا الصلاة "، فتستدل بذلك على وجوب الصلاة. 2 - " الدليل البرهاني " (1) وهو الدليل المستمد من قانون عقلي


(1) لا نريد بكلمة البرهان مصطلحها المنطقي، بل نريد بها الطريقة القياسية في الاستدلال، غير أنا تحاشينا عن استخدام كلمة القياس بدلا عن كلمة البرهان، لان لها معنى في المصطلح الاصولي يختلف عن مدلولها المنطقي الذي نريده هنا. (*)



[ 111 ]
عام، كما إذا ثبت لديك وجوب الوضوء بوصفه مقدمة للصلاة استنادا إلى القانون العقلي العام الذي يقول: " كلما وجب الشئ وجبت مقدمته ". 3 - " الدليل الاستقرائي " وهو الدليل المستمد من تتبع حالات كثيرة، كما إذا استطعت أن تعرف أن أباك يأمرك بالاحسان إلى جارك الفقير عن طريق تتبعك لذوقه وأمره بالاحسان إلى فقراء كثيرين في حالات مماثلة. ولكل من هذه الادلة الثلاثة نظامه الخاص ومنهجه المتميز وعناصره المشتركة. وعلى هذا الاساس سوف نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام، فندرس في القسم الاول الدليل اللفظي وعناصره المشتركة، وفي القسم الثاني الدليل البرهاني وعناصره المشتركة، وفي القسم الثالث الدليل الاستقرائي وعناصره المشتركة.



[ 112 ]
الدليل اللفظي تمهيد الاستدلال بالدليل اللفظي على الحكم الشرعي يتربط بالنظام اللغوي العام للدلالة، ولهذا نجد من الضروري أن نمهد للبحث في الادلة اللفظية والعناصر الاصولية المشتركة فيها بدراسة إجمالية لطبيعة الدلالة اللغوية وكيفية تكونها ونظرة عامة فيها: ما هو الوضع والعلاقة اللغوية: في كل لغة علاقات بين مجموعة من الالفاظ ومجموعة من المعاني، ويرتبط كل لفظ بمعنى خاص ارتباطا يجعلنا كلما تصورنا اللفظ انتقل ذهننا فورا إلى تصور المعنى، فالانسان العارف بالعربية متى تصور كلمة " الماء " مثلا قفز إلى ذهنه فورا إلى تصور ذلك السائل الخاص الذي نشربه في حياتنا الاعتيادية، وهذا الاقتران بين تصور اللفظ وتصور المعنى وإنتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم " الدلالة "، فحين نقول: " كلمة الماء تدل على السائل الخاص " نريد بذلك أن تصور كلمة الماء يؤدي إلى تصور ذلك السائل الخاص، ويسمى لفظا " دالا " والمعنى " مدلولا ". وعلى هذا الاساس نعرف أن العلاقة بين تصور اللفظ وتصور المعنى تشابه إلى درجة ما العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء، فكما أن النار تؤدي إلى الحرارة وطلوع الشمس يؤدي إلى الضوء كذلك تصور اللفظ يؤدي إلى تصور



[ 113 ]
المعنى، ولاجل هذا يمكن القول بأن تصور اللفظ سبب لتصور المعنى كما تكون النار سببا للحرارة وطلوع الشمس سببا للضوء، غير أن علاقة السببية بين تصور اللفظ والمعنى مجالها الذهن، لان تصور اللفظ والمعنى إنما يوجد في الذهن، وعلاقة السببية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء مجالها العالم الخارجي. والسؤال الاساسي بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ والمعنى هو السؤال عن مصدر هذه العلاقة وكيفية تكونها، فكيف تكونت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى ؟ وكيف أصبح تصور اللفظ سببا لتصور المعنى مع أن اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كل الاختلاف ؟. ويذكر في علم الاصول عادة اتجاهان في الجواب على هذا السؤال الاساسي، يقوم الاتجاه الاول على أساس الاعتقاد بأن علاقة اللفظ بالمعنى نابعة من طبيعة اللفظ ذاته كما نبعت علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار ذاتها، فلفظ " الماء " مثلا له بحكم طبيعته علاقة بالمعنى الخاص الذي نفهمه منه، ولاجل هذه يؤكد هذا الاتجاه أن دلالة اللفظ على المعنى ذاتية وليست مكتسبة من أي سبب خارجي. ويعجز هذا الاتجاه عن تفسير الموقف تفسيرا شاملا، لان دلالة اللفظ على المعنى وعلاقته به إذا كانت ذاتية وغير نابعة من أي سبب خارجي وكان اللفظ بطبيعته يدفع الذهن البشري إلى تصور معناه فلماذا يعجز غير العربي عن الانتقال إلى تصور معنى كلمة " الماء " عند تصوره للكلمة، ولماذا يحتاج إلى تعلم اللغة العربية لكي ينتقل ذهنه إلى المعنى عند سماع الكلمة العربية وتصورها ؟ إن هذا دليل على أن العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصور اللفظ وتصور المعنى ليست نابعة من طبيعة اللفظ بل من سبب آخر يتطلب الحصول عليه إلى تعلم اللغة، فالدلالة إذن ليست ذاتية.



[ 114 ]
وأما الاتجاه الآخر فينكر بحق الدلالة الذاتية، ويفترض أن العلاقات اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كل لغة على يد الشخص الاول أو الاشخاص الاوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلموا بها، فإن هؤلاء خصصوا ألفاظا معينة لمعان خاصة، فاكتسبت الالفاظ نتيجة لذلك التخصيص علاقة بتلك المعاني وأصبح كل لفظ يدل على معناه الخاص، وذلك التخصيص الذي مارسه أولئك الاوائل ونتجت عنه الدلالة يسمى ب‍ " الوضع " ويسمى الممارس له " واضعا " واللفظ " موضوعا " والمعنى " موضوعا له ". والحقيقة أن هذا الاتجاه وإن كان على حق في إنكاره للدلالة الذاتية ولكنه لم يتقدم إلا خطوة قصيرة في حل المشكلة الاساسية التي لا تزال قائمة حتى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذه الاتجاه، فنحن إذا افترضنا معهم أن علاقة السببية نشأت نتيجة لعمل قام به مؤسسوا اللغة إذ خصصوا كل لفظ لمعنى خاص فلنا أن نتسائل ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسسون ؟ وسوف نجد أن المشكلة لا تزال قائمة لان اللفظ والمعنى ما دام لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ولا أي ارتباط مسبق فكيف استطاع مؤسس اللغة أن يوجد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما، وهل يكفي مجرد تخصيص المؤسس للفظ وتعيينه له سببا لتصور المعنى لكي يصبح سببا لتصور المعنى حقيقة، وكلنا نعلم أن المؤسس وأي شخص آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سببا لحرارة الماء ولو كرره مائة مرة قائلا خصصت حمرة الحبر الذي يكتب به سببا لحرارة الماء، فكيف استطاع أن ينجح في جعل اللفظ سببا لتصور المعنى بمجرد تخصيصه لذلك دون أي علاقة سابقة بين اللفظ والمعنى. وهكذا نواجه المشكلة كما كنا نواجهها، فليس يكفي لحلها أن نفسر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عملية يقوم بها مؤسس اللغة، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية لكي نعرف كيف قامت



[ 115 ]
علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة. والصحيح في حل المشكلة أن علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ والمعنى توجد وفقا لقانون عام من قوانين الذهن البشري. والقانون العام هو أن كل شيئين إذا اقترن تصور أحدهما مع تصور الآخر في ذهن الانسان مرارا عديدة ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة وأصبح أحد التصورين سببا لانتقال الذهن إلى تصور الآخر. ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في مختلف شؤون حياتهما نجدهما دائما معا، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين الصديقين منفدرا أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصور الصديق الآخر، لان رؤيتهما معا مرارا كثيرة أوجد علاقة بينهما في تصورنا، وهذه العلاقة تجعل تصورنا لاحدهما سببا لتصور الآخر. ومثال آخر من تجارب الفقهاء أنا قد نجد راويا يقترن اسمه دائما باسم راو آخر معين كالنوفلي الذي يروي دائما عن السكوني، فكلما وجدنا في الاحاديث اسم النوفلي وجدنا إلى صفه اسم السكوني أيضا، فتنشأ بسبب ذلك علاقة بين هذين الاسمين في ذهننا، فإذا تصورنا بعد ذلك النوفلي أو وجدنا اسمه مكتوبا في ورقة قفز ذهننا فورا إلى السكوني نتيجة لذلك الاقتران المتكرر بين الاسمين في مطالعتنا. وقد يكفي أن تقترن أحد الشيئين بفكرة الآخر مرة واحدة لكي تقوم بينهما علاقة، وذلك إذا اقترنت الفكرتان في ظرف مؤثر، ومثاله إذا سافر أحد إلى المدينة المنورة ومني هناك بالملاريا الشديدة ثم شفي منها ورجع فقد ينتج ذلك الاقتران بين الملاريا والسفر إلى المدينة علاقة بينهما، فمتى تصور المدينة انتقل ذهنه إلى تصور الملاريا. وإذا درسنا على هذا الاساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت المشكلة، إذ نستطيع أن نفسر هذه العلاقة بوصفها نتيجة لاقتران تصور



[ 116 ]
المعنى بتصور اللفظ بصورة متكررة أو في ظرف مؤثر، الامر الذي أدى إلى قيام علاقة بينهما كالعلاقة التي قامت بين المدينة والملاريا أو بين النوفلي والسكوني، فالسبب في تكون العلاقة اللغوية والدلالة اللفظية هو السبب في قيام العلاقة بين المدينة المنورة والملاريا أو بين النوفلي والسكوني تماما. ويبقى علينا بعد هذا أن نتسأل: كيف اقترن تصور اللفظ بمعنى خاص مرارا كثيرة أو في ظرف مؤثر فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما ؟ فنحن نعلم مثلا أن اسم السكوني واسم النوفلي اقترنا مرارا عديدة في مطالعتنا للروايات، لان النوفلي يروي دائما عن السكوني، فكنا نجد السكوني إلى جانبه كلما وجدنا اسمه فقامت العلاقة بينهما، فما هي الاسباب التي جعلت اللفظ يقترن بالمعنى كما اقترن اسم النوفلي باسم السكوني أو كما اقترنت فكرة الملاريا بفكرة المدينة في ذهن الشخص الذي أصيب بها حال سفره إلى المدينة ؟. والجواب على هذا السؤال: أن بعض الالفاظ اقترنت بمعان معينة مرارا عديدة بصورة تلقائية، فنشأت بينهما العلاقة اللغوية، وقد يكون من هذا القبيل كلمة " آه "، إذ كانت تخرج من فم الانسان بطبيعته كلما أحس بالالم، فارتبطت كلمة " آه " في ذهنه بفكرة الالم، فأصبح كلما سمع كلمة " آه " انتقل ذهنه إلى فكرة الالم. ومن المحتمل أن الانسان قبل أن توجد لديه أي لغة قد استرعى انتباهه هذه العلاقات التي قامت بين الالفاظ من قبيل " آه " ومعانيها نتيجة لاقتران تلقائي بينهما، وأخذ ينشئ على منوالها علاقات جديدة بين الالفاظ والمعاني. وبعض الالفاظ قرنت بالمعنى في عملية واعية مقصودة لكي تقوم بينهما علاقة سببية، وأحسن نموذج لذلك الاسماء الشخصية، فأنت حين تريد أن



[ 117 ]
تسمى ابنك عليا تقرن اسم علي بالوليد الجديد لكي تنشئ بينهما علاقة لغوية ويصبح اسم علي دالا على وليدك. ويسمى عملك هذه " وضعا " فالوضع هو عملية تقرن فيها لفظا بمعنى نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصور اللفظ دائما. ونستطيع أن نشبه الوضع على هذا الاساس بما تضعه حين تسأل عن طبيب العيون فيقال لك: هو " جابر " فتريد أن تركز اسمه في ذاكرتك وتجعل نفسك تستحضره متى أردت، فتحاول أن تقرن بينه وبين شئ قريب من ذهنك فتقول مثلا: أنا بالامس قرأت كتابا أخذ من نفسي مأخذا كبيرا اسم مؤلفه جابر فلاتذكر دائما أن اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك الكتاب. وهكذا توجد عن هذا الطريق ارتباطا بين صاحب الكتاب والطبيب جابر، وبعد ذلك تصبح قادرا على استذكار اسم الطبيب متى تصورت ذلك الكتاب. وهذه الطريقة التي تستعملها لايجاد العلاقة بين تصور الكتاب وتصور اسم الطبيب لا تختلف جوهريا عن الطريقة التي تستعمل في الوضع لاقامة العلاقة اللغوية بين الالفاظ والمعاني. ما هو الاستعمال ؟ بعد أن يوضع اللفظ لمعنى يصبح تصور اللفظ سببا لتصور المعنى، ويأتي عندئذ دور الاستفادة من هذه العلاقة اللغوية التي قامت بينهما، فإذا كنت تريد أن تعبر عن ذلك المعنى لشخص آخر وتجعله يتصوره في ذهنه فبإمكانك أن تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح سببا لتصور المعنى، وحين يسمعه صاحبك ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية بينهما، ويسمى استخدامك للفظ بقصد إخطار معناه في ذهن السامع " استعمالا ". فاستعمال



[ 118 ]
اللفظ في معناه يعني إيجاد الشخص لفظا لكي يعد ذهن غيره للانتقال إلى معناه، ويمسى اللفظ " مستعملا " والمعنى " مستعملا فيه " وإرادة المستعمل إخطار المعنى في ذهن السامع عن طريق اللفظ " إرادة استعمالية ". الحقيقة والمجاز: ويقسم الاستعمال إلى حقيقي ومجازي، فالاستعمال الحقيقي هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له الذي قامت بينه وبين اللفظ علاقة لغوية بسبب الوضع، ولهذا يطلق على المعنى الموضوع له اسم " المعنى الحقيقي ". والاستعمال المجازى هو استعمال اللفظ في معنى آخر لم يوضع له ولكنه يشابه ببعض الاعتبارات المعنى الذي وضع اللفظ له، ومثاله أن تستعمل كلمة " البحر " في العالم العزير علمه لانه يشابه البحر من الماء في الغزارة والسعة، ويطلق على المعنى المشابه للمعنى الموضوع له اسم " المعنى المجازي " وتعتبر علاقة اللفظ بالمعنى المجازي علاقة ثانوية ناتجة عن علاقته اللغوية الاولية بالمعنى الموضوع له، لانها تنبع عن الشبه القائم بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي. والاستعمال الحقيقي يؤدي غرضه، وهو انتقال ذهن السامع إلى تصور المعنى بدون أي شرط، لان علاقة السببية القائمة في اللغة بين اللفظ والمعنى الموضوع له كفيلة بتحقيق هذه الغرض. وأما الاستعمال المجازي فهو لا ينقل ذهن السامع إلى المعنى، إذ لا توجد علاقة لغوية وسببية بين لفظ البحر والعالم، فيحتاج المستعمل لكي يحقق غرضه في الاستعمال المجازي إلى قرينة تشرح مقصوده، فإذا قال مثلا: " بحر في العلم " كانت كلمة " في العلم " قرينة على المعنى المجازي، ولهذا يقال عادة أن الاستعمال المجازي يحتاج إلى قرينة دون الاستعمال الحقيقي.



[ 119 ]
قد ينقلب المجاز حقيقة: وقد لاحظ الاصوليون بحق أن الاستعمال المجازي وإن كان يحتاج إلى قرينة في بداية الامر - ولكن إذا كثر استعمال اللفظ في المعنى المجازي بقرينة وتكرر ذلك بكثرة قامت بين اللفظ والمعنى المجازي علاقة جديدة، وأصبح اللفظ نتيجة لذلك موضوعا لذلك المعنى وخرج عن المجاز إلى الحقيقة ولا تبقى بعد ذلك حاجة إلى قرينة. وهذه الظاهرة يمكننا تفسيرها بسهولة على ضوء طريقتنا في شرح حقيقة الوضع والعلاقة اللغوية، لاننا عرفنا أن العلاقة اللغوية تنشأ عن اقتران اللفط بالمعنى مرارا عديدة أو في ظرف مؤثر، فإذا استعمل اللفظ في معنى مجازي مرارا كثيرة اقترن تصور اللفظ بتصور ذلك المعنى المجازي في ذهن السامع اقترانا متكررا، وأدى هذا الاقتران المتكرر إلى قيام العلاقة اللغوية بينهما كما قامت العلاقة بين اسم النوفلي واسم السكوني. تصنيف اللغة: تنقسم كلمات اللغة كما قرأتم في النحو إلى اسم وفعل وحرف، وقولنا: " تهتدي الانسانية في الاسلام " يشتمل على الاقسام الثلاثة، ف‍ " الانساية " و " الاسلام " من الاسماء، و " في " حرف من حورف الجر، و " تهتدي " فعل من أفعال المضارعة. وإذا درسنا مفردات هذه الجملة بشئ من الدقة نجد أن كلمة " الانسانية " لو فصلت عن سائر الكلمات وبقيت بمفردها لظلت تحتفظ بمدلولها ومعناها الخاص، وكذلك كلمة " الاسلام " توحي بنفس المعنى الخاص بها سواء كانت جزءا من الجملة أو منفصلة عنها. وأما كلمة " في " فهي تفقد معناها إذا جردت عن الجملة ولوحظت بمفردها، إذ لا توجد في ذهننا عندئذ أي



[ 120 ]
تصور محدد بينما هي في داخل الجملة شرط ضروري فيها، إذ لولاها لما استطعنا أن نربط بين الانسانية والاسلام، فلو قلنا: " تهتدي الانسانية الاسلام " لاصبحت الجملة غير مفهومة، فكلمة " في " تقوم بدور الربط بين الانسانية والاسلام (1) وهذا يعني أن معنى الحرف هو الربط بين معاني الاسماء والتعبير عن أنواع العلاقات والروابط التي تقوم بين تلك المعاني، فكلة " في " في قولنا: " تهتدي الانسانية في الاسلام إلى أرقي الثقافات " تعبر عن نوع من الربط بين الانسانية والاسلام، وكلمة " إلى " في قولنا: " تهتدي الانسانية إلى الاسلام كلما ازداد وعيها " تعبر عن نوع آخر من الربط بينهما، و " ب " في قولنا: " تهتدي الانسانية بالاسلام إلى طريق الله المستقيم " يعبر عن نوع ثالث من الرط بينهما، وهكذا سائر الحروف. ونعتبر كل معنى يمكن تصوره وتحديده بدون حاجة إلى وقوعه في سياق جملة معنى إسميا، ونطلق على الروابط التي لا يمكن تصورها إلا في سياق جملة اسم المعاني الحرفية. وأما كلمة " تهتدي " في جملتنا المتقدمة التي تمثل فئة الافعال من اللغة فهي تشتمل على معنى الاهتداء، فإن ما نتصوره حين نسمع كلمة الاهتداء نتصوره من كلمة " تهتدي "، وكلمة الاهتداء اسم ومعناها معنى اسمي، فنعرف من ذلك أن الفعل يشتمل على معنى اسمي ما دامت كلمة " تهتدي " تدل على نفس المعنى الذي تدل عليه كلمة الاهتداء، ولكن الفعل


(1) يجب الانتباه إلى أن الربط في الحقيقة يقوم في هذا المثال بين مادة الفعل أي أهتداء الانسانية والاسلام لا بين الانسانية نفسها والاسلام، وإنما نعبر بذلك في المتن تسهيلا على المبتدئ عند دراسته للكتاب، لاننا حتى الآن لم نذكر شيئا عن تحليل الفعل إلى مادة وهيئة. (*)



[ 121 ]
مع هذا لا يدل على المعنى الاسمي فحسب، بدليل أنه لو كان مدلوله اسميا فقط لامكن استبداله بالاسم ويصح أن نقول: " الانسانية اهتداء في الاسلام " بدلا عن قولنا: " الانسانية تهتدي في الاسلام " مع أنا نرى أن الجملة تصبح مفككة وغير مرتبطة إذا قمنا بعملية استبدال من هذا القبيل، فهذا يدل على أن الفعل يشتمل إضافة إلى المعنى الاسمي على معنى حرفي يربط بين الاهتداء والانسانية في قولنا: " الانسانية تهتدي في الاسلام ". ونستخلص من ذلك أن الفعل مركب من اسم وحرف، لانه يشتمل على معنى اسمي استقلالي ومعنى حرفي ارتباطي، وهو يدل على المعنى الاسمي بمادته ويدل على المعنى الحرفي بهيئته، ونريد بالمادة الاصل الذي اشتق الفعل منه كالاهتداء بالنسبة إلى " تهتدي "، ونريد بالهيئة الصيغة الخاصة التي صيغت المادة بها أي صيغة " يفعل " في المضارع و " فعل " في الماضي فإن هذه الصيغة تدل على معنى حرفي يربط بين معنى المادة ومعنى آخر في الجملة. وقد ربطت صيغة " تهتدي " في مثالنا بين الاهتداء والانسانية أي بين مادة الفعل والفاعل بوصفهما معنيين اسميين. هيئة الجملة: عرفنا أن الفعل له هيئة تدل على معنى حرفي أي على الربط وكذلك الحال في الجملة أيضا، ونريد بالجملة (1) كل كلمتين أو أكثر بينهما ترابط، ففي قولنا: " على إمام " نفهم من كلمة " على " معناها الاسمي ومن كلمة " الامام " معناها الاسمي، ونفهم إضافة إلى ذلك ارتباطا خاصا بين هذين المعنيين الاسميين، وهذا الارتباط الخاص لا تدل عليه كلمة " علي " بمفردها ولا كلمة " إمام " بمفردها، وإنما تدل عليه الجملة بتركبيها


(1) ولا نتقيد بالمصطلح النحوي للجملة. (*)



[ 122 ]
الخاص، وهذا يعني أن هيئة الجملة تدل على نوع من الربط أي على معنى حرفي. نستخلص مما تقدم أن اللغة يمكن تصنيفها من وجهة نظر تحليلية إلى فئتين: أحدهما فئة المعاني الاسمية وتدخل في هذه الفئة الاسماء ومواد الافعال، والاخرى فئة المعاني الحرفية أي الروابط وتدخل فيها الحروف وهيئات الافعال وهيئات الجمل. الرابطة التامة والرابطة الناقصة: " المفيد عالم بالعلوم الاسلامة كلها ". " المفيد العالم بالعلوم الاسلامية كلها ". " الاسلام نظام كامل للحياة ". " قلم أخي.. ". " الشريعة خالدة " " الدار المتهدمة الواقعة في الشارع.. " " وجب الامر بالمعروف ". " الثوب الجميل.. " إذا لاحظنا الفئة الاولى من هذه الجمل نجد أن كل جملة منها تدل تكذيبه، بينما نجد أن الجمل في الفئة الثانية ناقصة لا يمكن للمتكلم الاكتفاء بها ولا يمكن للسامع أن يعلق عليها بتصديق أو تكذيب ما لم تكمل بخبر من قبيل أن نقول: " قلم أخي ضائع ". ومرد الفرق بين الفئتين إلى نوع الربط الذي تدل عليه هيئة الجملة، فهيئة الجملة في الفئة الاولى تدل على نوع من الربط يختلف عن الربط الذي تدل عليه هيئة الجملة في الفئة الثانية. وعلى هذا الاساس نعرف أن الربط نوعان: أحدهما الربط التام ويمسى أحيانا ب‍ " النسبة التامة "، وهو الربط الذي يصوغ جملة تامة كما في الفئة الاولى، والآخر الربط الناقص ويسمى أيضا ب‍ " النسبة الناقصة "، وهو ما يصوغ جملة ناقصة كما في الفئة الثانية.



[ 123 ]
ونحن إذا دققنا في أكثر الجمل التي وردت في الفئة الاولى نجد فيها أكثر من معنى حرفي واحد، ففي الجملة الاولى نجد مثلا المعنى الحرفي الذي تدل عليه هيئة الجملة وهو الربط بين المبتدأ والخبر ونجد أيضا المعنى الحرفي الذي يدل عليه حرف الباء وهو الربط بين علم المفيد والعلوم الاسلامية كلها، غير أن الجملة إنما أصبحت تامة نتيجة للربط الاول الذي دلت عليه هيئة الجملة دون الربط الذي دل عليه الحرف، ولهذا إذا احتفظنا بالربط الثاني دون الاول أصبحت الجملة ناقصة، كما إذا قلنا: " عالم بالعلوم الاسلامية كلها " بدلا عن قولنا: " المفيد عالم بالعلوم الاسلامية كلها "، فهيئة الجملة إذن هي التي تدل على النسبة التامة والربط التام دون الحرف، وأما الحروف فهي تدل دائما على النسبة الناقصة والربط الناقص. ونستخلص من ذلك أن الحروف تدل دائما على النسبة الناقصة، وأما الهيئات فهي في بعض الاحيان تدل على النسبة التامة كما في الجمل المفيدة الاسمية والفعلية، وأحيانا تدل على النسبة الناقصة كما في الجمل الوصفية. وأما ما هو الفرق الجوهري بين واقع النسبة التامة وواقع النسبة الناقصة ؟ فهذا ما نجيب عليه في الحلقات المقبلة إنشاء الله تعالى. المدلول اللغوي والمدلول النفسي: قلنا سابقا: إن دلالة اللفظ على المعنى هي أن يؤدي تصور اللفظ إلى تصور المعنى، ويسمى اللفظ " دالا " والمعنى الذي نتصوره عند سماع اللفظ " مدلولا ". وهذه الدلالة لغوية، ونقصد بذلك أنها تنشأ عن طريق وضع اللفظ للمعنى، لان الوضع يوجد علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى، وعلى أساس هذه العلاقة تنشأ تلك الدلالة اللغوية ومدلولها هو المعنى



[ 124 ]
اللغوي للفظ. ولا تنفك هذه الدلالة عن اللفظ مهما سمعناه ومن أي مصدر كان، فجملة " الحق منتصر " إذا سمعناها انتقل ذهننا فورا إلى مدلولها اللغوي سواء سمعناها من متحدث واع أو من نائم في حالة عدم وعيه، وحتى لو سمعناها نتيجة لاحتكاك حجرين، فإن الجملة في جميع هذه الحالات تدل دلالة لغوية أي تؤدي بنا إلى تصور معناها اللغوي فنتصور معنى كلمة " الحق " ونتصور معنى كلمة " منتصر "، ونتصور النسبة التامة التي وضعت هيئة الجملة لها، وتسمى هذه الدلالة لاجل ذلك " دلالة تصورية ". ولكنا إذا قارنا بين تلك الحالات وجدنا أن الجملة حين تصدر من نائم أو تنتج نتيجة عن احتكاك بين حجرين لا يوجد لها إلا مدلولها اللغوي ذاك، ويقتصر مفعولها على ايجاد تصورات للحق والانتصار والنسبة التامة في ذهننا وأما حين نسمع الجملة من متحدث واع فلا تقف الدلالة عند مستوى التصور بل تتعداه إلى مستوى التصديق، إذ تكشف الجملة عندئذ عن أشياء نفسية في نفس المتكلم فنحن نستدل عن طريق صدور الجملة منه على وجود إرادة استعمالية في نفسه، أي إنه يريد أن يخطر المعنى اللغوي لكلمة " الحق " وكلمة " المنتصر " وهيئة الجملة في أذهاننا وأن نتصور هذه المعاني كما نعرف أيضا أن المتكلم إنما يريد منا أن نتصور تلك المعاني لا لكي يخلق تصورات مجردة في ذهننا فحسب بل لغرض في نفسه، وهذا الغرض الاساسي هو في المثال المتقدم أي في جملة " الحق منتصر " غرض الاخبار عن ثبوت الخبر للمبتدأ، فإن المتكلم إنما يريد منا أن نتصور معاني الجملة لاجل أن يخبرنا عن ثبوتها في الواقع، ويطلق على الغرض الاساسي في نفس المتكلم اسم " الارادة الجدية ". وتمسى الدلالة على هذين الامرين الارادة الاستعمالية والارادة



[ 125 ]
الجدية " دلالة تصديقية "، لانها دلالة تكشف عن إرادة المتكلم وتدعو إلى تصديقنا بها لا إلى مجرد التصور الساذج، كما نسميها أيضا ب‍ " الدلالة النفسية "، لان المدلول هنا نفسي، وهو إرادة المتكلم. وهكذا نعرف أن الجملة التامة لها إضافة إلى مدلولها التصوري اللغوي مدلولان: نفسيان: أحدهما الارادة الاستعمالية، إذ نعرف عن طريق صدور الجملة من المتكلم أنه يريد منا أن نتصور معاني كلماتها. والآخر الارادة الجدية، وهي الغرض الاساسي الذي من أجله أراد المتكلم أن نتصور تلك المعاني. وأحيانا تتجرد الجملة عن المدلول النفسي الثاني، وذلك إذا صدرت من المتكلم في حالة الهزل لا في حالة الجد، ولم يكن يستهدف منها إلا مجرد إيجاد تصورات في ذهن السامع لمعاني كلماتها، فلا توجد في هذه الحالة إرادة جدية بل إرادة استعمالية فقط. والدلالة التصديقية ليست لغوية، أي أنها لا تعبر عن علاقة ناشئة عن الوضع بين اللفظ والمدلول النفسي، لان الوضع إنما يوجد علاقة بين تصور اللفظ وتصور المعنى لا بين اللفظ والمدلول النفسي، وإنما تنشأ الدلالة التصديقية من حال المتكلم، فإن الانسان إذا كان في حالة وعي وانتباه وجدية وقال: " الحق منتصر " يدل حاله على أنه لم يقل هذه الجملة ساهيا ولا هازلا وإنما قالها بإرادة معينه واعية. وهكذا نعرف أنا حين نسمع جملة كجملة " الحق منتصر " نتصور المعاني اللغوية للمبتدأ والخبر والهيئة بسبب الوضع الذي أوجد علاقة السببية بين تصور اللفظ وتصور المعنى، ونكتشف الارادة الواعية للمتكلم بسبب حال المتكلم، وتصورنا ذلك يمثل الدلالة التصورية واكتشافنا هذا يمثل الدلالة التصديقية والمعنى الذي نتصوره هو المدلول التصوري واللغوي



[ 126 ]
للفظ، والارادة التي نكتشفها في نفس المتكلم هي المدلول التصديقي والنفسي الذي يدل عليه حال المتكلم. وعلى هذا الاساس نكتشف مصدرين للدلالة: أحدهما اللغة بما تشتمل عليها من أوضاع، وهي مصدر الدلالة التصورية، لانها تقيم علاقات السببية بين تصور الالفاظ وتصور المعاني. والآخر حال المتكلم، وهو مصدر الدلالة التصديقية، أي دلالة اللفظ على مدلوله النفسي التصديقي، فإن اللفظ إنما يكشف عن إرادة المتكلم إذا صدر في حالة يقظة وانتباه وجدية، فهذه الحالة إذن هي مصدر الدلالة التصديقية، ولهذا نجد أن اللفظ إذا صدر من المتكلم في حالة نوم أو ذهول لا توجد له دلالة تصديقية ومدلول نفسي. الجملة الخبرية والجملة الانشائية: تقسم الجملة عادة إلى خبرية وإنشائية، ونحن في حياتنا الاعتياديه نحس بالفرق بينهما، فأنت حين تتحدث عن بيعك للكتاب بالامس وتقول: " بعت الكتاب بدينار " ترى أن الجملة تختلف بصورة أساسية عنها حين تريد أن تعقد الصفقة مع المشتري فعلا فتقول له: " بعتك الكتاب بدينار ". وبالرغم من أن الجملة في كلتا الحالتين تدل على نسبة تامة بين البيع والبائع أي بينك وبين البيع، يختلف فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الاولى عن فهمنا للجملة وتصورنا للنسبة في الحالة الثانية، فالمتكلم حين يقول في الحالة الاولى: " بعت الكتاب بدينار " يتصور النسبة بما هي حقيقة واقعة لا يملك من أمرها فعلا شيئا إلا أن يخبر عنها إذا أراد، وأما حين يقول في الحالة الثانية: " بعتك الكتاب بدينار " فهو يتصور النسبة لا بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها بل يتصورها بوصفها نسبة يراد تحقيقها. ونستخلص من ذلك أن الجملة الخبرية موضوعة للنسبة التامة منظورا



[ 127 ]
إليها بما هي حقيقة واقعة وشئ مفروغ عنه، والجملة الانشائية موضوعة للنسبة التامة منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها. الظهور اللفظي: قد تقوم عدة علاقات بين لفظ واحد ومعان عديدة، فيعتبر كل واحد من تلك المعاني معنى للفظ. ومثاله كلمة " المولى " فإنها ذات معنيين أحدهما السيد الحاكم والآخر الصديق، وللفظ علاقة بكل من هذين المعنيين. وهذه العلاقات العديدة إما أن تكون متكافئة ومتساوية في الدرجة أولا. فتنشأ بسبب ذلك علاقات متساوية في الدرجة بين اللفظ وكل واحد من تلك المعاني، ويسمى اللفظ في هذه الحالة " مشتركا " لاشتراكه بين معنيين، ومن أمثلته كلمة " المولى " الموضوعة للسيد الحاكم وللصديق، وكلمة " القرء " الموضوعة للطهر والحيض، وكلمة " العين " الموضوعة لعين الانسان وعين الماء. والعلاقات غير المتكافئة في الدرجة من أمثلتها علاقات اللفظ الواحد بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فكلمة " البحر " لها علاقة بالمعنى الحقيقي وهو البحر من الماء، ولها علاقة بالمعنى المجازي وهو العالم الغزير علمه، ولكن هاتين العلاقتين غير متكافئتين وليستا من درجة واحدة، لان علاقة اللفظ بالمعنى المجازي نبعت من علاقته بالمعنى الحقيقي، فقد قامت العلاقة أولا بين كلمة " البحر " و " البحر من الماء "، ولاجل الشبه بين ماء البحر والعالم الغزير علمه في الغزارة والسعة نشأت في ظل ذلك علاقة بين كلمة البحر والعالم الغزير علمه، فمن الطبيعي أن تكون هذه العلاقة أقل درجة من علاقة اللفظ بمعناه الحقيقي.



[ 128 ]
وفي حالة عدم تكافؤ العلاقات يعتبر المعنى الاوثق علاقة من الناحية اللغوية هو المعنى الظاهر من اللفظ، لان الذهن ينتقل إليه قبل أن ينتقل إلى غيره من معاني اللفظ، ونطلق على هذا الظهور اسم " الظهور اللفظي ". تقسيم البحث الدليل اللفظي هو الكلام الصادر عن المعصوم، وهو يتألف من كلمات وجمل لغوية، وفهم الحكم الشرعي من الدليل اللفظي يتوقف على العلم بالعلاقات اللغوية التي تقوم بين ألفاظ الدليل والمعاني في اللغة العربية ومعرفة أقوى المعاني علاقة باللفظ إذا كانت معانيه متعددة لكي نحدد بذلك الظهور اللفظي للدليل، حتى إذا حددنا الظهور اللفظي للدليل جاء دور البحث عن حجية الظهور وإمكانية جعله أساسا لتفسير الدليل اللفظي وفهم الحكم الشرعي منه. وعلى هذا الاساس سوف نقسم البحث إلى فصلين: أحدهما في تحديد الظهور اللفظي للدليل عن طريق تحديد العلاقات اللغوية التي تقوم بين ألفاظ الدليل والمعاني، ومعرفة أقوى المعاني علاقة باللفظ عند تعدد معانيه. والفصل الآخر في إمكان جعل الظهور اللفظي أساسا لتفسير الدليل: الفصل الاول في تحديد ظهور الدليل اللفظي 1 " أحسن إلى الفقير ". 2 " حافظ على أحكام الشريعة ". 3 - " إدفع الخطر عن الاسلام ". 1 " إذا زالت الشمس وجبت الصلاة ". 2 " إذا هل هلال



[ 129 ]
شهر رمضان وجب الصوم ". 3 - " إذا هاجم العدو بلاد الاسلام وجب الجهاد ". 1 - " العلماء أولياء الامور ". 2 - " يجب على الفقهاء إيصال الاحكام ". 3 - " الصبيان لا يجوز بيعهم ". هذه ثلاث فئات من الكلام تشتمل كل فئة على مجموعة من الجمل تصلح كل واحدة من تلك الجمل أن تكون دليلا لفظيا لاثبات حكم شرعي، ولكي نفهم الحكم الذي تدل عليه تلك الجملة يجب أن نعرف المعاني اللغوية والظواهر اللفظية في الجملة. ونحن إذا دققنا النظر في كل فئة وجدنا أن كل جملة فيها تتميز بألفاظها عن الجمل الاخرى، فالاحسان والفقير كلمتان تتميز بهما الجملة الاولى القائلة " أحسن إلى الفقير "، كما أن الجملة الثانية بكلمة " الشريعة " وكلمة " أحكام " وكلمة " حافظ " وهكذا. ولهذا إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي تدل عليه الجملة الاولى يجب أن نعرف معنى " الاحسان " ومعنى كلمة " الفقير "، بينما لا نحتاج إلى معرفة ذلك إذا أردنا أن نفهم الحكم الذي تدل عليه الجملة الثانية، وإنما نحتاج بدلا عن ذلك إلى معرفة كلمة " الشريعة " وكلمة " أحكام " وكلمة " حافظ " الامور التي جاءت في الجملة الثانية، ولكن يوجد في جميع جمل الفئة الاولى عنصر عام يتوقف فهم الحكم الشرعي من جميع تلك الجمل على معرفة معناه، وهذا العنصر هو صيغة فعل الامر، فإن هذه الصيغة موجودة في الجمل الثلاث بالرغم من اختلاف تلك الجمل في جميع كلماتها، فلا بد أن نعرف ما هو مدلول صيغة فعل الامر وأنها هل تدل على الوجوب أو الاستحباب ؟ لكي نستنبط نوع الحكم المتعلق بالاحسان إلى الفقير، ونوع الحكم المتعلق بالمحافظة على أحكام الشريعة، ونوع الحكم المتعلق بدفع الخطر عن الاسلام.



[ 130 ]
وإذا لاحظنا الجملة في الفئة الثانية وجدنا فيها أيضا عنصرا عاما يتوقف على معرفة معناه فهم الاحكام التي تدل عليها تلك الجمل، وهذا العنصر العام هو أداة الشرط المتمثلة في كلمة " إذا "، فإن هذه الاداة هي التي تدل على ربط وجوب الصلاة بالزوال، وربط وجوب الصوم بهلال رمضان، وربط وجوب الجهاد بمهاجمة العدو لبلاد الاسلام. وفي الفئة الثالثة نجد عنصرا عاما وهو صيغة الجمع المعرف باللام، فإن هذه الصيغة موجودة في كلمة " العلماء " وكلمة " الفقهاء " وكلمة " الصبيان "، فيجب لكي نفهم حدود الاحكام التي دلت عليها الجمل الثلاث أن نعرف ما هو المدلول اللغوي لصيغة الجمع المعرف باللام وهل تدل على العموم - أي على شمول الحكم لجميع الافراد أو لا ؟ وفي هذا الضوء نستطيع أن نقسم العناصر اللغوية من وجهة نظر أصولية إلى عناصر مشتركة في عملية الاستنباط وعناصر خاصة في تلك العملية. فالعناصر المشتركة هي كل أداة لغوية تصلح للدخول في أي دليل مهما كان نوع الموضوع الذي يعالجه ذلك الدليل، ومثاله صيغة فعل الامر، فإن بالامكان استخدامها بالنسبة إلى أي موضوع، فيقال تارة: " أحسن إلى الفقير " وأخرى " صل " وثالثة " ادفع الخطر عن الاسلام ". والعناصر الخاصة في عملية الاستنباط هي كل أداة لغوية لا تصلح للدخول إلا في الدليل الذي يعالج موضوعا معينا، ولا أثر لها في استنباط دليل سوى الدليل الذي يشتمل على حكم مرتبط بالاحسان، ولا علاقة للادلة التي تشتمل على حكم الصلاة مثلا بكلمة " الاحسان "، فلهذا كانت كلمة " الاحسان " عنصرا خاصا في عملية الاستنباط، لانها تختص باستنباط أحكام نفس الاحسان، ولا أثر لها في استنباط حكم موضوع آخر.



[ 131 ]
وعلى هذا الاساس يدرس علم الاصول من اللغة القسم الاول من الادوات اللغوية التي تعتبر عناصر مشتركة في عملية الاستنباط، فيجب عن مدلول صيغة فعل الامر وأنها هل تدل على الوجوب أو الاستحباب ؟ ولا يبحث عن مدلول كلمة " الاحسان ". ويدخل في القسم الاول من الادوات اللغوية أداة الشرط أيضا، لانها تصلح للدخول في استنباط الحكم من أي دليل لفظي مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلق به، فنحن نستنبط من النص القائل: " إذا زالت الشمس وجبت الصلاة "، أن وجوب الصلاة مرتبط بالزوال بدليل أداة الشرط، ونستنبط من النص القائل: " إذا هل هلال شهر رمضان وجب الصوم "، أن وجوب الصوم مرتبط بالهلال، ولاجل هذه يدرس علم الاصول أداة الشرط بوصفها عنصرا مشتركا، ويبحث عن نوع الربط الذي تدل عليه ونتائجه في استنباط الحكم الشرعي. وكذلك الحال في صيغة الجمع المعرف باللام، لانها أداة لغوية صالحة للدخول في الدليل اللفظي مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلق به. وفيما يلي نذكر بعض النماذج من هذه الادوات المشتركة التي يدرسها الاصوليون: 1 (صيغة الامر): صيغة فعل الامر نحو " إذهب " و " صل " و " صم " و " جاهد " إلى غير ذلك من الاوامر. والمقرر بين الاصوليين عادة هو القول بأن هذه الصيغة تدل لغة على الوجوب. وهذا القول يدعونا أن تنسأل هل يريد هؤلاء الاعلام من القول بأن صيغة فعل الامر تدل على الوجوب أن صيغة فعل الامر تدل على نفس ما تدل عليه كلمة الوجوب ؟ فيكونان مترادفين كالترادف بين كلمتي " إنسان "



[ 132 ]
و " بشر "، وكيف يمكن افتراض ذلك ؟ مع أننا نحس بالوجدان أن كلمة الوجوب وصيغة فعل الامر ليستا مترادفتين، وإلا لجاز أن نستبدل إحداهما بالاخرى فيقول الآمر: " وجوب الصلاة " بدلا عن " صل " ويقول: " وجوب الصوم " بدلا عن " صم "، وما دام هذا الاستبدال غير جائز فنعرف أن صيغة فعل الامر تدل على معنى يختلف عن المعنى الذي تدل عليه كلمة الوجوب، ويصبح من الصعب عندئذ فهم القول السائد بين الاصوليين بأن صيغة فعل الامر تدل على الوجوب. والحقيقة أن هذا القول يحتاج إلى تحليل مدلول صيغة فعل الامر لكي نعرف كيف تدل على الوجوب، ونحن حين ندقق في فعل الامر نجد أنه يشكل جملة مفيدة بضم فاعله إليه نظير فعل الماضي أو المضارع إذا ضم فاعله إليه، فكما أن " ذهب عامر " جملة مفيدة مكونة من فعل ماض وفاعل، كذلك جملة " اذهب " إذا خاطبت عامرا بها. وقد مر سابقا أن الجملة المفيدة تدل هيئتها دائما على النسبة التامة، وعلى هذا الاساس يكون مدلول فعل الامر بوصفه جملة مفيدة هو النسبة التامة بين مادة الفعل والمخاطب، أي بين الذهاب والشخص المدعو للذهاب في مثال " اذهب " وبين الصلاة والشخص المدعو للصلاة في " صل " وهكذا. كما أن مدلول فعل الماضي أو المضارع هو النسبة التامة أيضا، ف‍ " ذهب عامر " و " اذهب " كلتاهما جملتان مفيدتان تدلان على النسبة التامة بين مادة الفعل والفاعل. ولكن " اذهب " و " ذهب " بالرغم من دلالتهما معا على النسبة التامة يختلفان أيضا من ناحية أخرى، لان " اذهب " تعتبر جملة انشائية وكذلك كل أفعال الامر، و " ذهب " تعتبر جملة خبرية، فأنت تقول: " ذهب عامر " حين تريد أن تخبر عن ذهابه، وتقول: " اذهب " حين تريد أن تدفعه إلى



[ 133 ]
وهذا الاختلاف يعنى - على ضوء ما عرفنا سابقا من فرق بين الجملة الانشائية والجملة الخبرية أن مدلول " اذهب " هو النسبة بين الذهاب والمخاطب بما هي في طريق التحقيق وباعتبارها يراد تحقيقها، بينما تدل صيغة " ذهب " على النسبة بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها. ونستخلص من ذلك أن صيغة فعل الامر تدل على نسبة تامة بين مادة الفعل والفاعل منظورا إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها وإرسال المكلف نحو ايجادها. أرأيت الصياد حين يرسل كلب الصيد إلى فريسته ؟ إن تلك الصورة التي يتصورها الصياد عن ذهاب الكلب إلى الفريسة وهو يرسله إليها، هي نفس الصورة التي يدل عليها فعل الامر، ولهذا يقال في علم الاصول أن مدلول صيغة الامر هو النسبة الارسالية. وكما أن الصياد حين يرسل الكلب إلى فريسته قد يكون إرساله هذا ناتجا عن شوق شديد إلى الحصول على تلك الفريسة ورغبة أكيدة في ذلك وقد يكون ناتجا عن رغبة غير أكيدة وشوق غير شديد، كذلك النسبة الارسالية التي تدل عليها الصيغة في فعل الامر قد نتصورها ناتجة عن شوق شديد وإلزام أكيد وقد نتصورها ناتجة عن شوق أضعف ورغبة أقل درجة. وعلى هذا الضوء نستطيع الآن أن نفهم معنى ذلك القول الاصولي القائل: إن صيغة فعل الامر تدل على الوجوب، فإن معناه أن الصيغة قد وضعت للنسبة الارسالية بوصفها ناتجة عن شوق شديد وإلزام أكيد، ولهذا يدخل معنى الالزام والوجوب ضمن الصورة التي نتصور بها المعنى اللغوي للصيغة عند سماعها دون أن يصبح فعل الامر مرادفا لكلمة الوجوب. وليس معنى دخول الالزام والوجوب في معنى الصيغة أن صيغة الامر لا يجوز استعمالها في مجال المستحبات، بل قد استعملت كثيرا في موارد



[ 134 ]
الاستحباب كما استعملت في موارد الوجوب، ولكن استعمالها في موارد الوجوب استعمال حقيقي، لانه استعمال للصيغة في المعنى الذي وضعت له، واستعمالها في موارد الاستحباب استعمال مجازي يبرره الشبه القائم بين الاستحباب والوجوب. 2 - (صيغة النهي): صيغة النهي نحو " لا تذهب "، " لا تخن "، " لا تكسل في طلب العلم ". والمقرر بين الاصوليين هو القول بأن صيغة النهي تدل على الحرمة، ويجب أن نفهم هذا القول بصورة مماثلة لفهمنا القول بأن صيغة الامر تدل على الوجوب، فإن النهي يشكل جملة مفيدة ويشتمل لاجل ذلك على نسبة تامة، وتعتبر الجملة التي يشكلها جملة انشائية لا إخبارية، فأنت حين تقول " لا تذهب " لا تريد أن تخبر عن عدم الذهاب وإنما تريد أن تمنع المخاطب عن الذهاب وتمسكه عن ذلك، فصيغة الامر والنهي متفقتان في كل هذا ولكنهما تختلفان في الارسال والامساك، لان صيغة الامر تدل على نسبة إرسالية كما سبق، وأما صيغة النهي فتدل على نسبة إمساكية، أي إنا حين نسمع جملة " اذهب " نتصور نسبة بين الذهاب والمخاطب ونتصور أن المتكلم يرسل المخاطب نحوها ويبعثه إلى تحقيقها كما يرسل الصياد كلبه نحو الفريسة، وأما حين نسمع جملة " لا تذهب " فنتصور نسبة بين الذهاب والمخاطب، ونتصور أن المتكلم يمسك مخاطبه عن تلك النسبة ويزجره عنها، كما لو حاول كل الصيد أن يطارد الفريسة فأمسك به الصياد، ولهذا نطلق عليها اسم " النسبة الامساكية ". وتدخل الحرمة في مدلول النهي بالطريقة التي دخل بها الوجوب إلى مدلول الامر، ولنرجع بهذا الصدد إلى مثال الصياد، فإنا نجد أن الصياد حين يمسك كلبه عن تتبع الفريسة قد يكون إمساكه هذا ناتجا عن كراهة



[ 135 ]
تتبع الكلب للفريسة بدرجة شديدة، وقد ينتج عن كراهة ذلك بدرجة ضعيفة. ونظير هذا تماما نتصوره في النسبة الامساكية التي نتحدث عنه، فإنها قد نتصورها ناتجة عن كراهة شديدة للمنهي عنه، وقد نتصورها ناتجة عن كراهة ضعيفة. ومعنى القول بأن صيغة النهي تدل على الحرمة في هذا الضوء أن الصيغة موضوعة للنسبة الامساكية بوصفها ناتجة عن كراهة شديدة وهي الحرمة، فتدخل الحرمة ضمن الصورة التي نتصور بها المعنى اللغوي لصيغة النهي عند سماعها. وفي نفس الوقت قد تستعمل صيغة النهي في موارد الكراهة، فينهى عن المكروه أيضا بسبب الشبه القائم بين الكراهة والحرمة، ويعتبر استعمالها في موارد المكروهات استعمال مجازيا. 3 - (الاطلاق): وتوضيحه أن الشخص إذا أراد أن يأمر ولده بإكرام جاره المسلم فلا يكتفي عادة بقوله: " أكرم الجار " بل يقول: " أكرم الجار السلم "، وأما إذا كان يريد من ولده أن يكرم جاره مهما كان دينه فيقول: " أكرم الجار " ويطلق كلمة الجار أي لا يقيدها بوصف خاص ويفهم من قوله عندئذ أن الامر لا يختص بالجار المسلم بل يشمل الجار الكافر أيضا، وهذا الشمول نفهمه نتيجة لذكر كلمة الجار مجردة عن القيد، ويسمى هذا ب‍ " الاطلاق " ويسمى اللفظ في هذه الحالة " مطلقا ". وعلى هذا الاساس يعتبر تجرد الكلمة من القيد اللفظي في الكلام دليلا على شمول الحكم، ومثال ذلك من النص الشرعي قوله تعالى: " أحل الله البيع "، فقد جاءت كلمة البيع هنا مجردة عن أي قيد في الكلام، فيدل هذا الاطلاق على شمول الحكم بالحلية لجميع أنواع البيع. وأما كيف أصبح ذكر الكلمة بدون قيد في الكلام



[ 136 ]
دليلا على الشمول وما هو مصدر هذه الدلالة فهذا ما لا يتسع له البحث على مستوى هذه الحلقة. 4 (أدوات العموم): أدوات العموم مثالها " كل " في قولنا: " احترم كل عادل " و " قاطع كل من يعادي الاسلام "، وذلك أن الآمر حين يريد أن يدلل على شمول حكمه وعمومه قد يكتفي بالاطلاق وذكر الكلمة بدون قيد كما شرحناه آنفا فيقول: " أكرم الجار " وقد يريد مزيدا من التأكيد على العموم والشمول فيأتي بأداة خاصة للدلالة على ذلك فيقول: في المثال المتقدم مثلا " أكرم كل جار "، فيفهم السامع من ذلك مزيدا من التأكيد على العموم والشمول، ولهذا تعتبر كلمة " كل " من أدوات العموم لانها موضوعة في اللغة لذلك، ويسمى اللفظ الذي دلت الاداة على عمومه " عاما " ويعبر عنه ب‍ " مدخول الاداة "، لان أداة العموم دخلت عليه وعممته. ونستخلص من ذلك أن التدليل على العموم يتم بإحدى طريقتين: الاولى سلبية وهي الاطلاق، أي ذكر الكلمة بدون قيد. والثانية أيجابية وهي استعمال أداة العموم نحو " كل " و " جميع " و " كافة " وما إليها من ألفاظ. وقد اختلف الاصوليون في صيغة الجمع المعرف باللام من قبيل " الفقهاء " " العلماء "، " الجيران "، " العقود ". فقال بعضهم: إن هذه الصيغة نفسها من أدوات العموم أيضا مثل كلمة " كل "، فأي جمع من قبيل " فقهاء " أو " علماء " أو " جيران " إذا أراد المتكلم إثبات الحكم لجميع أفراده والتدليل على عمومه بطريقة إيجابية أدخل عليه اللام فيجعله جمعا معرفا باللام ويقول: " احترم الفقهاء " أو " أكرم الجيران " أو " أوفوا بالعقود ". وبعض الاصوليين يذهب إلى أن صيغة الجمع المعرف باللام ليست



[ 137 ]
من أدوات العموم، ونحن إنما نفهم الشمول في الحكم عندما نسمع المتكلم يقول " أكرم الجيران " مثلا بسبب الاطلاق وتجرد الكلمة عن القيود لا بسبب دخول اللام على الجمع، أي بطريقة سلبية إيجابية، فلا فرق بين أن يقال: " أكرم الجيران " أو " أكرم الجار " فكما يستند فهمنا للشمول في الجملة الثانية إلى الاطلاق كذلك الحال في الجملة الاولى، فالمفرد المعرف باللام وهو الجار والجمع المعرف باللام وهو الجيران لا يدلان على الشمول إلا بالطريقة السلبية، أي بإطلاق الكلمة وتجريدها عن القيد. 5 (أداة الشرط): أداة الشرط مثالها " إذا " في قولنا " إذا زالت الشمس فصل " و " إذا أحرمت للحج فلا تتطيب "، وتسمى الجملة التي تدخل عليها أداة الشرط جملة شرطية، وهي تختلف في وظيفتها اللغوية عن غيرها من الجمل التي لا توجد فيها أداة شرط، فإن سائر الجمل تقوم بربط كلمة بأخرى، نظير ربط الخبر بالمبتدأ في قولنا: " علي إمام " أو ربط الفعل بالفاعل في قولنا: " ظهر نور الاسلام ". وأما الجملة الشرطية فهي تربط بين جملتين، ففي مثال " إذا زالت الشمس فصل " تعتبر " زالت الشمس " جملة وتعتبر " صل " جملة أخرى، وأداة الشرط تربط بين هاتين الجملتين وتجعل الاولى شرطا والثانية مشروطة أو جزاء. وعلى هذا الاساس نعرف أن الجملة الشرطية تحتوي على شرط ومشروط وإذا لاحظنا المثالين المتقدمين للجملة الشرطية وجدنا أن الشرط في مثال " إذا زالت الشمس فصل " هو زوال الشمس، والشرط في قولنا: " إذا أحرمت للحج فلا تتطيب " هو الاحرام للحج، وأما المشروط فهو مدلول جملة " صل " و " لا تتطيب ". ولما كان مدلول " صل " بوصفه صيغة أمر هو الوجوب



[ 138 ]
ومدلول " لا تتطيب " بوصفه صيغة نهي هو الحرمة كما تقدم، فنعرف أن المشروط هو الوجوب أو الحرمة أي الحكم الشرعي، ومعنى أن الحكم الشرعي مشروط بزوال الشمس أو بالاحرام للحج أنه مرتبط بالزوال أو الاحرام ومقيد بذلك، والمقيد ينتفي إذا انتفى قيده. وينتج عن ذلك أن أداة الشرط تدل على انتفاء الحكم الشرعي في حالة انتفاء الشرط، لان ذلك نتيجة طبيعية لدلالتها على تقييد الحكم الشرعي وجعله مشروطا، فيدل قولنا: " إذا زالت الشمس فصل " على عدم وجوب الصلاة قبل الزوال، ويدل قولنا: " إذا أحرمت للحج فلا تتطيب " على عدم حرمة الطيب في حالة عدم الاحرام للحج، وبذلك تصبح الجملة الشرطية ذات مدلولين: أحدهما ايجابي والآخر سلبي. فالايجابي هو ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط أي إن الوجوب يثبت عند الزوال ومدلولها السلبي هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط - أي عدم وجوب الصلاة قبل الزوال وعدم حرمة الطيب في غير حالة الاحرام للحج. ويسمى المدلول الايجابي " منطوقا " للجملة، والمدلول السلبي " مفهوما ". وكل جملة لها مثل هذا المدلول السلبي يقال في العرفي الاصولي: إن هذه الجملة أو القضية ذات مفهوم. وقد وضع بعض الاصوليين قاعدة عامة لهذا المدلول السلبي في اللغة فقال: إن كل أداة لغوية تدل على تقييد الحكم وتحديده لها مدلولها سلبي، إذا تدل على انتفاء الحكم خارج نطاق الحدود التي تضعها للحكم وأداة الشرط تعتبر مصداقا لهذه القاعدة العامة، لانها تدل على تحديد الحكم بالشرط. ومن مصاديق القاعدة أيضا أدة الغاية حين تقول مثلا: " صم حتى تغيب الشمس "، فإن " صم " هنا فعل أمر يدل على الوجوب، وقد دلت



[ 139 ]
حتى بوصفها أداة غاية على وضع حد وغاية لهذا الوجوب الذي تدل عليه صيغة الامر، ومعنى وضع غاية له تقييده، فيدل على انتفاء وجوب الصوم بعد مغيب الشمس، وهذا هو المدلول السلبي الذي نطلق عليه اسم المفهوم. ويمسى المدلول السلبي للجملة الشرطية ب‍ " مفهوم الشرط " كما يسمى المدلول السلبي لاداة الغاية من قبيل حتى في المثال المتقدم ب‍ " مفهوم الغاية ". الفصل الثاني في حجية الظهور ما هو المطلوب في التفسير: إذا أردنا أن نفسر كلمة من ناحية لغوية كما يصنع اللغويون في معاجم اللغة فسوف نفسرها بمعناها الذي ارتبطت به في اللغة أو بأقرب معانيها إليها إذا كانت ذات معان متعددة فنقول عن كلمة " بحر " مثلا: إنها تدل في اللغة على الكمية الهائلة الغزيرة من الماء المجتمعة في مكان واحد، لان هذه هو أقرب المعاني إلى الكلمة في اللغة أي المعنى الظاهر منها. وأما إذا جاءت كلمة بحر في كلام شخص يقول: " إذهب إلى البحر في كل يوم " وأردنا أن نفسر الكلمة في كلامه فلا يكفي أن نعرف ما هو أقرب المعاني إلى كلمة البحر لغة أي المعنى الظاهر منها بل يجب أن نعرف ماذا أراد المتكلم بالكلمة، لان المتكلم قد يريد بالكلمة معنى آخر غير المعنى الظاهر. فالمهم بصورة أساسية إذن أن نكتشف مراد المتكلم أي المدلول النفسي للفظ ولا يكفي مجرد معرفة المدلول اللغوي. ومثال ذلك أيضا صيغة الامر إذا جاءت في كلام الآمر ولم ندر هل أراد الوجوب أو الاستحباب ؟ فإن الغرض الاساسي هو أن نعرف ماذا أراد ؟



[ 140 ]
ولا يكفينا أن نعرف مدلول الصيغة لغويا فحسب، إذ قد يكون مدلولها اللغوي هو الوجوب، والمتكلم قد أراد الاستحباب على سبيل الاستعمال المجازي مثلا. وإذا كنا قد درسنا في الفصل السابق المدلول اللغوي لصيغة إفعل فإنما ذلك لكي نستفيد منه في تحديد المدلول النفسي التصديقي للصيغة، ولكي يوجهنا المدلول اللغوي إلى معرفة المدلول التصديقي واكتشاف إرادة المتكلم كما سنرى. ظهور حال المتكلم: عرفنا سابقا أن للدلالة مصدرين: أحدهما اللغة بما تشتمل عليه من أوضاع وهي مصدر الدلالة التصورية، والآخر حال المتكلم وهو مصدر الدلالة التصديقية النفسية. وكما نتسأل بالنسبة إلى المصدر الاول ما هو أقرب المعاني إلى اللفظ في اللغة لكي يكون هو المعنى الظاهر للفظ لغويا من بين سائر معانيه، كذلك نتسأل بالنسبة إلى المصدر الثاني ما هو المدلول التصديقي النفسي الاقرب إلى حال المتكلم ؟ ونريد بالمعنى الاقرب إلى اللفظ لغة في السؤال الاول المعنى الذي ينتقل الذهن إلى تصوره عند سماع اللفظ قبل أن ينتقل إلى تصور غيره، ونريد بالمدلول التصديقي الاقرب لحال المتكلم في السؤال الثاني ما هو المرجح في تقدير نوعية الارادة التي توجد في نفس المتكلم. ومثال ذلك كلمة " البحر "، فنحن نتسأل أولا ما هو المعنى الاقرب إليها في اللغة هل البحر من الماء أو البحر من العلم ؟ ونجيب أن المعنى الاقرب لغويا لها بموجب النظام اللغوي العام هو البحر من الماء، لانه معنى حقيقي والمعنى الحقيقي في النظام اللغوي العام أقرب من المعنى المجازي، ويعني



[ 141 ]
كون المعنى الحقيقي أقرب إلى اللفظ أن الذهن ينتقل إلى تصوره عند سماع اللفظ قبل أن ينتقل إلى تصور غيره. ونتسأل ثانيا ماذا يريد المتكلم بكلمة البحر في قوله: " إذهب إلى البحر في كل يوم " فهل يريد المعنى الاقرب لغويا الذي نتصوره عند سماع الكلمة قبل غيره من المعاني وهو البحر من الماء، أو يريد المعنى الابعد لغويا وهو البحر من العلم ؟ ولما كان مصدر الدلالة التصديقية الدالة على إرادة المتكلم هو حال المتكلم فيجب أن نعرف أي هذين التقديرين أقرب إلى حال المتكلم، فهل الاقرب إلى حاله أن يريد المعنى الحقيقي الظاهر من اللفظ لغة أن المعنى الابعد ؟. ويجب علم الاصول على ذلك أن الظاهر من حال المتكلم أنه يريد المعنى الاقرب لغويا، ويعني كون هذا أقرب إلى حال المتكلم أن المرجح في حال المتكلم بوصفه قد تكلم بلفظ له معنى لغوي ظاهر أنه يريد المعنى الظاهر الاقرب إلى اللفظ دون الابعد. فلدينا إذن ظهوران: ظهور لغوي لكلمة البحر في المعنى الحقيقي، وهذا الظهور لا يعني أكثر من أن الذهن ينتقل إلى تصور هذا المعنى قبل تصور المعاني الاخرى، وظهور حالي تصديقي، وهو ظهور حال المتكلم في أنه يريد باللفظ إفهام الاقرب إليه من معانيه لغة، وهذا الظهور يعني أن الارجح في حال المتكلم أن يريد باللفظ معناه الظاهر. حجية الظهور: ومن المقرر في علم الاصول أن ظهور حال المتكلم في إرادة أقرب المعاني إلى اللفظ حجة، ومعنى حجية هذا الظهور إتخاذه أساسا لتفسير الدليل اللفظي على ضوئه، فنفترض دائما أن المتكلم قد أراد المعنى الاقرب إلى



[ 142 ]
اللفظ في النظام اللغوي العام (1) أخذا بظهور حاله. ولاجل ذلك يطلق على حجية الظهور اسم " أصالة الظهور "، لانها تجعل الظهور هو الاصل لتفسير الدليل اللفظي. وفي ضوء هذه نستطيع أن نعرف لماذا كنا نهتم في الفصل السابق بتحديد المدلول اللغوي الاقرب للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغوي العام ؟ مع أن المهم عند تفسير الدليل اللفظي هو اكتشاف ماذا أراد المتكلم باللفظ من معنى ؟ لا ما هو المعنى الاقرب إليه في اللغة ؟ فإنا ندرك في ضوء أصالة الظهور أن الصلة وثيقة جدا بين اكتشاف مراد المتكلم وتحديد المدلول اللغوي الاقرب للكلمة، لان أصالة الظهور تحكم بأن مراد المتكلم من اللفظ هو نفس المدلول اللغوي الاقرب، أي المعنى الظاهر من اللفظ لغة، فلكي نعرف مراد المتكلم يجب أن نعرف المعنى الاقرب إلى اللفظ لغة لنحكم بأنه هو المعنى المراد للمتكلم. تطبيقات حجية الظهور على الادلة اللفظية: وسوف نستعرض فيما يلي ثلاث حالات لتطبيق قاعدة حجية الظهور: (الاولى) أن يكون للفظ في الدليل معنى وحيد في اللغة ولا يصلح للدلالة على معنى آخر في النظام اللغوي العام. والقاعدة العامة تحتم في هذه الحالة أن يحمل اللفظ على معناه الوحيد ويقال: " إن المتكلم أراد ذلك المعنى "، لان المتكلم يريد باللفظ دائما المعنى المحدد له في النظام اللغوي العام، ويعتبر الدليل في مثل هذه الحالة صريحا في معناه. (الثانية) أن يكون للفظ معان متعددة متكافئة في علاقتها باللفظ


(1) لا نريد باللغة والنظام اللغوي العام هنا اللغة في مقابل العرف، بل النظام القائم بالفعل لدلالة الالفاظ سواء كان لغويا أوليا أو ثانويا. (*)

السابق  التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله