مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول


[ 41 ]
المتطرف أن هذا الاتجاه كان مقبولا على الصعيد السني بصورة عامة، وأن المعارضة كانت تتمثل في الفقه الامامي خاصة، بل إن الاتجاه العقلي المتطرف قد لقي معارضة في النطاق السني أيضا، وكانت له ردود فعل معاكسة في مختلف حقول الفكر. فعلى الصعيد الفقهي تمثل رد الفعل في قيام المذهب الظاهري على يد داود بن علي بن خلف الاصبهاني في أواسط القرن الثالث، إذ كان يدعوا إلى العمل بظاهر الكتاب والسنة والاقتصار على البيان الشرعي، ويشجب الرجوع إلى العقل. وانعكس رد الفعل على البحوث العقائدية والكلامية متمثلا في الاتجاه الاشعري الذي عطل العقل وزعم أنه ساقط بالمرة عن إصدار الحكم حتى في المجال العقائدي. فبينما كان المقرر عادة بين العلماء: أن وجوب المعرفة بالله والشريعة ليس حكما شرعيا وإنما هو حكم عقلي، لان الحكم الشرعي ليس له قوة دفع وتأثير في حياة الانسان إلا بعد أن يعرف الانسان ربع وشريعته، فيجب أن تكون القوة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي، أي أن تكون من نوع الحكم العقلي. أقول: بينما كان هذا هو المقرر عادة بين المتكلمين خالف في ذلك الاشعري، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم وأكد أن وجوب المعرفة بالله حكم شرعي كوجوب الصوم والصلاة. وامتد رد الفعل إلى علم الاخلاق - وكان وقتئذ يعيش في كنف علم الكلام - فأنكر الاشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الافعال عن قبيحها حتى في أوضح الافعال حسنا أو قبحا، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميز بينهما، وإنما صار الاول قبيحا والثاني حسنا بالبيان الشرعي، ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أي حق


[ 42 ]
للاعتراض على ذلك. وردود الفعل هذه كانت تشمل على نكسة وخطر كبير قد لا يقل عن الخطر الذي كان الاتجاه العقلي المتطرف يستنبطه، لانها اتجهت إلى القضاء على العقل بشكل مطلق، وتجريده عن كثير من صلاحياته، وإيقاف النمو العقلي في الذهنية الاسلامية بحجة التعبد بنصوص الشارع والحرص على أهل البيت (عليهم السلام) التي كانت تحارب الاتجاه العقلي المتطرف، وتؤكد في نفس الوقت أهمية العقل وضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة واعتباره ضمن تلك الحدود أداة رئيسية للاثبات إلى صف البيان الشرعي، حتى جاء في نصوص أهل البيت (عليهم السلام) " إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة: فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة، وأما الباطنة فالعقول ". وهذا النص يقرر - بوضوح - وضع العقل إلى صف البيان الشرعي أداة رئيسية للاثبات. وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بين حماية الشريعة من فكرة النقص وحماية العقل من مصادرة الجامدين. وسوف نعود إلى الموضوع بصورة عملية موسعة في الحلقات المقبلة. 2 المعركة إلى صف العقل وأما الاتجاه الآخر المتطرف في إنكار العقل وشجبه الذي وجد داخل نطاق الفكر الامامي فقد تمثل في جماعة من علمائنا اتخذوا اسم " الاخباريين والمحدثين " وقاوموا دور العقل في مختلف الميادين، ودعوا إلى الاقتصار على البيان الشرعي فقط، لان العقل عرضة للخطأ وتأريخ الفكر العقلي زاخر بالاخطاء، فلا يصلح لكي يستعمل أداة إثبات في أي مجال من المجالات الدينية.


[ 43 ]
وهؤلاء الاخباريون هم نفس تلك الجماعة التي شنت حملة ضد الاجتهاد كما أشرنا في البحث السابق. ويرجع تأريخ هذا الاتجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر، فقد أعلنه ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذ في المدينة باسم " الميرزا محمد أمين الاسترابادي " المتوفي سنة (1023) ه‍، ووضع كتابا أسماه " الفوائد المدنية ". بلور فيه هذا الاتجاه وبرهن عليه ومذهبه أي جعله مذهبا. ويؤكد الاسترابادي في هذا الكتاب أن العلوم البشرية على قسمين: أحدهما العلم الذي يستمد قضاياه من الحس، والآخر العلم الذي لا يقوم البحث فيه على أساس الحس ولا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسي. ويرى المحدث الاسترابادي أن من القسم الاول الرياضيات التي تستمد خيوطها الاساسية في زعمه من الحس، وأما القسم الثاني فيمثل له ببحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضايا بعيدة عن متناول الحس وحدوده، من قبيل تجرد الروح، وبقاء النفس بعد البدن، وحدوث العالم. وفي عقيدة المحدث الاسترابادي أن القسم الاول من العلوم البشرية هو وحده الجدير بالثقة لانه يعتمد على الحس، فالرياضيات مثلا تعتمد في النهاية على قضايا في متناول الحس، ونظير أن (2 + 2 = 4). وأما القسم الثاني في قيمة له، ولا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج التي يصل إليها في هذا القسم لانقطاع صلته بالحس. وهكذا يخرج الاسترابادي من تحليله للمعرفة بجعل الحس معيارا أساسيا لتمييز قيمة المعرفة ومدى إمكان الوثوق بها. ونحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوح اتجاها حسيا في أفكار المحدث الاسترابادي يميل به إلى المذهب الحسي في نظرية المعرفة القائل بأن الحس


[ 44 ]
هو أساس المعرفة، ولاجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الاخبارية في الفكر العلمي الاسلامي أحد المسارب التي منها الاتجاه الحسي إلى تراثنا الفكري. وقد سبقت الاخبارية بما تمثل من اتجاه حسي التيار الفلسفي الحسي الذي نشأ في الفلسفة الاوروبية على يد " جون لوك " المتوفي سنة (1704) م و " دانيد هيوم " المتوفي سنة (1776) م، فقد كانت وفاة الاسترابادي قبل وفاة " جون لوك " بمئة سنة تقريبا، ونستطيع أن نعتبره معاصرا ل‍ " فرنسيس بيكون " المتوفي سنة (1626) م الذي مهد للتيار الحسي في الفلسفة الاوروبية. وعلى أي حال فهناك إلتقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الاخبارية والمذاهب الحسية والتجريبية في الفلسفة الاوروبية، فقد شنت جميعا حملة كبيرة ضد العقل، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدها من الحس. وقد أدت حركة المحدث الاسترابادي ضد المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس إلى نفس النتائج التي سجلتها الفلسفات الحسية في تأريخ الفكر الاوروبي، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوة بحكم اتجاهها الخاطئ إلى معارضة كل الادلة العقلية التي يستدل بها المؤمنون على وجود الله سبحانه، لانها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس. فنحن نجد مثلا محدثا كالسيد نعمة الله الجزائري يطعن في تلك الادلة بكل صراحة وفقا لاتجاهه الاخباري، كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابه الدرر النجفية، ولكن ذلك لم يؤد بالتفكير الاخباري إلى الالحاد كما أدى بالفلسفات الحسية الاوروبية، لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على نشوء كل منهما، فإن الاتجاهات الحسية والتجريبية في نظرية المعرفة قد تكونت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة وإبراز


[ 45 ]
أهميتها، فكان لديها الاستعداد لنفي كل معرفة عقلية منفصلة عن الحس، وأما الحركة الاخبارية فكانت ذات دوافع دينية، وقد اتهمت العقل لحساب الشرع لا لحساب التجربة، فلم يكن من الممكن أن تؤدي مقاومتها للعقل إلى إنكار الشريعة والدين. ولهذا كانت الحركة الاخبارية تستبطن في رأي كثير من ناقديها تناقضا، لانها شجبت العقل من ناحية لكي تخلي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي، وظلت من ناحية أخرى متمسكة به لاثبات عقائدها الدينية، لان إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي بل يجب أن يكون عن طريق العقل.


[ 46 ]
تاريخ علم الاصول مولد علم الاصول: نشأ علم الاصول في أحضان علم الفقه، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث تبعا للمراحل التي مر بها علم الشريعة. ونريد بعلم الشريعة العلم الذي يحاول التعرف على الاحكام التي جاء الاسلام بها من عند الله تعالى. فقد بدأ هذا العلم في صدر الاسلام متمثلا في الحملة التي قام بها عدد كبير من الرواة لحفظ الاحاديث الواردة في الاحكام وجمعها، ولهذا كان علم الشريعة في مرحلته الاولى قائما على مستوى علم الحديث، وكان العمل الاساسي فيه يكاد أن يكون مقتصرا على جمع الروايات وحفظ النصوص. وأما طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص والروايات فلم تكن ذات شأن في تلك المرحلة، لانها لم تكن تعدو الطريقة الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعض في المحاورات الاعتيادية. وتعمقت بالتدريج طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص حتى أصبح استخراج الحكم من مصادره الشرعية عملا لا يخلو عن دقة ويتطلب شيئا من العمق والخبرة، فانصبت الجهود وتوافرت لاكتساب تلك الدقة التي أصبح فهم الحكم الشرعي من النص واستنباطه من مصادره بحاجة إليها، وبذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي وولد علم الفقه، وارتفع علم الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط والاستدلال العلمي الدقيق. ومن خلال نمو علم الفقه والتفكير وإقبال علماء الشريعة على


[ 47 ]
ممارسة عملية الاستنباط، وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلبها من الدقة والعمق. أقول: من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة (العناصر المشتركة) في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذانا بمولد التفكير الاصولي وعلم الاصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاها أصوليا. وهكذا ولد علم الاصول في أحضان علم الفقه، فبينما كان الممارسون للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون العناصر المشتركة في عملية الاستنباط دون وعي كامل بطبيعتها وحدودها وأهمية دورها في العملية، أصبحوا بعد تغلغل الاتجاه الاصولي في التفكير الفقهي يعون تلك العناصر المشتركة ويدرسون حدودها. ولا نشك في أن بذرة التفكير الاصولي وجدت لدى الفقهاء أصحاب الائمة (عليهم السلام) منذ أيام الصادقين عليهما السلام على مستوى تفكيرهم الفقهي، ومن الشواهد التأريخية على ذلك ما ترويه كتب الاحاديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجهها عدد من الرواة إلى الامام الصادق (عليه السلام) وغيره من الائمة (عليهم السلام) وتلقوا جوابها منهم (1). فإن تلك الاسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الاصولي عندهم واتجاههم إلى وضع القواعد العامة وتحديد العناصر المشتركة. ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الائمة (عليهم السلام) ألفوا رسائل في بعض المسائل الاصولية، كهشام بن الحكم من أصحاب الامام الصادق عليه السلام الذي ألف رسالة في الالفاظ.

--------------------------------------------------------------------------------
(1) فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المعارضة، وفي حجية خبر الثقة، وفي أصالة البراءة، وفي إعمال الرأي والاجتهاد.. وما إلى ذلك من قضايا. (*)


[ 48 ]
وبالرغم من ذلك فإن فكرة العناصر المشتركة وأهمية دورها في عمليات الاستنباط لم تكن بالوضوح والعمق الكافيين في أول الامر، وإنما اتضحت معالمها وتعمقت بالتدريج خلال توسع العمل الفقهي ونمو عمليات الاستنباط ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسة عملية مستقلة عن البحوث الفقهية وتصبح قائمة بنفسها إلا بعد مضي زمن منذ ولادة البذور الاولى للتفكير الاصولي، فقد عاش البحث الاصولي ردحا من الزمن ممتزجا بالبحث الفقهي غير مستقل عنه في التصنيف والتدريس، وكان الفكر الاصولي خلال ذلك يثري ويزداد دوره وضوحا وتحديدا، حتى بلغ في ثرائه ووضوحه إلى الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه. ويبدو أن بحوث الاصول حتى حين وصلت إلى مستوى يؤهلها للاستقلال، بقيت تتذبذب بين علم الفقه وعلم أصول الدين، حتى أنها كانت أحيانا تخلط ببحوث في أصول الدين والكلام، كما يشير إلى ذلك السيد المرتضى في كتابه الاصولي " الذريعة " إذ يقول: " قد وجدت بعض من أفرد لاصول الفقه كتابا وإن كان قد أصاب في سرد معانيه وأوضاعه ومبانيه ولكنه قد شرد عن أصول الفقه وأسلوبها وتعداها كثيرا وتخطاها، فتكلم على حد العلم والنظر وكيف يولد النظر والعلم ووجوب المسبب عن السبب.. إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام في أصول الدين دون أصول الفقه ". وهكذا نجد أن استقلال علم أصول الفقه بوصفه علما للعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي وانفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقه وكلام، لم ينجز إلا بعد أن أتضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وضرورة وضع نظام عام لها، الامر الذي ساعد على التمييز بين طبيعة البحث الاصولي وبطبيعة البحوث الفقيهة والكلامية، وأدى بالتالي


[ 49 ]
إلى قيام علم مستقل باسم " علم أصول الفقه ". وبالرغم من تمكن علم الاصول من الحصول على الاستقلال الكامل عن علم الاصول " علم أصول الدين "، فقد بقيت فيه رواسب فكرية يرجع تاريخها إلى عهد الخلط بينه وبين علم الكلام، وظلت تلك الرواسب مصدرا للتشويش، فمن تلك الرواسب على سبيل المثال - الفكره القائلة بأن أخبار الآحاد " وهي الروايات الظنية التي لا يعلم صدقها " لا يمكن الاستدلال بها في الاصول، لان الدليل في الاصول يجب أن يكون قطعيا. فإن مصدر هذه الفكرة هو علم الكلام، ففي هذا العلم قرر العلماء أن أصول الدين تحتاج إلى دليل قطعي، فلا يمكن أن نثبت صفات الله والمعاد مثلا بأخبار الآحاد، وقد أدى الخلط بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه واشتراكهما في كلمة الاصول إلى تعميم تلك الفكرة إلى أصول الفقه، ولهذا نرى الكتب الاصولية ظلت إلى زمان المحقق في القرن السابع تعترض على إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بخبر الواحد انطلاقا من تلك الفكرة. ونحن نجد في كتاب الذريعة لدى مناقشة الخلط بين أصول الفقه وأصول الدين تصورات دقيقة نسبيا ومحددة عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، فقد كتب يقول: " إعلم أن الكلام في أصول الفقه إنما هو على الحقيقة كلام في أدلة الفقه.. ولا يلزم على ما ذكرناه أن تكون الادلة والطرق إلى أحكام وفروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أصولا، لان الكلام في أصول الفقه إنما هو كلام في كيفية دلالة ما يدل من هذه الاصول على الاحكام على طريق الجملة دون التفصيل، وأدلة الفقهاء إنما هي على نفس المسائل، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل ". وهذا النص في مصدر من أقدم المصادر الاصولية في التراث الشيعي،


[ 50 ]
يحمل بوضوح فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويسميها أدلة الفقه على الاجمال، ويميز بين البحث الاصولي والفقهي على أساس التمييز بين الادلة الاجمالية والادلة التفصيلية أي بين العناصر المشتركة والعناصر الخاصة في تعبيرنا وهذا يعني أن فكرة العناصر المشتركة كانت مختمرة وقتئذ إلى درجة كبيرة، والفكرة ذاتها نجدها بعد ذلك عند الشيخ الطوسي وابن زهرة والمحقق الحلي وغيرهم، فإنهم جميعا عرفوا علم الاصول بأنه " علم أدلة الفقه على وجه الاجمال " وحاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر المشتركة. ففي كتاب العدة قال الشيخ الطوسي: " أصول الفقه هي أدلة الفقه فإذا تكلمنا في هذه الادلة فقد نتكلم فيما يقتضيه من إيجاب وندب وإباحة وغير ذلك من الاقسام على طريق الجملة، ولا يلزمنا عليها أن تكون الادلة الموصلة إلى فروع الفقه، لان هذه الادلة أدلة على تعيين المسائل، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل ". ومصطلح الاجمالية والتفصيلية يعبر هنا عن العناصر المشتركة والعناصر الخاصة. ونستخلص مما تقدم أن ظهور علم الاصول والانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقف على وصول عملية الاستنباط إلى درجة من الدقة والاتساع وتفتح الفكر الفقهي وتعمقه، ولهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخر ظهور علم الاصول تاريخيا عن ظهور علم الفقه والحديث، وأن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن نما التفكير الفقهي وترعرع بالدرجة التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة ودرسها بأساليب البحث العلمي، ولاجل ذلك كان من الطبيعي أيضا أن تختمر فكرة العناصر المشتركة تدريجا وتدق على مر الزمن حتى تكتسب صيغتها الصارمة وحدودها الصحيحة وتتميز


[ 51 ]
عن بحوث الفقه وبحوث أصول الدين. الحاجة إلى علم الاصول تاريخية: ولم يكن تأخر علم الاصول تاريخيا عن ظهور علم الفقه والحديث ناتجا عن ارتباط العقلية الاصولية بمستوى متقدم نسبيا من التفكير الفقهي فحسب، بل هناك سبب آخر له أهمية كبيرة في هذا المجال، وهو أن علم الاصول لم يوجد بوصفه لونا من ألوان الترف الفكري، وإنما وجد تعبيرا عن حاجة ملحة شديده لعملية الاستنباط التي تتطلب من علم الاصول، تموينها بالعناصر المشتركة التي لا غنى لها عنها، ومعنى هذا أن الحاجة إلى علم الاصول تنبع من حاجة عملية الاستنباط إلى العناصر المشتركة التي تدرس في هذا العلم وتحدد، وحاجة عملية الاستنباط إلى هذه العناصر الاصولية هي في الواقع حاجة تاريخية وليست حاجة مطلقة، أي إنها حاجة توجد وتشتد بعد أن يبتعد الفقه عن عنصر النصوص، ولا توجد بتلك الدرجة في الفقه المعاصر لعصر النصوص. ولكي تتضح الفكرة لديك أفرض نفسك تعيش عصر النبوة على مقربة من النبي (صلى الله عليه وآله) تسمع منه الاحكام مباشرة وتفهم النصوص الصادرة منه بحكم وضوحها اللغوي ومعاصرتك لكل ظروفها وملابساتها أفكنت بحاجة لكي تفهم الحكم الشرعي أن ترجع إلى عنصر مشترك أصولي كعنصر حجية الخبر وأنت تسمع النص مباشرة من النبي (صلى الله عليه وآله) أو ينقله لك أناس تعرفهم مباشرة ولا تشك في صدقهم ؟ أو كنت في حاجة إلى أن ترجع إلى عنصر مشترك أصولي كعنصر حجية الظهور العرفي وأنت تدرك بسماعك للنص الصادر من النبي معناه الذي يريده إدراكا واضحا لا يشوبه شك في كثير من الاحيان بحكم اطلاعك على جميع ملابسات النص وظروفه ؟ أو كنت


[ 52 ]
بحاجة إلى التفكير في وضع قواعد لتفسير الكلام المجمل إذا صدر من النبي وأنت قادر على سؤاله والاستيضاح منه بدلا عن التكفير في تلك القواعد ؟. وهذا يعني أن الانسان كلما كان أقرب إلى عصر التشريع وأكثر امتزاجا بالنصوص، كان أقل حاجة إلى التفكير في القواعد العامة والعناصر المشتركة، لان إستنباط الحكم الشرعي يتم عندئذ بطريقة ميسرة دون أن يواجه الفقيه ثغرات عديدة ليفكر في ملئها عن طريق العناصر الاصولية. وأما إذا ابتعد الفقيه عن عصر النص واضطر إلى الاعتماد على التأريخ والمؤرخين والرواة والمحدثين في نقل النصوص، فسوف يواجه ثغرات كبيرة وفجوات تضطره إلى التفكير في وضع القواعد لملئها، فهل صدر النص المروي من المعصوم حقيقة أو كذب الراوي أو أخطأ في نقله ؟ وماذا يريد المعصوم بهذا النص ؟ هل يريد المعنى الذي أفهمه فعلا من النص حين أقرأه أو معنى آخر كان له ما يوضحه من الظروف والملابسات التي عاشها النص ولم نعشها معه ؟ وماذا يصنع الفقيه حيث يعجز عن الحصول على نص في المسألة ؟. و هكذا يصبح الانسان بحاجة إلى عناصر كحجية الخبر أو حجية الظهور العرفي أو غيرهما من القواعد الاصولية. وهذا هو ما نقصده من القول بأن الحاجة إلى علم الاصول حاجة تأريخية ترتبط بمدى ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع وانفصالها عن ظروف النصوص الشرعية وملابساتها، لان الفاصل الزمني عن ذلك الظرف هو الذي يخلق الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط. وهذه الثغرات هي التي توجد الحاجة الملحة إلى علم الاصول والقواعد الاصولية. وارتباط الحاجة إلى علم الاصول بتلك الثغرات مما أدركه الرواد الاوائل لهذا العلم، فقد كتب السيد الجليل حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي المتوفي سنة (585) ه‍ في القسم الاول من كتابه الغنية يقول: " لما كان


[ 53 ]
الكلام في فروع الفقه يبنى على أصول له وجب الابتداء بأصوله ثم اتباعها بالفروع، وكان الكلام في الفروع من دون إحكام أصله لا يثمر، وقد كان بعض المخالفين سأل فقال: إذا كنتم لا تعملون في الشرعيات إلا بقول المعصوم فأي فقر بكم إلى أصول الفقه، وكلامكم فيها كأنه عبث لا فائدة فيه " ففي هذا النص يربط ابن زهرة بين الحاجة إلى علم الاصول والثغرات في عملية الاستنباط، إذ يجعل التزام الامامية بالعمل بقول الامام (عليه السلام) فحسب سببا لاعتراض القائل بأنهم ما داموا كذلك لا حاجة لهم بعلم الاصول، لان استخراج الحكم إذا كان قائما على أساس قول المعصوم مباشرة فهو عمل ميسر لا يشتمل على الثغرات التي تتطلب التفكير في وضع القواعد والعناصر الاصولية لملئها. ونجد في نص للمحقق السيد محسن الاعرجي المتوفي سنة (1227) ه‍ في كتابه الفقهي وسائل الشيعة وعيا كاملا لفكرة الحاجة التأريخية لعلم الاصول، فقد تحدث عن اختلاف القريب من عصر النص عن البعيد منه في الظروف والملابسات وقال في جملة كلامه: " أين من حظى بالقرب ممن ابتلى بالبعد حتى يدعى تساويهما في الغنى والفقر ؟ كلا إن بينهما ما بين السماء والارض، فقد حدث بطول الغيبة وشدة المحنة وعموم البلية، ما لولا الله وبركة آل الله لردها جاهلية. فسدت اللغات وتغيرت الاصطلاحات وذهبت قرائن الاحوال وكثرت الأكاذيب وعظمت التقية واشتد التعارض بين الادلة حتى لا تكاد تعثر على حكم يسلم منه، مع ما اشتملت عليه من دواعي الاختلاف، وليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال. وكفاك مائزا بين الفريقين قرائن الاحوال وما يشاهد في المشافهة من الانبساط والانقباض.. وهذا بخلاف من لم يصب إلا أخبارا مختلفة وأحاديث متعارضة يحتاج فيها إلى العرض على الكتاب والسنة المعلومة.. فإنه لا بد من الاعداد والاستعداد


[ 54 ]
والتدرب في ذلك كي لا يزل، فإنه، إنما يتناول من بين مشتبك القنا ". وفي هذا الضوء نعرف أن تأخر علم الاصول تاريخيا لم ينتج فقط عن ارتباطه بتطور الفكر الفقهي ونمو الاستنباط، بل هو ناتج أيضا عن طبيعة الحاجة إلى علم الاصول فإنها حاجة تاريخية توجد وتشتد تبعا لمدى الابتعاد عن عصر النصوص. التصنيف في علم الاصول: وعلى الضوء المتقدم الذي يقرر أن الحاجة إلى علم الاصول حاجة تاريخية نستطيع أن نفسر الفارق الزمني بين ازدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهي السني وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهي الامامي، فإن التأريخ يشير إلى أن علم الاصول ترعرع وازدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الامامي، حتى إنه يقال: إن علم الاصول على الصعيد السني دخل في دور التصنيف في أواخر القرن الثاني، إذ ألف في الاصول كل من الشافعي المتوفي سنة (182) ه‍ ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة (189) ه‍ بينما قد لا نجد التصنيف الواسع في علم الاصول على الصعيد الشيعي إلا في اعقاب الغيبة الصغرى أي في مطلع القرن الرابع بالرغم من وجود رسائل سابقة لبعض أصحاب الائمة (عليهم السلام) في مواضيع أصولية متفرقة. وما دمنا قد عرفنا أن نمو التفكير الاصولي ينتج عن الحاجة إلى الاصول في عالم الاستنباط، وأن هذه الحاجة تاريخية تتسع وتشتد بقدر الابتعاد عن عصر النصوص، فمن الطبيعي أن يوجد ذلك الفارق الزمني وأن يسبق التفكير الاصولي السني إلى النمو والاتساع، لان المذهب السني كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فحين اجتاز التفكير الفقهي السني القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنية كبيرة تخلق


[ 55 ]
بطبيعتها الثغرات في عملية الاستنباط الامر الذي يوحي بالحاجة الشديده إلى وضع القواعد العامة الاصولية لملئها. وأما الامامية فقد كانوا وقتئذ يعيشون عصر النص الشرعي، لان الامام عليه السلام امتداد لوجود النبي (صلى الله عليه وآله)، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الامامية في الاستنباط أقل بكثير إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للاحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الاصول. ولهذا نجد أن الامامية بمجرد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص تفتحت ذهنيتهم الاصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة، وحققوا تقدما في هذا المجال على يد الرواد النوابغ من فقهائنا من قبيل الحسن بن علي بن أبي عقيل ومحمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي في القرن الرابع. ودخل علم الاصول بسرعة دور التصنيف والتأليف، فألف الشيخ محمد ابن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد المتوفي سنة (413) ه‍ كتابا في الاصول واصل فيه الخط الفكري الذي سار عليه ابن أبي عقيل وابن الجنيد قبله، ونقدهما في جملة من آرائهما. وجاء بعده تلميذه السيد المرتضى المتوفي سنة (436) ه‍ فواصل تنمية الخط الاصولي وأفرد لعلم الاصول كتابا موسعا نسبيا سماه " الذريعة " وذكر في مقدمته أن هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتجاهات الاصولية التي تميز الامامية باستيعاب وشمول. ولم يكن السيد المرتضى هو الوحيد من تلامذة المفيد الذين واصلوا تنمية هذا العلم الجديد والتصنيف فيه، بل صنف فيه أيضا عدد آخر من تلامذة المفيد، منهم سلار بن عبد العزيز الديملي المتوفي سنة (436) ه‍ إذ كتاب كتابا باسم التقريب في أصول الفقه. ومنهم الشيخ الفقيه المجدد محمد بن الحسن الطوسي المتوفي سنة


[ 56 ]
(460) الذي انتهت إليه الزعامة الفقهية بعد أستاذيه الشيخ المفيد والسيد المرتضى، فقد كتب كتابا في الاصول باسم " العدة في الاصول " وانتقل علم الاصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري، كما انتقل الفقه أيضا إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسع. وكان يقوم في هذا العصر إلى صف البحث الاصولي عمل واسع النطاق في جمع الاحاديث المنقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ودمج المجاميع الصغيرة في موسوعات كبيرة، فما انتهى ذلك العصر حتى حصل الفكر العلمي الامامي على مصادر أربعة موسعة للحديث. وهي الكافي لثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني المتوفي سنة (329) ه‍ ومن لا يحضره الفقيه للصدوق محمد بن علي بن الحسين المتوفي سنة (381) ه‍ والتهذيب للشيخ الطوسي ألفه في حياة الشيخ المفيد والاستبصار له أيضا. وتسمى هذه الكتب في العرف الامامي بالكتب الاربعة. تطور علم النظرية وعلم التطبيق على يد الشيخ الطوسي: لم تكن مساهمة الشيخ الطوسي في الاصول مجرد استمرار للخط وإنما كانت تعبر عن تطور جديد كجزء كم تطور شامل في التفكير الفقهي والعملي كله، أتيح لهذا الفقيه الرائد أن يحققه، فكان كتاب العدة تعبيرا عن التطور العظيم في البحث الفقهي على صعيد التطبيق بالشكل الذي يوازي التطور الاصولي على صعيد النظريات. والفارق الكيفي بين اتجاهات العلم التي انطلقت من هذا التطور الجديد واتجاهاته قبل ذلكن يسمح لنا باعتبار الشيخ الطوسي حدا فاصلا بين عصرين من عصور العلم بين العصر العلمي التمهيدي والعصر العلمي الكامل،


[ 57 ]
فقد وضع هذا الشيخ الرائد حدا للعصر التمهيدي وبدأ به عصر العلم الذي أصبح الفقه والاصول فيه علما له دقته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة. ولعل أفضل طريقة ممكنة في حدود إمكانات هذه الحلقة لتوضيح التطور العظيم الذي أحرزه العلم على يد الشيخ الطوسي، أن نلاحظ نصين كتب الشيخ أحدهما في مقدمة كتاب العدة وكتب الآخر في مقدمة كتاب المبسوط. أما في كتاب العدة فقد كتب في مقدمته يقول: " سألتم أيدكم الله إملاء مختصر في أصول الفقه يحيط بجميع أبوابه على سبيل الايجاز والاختصار على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه أصولنا، فإن من صنف في هذا الباب سلك كل قوم منهم المسلك الذي اقتضاه أصولهم ولم يعهد من أصحابنا لاحد في هذا المعنى إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله في المختصر الذي له في أصول الفقه ولم يستقصه وشذ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها وتحريرات غير ما حررها، وإن سيدنا الاجل المرتضى أدام الله علوه وإن أكثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك، فلم يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه ويجعل ظهرا يستند إليه، وقلتم: إن هذا فن من العلم لا بد من شدة الاهتمام به، لان الشريعة كلها مبنية عليه ولا يتم العلم بشئ منها دون إحكام أصولها، ومن لم يحكم أصولها فإنما يكون حاكيا ومعتادا ولا يكون عالما ". وهذا النص من الشيخ الطوسى يعكس مدى أهمية العمل الاصولي الذي أنجزه قدس سره في كتاب العدة وطابعه التأسيسي في هذا المجال، وما حققه من وضع النظريات الاصولية ضمن الاطار المذهبي العام الامامية. ويعزز هذا النص من الناحية التأريخية أولية الشيخ المفيد في التصنيف الاصولي على الصعيد الشيعي، كما أنه يدل على أن الشيخ الطوسي كتب كتاب العدة أو بدأ به في حياة السيد المرتضى، إذ دعا له بالبقاء. ولعله لاجل


[ 58 ]
ذلك لم يكن يعرف وقتئذ شيئا عن كتاب الذريعة للمرتضى، إذ نفى وجود كتاب له في علم الاصول. وهذا يعني أن الطوسي بدأ بكتابه قبل أن يكتب المرتضى الذريعة أو أن الذريعة كانت مؤلفة فعلا ولكنها لم يعلن عنها ولم يطلع عليها الشيخ الرائد حين بدأ تصنيفه للكتاب. وكتب الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي العظيم المبسوط، يقول: " إني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستخفون بفقه أصحابنا الامامية وينسبونهم إلى قلة الفروع وقلة المسائل ويقولون: إنهم أهل حشو ومناقصة، وإن من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول، لان جل ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلة تأمل لاصولنا، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أن جل ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجرى قول النبي (صلى الله عليه وآله) إما خصوصا أو عموما أو تصريحا أو تلويحا. وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلا وله مدخل في أصولنا ومخرج على مذاهبنا لا على وجه القياس بل على طريقة توجب علما يجب العمل عليها ويسوغ المصير إليها من البناء على الاصل وبراءة الذمة وغير ذلك. مع أن أكثر الفروع لها مدخل فيما نص عليه أصحابنا، وإنما كثر عددها عند الفقهاء لتركيبهم المسائل بعضها على بعض وتعليقها والتدقيق فيها حتى أن كثيرا من المسائل الواضحة دق لضرب من الصناعة وإن كانت المسألة معلومة واضحة. وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل وتضعف نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به، لانهم ألفوا الاخبار وما رووه من صريح الالفاظ حتى أن مسألة لو غير لفظها وعبر عن معناها بغير


[ 59 ]
اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم وأصلوها من المسائل وفرقوه في كتبهم، ورتبته ترتيب الفقه وجمعت بين النظائر ورتبت فيه الكتب على ما رتبت للعلة التي بينتها هناك، ولم أتعرض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الابواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالالفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك، وعملت بآخره مختصر جمل العقود في العبادات سلكت فيه طريق الايجاز والاختصار وعقود الابواب في ما يتعلق بالعبادات، ووعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصة يضاف إلى كتاب النهاية ويجتمع معه يكون كاملا كافيا في جميع ما يحتاج إليه، ثم رأيت أن ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه، لان الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الاصل معه، فعدلت إلى عمل كتاب يشتمل على عدد بجميع كتب الفقه التي فصلها الفقهاء، وهي نحو من ثلاثين كتابا أذكر كل كتاب منه على غاية ما يمكن تلخيصه من الالفاظ، واقتصرت على مجرد الفقه دون الادعية والآداب، واعقد فيه الابواب وأقسم فيه المسائل وأجمع بين النظائر واستوفيه غاية الاستيفاء وأذكر أكثر الفروغ التي ذكرها المخالفون وأقول ما عندي على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه أصولنا بعد أن أذكر أصول جميع المسائل.. وهذا الكتاب إذا سهل الله تعالى إتمامه يكون كتابا لا نظير له لا في كتب أصحابنا ولا في كتب المخالفين، لاني إلى الآن ما عرفت لاحد من الفقهاء كتابا واحدا يشتمل على الاصول والفروع مستوفا مذهبنا، بل كتبهم وإن كانت كثيرة فليس يشتمل عليهما كتاب واحد. وأما أصحابنا فليس لهم في هذا المعنى ما يشار إليه، بل لهم مختصرات ". وهذا النص يعتبر من الوثائق التاريخية التي تتحدث عن المراحل البدائية


[ 60 ]
من تكون الفكر الفقهي التي مر بها علم الشريعة لدى الامامية ونما من خلالها حتى أنتج أمثال الشيخ الطوسي من النوابغ الذين نقلوه إلى مستوى أوسع وأعمق. ويبدو من هذا النص أن البحث الفقهي الذي سبق الشيخ الطوسي وأدركه هذا الفقيه العظيم وضاق به، كان يقتصر في الغالب على استعراض المعطيات المباشرة للاحاديث والنصوص، وهي ما سماها الشيخ الطوسي بأصول المسائل، ويتقيد في استعراض تلك المعطيات بنفس الصيغ التي جاءت في مصادرها من تلك الاحاديث. ومن الطبيعي أن البحث الفقهي حين يقتصر على أصول المسائل المعطاة بصورة مباشرة في النصوص ويتقيد بصيغتها المأثورة، يكون بحثا منكمشا لا مجال فيه للابداع والتعمق الواسع النطاق. وكتاب المبسوط كان محاولة ناجحة وعظيمة في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضيق المحدود في أصول المسائل إلى نطاق واسع يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الاحكام وتطبيق القواعد العامة ويتتبع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات المباشرة للنصوص. وبدرس نصوص الفقيه الرائد رضوان الله عليه في العدة والمبسوط، يمكننا أن نستخلص الحقيقتين التاليتين: إحداهما أن علم الاصول في الدور العلمي الذي سبق الشيخ الطوسي كان يتناسب مع مستوى البحث الفقهي الذي كان يقتصر وقتئذ على أصول المسائل والمعطيات المباشرة للنصوص، ولم يكن بإمكان علم الاصول في تلك الفترة أن ينمو نموا كبيرا، لان الحاجات المحدودة للبحث الفقهي الذي حصر نفسه في حدود المعطيات المباشرة للنصوص لم تكن تساعد على ذلك فكان من الطبيعي أن ينتظر علم الاصول نمو التفكير الفقهي واجتيازه تلك المراحل


[ 61 ]
التي كان الشيخ الطوسي يضيق بها ويشكو منها. والحقيقة الاخرى هي أن تطور علم الاصول الذي يمثله الشيخ الطوسي في كتاب العدة كان يسير في خط مواز للتطور العظيم الذي أنجز في تلك الفترة على الصعيد الفقهي. وهذه الموازاة التاريخية بين التطورين تعزز الفكرة التي قلناها سابقا عن التفاعل بين الفكر الفقهي والفكر الاصولي أي بين بحوث النظرية وبحوث التطبيق الفقهي، فإن الفقيه الذي يشتغل في حدود التعبير عن مدلول النص ومعطاه المباشر بنفس عبارته أو بعبارة مرادفة ويعيش قريبا من عصر صدوره من المعصوم، لا يحس بحاجة شديدة إلى قواعد، ولكنه حين يدخل في مرحلة التفريع على النص ودرس تفصيلات وافتراض فروض جديدة لاستخراج حكمها بطريقة ما من النص يجد نفسه بحاجة كبيرة ومتزايدة إلى العناصر والقواعد العامة وتنفتح أمامه آفاق التفكير الاصولي الرحيبة. ويجب أن لا نفهم من النصوص المتقدمة التي كتبها الشيخ الطوسي أن نقل الفكر الفقهي من دور الاقتصار على أصول المسائل والجمود على صيغ الروايات إلى دور التفريع وتطبيق القواعد، قد تم على يد الشيخ فجأة وبدون سابق إعداد، بل الواقع أن التطور الذي أنجزه الشيخ في الفكر الفقهي كان له بذوره التي وضعها قبلها أستاذاه السيد المرتضى والشيخ المفيد وقبلهما ابن أبي عقيل وابن الجنيد كما أشرنا سابقا، وكان لتلك البذور أهميتها من الناحية العلمية حتى نقل عن أبي جعفر بن معد الموسوي وهو متأخر عن الشيخ الطوسي أنه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه التهذيب فذكر أنه لم ير لاحد من الطائفة كتابا أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ولا أرق معنى منه، وقد استوفى فيه الفروع والاصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريق الامامية وطريق مخاليفهم. فهذه الشهادة تدل


[ 62 ]
على قيمة البذور التي نمت حتى آتت أكلها على يد الطوسي. وقد جاء كتاب العدة للطوسي الذي يمثل نمو الفكر الاصولي في أعقاب تلك البذور تلبية لحاجات التوسع في البحث الفقهي. وعلى هذا الضوء نعرف أن من الخطأ القول بأن كتاب العدة ينقض العلاقة بين تطور الفقه وتطور الاصول ويثبت إمكانية تطور الفكر الاصولي بدرجة كبيرة دون أن يحصل أدنى تغيير في الفكر الفقهي، لان الشيخ صنف العدة في حياة السيد المرتضى والفكر الفقهي وقتئذ كان يعيش مستواه البدائي ولم يتطور إلا خلال كتاب المبسوط الذي كتبه الشيخ في آخر حياته. ووجه الخطأ في هذا القول أن كتاب المبسوط وإن كان متاخرا تاريخيا عن كتاب العدة ولكن كتاب المبسوط لم يكن إلا تجسيدا للتوسع والتكامل للفكر الفقهي الذي كان قد بدأ بالتوسع والنمو والتفريع على يد ابن الجنيد والسيد المرتضى وغيرهما. الوقوف النسبي للعلم: ما مضى المجدد العظيم محمد بن الحسن الطوسي قدس سره حتى قفز بالبحوث الاصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة وخلف تراثا ضخما في الاصول يتمثل في كتاب العدة وتراثا ضخما في التطبيق الفقهي يتمثل في كتاب المبسوط. ولكن هذا التراث الضخم توقف عن النمو بعد وفاة الشيخ المجدد طيلة قرن كامل في المجالين الاصولي والفقهي على السواء. وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملة من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل والاستغراب، لان الحركة الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والاصول والمنجزات العظيمة التي حققها في هذه المجالات كان من المفروض والمترقب أن تكون قوة دافعة للعلم وأن تفتح لمن يخلف الشيخ من العلماء آفاقا رحيبة للابداع والتجديد ومواصلة السير في الطريق الذي بدأه الشيخ، فكيف لم


[ 63 ]
تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدفع والاغراء بمواصلة السير ؟. هذا هو السؤال الذي يجب التوفر على الاجابة عنه، ويمكننا بهذا الصدد أن نشير إلى عدة أسباب من المحتمل أن نفسر الموقف: 1 - من المعلوم أن تاريخيا أن الشيخ الطوسي هاجر إلى النجف سنة (488) ه‍ نتيجة للقلاقل والفتن التي ثارت بين الشيعة والسنة في بغداد أي قبل وفاته ب‍ (12) سنة، وكان يشغل في بغداد قبل هجرته مركزا علميا معترفا به من الخاصة والعامة حتى ظفر بكرسي الكلام والافادة من الخليفة القائم بأمر الله الذي لم يكن يمنح هذا الكرسي إلا لكبار العلماء الذين يتمتعون بشهرة كبيرة، ولم يكن الشيخ مدرسا فحسب بل كان مرجعا وزعيما دينيا ترجع إليه الشيعة في بغداد وتلوذ به في مختلف شؤونها منذ وفاة السيد المرتضى عام (436) ه‍ ولاجل هذا كانت هجرته إلى النجف سببا لتخليه عن كثير من المشاغل وانصرافه انصرافا كاملا إلى البحث العلمي الامر الذي ساعده على أنجاز دوره العلمي العظيم الذي ارتفع به إلى مستوى المؤسسين كما أشار إلى ذلك المحقق الشيخ أسد الله التستري في كتاب مقابس الانوار، إذ قال: " ولعل الحكمة الالهية اتفق للشيخ تجرده للاشتغال بما تفرد به من تأسيس العلوم الشرعية ولا سيما المسائل الفقهية ". فمن الطبيعي على هذا الضوء أن يكون السنين التي قضاها الشيخ في النجف أثرها الكبير في شخصيته العلمية التي تمثلت في كتاب المبسوط، وهو آخر ما ألفه في الفقه كما نص على ذلك ابن إدريس في بحث الانفال من السرائر، بل آخر ما ألفه في حياته كما جاء في كلام مترجميه. وإلى جانب هذا نلاحظ أن الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل في أكبر الظن عن تلامذته وحوزته العلمية في بغداد، وبدأ ينشئ في النجف


[ 64 ]
حوزة فتية حوله من أولاده أو الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية من مجاوري القبر الشريف أو أبناء البلاد القريبة منه كالحلة ونحوها، ونمت الحوزة على عهده بالتدريج وبرز فيها العنصر المشهدي نسبة إلى المشهد العلوي والعنصر الحلي وتسرب التيار العلمي منها إلى الحلة. ونحن حين نرجح أن الشيخ بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الاساسية وأنشأ في مهجره حوزة جديدة، نستند إلى عدة مبررات: فقبل كل شئ نلاحظ أن مؤرخي هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف لم يشيروا إطلاقا إلى أن تلامذة الشيخ الطوسي في بغداد رافقوه أو التحقوا به فور هجرته إلى النجف، وإذا لاحظنا إضافة إلى ذلك قائمة تلامذة الشيخ التي يذكرها مؤرخوه نجد أنهم لم يشيروا إلى مكان التلمذة إلا بالنسبة إلى شخصين جاء النص على أنهما تلمذا على الشيخ في النجف، وهما الحسين ابن المظفر بن علي الحمداني والحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي وأقرب الظن فيهما معا أنهما من التلامذة المحدثين للشيخ الطوسي. أما الحسين بن المظفر فقد ذكر الشيخ منتجب الدين في ترجمته من الفهرست أنه قرأ على الشيخ جميع تصانيفه في الغري، وقراءته لجميع تصانيف الشيخ عليه في النجف يعزز احتمال أنه من تلامذته المحدثين الذين التحقوا به بعد هجرته إلى النجف، إذ لم يقرأ عليه شيئا منها قبل ذلك التأريخ، ويعزز ذلك أيضا أن أباه المظفر كان يحضر درس الشيخ الطوسي أيضا ومن قبله السيد المرتضى كما نص على ذلك منتجب الدين في الفهرست وهذا يعزز احتمال كون الابن من طبقة متأخرة عن الطبقة التي يندرج فيها الاب من تلامذة الشيخ. وأما الحسن بن الحسين البابويهي القمي فنحن نعرف من ترجمته أنه تلمذ على عبد العزيز بن البراج الطرابلسي أيضا وروى عن الكراچكي والصهرشتي، وهؤلاء الثلاثة هم من تلامذة الشيخ الطوسي، وهذا يعني


[ 65 ]
أن الحسن الذي تلمذ على الشيخ في النجف كان من تلامذته المتأخرين، لانه تلمذ على تلامذته أيضا. ومما يعزز احتمال حداثة الحوزة التي تكونت حول الشيخ في النجف الدور الذي أداه فيها ابنه الحسن المعروف بأبي علي، فقد تزعم الحوزة بعد وفاة أبيه، ومن المظنون أن أبا علي كان في دور الطفولة أو أوائل الشباب حين هاجر أبوه إلى النجف، لان تاريخ ولادته ووفاته وإن لم يكن معلوما ولكن الثابت تاريخيا أنه كان حيا في سنة (515) ه‍ كما يظهر من عدة مواضع من كتاب بشارة المصطفى، أي إنه عاش بعد هجرة أبيه إلى النجف قرابة سبعين عاما، ويذكر عن تحصيله أنه كان شريكا في الدرس عند أبيه مع الحسن بن الحسين القمي الذي رجحنا كونه من الطبقة المتأخرة، كما يقال عنه أن أباه أجازه سنة (455) ه‍ أي قبل وفاته بخمسين سنة، وهو يتفق مع حداثة تحصيله. فإذا عرفنا أنه خلف أباه في التدريس والزعامة العلمية للحوزة في النجف بالرغم من كونه من تلامذته المتأخرين في أغلب الظن استطعنا أن نقدر السمتوى العلمي العام لهذه الحوزة، ويتضاعف الاحتمال في كونها حديثة التكون والصورة التي تكتمل لدينا على هذا الاساس هي أن الشيخ الطوسي بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الاساسية في بغداد وأنشأ حوزة جديدة حوله في النجف وتفرغ في مهجره للبحث وتنمية العلم، وإذا صدقت هذه الصورة أمكننا تفسير الظاهرة التي نحن بصدد تعليلها، فإن الحوزة الجديدة التي نشأت حول الشيخ في النجف كان من الطبيعي أن لا ترقى إلى مستوى التفاعل المبدع مع التطور الذي أنجزه الطوسي في الفكر العلمي، لحداثتها. وأما الحوزة الاساسية ذات الجذور في بغداد فلم تتفاعل مع أفكار الشيخ،


[ 66 ]
لانه كان يمارس عمله العلمي في مهجره منفصلا عن تلك الحوزة، فهجرته إلى النجف وإن هيأته للقيام بدوره العلمي العظيم لما أتاحت له من تفرغ ولكنها فصلته عن حوزته الاساسية، ولهذا لم يتسرب الابداع الفقهي العلمي من الشيخ إلى تلك الحوزة التي كان ينتج ويبدع بعيدا عنها، وفرق كبير بين المبدع الذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة ويتفاعل معها باستمرار وتواكب الحوزة إبداعه بوعي وتفتح، وبين المبدع الذي يمارس ابداعه خارج نطاقها وبعيدا عنها. ولهذا كان لا بد لكي يتحقق ذلك التفاعل الفكري الخلاق أن يشتد ساعد الحوزة الفتية التي نشأت حول الشيخ في النجف حتى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري بانتظار بلوغ الحوزة الفتية إلى ذلك المستوى، وكلف ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عام ليتحقق ذلك ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوراثة العلمية للشيخ حتى تتفاعل مع آرائه وتتسرب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلاق إلى الحلة، بينما ذوت الحوزة القديمة في بغداد وانقطعت عن مجال الابداع العلمي الذي كانت الحوزة الفتية في النجف - وجناحها الحلي بصورة خاصة الوريثة الطبيعية له. 2 - وقد أسند جماعة من العلماء ذلك الركود الغريب إلى ما حظى به الشيخ الطوسي من تقدير عظيم في نفوس تلامذته رفعه في أنظارهم عن مستوى النقد، وجعل من آرائه ونظرياته شيئا مقدسا لا يمكن أن ينال باعتراض أو يخضع لتمحيص. ففي المعالم كتب الشيخ حسن بن زين الدين ناقلا عن أبيه قدس سره أن أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنهم به وروي عن الحمصي وهو ممن عاصر تلك الفترة أنه قال: " لم يبق للامامية مفت على


[ 67 ]
التحقيق بل كلهم حاك ". وهذا يعني أن رد الفعل العاطفي لتجديدات الشيخ قد طغى متمثلا في تلك النزعة التقديسية على رد الفعل الفكري الذي كان ينبغي أن يتمثل في درس القضايا والمشاكل التي طرحها الشيخ والاستمرار في تنمية الفكر الفقهي. وقد بلغ من استفحال تلك النزعة التقديسية في نفوس الاصحاب أنا نجد فيهم من يتحدث عن رؤيا لامير المؤمنين (عليه السلام) شهد فيها الامام (عليه السلام) بصحة كل ما ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي " النهاية "، وهو يشهد عن مدى تغلغل النفوذ الفكري والروحي للشيخ في أعماق نفوسهم. ولكن هذا السبب لتفسير الركود الفكري قد يكون مرتبطا بالسبب الاول، إذ لا يكفي التقدير العلمي لفقيه في العادة مهما بلغ لكي يغلق على الفكر الفقهي للآخرين أبواب النمو والتفاعل مع آراء ذلك الفقيه، وإنما يتحقق هذا عادة حين لا يكون هؤلاء في المستوى العلمي الذي يؤهلهم لهذا التفاعل فيتحول التقدير إلى إيمان وتعبد. 3 والسبب الثالث يمكننا أن نستنتجه من حقيقتين تاريخيتين: إحدهما أن نمو الفكر العلمي والاصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلا عن العوامل الخارجية التي كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي، ومن تلك العوامل عامل الفكر السني، لان البحث الاصولي في النطاق السني ونمو هذا البحث وفقا لاصول المذهب السني كان حافزا باستمرار للمفكرين من فقهاء الامامية لدراسة تلك البحوث في الاطار الامامي، ووضع النظريات التي تتفق معه في كل ما يثيره البحث السني من مسائل ومشاكل والاعتراض على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين. ويكفي للاستدلال على دور الاثارة الذي كان يقوم به التفكير الاصولي السني، هذان النصان لشخصين من كبار فقهاء الامامية:


[ 68 ]
1 - قال الشيخ الطوسي في مقدمة كتاب العدة يبرر إقدامه على تصنيف هذا الكتاب الاصولي: " إن من صنف في هذا الباب سلك كل قوم منهم المسلك الذي اقتضاه أصولهم ولم يعهد من أصحابنا لاحد في هذا المعنى ". 2 - وكتب ابن زهرة في كتابه الغنية وهو يشرح الاغراض المتوخاة من البحث الاصولي قائلا: " على أن لنا في الكلام في أصول الفقه غرضا آخر سوى ما ذكرناه، وهو بيان فساد كثير من مذاهب مخالفينا فيها وكثير من طرقهم إلى تصحيح ما هو صحيح منها (1) وأنه لا يمكنهم تصحيحها وإخراجهم بذلك عن العلم بشئ من فروع الفقه، لان العلم بالفروع من دون العلم بأصله محال، وهو غرض كبير يدعوا إلى العناية بأصول الفقه ويبعث على الاشتغال بها ". هذه هي الحقيقة الاولى. والحقيقة الاخرى هي أن التفكير الاصولي السني كان قد بدأ ينضب في القرن الخامس والسادس ويستنفذ قدرته على التجديد ويتجه إلى التقليد والاجترار، حتى أدى ذلك إلى سد باب الاجتهاد رسميا. ويكفينا لاثبات هذه الحقيقة شهادة معاصرة لتلك الفترة من عالم سني عاشها وهو الغزالي المتوفي نسة (505) ه‍، إذا تحدث عن شروط المناظر في البحث فذكر منها (أن يكون المناظر مجتهدا يفتى برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له، فأما من لم يبلغ رتبة الاجتهاد وهو حكم كل أهل العصر فأي فائدة له في المناظرة "

--------------------------------------------------------------------------------
(1) أي الكشف عن فساد كثير من متبنياتهم من ناحية وفساد الادلة التي يستندون إليها لاثبات المتبنيات الصحيحة من ناحية أخرى. (*)


[ 69 ]
ونحن إذا جمعنا بين هاتين الحقيقتين وعرفنا أن التفكير الاصولي السني الذي يشكل عامل إثاره للتفكير الاصولي الشيعي كان قد أخذ بالانكماش ومني بالعقم، استطعنا أن نستنتج أن التفكير العلمي لدى فقهائنا الامامية رضوان الله عليهم قد فقد أحد المثيرات المحركة له، الامر الذي يمكن أن نعتبره عاملا مساعدا في توقف النمو العلمي. ابن ادريس يصف فترة التوقف: ولعل من أفضل الوثائق التاريخية التي تصف تلك الفترة ما ذكره الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس الذي أدرك تلك الفترة وكان له دور كبير في مقاومتها وبث الحياه من جديد في الفكر العلمي كما سنعرف بعد لحظات، فقد كتب هذا الفقيه في مقدمة كتابه السرائر يقول: " إني لما رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والاحكام الاسلامية وتثاقلهم عن طلبها وعداوتهم لما يجهلون وتضييعهم لما يعلمون، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه مضيعا لما استوعته الايام مقصرا في البحث عما يجب عليه علمه حتى كأنه ابن يومه ومنتج ساعته.. ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان وميدانه قد عطل منه الرهان تداركت منه الذماء الباقي وتلافيت نفسا بلغت التراقي ". تجدد الحياة والحركة في البحث العلمي: ما انتهت مئة عام حتى دبت الحياة من جديد في البحث الفقهي والاصولي على الصعيد الامامي، بينما ظل البحث العلمي السني على ركوده الذي وصفه الغزالي في القرن الخامس. ومرد هذا الفرق بين الفكرين والبحثين إلى عدة أسباب أدت إلى استئناف الفكر العلمي الامامي نشاطه الفقهي والاصولي دون الفكر السني.


[ 70 ]
ونذكر من تلك الاسباب السببين التاليين: 1 - إن روح التقليد وإن كانت قد سرت في الحوزة التي خلفها الشيخ الطوسي كما تغلغلت في أوساط الفقه السني، ولكن نوعية الروح كانت تختلف لان الحوزة العلمية التي خلفها الشيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد لانها كانت حوزة فتية، فلم تستطع أن تتفاعل بسرعة مع تجديدات الشيخ العظيمة، وكان لا بد لها أن تنتظر مدة من الزمن حتى تستوعب تلك الافكار وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير فيها، فروح التقليد فيها موقتة بطبيعتها. وأما الحوزات الفقهية السنية فقد كان شيوع روح التقليد أغراضها، الامر الذي لا يمكننا التوسع في شرحه الآن على مستوى هذه الحلقة، فكان من الطبيعي أن يتفاقم فيها روح الجمود والتقليد. 2 - إن الفقه السني كان هو الفقه الرسمي الذي تتبناه الدولة وتستفتيه في حدود وفائها بالتزاماتها الدينية، ولهذا كانت الدولة تشكل عامل دفع وتنمية للفقه السني، الامر الذي يجعل الفقه السني يتأثر بالاوضاع السياسية ويزدهر في عصور الاستقرار السياسي وتخبو جذوته في ظروف الارتباك السياسي. وعلى هذا الاساس كان من الطبيعي أن يفقد الفقه السني شيئا مهما من جذوته في القرن السادس والسابع وما بعدهما تأثرا بارتباك الوضع السياسي وانهياره أخيرا على يد المغول الذين عصفوا بالعالم الاسلامي وحكوماته. وأما الفقه الامامي فقد كان منفصلا عن الحكم دائما ومغضوبا عليه من الاجهزة الحاكمة في كثير من الاحايين، ولم يكن الفقهاء الاماميون يستمدون دوافع البحث العلمي من حاجات الجهاز الحاكم، بل من حاجات


[ 71 ]
الناس الذين يؤمنون بإمامة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ويرجعون إلى فقهاء مدرستهم في حل مشاكلهم الدينية ومعرفة أحكامهم الشرعية. ولاجل هذا كان الفقه الامامي يتأثر بحاجات الناس ولا يتأثر بالوضع السياسي كما يتأثر الفقه السني. ونحن إذا أضفنا إلى هذه الحقيقة عن الفقه الامامي حقيقة أخرى، وهي أن الشيعة المتعبدين بفقه أهل البيت كانوا في نمو مستمر كميا وكانت علاقاتهم بفقهائهم وطريقة الافتاء والاستفتاء تتحدد وتتسع، استطعنا أن نعرف أن الفقه الامامي لم يفقد العوامل التي تدفعه نحو النمو بل اتسعت باتساع التشيع وشيوع فكرة التقليد بصورة منظمة. وهكذا نعرف أن الفكر العلمي الامامي كان يملك عوامل النمو داخليا باعتبار فتوته وسيره في طريق التكامل، وخارجيا باعتبار العلاقات التي كانت تربط الفقهاء الاماميين بالشيعة وبحاجاتهم المتزايدة. ولم يكن التوقف النسبي له بعد وفاة الشيخ الرائد إلا لكي يستجمع قواه ويواصل نموه عنده الارتفاع إلى مستوى التفاعل مع آراء الطوسي. وأما عنصر الاثارة المتمثل في الفكر العلمي السني فهو وإن فقده الفكر العلمي الامامي نتيجة لجمود الحوزات الفقهية السنية، ولكنه استعاده بصورة جديدة، وذلك عن طريق عمليات الغزو المذهبي التي قام بها الشيعة، فقد أصبحوا في القرن السابع وما بعده في دور الدعوة إلى مذهبهم، ومارس علماؤنا كالعلامة الحلي وغيره هذه الدعوة في نطاق واسع، فكان ذلك كافيا لاثارة الفكر العلمي الشيعي للتعمق والتوسع في درس أصول السنة وفقهها وكلامها، ولهذا نرى نشاطا ملحوظا في بحوث الفقه المقارن قام به العلماء الذين مارسوا تلك الدعوة من فقهاء الامامية كالعلامة الحلي.


[ 72 ]
صاحب السرائر إلى صاحب المعالم: وكانت بداية خروج الفكر العلمي عن دور التوقف النسبي على يد الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس المتوفي سنة (598) ه‍، إذ بث في الفكر العلمي روحا جديدة، وكان كتابه الفقهي " السرائر " إيذانا ببلوغ الفكر العلمي في مدرسة الشيخ إلى مستوى التفاعل مع أفكار الشيخ ونقدها وتمحيصها. وبدراسة كتاب السرائر ومقارنته بالمبسوط يمكننا أن ننتهي إلى النقاط التالية: 1 - إن كتاب السرائر يبرز العناصر الاصولية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورة أوسع مما يقوم به كتاب المبسوط بهذا الصدد، فعلى سبيل المثال نذكر أن ابن إدريس أبرز في استنباطه لاحكام المياه الثلاث قواعد أصولية وربط بحثه الفقهي بها، بينما لا نجد شيئا منها في أحكام المياه من كتاب المبسوط وإن كانت بصيغتها النظرية العامة موجودة في كتب الاصول قبل ابن إدريس. 2 - إن الاستدلال الفقهي لدى ابن ادريس أوسع منه في كتاب المبسوط وهو يشتمل في النقاط التي يختلف فيها مع الشيخ على توسع في الاحتجاج وتجميع الشواهد، حتى أن المسألة التي لا يزيد بحثها في المبسوط على سطر واحد قد تبلغ في السرائر صفحة مثلا، ومن هذا القبيل مسألة طهارة الماء المتنجس إذا تمم بماء متنجس أيضا فقد حكم الشيخ في المبسوط ببقاء الماء على النجاسة ولم يزد على جملة واحدة في توضيح وجة نظره، وأما ابن إدريس فقد اختار طهارة الماء في هذه الحالة، وتوسع في بحث المسألة ثم ختمه قائلا: " ولنا في هذه المسألة منفردة نحو من عشر ورقات قد بلغنا فيها أقصى الغايات وحججنا القول فيها والاسئلة والادلة والشواهد من


[ 73 ]
الآيات والاخبار ". ونلاحظ في النقاط التي يختلف فيها ابن أدريس مع الشيخ الطوسي اهتماما كبيرا منه باستعراض الحجج التي يمكن أن تدعم وجهة نظر الطوسي وتفنيدها، وهذه الحجج التي يستعرضها ويفندها إما أن تكون من وضعه وإبداعه يفترضها افتراضا ثم يبطلها لكي لا يبقي مجالا لشبهة في صحة موقفه، أو أنها تعكس مقاومة الفكر التقليدي السائد لآراء ابن ادريس الجديدة. أي إن الفكر السائد استفزته هذه الآراء وأخذ يدافع عن آراء الطوسي، فكان ابن إدريس يجمع حجج المدافعين ويفندها. وهذا يعني أن آراء ابن إدريس كان لها رد فعل وتأثير معاصر على الفكر العلمي السائد الذي اضطره ابن إدريس للمبازرة. ونحن نعلم من كتاب السرائر أن ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم ولم يكن منكمشا في نطاق تأليفه الخاص، فمن الطبيعي أن يثير ردود فعل وأن تنعكس ردود الفعل هذه على صورة حجج لتأييد رأي الشيخ، فمن مجابهات ابن ادريس تلك ما جاء في المزارعة من كتاب السرائر، إذ كتب عن رأي فقهي يستهجنه ويقول: " والقائل بهذا القول السيد العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي شاهدته ورأيته وكاتبته وكاتبني وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ فاعتذر رحمه الله بأعذار غير واضحة ". كما نلمح في بحوث ابن إدريس ما كان يقاسيه من المقلدة الذين تعبدوا بآراء الشيخ الطوسي وكيف كان يضيق بجمودهم ؟ ففي مسألة تحديد المقدار الواجب نزحه من البئر إذا مات فيها كافر يرى ابن إدريس أن الواجب نزح جميع ما في البئر بدليل أن الكافر إذا باشر ماء البئر وهو حى وجب نزح جيمعها اتفاقا، فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها أولى. وإذا كان هذا الاستدلال الاستدلال بالاولوية يحمل طابعا عقليا جريئا بالنسبة


[ 74 ]
إلى مستوى العلم الذي عاصره ابن ادريس فقد علق عليه يقول: " وكأني بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ويقول: من قال هذا ومن ينظره في كتابه ومن أشار من أهل هذه الفن الذين هو القدوة في هذا إليه ؟ ". وأحيانا نجد أن ابن أدريس يحتال على المقلدة فيحاول أن يثبت لهم أن الشيخ الطوسي يذهب إلى نفس رأيه ولو بضرب من التأويل، فهو في مسألة الماء المتنجس المتمم كرا بمثله يفتي بالطهارة ويحاول أن يثبت ذهاب الشيخ الطوسي إلى القول بالطهارة أيضا، فيقول: " فالشيخ أبو جعفر الطوسي الذي يتمسك بخلافه ويقلده في هذه المسألة ويجعل دليلا يقوي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله. وأنا أبين إنشاء الله أن أبا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسألة بالكلية إذا تؤمل كلامه وتصنيفه حق التأمل وأبصر بالعين الصحيحة وأحضر له الفكر الصافي ". 3 - وكتاب السرائر من الناحية التاريخية يعاصر إلى حد ما كتاب الغنية الذي قام فيه حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي بدراسة مستقله لعلم الاصول، لان ابن زهرة هذا توفي قبل ابن إدريس ب‍ (19) عاما، فالكتابان متقاربان من الناحية الزمنية. ونحن إذا لاحظنا أصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرة مشتركة بينه وبين فقه ابن إدريس تميزهما عن عصر التقليد المطلق للشيخ، وهذه الظاهرة المشتركة هي الخروج على آراء الشيخ والاخذ بوجهات نظر تتعارض مع موقفه الاصولي أو الفقهي، وكما رأينا ابن ادريس يحاول في السرائر تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من أدلة كذلك نجد ابن زهرة يناقش في الغنية الادلة التي جاءت في كتاب العدة ويستدل على وجهات نظر معارضة، بل يثير أحيانا مشاكل أصولية جديدة لم تكن مثارة من قبل في كتاب العدة بذلك النحو (1).

--------------------------------------------------------------------------------
(1) لا بأس أن يذكر المدرس مثالين أو ثلاثة للمسائل التي اختلف فيها (*)


[ 75 ]
وهذا يعني أن الفكر الفكر العلمي كان قد نمى واتسع بكلا جناحيه الاصولي والفقهي حتى وصل إلى المستوى الذي يصلح للتفاعل مع آراء الشيخ ومحاكمتها إلى حد ما ما على الصعيدين الفقهي والاصولي، وذلك يعزز ما قلناه سابقا من أن نمو الفكر الفقهي ونمو الفكر الاصولي يسيران في خطين متوازيين ولا يتخلف أحدهما عن الآخر تخلفا كبيرا، لما بينهما من تفاعل وعلاقات. واستمرت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتسع وتزداد ثراءا عبر الاجيال، وبرز في تلك الاجيال نوابغ كبار صنفوا في الاصول والفقه وأبدعوا، فمن هؤلاء المحقق نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الحلي المتوفي سنة (676) ه‍، وهو تلميذ ابن إدريس ومؤلف الكتاب الفقهي الكبير " شرائع الاسلام " الذي أصبح بعد تأليفه محورا للبحث والتعليق والتدريس في الحوزة بدلا عن كتاب النهاية الذي كان الشيخ الطوسي قد ألفه قبل المبسوط. وهذا التحول من النهاية إلى الشرايع يرمز إلى تطور كبير في مستوى العلم، لان كتاب النهاية كان كتابا فقهيا يشتمل على أمهات المسائل الفقهية

--------------------------------------------------------------------------------
رأى ابن زهرة عن رأي الشيخ. فمن ذلك مسألة دلالة الامر على الفور، فقد كان الشيخ يقول بدلالته على الفور، وأنكر ابن زهرة ذلك وقال: إن صيغة الامر حيادية لا تدل على فور ولا تراخ. ومن ذلك أيضا مسألة اقتضاء النهي عن المعاملة لفسادها، فقد كان الشيخ يقول بالاقتضاء وأنكر ابن زهرة ذلك مميزا بين مفهومي الحرمة والفساد ونافيا للتلازم بينهما. وقد أثار ابن زهرة في بحوث العام والخاص مشكلة حجية العام المخصص في غير مورد التخصيص، بينما لم تكن هذه المشكلة قد أثيرت في كتاب العددة (*)


[ 76 ]
واصولها، وأما الشرايع فهو كتاب واسع يشتمل على التفريع وتخريج الاحكام وفقا للمخطط الذي وضعه الشيخ في المبسوط، فاحتلال هذا الكتاب المركز الرسمي لكتاب النهاية في الحوزة واتجاه حركة البحث والتعليق إليه يعني أن حركة التفريع والتخريج قد عمت واتسعت حتى أصبحت الحوزة كلها تعيشها. وقد صنف المحقق الحلي كتبا في الاصول، منها كتاب نهج الوصول إلى معرفة الاصول، وكتاب المعارج. ومن أولئك النوابغ تلميذ المحقق وابن أخته المعروف بالعلامة، وهو الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر المتوفي سنة (726) ه‍، وله كتب عديدة في الاصول من قبيل " تهذيب الوصول إلى علم الاصول " و " مبادئ الوصول إلى علم الاصول " وغيرهما. وقد ظل النمو العلمي في مجالات البحث الاصولي إلى آخر القرن العاشر، وكان المثل الاساسي له في أواخر هذه القرن الحسن بن زين الدين المتوفي سنة (1011) ه‍، وله كتاب في الاصول باسم " المعالم " مثل فيه المستوى العالي لعلم الاصول في عصره بتعبير سهل وتنظيم جديد، الامر الذي جعل لهذا الكتاب شأنا كبيرا في عالم البحوث الاصولية حتى أصبح كتابا دراسيا في هذا العلم وتناوله المعلقون بالتعليق والتوضيح والنقد. ويقارب المعالم من الناحية الزمنية كتاب زبدة الاصول الذي صنفه علم من أعلام العلم في أوائل القرن الحادي عشر، وهو الشيخ البهائي المتوفي سنة (1031) ه‍. الصدمة التي مني بها علم الاصول: وقد مني علم الاصول بعد صاحب المعالم بصدمة عارضت نموه وعرضته لحملة شديدة، وذلك نتيجة لظهور حركة الاخبارية في أوائل القرن الحادي


[ 77 ]
عشر على يد الميرزا محمد أمين الاسترابادي المتوفي سنة (1021) ه‍ واستفحال أمر هذه الحركة بعده، وبخاصة في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر. وكان لهذه الحملة بواعثها النفسية التي دفعت الاخباريين من علمائنا رضوان الله عليهم وعلى رأسهم المحدث الاسترابادي إلى مقاومة علم الاصول، وساعدت على نجاح هذه المقاومة نسبيا. نذكر منها ما يلي: 1 - عدم استيعاب ذهنية الاخباريين لفكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، فقد جعلهم ذلك يتخيلون أن ربط الاستنباط بالعناصر المشتركة والقواعد الاصولية يؤدي إلى الابتعاد عن النصوص الشرعية والتقليل من أهميتها. ولو أنهم استوعبوا فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كما درسها الاصوليون لعرفوا أن لكل من العناصر المشتركة والعناصر الخاصة دورها الاساسي وأهميتها، وأن علم الاصول لا يستهدف العناصر الخاصة بالعناصر المشتركة، بل يضع القواعد اللازمة لاستنباط الحكم من العناصر الخاصة. 2 - سبق السنة تاريخيا إلى البحث الاصولي والتصنيف الموسع فيه، فقد اكسب هذا علم الاصول إطارا سنيا في نظر هؤلاء الثائرين عليه، فأخذوا ينظرون إليه بوصفه نتاجا للمذهب السني. وقد عرفنا سابقا أن سبق الفقه السني تاريخيا إلى البحوث الاصولية لم ينشأ عن صلة خاصة بين علم الاصول والمذهب السني، بل هو مرتبط بمدى ابتعاد الفكر الفقهي عن عصر النصوص التي يؤمن بها، فإن السنة يؤمنون بأن عصر النصوص انتهى بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وبهذا وجدوا أنفسهم في أواخر القرن الثاني بعيدين عن عصر النص بالدرجة التي جعلتهم يفكرون في وضع علم الاصول، بينما كان الشيعة وقتئذ يعيشون


[ 78 ]
عصر النص الذي يمتد عندهم إلى الغيبة. ونجد هذا المعنى بوضوح ووعي في نص للمحقق الفقيه السيد محسن الاعرجي المتوفي سنة (1227) ه‍، إذ كتب في وسائله ردا على الاخباريين يقول: " إن المخالفين لما احتاجوا إلى مراعاة هذه الامور قبل أن نحتاج إليها سبقوا إلى التدوين لبعدهم عن عصر الصحابة وإعراضهم عن أئمه الهدى، وافتتحوا بابا عظيما لاستنباط الاحكام كثير المباحث دقيق المسارب جم التفاصيل، وهو القياس. فاضطروا إلى التدوين أشد ضرورة، ونحن مستغنون بأرباب الشريعة وأئمة الهدى، نأخذ منهم الاحكام مشافهة ونعرف ما يريدون بديهة. إلى أن وقعت الغيبة وحيل بيننا وبين إمام العصر (عليه السلام).. فاحتجنا إلى تلك المباحث وألف فيها متقدمونا كابن الجنيد وابن أبي عقيل، وتلاهما من جاء بعدهما كالسيد والشيخين وأبي الصلاح وأبي المكارم وابن إدريس والفاضلين والشهيدين إلى يومنا هذا. أترانا نعرض عن مراعاتها مع مسيس الحاجة لان سبقنا إليها المخالفون وقد قال (صلى الله عليه وآله) الحكمة ضالة المؤمن ! وما كنا في ذلك تبعا وإنما بحثنا عنها أشد البحث واستقصينا أثم الاستقصاء ولم نحكم في شئ منها إلا بعد قيام الحجة وظهور المحجة ". 3 - ومما أكد في ذهن هؤلاء الاطار السني لعلم الاصول ان ابن الجنيد وهو من رواد الاجتهاد وواضعي بذور علم الاصول في الفقه الامامي كان يتفق مع أكثر المذاهب الفقهية السنية في القول بالقياس. ولكن الواقع أن تسرب بعض الافكار من الدراسات الاصولية السنية إلى شخص كابن الجنيد لا يعني أن علم الاصول بطبيعته سني، وإنما هو نتيجة لتأثر التجربة العملية المتأخرة بالتجارب السابقة في مجالها. ولما كان للسنة تجارب سابقة زمنيا في البحث الاصولي فمن الطبيعي أن نجد في بعض التجارب المتأخرة تأثرا بها، وقد يصل التأثر أحيانا إلى درجة تبني بعض الآراء السابقة غفلة


[ 79 ]
عن واقع الحال. ولكن ذلك لا يعني بحال أن علم الاصول قد استورده الشيعة من الفكر السني وفرض عليهم من قبله، بل هو ضرورة فرضتها على الفقه الامامي عملية الاستنباط وحاجات هذه العملية. 4 - وساعد على إيمان الاخباريين بالاطار السني لعلم الاصول تسرب اصطلاحات من البحث الاصولي السني إلى الاصوليين الاماميين وقبولهم بها بعد تطويرها وإعطائها المدلول الذي يتفق مع وجهة النظر الامامية. ومثال ذلك كلمة " الاجتهاد " كما رأينا في بحث سابق، إذ أخذها علماؤنا الاماميون من الفقه السني وطوروا معناها، فتراءى لعلمائنا الاخباريين الذين لم يدركوا التحول الجوهري في مدلول المصطلح أن علم الاصول عند أصحابنا يتبنى نفس الاتجاهات العامة في الفكر العلمي السني، ولهذا شجبوا الاجتهاد وعارضوا في جوازه المحققين من أصحابنا. 5 - وكان الدور الذي يلعبه العقل في علم الاصول مثيرا آخر للاخباريين على هذا العلم نتيجة لاتجاههم المتطرف ضد العقل، كما رأينا في بحث سابق. 6 - ولعل أنجح الاساليب التي اتخذها المحدث الاسترابادي وأصحابه لاثارة الرأي العام الشيعي ضد علم الاصول هو استغلال حداثة علم الاصول لضربه، فهو علم لم ينشأ في النطاق الامامي إلا بعد الغيبة، وهذا يعني أن أصحاب الائمة وفقهاء مدرستهم مضوا بدون علم أصول، ولم يكونوا بحاجة إليه. وما دام فقهاء تلامذة الائمة من قبيل زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم ومحمد بن أبي عمير ويونس بن عبدالرحمن وغيرهم كانوا في غنى عن علم الاصول في فقههم، فلا ضرورة للتورط فيما لم يتورطوا فيه، ولا معنى للقول بتوقف الاستنباط والفقه على علم الاصول. ويمكننا أن نعرف الخطأ في هذه الفكرة على ضوء ما تقدم سابقا من أن الحاجة إلى علم الاصول حاجة تاريخية، فإن عدم إحساس الرواة والفقهاء


[ 80 ]
الذين عاشوا عصر النصوص بالحاجة إلى تأسيس علم الاصول لا يعني عدم احتياج الفكر الفقهي إلى علم الاصول في العصور المتأخرة التي يصبح الفقيه فيها بعيدا عن جو النصوص ويتسع الفاصل الزمني بينه وبينها، لان هذا الابتعاد يخلق فجوات في عملية الاستنباط ويفرض على الفقيه وضع القواعد الاصولية العامة لعلاج تلك الفجوات. الجذور المزعومة للحركة الاخبارية: وبالرغم من أن المحدث الاسترابادي كان هو رائد الحركة الاخبارية فقد حاول في فوائده المدنية أن يرجع بتاريخ هذه الحركة إلى عصر الائمة وأن يثبت لها جذورا عميقة في تاريخ الفقه الامامي لكي تكتسب طابعا من الشرعية والاحترام، فهو يقول: إن الاتجاه الاخباري كان هو الاتجاه السائد بين فقهاء الامامية إلى عصر الكليني والصدوق وغيرهما من ممثلي هذه الاتجاه في رأي الاسترابادي، ولم يتزعزج هذا الاتجاه إلا في أواخر القرن الرابع وبعده حين بدأ جماعة من علماء الامامية ينحرفون عن الخط الاخباري ويعتمدون على العقل في استنباطهم ويربطون البحث الفقهي بعلم الاصول تأثرا بالطريقة السنية في الاستنباط، ثم أخذ هذا الانحراف بالتوسع والانتشار. ويذكر المحدث الاسترابادي بهذا الصدد كلاما للعلامة الحلي الذي عاش قبله بثلاث قرون جاء فيه التعبير عن فريق من علماء الامامية بالاخباريين، ويستدل بهذا النص على سبق الاتجاه الاخباري تاريخيا. ولكن الحقيقة أن العلامة الحلي يشير بكلمة الاخباريين في حديثه إلى مرحلة من مراحل الفكر الفقهي لا إلى حركة ذات اتجاه محدد في الاستنباط، فقد كان في فقهاء الشيعة منذ العصور الاولى علماء أخباريون يمثلون المرحلة البدائية من التفكير الفقهي، وهؤلاء هم الذين تحدث عنهم الشيخ الطوسي


[ 81 ]
في كتاب المبسوط، وعن ضيق أفقهم واقتصارهم في بحوثهم الفقهية على أصول المسائل وانصرافهم عن التفريع والتوسع في التطبيق. وفي النقطة المقابلة لهم الفقهاء الاصوليون الذين يفكرون بذهنية أصولية ويمارسون التفريع الفقهي في نطاق واسع. فالاخبارية القديمة إذن تعبر عن مستوى من مستويات الفكر الفقهي لا عن مذهب من مذاهبه. وهذا ما أكده المحقق الجليل الشيخ محمد تقي المتوفي سنة (1248) ه‍ في تعليقته الضخمة على المعالم، إذ كتب بهذا الشأن يقول: " فإن قلت: إن علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان على صنفين أخباري وأصولي كما أشار إليه العلامة في النهاية وغيره. قلت: إنه وإن كان المتقدمون من علمائنا على صنفين، وكان فيهم أخبارية إلا أنه لم تكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء، بل لم يكن الاختلاف بينهم وبين الاصولية إلا في سعة الباع في التفريعات الفقهية وقوة النظر إلى القواعد الكلية والاقتدار على تفريع الفروع عليها، فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الاخبار ولم تكن طريقتهم التعدي عن مضامين الروايات وموارد النصوص، بل كانوا يفتون غالبا على طبق ما يرون ويحكمون على وفق متون الاخبار، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمق في المسائل العلمية.. وهؤلاء لا يتعرضون غالبا للفروع غير المنصوصة، وهو المعروفون بالاخبارية. وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل وأصحاب التحقيق والتدقيق في استعلام الاحكام من الدلائل، ولهم الاقتدار على تأصيل الاصول والقواعد الكلية عن الادلة القائمة عليها في الشريعة والتسلط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها، وهو الاصوليون منهم، كالعماني والاسكافي وشيخنا المفيد وسيدنا المرتضى والشيخ وغيرهم ممن يحذو حذوهم. وأنت إذ تأملت لا تجد فرقا بين الطريقتين إلا من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب وأصحاب النظر


[ 82 ]
الدقيق في استنباط المقاصد وتفريع الفروع على القواعد، ولهذا اتسعت دائرتهم في البحث والنظر وأكثروا من بيان الفروع والمسائل وتعدوا عن متون الاخبار.. وأولئك المحدثون ليسوا غالبا بتلك القوة من الملكة، وذلك التمكن من الفن، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات ولم يتعدوا غالبا عن ظواهر مضامينها ولم يوسعوا الدائرة في التفريعات على القواعد، وأنهم لما كانوا في أوائل إنتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح أصول الاحكام التي عمدتها الاخبار المأثورة عن العترة الطاهرة، فلم يتمكنوا من مزيد إمعان النظر في مضامينها وتكثير الفروغ المتفرعة عليها، ثم إن ذلك إنما حصل بتلاحق الافكار في الازمنة المتأخرة ". وفي كتاب الحدائق يعترف الفقيه الجليل الشيخ يوسف البحراني بالرغم من موافقته على بعض أفكار المحدث الاسترابادي بأن هذه المحدث هو أول من جعل الاخبارية مذهبا، وأوجد الاختلاف في صفوف العلماء على أسا ذلك، فقد كتب يقول: " ولم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقع هذا الاعتساف إلا في زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته المرضية، فإنه قد جرد لسان التشنيع على الاصحاب وأسهب في ذلك أي إسهاب وأكثر من التعصبات التي لا تليق بمثله من العلماء الاطياب ". اتجاه التأليف في تلك الفترة: وإذا درسنا النتاج العلمي في الفترة التي توسعت فيها الحركة الاخبارية في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر وجدنا اتجاها نشيطا موفقا في تلك المدة إلى جمع الاحاديث وتأليف الموسوعات الضخمة في الروايات والاخبار، ففي تلك المدة كتب الشيخ محمد باقر المجلسي قدس سره المتوفي سنة (1110) ه‍ كتاب البحار وهو أكبر موسوعة للحديث عند الشيعة، وكتب الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي قدس سرة المتوفي سنة (1104) ه‍


[ 83 ]
كتاب الوسائل الذي جمع فيه عددا كبيرا من الروايات المرتبطة بالفقه، وكتب الفيض محسن القاساني المتوفي سنة (1091) ه‍ كتاب الوافي المشتمل على الاحاديث التي جاءت في الكتب الاربعة، وكتب السيد هاشم البحراني المتوفي سنة (1107) ه‍ أو حوالي ذلك كتاب البرهان في التفسير جمع فيه المأثور من الروايات في تفسير القرآن. ولكن هذا الاتجاه العام في تلك الفترة إلى التأليف في الحديث لا يعني أن الحركة الاخبارية كانت هي السبب لخلقه وإن كانت عاملا مساعدا في أكبر الظن، بالرغم من أن بعض أقطاب ذلك الاتجاه لم يكنوا أخباريين، وإنما تكون هذه الاتجاه العام نتيجة لعدة أسباب، ومن أهمها أن كتبا عديدة في الروايات اكتشفت خلال القرون التي أعقبت الشيخ لم تكن مندرجة في كتب الحديث الاربعة عند الشيعة، ولهذا كان لا بد لهذه الكتب المتفرقة من موسوعات جديدة تضمها وتستوعب كل ما كشف عنه الفحص والبحث العلمي من روايات وكتب أحاديث. وعلى هذا الضوء قد يمكن أن نعتبر العمل في وضع تلك الموسوعات الضخمة التي أنجزت في تلك الفترة عاملا من العوامل التي عارضت نمو البحث الاصولي إلى صف الحركة الاخبارية، ولكنه عامل مبارك على أي حال، لان وضع تلك الموسوعات كان من مصلحة عملية الاستنباط نفسها التي يخدمها علم الاصول. البحث الاصولي في تلك الفترة: وبالرغم من الصدمة التي مني بها البحث الاصولي في تلك الفترة لم تنطفئ جذوته ولم يتوقف نهائيا، فقد كتب الملا عبدالله التوني المتوفي سنة (1071) ه‍ الوافية في الاصول، وجاء بعده المحقق الجليل السيد حسين الخونساري المتوفي سنة (1098) ه‍ وكان على قدر كبير من النبوغ والدقة،


[ 84 ]
فأمد الفكر الاصولي بقوة جديدة كما يبدو من أفكاره الاصولية في كتابه الفقهي " مشارق الشموس في شرح الدروس "، ونتيجة لمرانه العظيم في التفكير الفلسفي انعكس اللون الفلسفي على الفكر العلمي والاصولي بصورة لم يسبق لها نظير، ونقول: انعكس اللون الفلسفي لا الفكر الفلسفي، لان هذا المحقق كان ثائرا على الفسلفة وله معارك ضخمة مع رجالاتها، فلم يكن فكره فكرا فلسفيا بصيغته التقليدية وإن كان يحمل اللون الفلسفي، فيحنما مارس البحث الاصولي انعكس اللون وسرى في الاصول الاتجاه الفلسفي في التفكير بروحية متحررة من الصيغ التقليدية التي كانت الفلسفة تتبناها في مسائلها وبحوثها، وكان لهذه الروح أثرها الكبير في تاريخ العلم فيما بعد، كما سنرى إنشاء الله تعالى. وفي عصر الخونساري كان المحقق محمد بن الحسن الشيرواني المتوفي سنة (1098) ه‍ يكتب حاشيته على المعالم. ونجد بعد ذلك بحثين أصوليين: أحدهما قام به جمال الدين بن الخونساري، إذ كتب تعليقا على شرح المختصر للعضدي، وقد شهد له الشيخ الانصاري في الرسائل بالسبق إلى بعض الافكار الاصولية. والآخر السيد صدر الدين القمى الذي تلمذ على جمال الدين وكتب شرحا لوافية التوني ودرس عنده الاستاذ الوحيد البهبهاني وتوفي سنة (1071) ه‍. والواقع أن الخونساري الكبير ومعاصره الشيرواني وابنه جمال الدين وتلميذ ولده صدر الدين بالرغم من أنهم عاشوا فترة زعزعة الحركة الاخبارية للبحث الاصولي وانتشار العمل في الا حديث كانوا عوامل رفع للتفكير الاصولي، وقد مهدوا ببحوثهم لظهور مدرسة الاستاذ الوحيد البهبهاني التي افتتحت عصرا جديدا في تاريخ العلم كما سوف نرى، وبهذا يمكن اعتبار تلك البحوث البذور الاساسية لظهور هذه المدرسة والحلقة الاخيرة


[ 85 ]
التي اكسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى عصر ثالث. انتصار علم الاصول وظهور مدرسة جديدة: وقد قدر للاتجاه الاخباري في القرن الثاني عشر أن يتخذ من كربلاء نقطة ارتكاز له، وبهذا عاصر ولادة مدرسة جديدة في الفقه والاصول نشأت في كربلاء أيضا على يد رائدها المجدد الكبير محمد باقر البهبهاني المتوفي سنة (1206) ه‍، وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الاخبارية والانتصار لعلم الاصول، حتى تضاءل الاتجاه الاخباري ومني بالهزيمة، وقد قامت هذه المدرسة إلى صف ذلك بتنمية الفكر العلمي والارتفاع بعلم الاصول إلى مستوى أعلى، حتى أن بالامكان القول بأن ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحققون الكبار قد كان حدا فاصلا بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه والاصول. وقد يكون هذا الدور الايجابي الذي قامت به هذه المدرسة فافتتحت بذلك عصرا جديدا في تاريخ العلم متأثرا بعدة عوامل: (منها) عامل رد الفعل الذي أوجدته الحركة الاخبارية، وبخاصة حين جمعها مكان واحد ككربلاء بالحوزة الاصولية، الامر الذي يؤدي بطبيعته إلى شدة الاحتكاك وتضاعف رد الفعل. (ومنها) أن الحاجة إلى وضع موسوعات جديدة في الحديث كانت قد أشبعت ولم يبق بعد وضع الوسائل والوافي والبحار إلا أن يواصل العلم نشاطه الفكري مستفيدا من تلك الموسوعات في عمليات الاستنباط. (ومنها) أن الاتجاه الفلسفي في التفكير الذي كان الخونساري قد وضع إحدى بذوره الاساسية زود الفكر العلمي بطاقة جديدة للنمو وفتح


[ 86 ]
مجالا جديدا للابداع، وكانت مدرسة البهبهاني هي الوارثة لهذا الاتجاه. (ومنها) عامل المكان، فإن مدرسة الاستاذ الوحيد البهبهاني نشأت على مقربة من المركز الرئيسي للحوزة وهو النجف فكان قربها المكاني هذا من المركز سببا لاستمرارها ومواصلة وجودها عبر طبقات متعاقبة من الاساتذة والتلامذة، الامر الذي جعل بإمكانها أن تضاعف خبرتها باستمرار وتضيف خبرة طبقة من رجالاتها إلى خبرة الطبقة التي سبقتها، حتى استطاعت أن تقفز بالعلم قفزة كبيرة وتعطيه ملامح عصر جديد. وبهذا كانت مدرسة البهبهاني تمتاز عن المدارس العديدة التي كانت تقوم هنا وهناك بعيدا عن المركز وتتلاشى بموت رائدها. نص يصور الصراع مع الحركة الاخبارية: وللمحقق البهبهاني رائد هذه المدرسة كتاب في الاصول باسم " الفوائد الحائرية " نلمح فيه ضراوة المعركة التي كان يخوضها ضد الحركة الاخبارية. ونقتبس من الكتاب نصا يشير فيه إلى بعض شبهات الاخباريين وحججهم ضد علم الاصول، ويلمح لدى تفنيدها إلى ما شرحناه سابقا من أن الحاجة إلى علم الاصول حاجة تاريخية. قال البهبهاني: " لما بعد العهد عن زمان الائمة وخفت أمارات الفقه والادلة على ما كان المقرر عند الفقهاء والمعهود بينهم بلا خفاء بانقراضهم وخلو الديار عنهم إلى أن انطمس أكثر آثارهم كما كانت طريقة الامم السابقة والعادة الجارية في الشرائع الماضية، أنه كلما يبعد العهد عن صاحب الشريعة تخفى امارات قديمة وتحدث خيالات جديدة إلى أن تضمحل تلك الشريعة. توهم متوهم أن شيخنا المفيد ومن بعده من فقهائنا إلى الآن كانوا مجتمعين على الضلالة مبدعين بدعا كثيرة.. متابعين للعامة مخالفين لطريقة الائمة


[ 87 ]
ومغيرين لطريقة الخاصة مع غاية قربهم (1) لعهد الائمة ونهاية جلالتهم وعدالتهم ومعارفهم في الفقه والحديث و تبحرهم وزهدهم وورعهم ". ويستمر في استعراض مدى جرأة خصومه على أولئك الكبار ويحاسبهم على تلك الجرأة ثم يقول: " وشبهتهم الاخرى هي أن رواة هذه الاحاديث ما كانوا عالمين بقواعد المجتهدين (2) مع أن الحديث كان حجة لهم فنحن أيضا مثلهم لا نحتاج إلى شرط من شرائط الاجتهاد وحالنا بعينه حالهم، ولا ينقطعون بأن الراوي كان يعلم أن ما سمعه كلام إمامه وكان يفهم من حيث أنه من أهل اصطلاح زمان المعصوم (عليه السلام) ولم يكن مبتلى بشئ من الاختلالات التي ستعرفها ولا محتاجا إلى علاجها ". استخلاص: ولا يمكننا على مستوى هذه الحلقة أن نتوسع في درس الدور المهم الذي قامت به هذه المدرسة استاذا وتلامذة وما حققه للعلم من تطوير وتعميق. وإنما الشئ الذي يمكننا تقريره الآن مع تلخيص كل ما تقدم عن تاريخ العلم هو أن الفكر العلمي مر بعصور ثلاثة: (الاول) العصر التمهيدي، وهو عصر وضع البذور الاساسية لعلم الاصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد وينتهي بظهور الشيخ. (الثاني) عصر العلم، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور وأثمرت وتحددت معالم الفكر الاصولي وانعكست على مجالات البحث

--------------------------------------------------------------------------------
(1) أي إن هذه التهمة توجه الهيم بالرغم من أنهم في غاية القرب لعهد الائمة. (2) يقصد بقواعد المجتهدين علم الاصول. (*)


[ 88 ]
الفقهي في نطاق واسع، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي ومن رجالاته الكبار ابن إدريس والمحقق الحلي والعلامة والشهيد الاول وغيرهم من النوابع. (الثالث) عصر الكمال العلمي، وهو العصر الذي افتتحته في تاريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الاستاذ الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدمته من جهود متضافرة في الميدانين الاصولي والفقهي. وقد تمثلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الاستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القمة. ففي هذه المدة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة: ويتمثل الجيل الاول في المحققين الكبار من تلامذة الاستاذ الوحيد، كالسيد مهدي بحر العلوم المتوفي سنة (1212) ه‍، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفي سنة (1227) ه‍، والميرزا أبي القاسم القمي المتوفي سنة (1227) ه‍، والسيد علي الطباطبائي المتوفي سنة (1221) ه‍، والشيخ أسد الله التستري المتوفي سنة (1234) ه‍. ويتمثل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرجوا على بعض هؤلاء، كالشيخ محمد تقي عبدالرحيم المتوفي سنة (1248) ه‍، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن علي المتوفي سنة (1245) ه‍، والسيد محسن الاعرجي المتوفي سنة (1227) ه‍، والمولى أحمد النراقي المتوفي سنة (1245) ه‍، والشيخ محمد حسن النجفي المتوفي سنة (1266) ه‍، وغيرهم. وأما الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقق الكبير الشيخ مرتضى الانصاري الذي ولد بعيد ظهور المدرسة الجديدة عام (1214) ه‍ وعاصرها


[ 89 ]
في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموها ونشاطها، وقدر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها. ولا يزال علم الاصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الامامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الاستاذ الوحيد. ولا يمنع تقسيمنا هذا لتأريخ العلم إلى عصور ثلاثة إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكل مرحلة رائدها وموجهها. وعلى هذا الاساس نعتبر الشيخ الانصاري قدس سره المتوفي سنة (1281) ه‍ رائدا لارقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مئة سنة حتى اليوم.


[ 90 ]
مصادر الالهام للفكر الاصولي لا نستطيع ونحن لا نزال في الحلقة الاولى أن نتوسع في دراسة مصادر الالهام للفكر الاصولي ونكشف عن العوامل التي كانت تلهم الفكر الاصولي وتمده بالجديد تلو الجديد من النظريات، لان ذلك يتوقف على الاحاطة المسبقة بتلك النظريات، ولهذا سوف نلخص فيما يلي مصادر الالهام بصورة موجزة: 1 - بحوث التطبيق في الفقيه، فإن الفقيه تنكشف لديه من خلال بحثه الفقهي التطبيقي المشاكل العامة في عملية الاستنباط، ويقوم علم الاصول عندئذ بوضع الحلول المناسبة لها، وتصبح هذه الحلول والنظريات عناصر مشتركة في عملية الاستنباط. ولدى محاولة تطبيقها على مجالاتها المختلفة كثيرا ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدة يكون لها أثر في تعديل تلك النظريات أو تعميقها. ومثال ذلك أن علم الاصول يقرر أن الشئ إذا وجب وجبت مقدمته، فالوضوء يجب مثلا إذا وجبت الصلاة، لان الوضوء من مقدمات الصلاة، كما يقرر علم الاصول أيضا أن مقدمة الشئ إنما تجب في الظرف الذي يجب فيه ذلك الشئ ولا يمكن أن تسبقه في الوجوب، فالوضوء إنما يجب حين تجب الصلاة ولا يجب قبل الزوال، إذ لا تجب الصلاة قبل الزوال، فلا يمكن أن يصبح الوضوء واجبا قبل أن يحل وقت الصلاة وتجب. والفقيه حين يكون على علم بهذه المقررات ويمارس عمله في الفقه فسوف يلحظ في بعض المسائل الفقهية شذوذا جديرا بالدرس، ففي الصوم


[ 91 ]
يجد مثلا أن من المقرر فقهيا أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب الصوم قبل ذلك، وكذلك من الثابت في الفقه أن المكلف إذا أجنب في ليلة الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصح صومه، لان الغسل من الجنابة مقدمة للصوم، فلا صوم بدونه، كما أن الوضوء مقدمة للصلاة ولا صلاة بدون وضوء. ويحاول الفقيه بطبيعة الحال أن يدرس هذه الاحكام الفقهية على ضوء تلك المقررات الاصولية، فيجد نفسه في تناقض، لان الغسل وجب على المكلف فقهيا قبل مجئ وقت الصوم، بينما يقرر علم الاصول أن مقدمة كل شئ إنما تجب في ظرف وجوب ذلك الشئ ولا تجب قبل وقته. وهكذا يرغم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع من جديد النظرية الاصولية ويتأمل في طريقة للتوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي، وينتج عن ذلك تولد أفكار أصولية جديدة بالنسبة إلى النظرية تحددها أو تعمقها وتشرحها بطريقة جديدة تتفق مع الواقع الفقهي. وهذا المثال مستمد من الواقع، فإن مشكلة تفسير وجوب الغسل قبل وقت الصوم تكشفت من خلال البحث الفقهي، وكان أول بحث فقهي استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن أدريس في السرائر، وإن لم يوفق لعلاجها. وأدى اكتشاف هذه المشكلة إلى بحوث أصولية دقيقة في طريق التوفيق بين المقرارت الاصولية السابقة والواقع الفقهي، وهي البحوث التي يطلق عليها اليوم اسم بحوث المقدمات المفوتة. 2 - علم الكلام، فقد لعب دورا مهما في تموين الفكر الاصولي وإمداده، وبخاصة في العصر الاول والثاني، لان الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم

السابق  التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله