مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

المعالم الجديدة للأصول


[ 1 ]
دروس تمهيدية في علم الاصول المعالم الجديدة للاصول محمد باقر الصدر


[ 2 ]
الطبعة الثانية عام 1395 ه‍ 1975 م إصدار مكتبة النجاح لصحابها: السيد مرتضى الرضوي طهران - ناصر خسرو - پاساژ مجيدي الطبعة الاولى مطبعة النعمان - النجف الاشرف


[ 3 ]
كلمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله المعصومين الطاهرين. وبعد فإني لم أضع هذا الكتاب ليعبر عن بحوث علم أصول الفقه كما تعالج في الدراسات الخاصة، ولا ليبرهن على وجهات نظري في المسائل الاصولية بالصورة الكافية لابرازها إبرازا دقيقا والاستدلال عليها ومقارنتها الواسعة بسائر الآراء والاتجاهات القائمة في علم الاصول، كما هي الطريقة المتبعة في الكتب التي تصنف على مستوى الدراسات العالية وبحوث الخارج. وإنما الهدف الذى أتوخاه من هذا الكتاب هو تقديم علم الاصول بصورة بدائية ومبسطة للمبتدئين في دراسة هذا العلم، ولهذا راعيت في كل جوانب الكتاب أن يكون في مستوى هذا الهدف. وقد حاولت إضافة إلى ذلك أن أمكن الهواة الراغبين في معلومات عامة عن العلم من الحصول عليها في هذا الكتاب، ولاجل هذا لاحظت في درجة التوضيح ما يحقق ذلك. ويعبر هذا الكتاب عن حلقة من حلقات ثلاث تندرج في عرض علم الاصول وتمهيده، وتشكل كل واحدة منها دراسة كاملة لعلم الاصول وإن اختلفت في مستوى العرض والدرجة العلمية للبحث. ففي هذه الحلقة توفرنا على ايجاد تصورات علمية عامة عن النظريات الاصولية، وتجنبنا في الغالب الخوض في المناقشات والاحتجاج. ويتهيأ الطالب عند إكمال هذه الحلقة لدراسة تلك النظريات بصورة


[ 4 ]
تصديقية في الحلقة الثانية التي سوف نعمق فيها التصورات المعطاة في الحلقة الاولى مع بحث تصديقي مجمل عن كل نظرية. وأما الحلقة الثالثة فهي تعرض المستوى الثالث من الدروس التمهيدية لعلم الاصول، ويمارس فيها الطالب دراسة النظريات الاصولية في اطار من الاقوال ووجهات النظر المتخالفة والادلة المتقابلة. وأما الهيكل العام والتصميم المشترك الذي وضعته للحلقات الثلاث فله مبرراته التي ترتبط بما اشرت إليه من الاهداف المتوخاة من وضع هذه الحلقة وما يليها، كما سنتحدث عنه في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى. النجف الاشرف 14 جمادي الثانية 1385 ه‍ محمد باقر الصدر


[ 5 ]
القسم الاول المدخل إلى علم الاصول تعريف علم الاصول تمهيد: بعد أن آمن الانسان بالله والاسلام والشريعة وعرف أنه مسؤول بحكم كونه عبدا لله تعالى عن إمتثال أحكام الله تعالى، يصبح ملزما بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الاسلامية، ومدعوا بحكم عقله إلى بناء كل تصرفاته الخاصة علاقاته مع الافراد الآخرين على أساسها، أي اتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة بوصفه عبدا للمشرع سبحانه الذي أنزل الشريعة على رسوله. ولاجل هذا كان لزاما على الانسان أن يعين الموقف العملي الذي تفرضه هذه التبعية عليه في كل شأن من شؤون الحياة ويحدده، فهل يفعل أو يترك ? وهل يتصرف بهذه الطريقة أو بتلك ؟. ولو كانت أحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها في كل الاحداث والوقائع واضحة وضوحا كاملا بديهيا للجميع، لكان تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة أمرا ميسورا لكل أحد، لان كل انسان يعرف أن الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعة في الواجبات هو " أن يفعل " وفي المحرمات هو " أن يترك " وفي المباحات هو " أنه بالخيار إن شاء فعل وان شاء ترك ". فلو كانت الواجبات والمحرمات وسائر الاحكام الشرعية محددة ومعلومة بصورة عامة وبدهية لكان الموقف العملي المحتم على الانسان بحكم تبعيته للشريعة واضحا في كل واقعة، ولما احتاج تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة إلى بحث علمي ودراسة واسعة.


[ 6 ]
ولكن عوامل عديدة - منها بعدنا الزمني عن عصر التشريع - أدت إلى عدم وضوح عدد كبير من أحكام الشريعة واكتنافها بالغموض. فنشأ نتيجة لذلك غموض في الموقف العملي الذى تفرضه على الانسان تبعيته تجاه الشريعة في كثير من الوقائع والاحداث، لان الانسان إذا لم يعلم نوع الحكم الذي تقرره الشريعة في واقعة ما أهو وجوب أو حرمة أو إباحة فسوف لن يعرف طبيعة الموقف العملي الذي يتحتم عليه أن يتخذه تجاه الشريعة في تلك الواقعة بحكم تبعيته للشريعة. وعلى هذا الاساس كان من الضروري أن يوضع علم يتولى رفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة بإقامة الدليل على تعيين الموقف العملي الذي تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة وتحديده. وهكذا كان، فقد أنشئ علم الفقه للقيام بهذه المهمة، فهو يشتمل على تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. والفقيه في علم الفقه يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العملي في كل حدث من أحداث الحياة وناحية من مناحيها، وهذا ما نطلق عليه في المصطلح العلمي اسم " عملية استنباط الحكم الشرعي "، فاستنباط الحكم الشرعي في واقعة معناه إقامة الدليل على تحديد الموقف العملي للانسان تجاه الشريعة في تلك الواقعة، أي تحديد المو قف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا. ونعني بالموقف العملي تجاه الشريعة السلوك الذي يفرض على الانسان بجم تبعيته للشريعة أن يسلكه تجاهها لكي يفي بحقها ويكون تابعا مخلصا لها. فعلم الفقه إذن هو العلم بالدليل على تحديد الموقف العملي من الشريعة في كل واقعة، والموقف العملي من الشريعة الذي يقيم علم الفقه الدليل على تحديده، هو " السلوك الذى تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة لكي يكون تابعا مخلصا لها وقائما بحقها "، وتحديد الموقف العملي بالدليل هو ما نعبر


[ 7 ]
عنه ب‍ " عملية استنباط الحكم الشرعي ". ولاجل هذا يمكن القول بأن علم الفقه هو علم استنباط الاحكام الشرعية، أو علم عملية الاستنباط بتعبير آخر. وتحديد الموقف العملي بدليل يزيل الغموض الذي يكتنف الموقف، يتم في علم الفقه باسلوبين: أحدهما الاسلوب غير المباشر، وهو تحديد الموقف العملي الذي تفرضه على الانسان تبعيته للشريعة عن طريق اكتشاف نوع الحكم الشرعي الذى قررته الشريعة في الواقعة وإقامة الدليل عليه، فيزول الغموض عن الحكم الشرعي وبالتالي يزول الغموض عن طبيعة الموقف العملي تجاه الشريعة فنحن إذا أقمنا الدليل على أن الحكم الشرعي في واقعة ما هو الوجوب استطعنا أن نعرف ما هو الموقف الذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نقفه تجاهها وهو " أن نفعل ". والاسلوب الآخر لتحديد الموقف العملي هو الاسلوب المباشر الذى يقام فيه الدليل على تحديد الموقف العملي لا عن طريق اكتشاف الحكم الشرعي الثابت في الواقعة - كما في الاسلوب الاول، بل يقام الدليل على تحديد الموقف العملي مباشرة، وذلك في حالة ما إذا عجزنا عن اكتشاف نوع الحكم الشرعي الثابت في الواقعة وإقامة الدليل على ذلك فلم ندر ما هو نوع الحكم الذي جاءت به الشريعة، أهو وجوب أو حرمة أو إباحة ؟ ففي هذه الحالة لا يمكن استعمال الاسلوب الاول لعدم توفر الدليل على نوع الحكم الشرعي، بل يجب أن نلجأ إلى أدلة تحدد الموقف العملي بصورة مباشرة وتوجهنا كيف نفعل ونتصرف في هذه الحالة ؟ وأي موقف عملي نتخذ تجاه الحكم الشرعي المجهول الذي لم نتمكن من اكتشافه ؟ وما هو السلوك الذي تحتم تبعيتنا للشريعة أن نسلكه تجاهه لكي نقوم بحق التعبية ونكون


[ 8 ]
تابعين مخلصين وغير مقصرين ؟. وفي كلا الاسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه إستنباط الحكم الشرعي، أي يحدد بالدليل الموقف العملي تجاه الشريعة بصورة غير مباشرة أو مباشرة. ويتسع علم الفقه لعمليات استنباط كثيرة بقدر الوقائع والاحداث التي تزخر بها حياة الانسان، فكل واقعة لها عملية استنباط لحكمها يمارس الفقيه فيها أحد ذينك الاسلوبين المتقدمين. وعمليات الاستنباط تلك التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعددها وتنوعها تشترك في عناصر موحدة وقواعد عامة تدخل فيها على تعددها. وتنوعها، ويتشكل من مجموع تلك العناصر المشتركة الاساس العام لعملية الاستنباط. وقد تطلبت هذه العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وضع علم خاص بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه، فكان علم الاصول. تعريف علم الاصول: وعلى هذا الاساس نرى أن يعرف علم الاصول بأنه " العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي ". ولكي نستوعب هذا التعريف بفهم يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ؟. ولنذكر - لاجل ذلك - نماذج بدائية من هذه العملية في صيغ مختصرة، لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. أفرضوا أن فقيها واجه هذه الاسئلة: 1 - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء ؟ 2 - هل يجب على الشخص إذا ورث مالا من أبيه أن يؤدي خمسه ؟ 3 - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها ؟


[ 9 ]
وأراد الفقيه ان يجيب على هذه الاسئلة، فانه سوف يجيب على السؤال الاول مثلا " نعم يحرم الارتماس على الصائم ". ويستنبط الفقيه هذا الحكم الشرعي بالطريقة التالية: قد دلت رواية يعقوب بن شعيب عن الامام الصادق عليه السلام على حرمة الارتماس على الصائم، فقد جاء: فيها إن الصادق (عليه السلام) قال: لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم. والجملة بهذا التركيب تدل في العرف العام - أي لدى أبناء اللغة بصورة عامة - على الحرمة، وراوي النص يعقوب بن شعيب ثقة، والثقة وإن كان قد يخطئ أو يشذ أحيانا ولكن الشارع أمرنا بعدم إتهام الثقة بالخطأ والشذوذ واعتبر روايته دليلا وأمرنا باتباعها، دون أن نعير احتمال الخطأ أو الشذوذ بالا. والنتيجة هي أن الارتماس حرام على الصائم والمكلف ملزم بتركه في حالة الصوم بحكم تبعيته للشريعة. ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي، أي لا يجب على الولد أن يدفع الخمس من تركة أبيه، لان رواية علي بن مهزيار التي حدد فيها الامام الصادق (عليه السلام) نطاق الاموال التي يجب أداء الخمس منها، ذكرت ان الخمس ثابت في الميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن. والعرف العام يفهم من هذه الجملة أن الشارع لم يجعل خمسا على الميراث الذى ينتقل من الاب إلى ابنه، والرواي وان كان من المحتمل وقوعه في خطأ أو شذوذ بالرغم من وثاقته، ولكن الشارع أمرنا باتباع روايات الثقات والتجاوز عن احتمال الخطأ والشذوذ، فالمكلف إذن غير ملزم بحكم تبعيته للشريعة بدفع خمس المال الذي يرثه من أبيه. ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالايجاب: " القهقهة تبطل الصلاة " بدليل رواية زرارة عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة. والعرف العام يفهم من النقض أن الصلاة إذا وقعت فيها


[ 10 ]
القهقهة اعتبرت لغوا ووجب استئنافها، وهذا يعني بطلانها. ورواية زرارة هي من تلك الروايات التي أمرنا الشارع باتباعها وجعله أدلة كاشفة، فيتحتم على المصلي بحكم تبعيته للشريعة أن يعيد صلاته، لان ذلك هو الموقف العملي الذي تتطلبه الشريعة منه. وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أن الاحكام التي استنبطها الفقيه كانت من أبواب شتى، فالحكم الاول يرتبط بالصوم والصائم، والحكم الثاني يرتبط بالخمس والنظام المالي في الاسلام، والحكم الثالث يرتبط بالصلاة ويحدد بعض حدودها. كما نرى أيضا أن الادلة التي استند إليها الفقيه مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الاول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية علي بن مهزيار، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة. ولكل من الروايات الثلاث نصها. وتركيبها اللفظي الخاص الذي يجب أن يدرس بدقة ويحدد معناه، ولكن توجد في مقابل هذا التنوع وهذه الاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عملية الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعا: فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم النص (1)، فان الفقيه اعتمد في فهمه للنص في كل موقف على طريقة فهم العرف العام للنص، وذلك يعني أن العرف العام حجة ومرجع في تعيين مدلول اللفظ. وهذا ما يطلق عليه في علم الاصول اسم " حجية الظهور " (2) فحجية الظهور

--------------------------------------------------------------------------------
(1) نريد بالنص هنا الكلام المنقول عن المعصوم عليه السلام. (2) الحجية في مصطلح علم الاصول تعني كون الدليل صالحا لاحتجاج المولى به على العبد بقصد مؤاخذته إذا لم يعمل العبد به، ولاحتجاج العبد به على المولى بقصد التخليص من العقاب إذا عمل به. فكل دليل له هذه الصلاحية من كلتا الناحيتين يعتبر حجة في المصطلح الاصولي، وظهور كلام (*)


[ 11 ]
إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث. كذلك أيضا يوجد عنصر مشترك آخر، وهو أمر الشارع باتباع روايات الثقات، لان الفقيه في كل عملية من عمليات الاستنباط الثلاث كان يواجه نصا يرويه ثقة قد يحتمل فيه الخطأ والشذوذ لعدم كونه معصوما ولكنه تجاوز هذا الاحتمال وأخرجه من حسابه إستنادا إلى أمر الشارع باتباع روايات الثقات، وهو ما نطلق عليه اسم " حجية الخبر ". ومعنى هذا أن حجية الخبر عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث، ولولا هذا العنصر المشترك لما أمكن للفقيه أن يستنبط حرمة الارتماس في الموقف الاول، ولا عدم وجوب الخمس من رواية علي بن مهزيار في الموقف الثاني، ولا بطلان الصلاة بالقهقهة في الموقف الثالث. وهكذا نستنتج أن عمليات الاستنباط للاحكام في الفقه تشتمل على عناصر خاصة كما تشتمل على عناصر مشتركة، ونعني بالعناصر الخاصة تلك العناصر التي تتغير من مسألة إلى مسألة، فرواية يعقوب بن شعيب عنصر خاص في عملية استنباط حرمة الارتماس، لانها لم تدخل في عمليات الاستنباط الاخرى، بل دخل بدلا عنها عناصر خاصة أخرى، كرواية علي بن مهزيار ورواية زرارة. ونعني بالعناصر المشتركة القواعد العامة التي تدخل في عمليات استنباط أحكام عديدة على مواضيع مختلفة، كعنصر حجية الظهور وعنصر حجية الخبر. وفي علم الاصول تدرس العناصر المشتركة في عملية الاستنباط التي لا يقتصر ارتباطها على مسألة فقهية خاصة بالذات. وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصة بكل عملية من عمليات الاستنباط في المسألة التى ترتبط بتلك العملية. وهكذا يترك للفقيه في كل مسألة أن يفحص بدقة الروايات الخاصة التي

--------------------------------------------------------------------------------
المولى من هذا القبيل، ولهذا يوصف بالحجية. (*)


[ 12 ]
ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات ويحاول فهم نصوصها وألفاظها على ضوء العرف العام. بينما يتناول الاصولي البحث عن حجية العرف العام بالذات والبحث عن حجية الخبر، ويطرح أسئلة ليجيب عليها من هذا القبيل. هل العرف العام حجة ؟ وما هو مدى النطاق الذي يجب الرجوع فيه إلى العرف العام ؟ وبأي دليل نثبت حجية الخبر ؟ وما هي الشروط العامة في الخبر الذي منحه الشارع صفة الحجية واعتبره دليلا ؟ إلى غير ذلك من الاسئلة التى تتصل بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط. وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم التعريف الذي أعطيناه لعلم الاصول، إذ قلنا: " إن علم الاصول هو العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط " أي إنه علم يبحث عن العناصر التي تدخل في عمليات استنباط متعددة لاحكام مواضيع متنوعة، كحجية الظهور العرفي وحجية الخبر، العنصرين المشتركين اللذين دخلا في استنباط أحكام الصوم والخمس والصلاة. ولا يحدد علم الاصول العناصر المشتركة فحسب، بل يحدد أيضا درجات استعمالها في عملية الاستنباط والعلاقة القائمة بينها، كما سنرى في البحوث المقبلة انشاء الله تعالى. وبهذا يضع للعملية الاستنباطية نظامها العام الكامل. ونستخلص من ذلك أن علم الاصول وعلم الفقه مرتبطان معا باستنباط الحكم الشرعي، فعلم الفقه هو علم نفس عملية الاستنباط، وعلم الاصول علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. والفقيه يمارس في علم الفقه عملية استنباط الحكم الشرعي باضافة العناصر الخاصة للعملية في البحث الفقهي إلى العناصر المشتركة التي يستمدها من علم الاصول، والاصولي يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويضعها في خدمة الفقيه.


[ 13 ]
موضوع علم الاصول: لكل علم - عادة - موضع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالات وقوانين، فالفيزياء مثلا موضعها الطبيعة، وبحوث الفيزياء ترتبط كلها بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالتها وقوانينها العامة. والنحو موضوعه الكلمة، لانه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها ورفعها ونصبها، فما هو موضوع علم الاصول الذى يتوفر هذا العلم على دراسته وتدور بحوثه حوله ؟. ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدمناه لعلم الاصول استطعنا أن نعرف أن علم الاصول يدرس في الحقيقة نفس عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه في علم الفقه، وتتعلق بحوثه كلها بتدقيق هذه العملية وإبراز ما فيها من عناصر مشتركة، وعلى هذا الاساس تكون عملية الاستنباط هي موضوع علم الاصول باعتباره علما يدرس العناصر المشتركة التي تدخل في تلك العملية من قبيل حجية الظهور العرفي وحجية الخبر. علم الاصول منطق الفقه: ولابد ان معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدم علم المنطق كمثال لعلم الاصول، فإن علم المنطق - كما تعلمون - يدرس في الحقيقة عملية التفكير، مهما كان لونها ومجالها وحقلها العلمي، ويحدد النظام العام الذي يجب أن تتبعه عملية التفكير لكي يكون التفكير سليما. مثلا: يعلمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال بوصفه عملية تفكير لكي يكون الاستدلال صحيحا ؟ كيف نستدل على أن سقراط فان ؟ وكيف نستدل على أن نار الموقد الموضوع امامي محرقة ؟ وكيف نستدل على أن مجموع زوايا


[ 14 ]
المثلث تساوي قائمتين ؟ وكيف نستدل على أن الخط الممتد بدون نهاية مستحيل ؟ وكيف نستدل على أن الخسوف ينتج عن توسط الارض بين الشمس والقمر ؟. كل هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال، كالقياس والاستقراء التي تطبق في مختلف هذه الحقول من المعرفة، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقا، إذ يضع المناهج والعناصر العامة فيها. وعلم الاصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية، غير أنه يبحث عن نوع خاص من عملية التفكير، أي عن عملية التفكير الفقهي في استنباط الاحكام، ويدرس العناصر المشتركة العامة التي يجب أن تستوعبها عملية الاستنباط، وتتكيف وفقا لها، لكي يكون الاستنباط سليما والفقيه موفقا في استنتاجه. فهو يعلمنا: كيف يجب أن ننهج في استنباط الحكم الشرعي ؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم ؟ كيف نستنبط الحكم باعتصام ماء الكر ؟ كيف نستنبط الحكم بوجوب صلاة العيد ؟ كيف نستنبط الحكم بحرمة تنجيس المسجد ؟ كيف نستنبط الحكم ببطلان البيع الصادر عن إكراه ؟. كل هذا يوضحه علم الاصول بوضع المناهج العامة لعملية الاستنباط والكشف عن عناصرها المشتركة. وعلى هذا الاساس قد نطلق على علم الاصول اسم " منطق علم الفقه " لانه يلعب بالنسبة إلى علم الفقه دورا ايجابيا مماثلا للدور الايجابي الذي يؤديه علم المنطق للعلوم والفكر البشري بصورة عامة، فهو على هذا الاساس " منطق علم الفقه " أو " منطق عملية الاستنباط " بتعبير آخر. ونستخلص من ذلك كله أن علم الفقه هو العلم بعملية الاستنباط، وعلم الاصول هو منطق تلك العملية الذي يبرز عناصرها المشتركة ونظامها العام الذي يجب على علم الفقه الاعتماد عليه.


[ 15 ]
أهمية علم الاصول في عملية الاستنباط: ولسنا بعد ذلك بحاجة إلى التأكيد على أهمية علم الاصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط، لانه ما دام يقدم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة يضع لها نظامها العام، فهو عصب الحياة في عملية الاستنباط والقوة الموجهة، وبدون علم الاصول يواجه الشخص في الفقه ركاما متناثرا من النصوص والادلة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط كإنسان يواجه أدوات النجارة ويعطى منشارا وفاسا وما اليهما من أدوات دون أن يملك أفكارا عامة عن عملية النجارة وطريقة استخدام تلك الادوات. وكما أن العناصر المشتركة في الاستنباط التي يدرسها علم الاصول ضرورية لعملية الاستنباط، فكذلك العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى اخرى، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة التي تشكل العناصر الخاصة والمتغيرة في علمية الاستنباط، فأنها الجرء الضروري الآخر فيها الذي لا تتم العملية بدونه، ولا يكفي في إنجاحها مجرد الاطلاع على العناصر المشتركة التى يمثلها علم الاصول واستيعابها. ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الاصولي فحسب نظير من يملك معلومات نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما اليهما من أدوات النجارة، فكما يعجز هذا الشخص عن وضع سرير خشبي مثلا فكذلك يعجز الاصولي عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقة العناصر الخاصة المتغيرة. وهكذا نعرف أن العناصر المشتركة والعناصر الخاصة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط ولا غنى للعملية عنهما معا، ولهذا يتحتم على المستنبط أن يدرس العناصر المشتركة في علم الاصول ثم يضيف إليها في


[ 16 ]
بحوث علم الفقه العناصر الخاصة لتكتمل لدية عملية الاستنباط التي يمارسها في علم الفقه. الاصول والفقه يمثلان النظرية والتطبيق: ونخشى أن نكون قد أوحينا اليكم بتصور خاطئ، حين قلنا ان المستنبط يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة ويحددها ويتناول في بحوث علم الفقه العناصر الخاصة ليكمل بذلك عملية الاستنباط، إذ قد يتصور البعض أنا إذا درسنا في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. وعرفنا مثلا حجية الخبر وحجية الظهور العرفي وما اليهما من العناصر الاصولية فلا يبقى علينا بعد ذلك أي جهد علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر الا إلى مجرد استخراج الروايات والنصوص من مواضعها، نظير من يستخرج تاريخ غزوة خبير أو روايات الهجرة من تاريخ السيرة النبوية، وبهذا يكون عمل الفقيه في علم الفقه مقتصرا على مجرد التفتيش عن العناصر الخاصة من الروايات والنصوص، لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي، وهو عمل سهل يسير بطبيعته لا يشتمل على جهد علمي، ونتيجة ذلك أن الجهد العلمي الذي يبذله المجتهد في عملية الاستنباط يتمثل في وضع العناصر المشتركة وتنظيمها ودراستها في علم الاصول، لا في جمع العناصر الخاصة من النصوص والروايات وغيرها في علم الفقه. ولكن هذا التصور خاطئ إلى درجة كبيرة، لان المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحددها في علم الاصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميع أعمى للعناصر الخاصة من كتب الاحاديث والروايات مثلا، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها العامة على العناصر الخاصة. والتطبيق مهمة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى


[ 17 ]
درس وتمحيص، ولا يغني الجهد العلمي المبذول أصوليا في دراسة العناصر المشتركة وتحديد نظرياتها العامة عن بذل جهد جديد في التطبيق. ولا نستطيع الآن أن نضرب الامثلة المتنوعة لتوضيح دقد التطبيق، لان فهم الامثلة يتوقف على اطلاع مسبق على النظريات الاصولية العامة. ولهذا نكتفي بمثال واحد بسيط، فنفرض أن المجتهد آمن في علم الاصول بحجية الظهور العرفي بوصفه عنصرا مشتركا في عملية الاستنباط، فهل يكفيه بعد هذا أن يضع اصبعه على رواية علي بن مهزيار التي حددت مجالات الخمس مثلا، ليضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الاب ؟ أو ليس المجتهد بحاجة إلى تدقيق مدلول النص في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كل ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفي من قرائن وأمارات داخل أطار النص أو خارجه، لكي يتمكن بأمانة من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي ؟ فهناك إذن بعد اكتشاف العنصر المشترك والايمان بحجية الظهور، مشكلة تعيين نوع الظهور في النص ودراسة جميع ملابساته، حتى إذا تأكد المجتهد من تعيين الظهور في النص ودلالته على عدم وجوب الخمس في الميراث، طبق على النص النظرية العامة التي يقررها العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي، واستنتج من ذلك أن الحكم الشرعي هو عدم وجوب الخمس. وفي هذا الضوء نعرف أن البحث الفقهي عن العناصر الخاصة في عملية الاستنباط ليس مجرد عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات العامة التي تقررها العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وتطبيق النظريات العامة له دائما موهبته الخاصة ودقته، ومجرد الدقة في النظريات العامة لا يغني عن الدقة في تطبيقها. ألا ترون أن من يدرس بعمق النظريات العامة في الطب يحتاج في مجال تطبيقها على حالة مرضية إلى دقة وانتباه كامل وتفكير في


[ 18 ]
تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه ؟ فالبحث الاصولي عن العناصر المشتركة وما تقرره من نظريات عامة يشابه بحث العالم الطبيب عن النظريات العامة في الطب، ودراسة الفقيه للعناصر الخاصة في مجال تطبيق تلك النظريات العامة من قبيل دراسة الطبيب لحالات المريض في مجال تطبيق النظريات العامة في الطب عليه، وكما قد يحتاج الطبيب إلى قدر كبير من الدقة والجهد لكي يوفق لتطبيق تلك النظريات العامة على مريضه تطبيقا صحيحا يمكنه من شفائه، فكذلك الفقه بعد أن يخرج من دراسة علم الاصول بالعناصر المشتركة والنظريات العامة ويواجه مسألة في نطاق البحث الفقهي من مسائل الخمس أو الصوم أو غيرهما، فهو يحتاج أيضا إلى دقة وتفكير في طريقة تطبيق تلك العناصر المشتركة على العناصر الخاصة بالمسألة تطبيقا صحيحا. وهكذا نعرف أن علم الاصول الذي يمثل العنصار المشتركة هو " علم النظريات العامة "، وعلم الفقه الذي يشتمل على العناصر الخاصة هو " علم تطبيق تلك النظريات في مجال العناصر الخاصة "، ولكل منهما دقته وجهده العلمي الخاص. واستنباط الحكم الشرعي هو نتيجة مزج النظرية بالتطبيق، أي العناصر المشتركة بالعناصر الخاصة، وعملية المزج هذه هي عملية الاستنباط، والدقة في وضع النظريات العامة لا تغني عن الدقة في تطبيقها خلال عملية الاستنباط. وقد أشار الشهيد الثاني إلى أهمية التطبيق الفقهي وما يتطلبه من دقة إذ كتب في قواعده يقول: " نعم يشترط مع ذلك - أي مع وضع النظريات العامة أن تكون له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى أصولها واستنباطها منها، وهذه هي العمدة في هذا الباب... وإنما تلك القوة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لاهلها


[ 19 ]
مدخل عظيم في تحصيلها ". التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي: عرفنا أن علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه، والعلاقة بينهما علاقة النظرية بالتطبيق، لان علم الاصول يمارس وضع النظريات العامة عن طريق تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، وعلم الفقه يمارس تطبيق تلك النظريات والعناصر المشتركة على العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى أخرى. وهذا الترابط الوثيق بين علم الاصول وعلم الفقه يفسر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الاصولية ومستوى البحث العلمي على صعيد النظريات من ناحية، وبين الذهنية الفقهية ومستوى البحث العلمي على صعيد التطبيق من ناحية أخرى، لان توسع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوة إلى الامام، لانه يثير أمامها مشاكل ويضطرها إلى وضع النظريات العامة لحلولها، كما أن دقة البحث في النظريات تنعكس على صيد التطبيق، إذ كلما كانت النظريات أدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة وعمقا واسيتعابا أكبر. وهذا التفاعل المتبادل بين الذهنيتين والمتسويين الفكريين لعلم الاصول وعلم الفقه يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مر بها البحث الفقهي والبحث الاصولي في تاريخ العلم فقد كان علم الاصول يتسع ويثري تدريجا تبعا لتوسع البحث الفقهي، لان اتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول. كما أن تدقيق العناصر المشتركة في علم الاصول وتحديد حدودها بشكل صارم كان ينعكس على مجال التطبيق، إذ كلما كانت


[ 20 ]
النظريات العامة موضوعة في صيغ أكثر صرامة وبدقة أكبر، كانت أكثر غموضا وتطلبت في مجال التطبيق التفاتا أكبر وانتباها أكمل. ولا نستطيع الآن - ونحن في الحلقة الاولى - أن نقدم النماذج من العلمين على هذا التفاعل، لان الطالب لا يملك حتى الآن خبرة واسعة ببحوث علم الاصول، ولكن يكفينا أن يعرف الطالب الآن أن التفاعل بين البحث الفقهي والبحث الاصولي هو مصداق لخط عريض يعبر عن التفاعل المتبادل في كثير من الاحايين بين بحوث النظرية وبحوث تطبيقها. أو ليس ممارسة العالم الطبيب لتطبيق النظريات على مرضاه في نطاق واسع يوحي إليه بمشاكل جديدة باستمرار، فيتولى بحث النظريات العامة العلمية في الطب حل تلك المشاكل، ويتعمق تدريجا وينعكس بالتالي على التطبيق ؟ إذ كلما ازداد الرصيد النظري للطبيب أصبح التطبيق بالنسبة إليه عملا واسعا. وكلنا نعلم أن طبيب الامس كان يكتفي في مجال التطبيق بإحصاء نبض المريض فينتهي عمله في لحظات، بينما يظل طبيب اليوم يدرس حالة المريض في عملية معقدة واسعة النطاق. ونفس ظاهرة التفاعل المتبادل بين الفكر الفقهي والفكر الاصولي الذي يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى الفقه، نجدها بين الفكر العلمي إطلاقا والفكر المنطقي العامي الذي يدرس النظام الاساسي للتفكير البشري، إذ كلما اتسع نطاق المعرفة البشرية وتنوعت مجالاتها تجددت مشاكل في مناهج الاستدلال والنظام العام للفكر، فيتولى المنطق تذليل تلك المشاكل وتطوير نظرياته وتكميلها بالشكل الذي يحتفظ لنفسه بقوة التوجيه والتنظيم العليا للفكر البشري. وعلى أي حال فإن فكرة التفاعل هذه سواء كانت بين علم الفقه ومنطقه الخاص المتمثل في الاصول، أو بين العلوم كلها ومنطقها العام، أو بين بحث أي نظرية وبحث تطبيقها، تحتاج إلى توضيح وشرح أوسع. ولا نستهدف


[ 21 ]
الآن من الاشارة إلى الفكرة إلا أن ينفتح ذهن الطالب لها ولو على سبيل الاجمال. نماذج من الاسئلة التي يجيب عليها علم الاصول: ويحسن بنا أن نقدم قائمة تشتمل على نماذج من الاسئلة التي يعتبر الجواب عليها من وظيفة علم الاصول، لنجسد بذلك للطالب الذي لا يملك الآن خبرة ببحوث هذا العلم أهمية الدور الذي يلعبه علم الاصول في عملية الاستنباط: 1 - ما هو الدليل على حجية خبر الثقة ؟ 2 - لماذا يجب أن نفسر النص الشرعي على ضوء العرف العام ؟ 3 - ماذا نصنع في مسألة إذا لم نجد فيها دليلا يكشف عن نوع الحكم الشرعي فيها ؟. 4 - ما هي قيمة الاكثرية في المسألة الفقهية ؟ وهل يكتسب الرأي طابعا شرعيا ملزما بالقبول إذا كان القائلون به أكثر عددا. 5 - كيف نتصرف إذا واجهنا نصين لا يتفق مدلول أحدهما مع مدلول الآخر ؟ 6 - ما هو الموقف إذا كنا على يقين بحكم شرعي معين ثم شككنا في استمراره ؟ 7 - ما هي الالفاط التي تدل مباشرة على الوجوب والالزام ؟ وهل يعتبر منها فعل الامر، من قبيل: اغتسل، توضأ صل ؟. إلى عشرات من الاسئلة التي يتولى علم الاصول الجواب عليها، ويحدد بذلك العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ويملا كل الثغرات التى يمكن أن تواجه الفقيه في عملية استنباطه للحكم الشرعي.


[ 22 ]
جواز عملية الاستنباط في ضوء ما تقدم عرفنا أن علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى عملية الاستنباط، لانه يشتمل على عناصرها المشتركة ويمدها بقواعدها العامة ونظامها الشامل، ولهذا لا يتاح للشخص أن يمارس عملية الاستنباط بدون دراسة علم الاصول. وما دام علم الاصول مرتبطا بعملية الاستنباط هذا الارتباط الوثيق فيجب أن نعرف قبل كل شئ موقف الشريعة من هذه العملية، فهل سمح الشارع لاحد بممارستها أو لا ؟ فإنم كان الشارع قد سمح بها فمن المعقول أن يوضع علم باسم " علم الاصول " لدارسة عناصرها المشتركة، وأما إذا كان الشارع قد حرمها فيلغو الاستنباط، وبالتالي يلغو علم الاصول رأسا لان هذا العلم إنما وضع للتمكين من الاستنباط، فحيث لا استنباط لا توجد حاجة إلى علم الاصول لانه يفقد بذلك مبررات وجوده، فلابد إذن أن تدرس هذه النقطة بصورة أساسية. والحقيقة أن هذه النقطة - أي مسألة جواز الاستنباط - حين تطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها، لا يبدو أنها جديرة بالتأمل والبحث العلمي، لاننا حين نتسأل: هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط أو لا ؟ يجئ الجواب على البداهة بالايجاب، لان عملية الاستنباط هي - كما عرفنا سابقا - عبارة عن " تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا استدلاليا "، ومن البديهي أن الانسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثال أحكامها عليه ملزم بتحديد موقفه العملي منها، ولما لم تكن أحكام الشريعة غالبا في البداهة


[ 23 ]
والوضوح بدرجة تغني عن إقامة الدليل، فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعا تحديد الموقف العملي تحديدا استدلاليا ويحجر عليهم النظر في الادلة التي تحدد موقفهم تجاه الشريعة، فعلمية الاستنباط إذن ليست جائزة فحسب بل من الضروري أن تمارس. وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الانسان للشريعة، والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات. ولكن لسوء الحظ اتفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغة أخرى لا تخلو عن غموض وتشويش، فأصبحت مثارا للاختلاف نتيجة لذلك الغموض والتشويش، فقد استخدمت كلمة الاجتهاد للتعبير عن عملية الاستنباط وطرح السؤال هكذا " هل يجوز الاجتهاد في الشريعة أو لا ؟ " وحينما دخلت كلمة الاجتهاد في السؤال - وهي كلمة مرت بمصطلحات عديدة في تاريخها - أدت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، ونتج عن ذلك أن تقدم جماعة من علمائنا المحدثين ليجيبوا على السؤال بالنفي، وبالتالي ليشجبوا علم الاصول كله لانه إنما يراد لاجل الاجتهاد، فإذا الغي الاجتهاد لم تعد حاجة إلى علم الاصول. وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطور الذي مرت به كلمة الاجتهاد، لكي نتبين كيف ان النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجة التي أثيرت ضدها لم يكن إلا نتيجة فهم غير دقيق للاصطلاح العلمي. وغفلة عن التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد في تاريخ العلم. * * * الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو " بذل الوسع للقيام بعمل ما " وقد استعملت هذه الكلمة - لاول مرة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدراس الفقه السني وسارت على أساسها وهي القاعدة القائلة: " إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا ولم يجد


[ 24 ]
نصا يدل عليه في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص ". والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع إلى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع، وقد يعبر عنه بالرأي أيضا. والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلا من أدلة الفقيه ومصدرا من مصادره فكما أن الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنة ويستدل بهما كذلك يستند في حالات عدم توفر النص إلى الاجتهاد الشخصي ويستدل به. وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة، ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم، كما سنرى في البحث المقبل. وتتبع كلمة الاجتهاد يدل على أن الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الائمة إلى القرن السابع، فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الائمة أيضا والرواة الذين حملو آثارهم وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالبا للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنف عبدالله بن عبدالرحمن الزبيري كتابا أسماه " الاستفادة في الطعون على الاوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس " وصنف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني كتابا في الموضوع باسم كتاب " الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول "، وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نص على ذلك


[ 25 ]
كله النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هولاء. وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له - على سبيل المثال - تعقيبة في كتابه على قصة موسى والخضر، إذ كتب يقول: " إن موسى - مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى - لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الامر به، فإذا لم يجز لانبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الامم أولى بأن لا يجور لهم ذلك... فإذا لم يصلح موسى للاختيار - مع فضله ومحله - فكيف تصلح الامة لاختيار الامام، وكيف يصلحون لاستنباط الاحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة ". وفي أواخر القرن الرابع يجئ الشيخ المفيد فيسير على نفس الخط ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ويكتب كتابا في ذلك باسم " النقص على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي ". ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب في الذريعة يذم الاجتهاد ويقول: " إن الاجتهاد باطل، وإن الامامية لا يجور عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد " وكتب في كتابه الفقهي " الانتصار " معرضا بابن الجنيد - قائلا " إنما عول ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر " وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: " إنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به ". واستمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك أيضا، فالشيخ الطوسي الذي توفي في أوساط القرن الخامس يكتب في كتاب العدة قائلا: " أما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور في


[ 26 ]
الشريعة استعمالهما ". وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عددا من المرجحات لاحدى البينتين على الاخرى، ثم يعقب ذلك قائلا: " ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ". وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة الاجتهاد كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع، وعلى هذا الاساس إكتسبت الكلمة لونا مقيتا وطابعا من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الامامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والايمان ببطلانه. ولكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا، ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخا من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفي سنة (676)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول: " وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الاحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الاحكام من أدلة الشرع اجتهادا، لانها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الاكثر سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد. فإن قيل: يلزم - على هذا - إن يكون الامامية من أهل الاجتهاد. قلنا: الامر كذلك لكن فيه إيهام من حيث أن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس ". ويلاحظ على هذا النص بوضوح أن كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في الذهنية الامامية مثقلة بتبعة المصطلح الاول، ولهذا يلمح النص إلى أن هناك من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمى فقهاء الامامية مجتهدين.


[ 27 ]
ولكن المحقق الحلي لم يتحرج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويرا يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الامامي، إذ بينما كان الاجتهاد مصدرا للفقيه يصدر عنه ودليلا يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره، فلم يعد مصدرا من مصادر الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه. والفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان للفقيه على أساس المصطلح الاول للاجتهاد أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم توفر النص، فإذا قيل له: ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا ؟ استدل بالاجتهاد وقال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاص وأما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الاحكام بالاجتهاد، لان الاجتهاد بالمعني الثاني ليس مصدرا للحكم بل هو عملية استنباط الاحكام من مصادرها، فإذا قال الفقيه " هذا اجتهادي " كان معناه أن هذا هو ما استنبطه من المصادر والادلة، فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه أن يدلنا على تلك المصادر والادلة التي استنبط الحكم منها. وقد مر هذا المعني الجديد لكلمة الاجتهاد بتطور أيضا، فقد حدده المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص فكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمى اجتهادا دون ما يستند إلى تلك الظواهر. ولعل الدافع إلى هذا التحديد أن استنباط الحكم من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناء علمي ليسمى اجتهادا. ثم اتسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك فأصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النص أيضا، لان الاصوليين بعد هذا لاحظوا بحق أن عملية استنباط الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيرا من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور


[ 28 ]
وتحديده وإثبات حجية الظهور العرفي. ولم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح عند هذا الحد، بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها فدخلت في الاجتهاد كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي أو على تعيين الموقف العملي مباشرة. وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط، وبالتالي أصبح علم الاصول العلم الضروري للاجتهاد لانه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط. وهذه التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد كمصطلح ترتبط بتطورات نفس الفكر العلمي إلى حد ما، وهذا ما قد يمكن توضيحه خلال دراستنا لتاريخ علم الاصول. * * * على هذا الضوء يمكننا أن نفسر موقف جماعة من المحدثين عارضوا الاجتهاد وبالتالي شجبوا علم الاصول، فإن هؤلاء استفزتهم كلمة الاجتهاد لما تحمل من تراث المصطلح الاول الذي شن أهل البيت (عليهم السلام) حملة شديدة عليه، فحرموا الاجتهاد الذي حمل المجتهدون من فقهائنا رايته، واستدلوا على ذلك بموقف الائمة (عليهم السلام) ومدرستهم الفقهية ضد الاجتهاد، وهم لا يعلمون أن ذلك الموقف كان ضد المعني الاول للاجتهاد، والفقهاء من الاصحاب قالوا بالمعني الثاني للكلمة. وهكذا واجهت عملية الاستنباط هجوما مريرا من هؤلاء باسم الهجوم على الاجتهاد، وتحملت التبعات التاريخية لهذه الكلمة، وبالتالي امتد الهجوم إلى علم الاصول لارتباطه بعملية الاستنباط والاجتهاد. ونحن بعد أن ميزنا بين معنيي الاجتهاد نستطيع أن نعيد إلى المسألة.


[ 29 ]
بداهتها، ونتبين بوضوح أن جواز الاجتهاد بالمعني المرادف لعملية الاستنباط من البديهيات. وما دامت عملية استنباط الحكم الشرعي جائزة بالبداهة فمن الضروري أن يحتفظ بعلم الاصول لدراسة العناصر المشتركة في هذا العملية. ويبقى علينا - بعد أن أثبتنا جواز عملية الاستنباط في الاسلام - أن ندرس نقطتين: إحداهما هي: أن الاسلام هل يسمح بهذه العملية في كل عصر ولكل فرد، أو لا يسمح بها إلا لبعض الافراد وفي بعض العصور ؟ والنقطة الاخرى هي: أن الاسلام كما يسمح له باستنباط حكم غيره وإفتائه بذلك ؟ وسوف ندرس هاتين النقطتين في بعض الحلقات المقبلة التي أعددناها لمراحل أعلى من دراسة هذا العلم.


[ 30 ]
الوسائل الرئيسة للاثبات في علم الاصول عرفنا أن عملية الاستنباط تتألف من عناصر مشتركة وعناصر خاصة وأن علم الاصول هو علم العناصر المشتركة في علمية الاستنباط ففيه تدرس هذه العناصر وتحدد وتنظم. وما دام علم الاصول هو العلم الذي يتكفل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعي أن يبرز هذا السؤال الاساسي: ما هي وسائل الاثبات التي يستخدمها علم الاصول، لكي يثبت بها حجية الخبر أو حجية الظهور العرفي، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ؟. ونظير هذا السؤال يواجهه كل علم، فبالنسبة إلى العلوم الطبيعية نسأل مثلا: ما هي وسائل الاثبات التي تستخدمها هذه العلوم لاكتشاف قوانين الطبيعة وإثباتها ؟ والجواب هو أن وسيلة الاثبات الرئيسية في العلوم الطبيعية هي التجربة. وبالنسبة إلى علم النحو يسأل أيضا ما هي وسائل الاثبات التي يستخدمها النحوي لاكتشاف قوانين إعراب الكلمة وتحديد حالات رفعها ونصبها ؟ والجواب هو أن الوسيلة الرئيسية للاثبات في علم النحو هي النقل عن المصادر الاصلية للغة وكلمات أبنائها الاولين. فلا بد لعلم الاصول إذن أن يواجه هذا السؤال وأن يحدد منذ البدء وسائل الاثبات التي ينبغي أن يستخدمها لاثبات العناصر المشتركة وتحديدها. وفي هذا المجال نقول: إن الوسائل الرئيسية التي ينبغي لعلم الاصول أن يستخدمها مردها إلى وسيلتين رئيسيتين، وهما:


[ 31 ]
1 - البيان الشرعي (الكتاب والسنة). 2 - (إلادراك العقلي. فلا تكتسب أي قضية طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط، ولا يجوز إسهامها في العملية إذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيسيتين، فإذا حاول الاصولي مثلا أن يدرس حجية الخبر لكي يدخله في عملية الاستباط - إذا كان حجة - يطرح على نفسه هذين السؤالين: هل ندرك بعقولنا أن الخبر حجة وملزم بالاتباع أم لا ؟ وهل يوجد بيان شرعي يدل على حجيته ؟ ويحاول الاصولي في بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقا للمستوى الذي يتمتع به من الدقة والانتباه، فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الاجابة بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك أنه لا يملك وسيلة لاثبات حجية الخبر، وبالتالي يستبعد الخبر عن نطاق الاستنباط. وأما إذا استطاع الباحث أن يجيب بالايجاب على أحد السؤالين أدى هذا إلى اثبات حجية الخبر ودخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصرا أصوليا مشتركا. وسوف نرى خلال البحوث المقبلة أن عددا من العناصر المشتركة قد تم إثباتها بالوسيلة الاولى - أي البيان الشرعي - وعددا آخر ثبت بالوسيلة الثانية - أي الادراك العقلي - فمن قبيل الاول حجية الخبر وحجية الظهور العرفي، ومن نماذج الثاني القانون القائل: " ان الفعل لا يمكن أن يكون واجبا وحراما في وقت واحد ". وعلى ضوء ما تقدم نعرف أن من الضروري - قبل البدء في بحوث علم الاصول لدراسة العناصر المشتركة - أن ندرس الوسائل الرئيسية التي ينبغي للعلم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر، ونتكلم عن حدودها لكي نستطيع بعد هذا أن نستخدمها وفقا لتلك الحدود.


[ 32 ]
البيان الشرعي: البيان الشرعي هو إحدى الوسيلتين الرئيسيتين لاثبات العناصر التي تساهم في عملية الاستنباط. ونقصد بالبيان الشرعي ما يلي: 1 - " الكتاب الكريم " وهو القرآن الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الاعجاز وحيا على أشرف المرسلين (صلى الله عليه وآله). 2 - " السنة " وهي كل بيان صادر من الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أحد الائمة المعصومين (عليهم السلام) والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - " البيان الايجابي القولي " وهو الكلام الذي يتكلم به المعصوم عليه السلام. 2 - " البيان الايجابي الفعلي " وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم عليه السلام. 3 - " البيان السلبي " وهو تقرير المعصوم (عليه السلام)، أي سكوته عن وضع معين بنحو يكشف عن رضاه بذلك الوضع وانسجامه مع الشريعة. ويجب الاخذ بكل هذه الانواع من البيان الشرعي، وإذا دل شئ منها على عنصر مشترك من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعي. وفي هذا المجال توجد عدة بحوث نتركها للحلقات المقبلة انشاء الله تعالى. الادراك العقلي: الادراك العقلي هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث هذا العلم لاثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، إذ قد يكون العنصر المشترك في عملية الاستنباط مما ندركه بعقولنا دون حاجة إلى بيان شرعي


[ 33 ]
لاثباته، من قبيل القانون القائل: " إن الفعل لا يمكن أن يكون حراما وواجبا في وقت واحد "، فإننا لا نحتاج في إثبات هذا القانون إلى بيان شرعي يشتمل على صيغة للقانون من هذا القبيل، بل هو ثابت عن طريق العقل، لان العقل يدرك أن الوجوب والحرمة صفتان متضادتان، وأن الشئ الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادتين، فكما لا يمكن أن يتصف الجسم بالحركة والسكون في وقت واحد كذلك لا يمكن أن يتصف الفعل بالوجوب والحرمة معا. والادراك العقلي له مصادر متعددة ودرجات مختلفة. فمن ناحية المصادر ينقسم الادراك العقلي إلى أقسام: (منها) الادراك العقلي القائم على أساس الحس والتجربة. ومثاله إدراكنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة، وأن وضعه على النار إلى مدة طويلة يؤدي إلى غليانه. (ومنها) الادراك العقلي القائم على أساس البداهة. ومثاله إدراكنا جميعا أن الواحد نصف الاثنين، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الكل أكبر من الجزء. فإن هذه الحقائق بديهية ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناء أو تأمل. (ومنها) الادراك القائم على أساس التأمل النظري. ومثاله إدراكنا أن المعلول يزول إذا زالت علته، فإن هذه الحقيقة ليست بديهية، ولا ينساق إليها الذهن بطبيعته، وإنما ندرك بالتأمل عن طريق البرهان والاستدلال. ومن ناحية الدرجات ينقسم الادراك العقلي إلى درجات: (فمنه) الادراك الكامل القطعي. وهو أن ندرك بعقولنا حقيقة من الحقائق إدراكا لا نتحمل فيه الخطأ والاشتباه، كإدراكنا أن زوايا المثلث تساوى قائمتين، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الارض كروية، وأن الماء


[ 34 ]
يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها. (ومن الادراك العقلي) ما يكون ناقصا. والادراك الناقص هو اتجاه العقل نحو ترجيح شئ دون الجزم به لاحتمال الخطأ، كادراكنا أن الجواد الذي سبق في مناورات سابقة سوف يسبق في المرة القادمة أيضا، وأن الدواء الذي نجح في علاج أمراض معينة سوف ينجح في علاج أعراض مرضية مشابهة، وأن الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة. والسؤال الاساسي في هذا البحث: ما هي حدود العقل أو الادراك العقلي الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسية لاثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ؟ فهل يمكن استخدام الادراك العقلي كوسيلة للاثبات مهما كان مصدره ومهما كانت درجته، أو لا يجوز استخدام الادراك العقلي كوسيلة للاثبات إلا ضمن حدود معينة من ناحية المصدر أو الدرجة. وقد إتجه البحث حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتجاهه نحو معالجة المصدر، فاتسعت الدراسات الاصولية التي تناولت حدود العقل من ناحية الدرجة، واختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده - بوصفه وسيلة إثبات رئيسية - فهل يشمل الادراكات الناقصة التي تؤدي إلى مجرد الترجيح أو يختص بالادراك الكامل المنتج للجزم ؟. ولهذا البحث تاريخه الزاخر في علم الاصول وفي تاريخ الفكر الفقهي، كما سنرى. الاتجاهات المتعارضة في الادراك العقلي وقد شهد تاريخ التفكير الفقهي اتجاهين متعارضين في هذه النقطة كل التعارض، يدعو أحدهما إلى اتخاذ العقل في نطاقة الواسع الذي يشمل الادراكات الناقصة، وسيلة رئيسية للاثبات في مختلف المجالات التي يمارسها


[ 35 ]
الاصولي والفقيه. والآخر يشجب العقل ويجرده إطلاقا عن وصفه وسيلة رئيسية للاثبات، ويعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليات الاستنباط. ويقف بين هذين الاتجاهين المتطرفين اتجاه ثالث معتدل يتمثل في جل فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الاتجاه الذي يؤمن - خلافا للاتجاه الثاني - بأن العقل أو الادراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للاثبات إلى صف البيان الشرعي، ولكن لا في نطاق منفتح - كما زعمه الاتجاه الاول - بل ضمن النطاق الذي تتوفر فيه للانسان القناعة التامة والادراك الكامل الذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ، فكل ادراك عقلي يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات، وأما الادراك العقلي الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح ولا يتوفر فيه عنصر الجزم فلا يصلح وسيلة إثبات لاي عنصر من عناصر عملية الاستنباط. فالعقل في رأي الاتجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة، وجديرة بالاعتماد عليها والاثبات بها إذا أدت إلى إدراك حقيقة من الحقائق إدراكا كاملا لا يشوبه شك. فلا كفران بالعقل كأداة للمعرفة، ولا أفراط في الاعتماد عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل. وقد تطلب هذا الاتجاه المعتدل الذي مثله جل فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين: إحداهما المعركة ضد أنصار الاتجاه الاول الذي كانت مدرسة الرأى في الفقه تتبناه بقيادة جماعة من أقطاب علماء العامة، والاخرى المعركة ضد حركة داخلية نشأت داخل صفوف الفقهاء الاماميين متمثلة في المحدثين والاخباريين من علماء الشيعة الذين شجبوا العقل وادعوا أن البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للاثبات، وهكذا نعرف أن المعركة الاولى كانت ضد استغلال


[ 36 ]
العقل والاخرى كانت إلى صفه. 1 المعركة صد استغلال العقل قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم مدرسة الرأي والاجتهاد بالمعنى الاول الذي تقدم في البحث السابق، وتطالب باتخاذ العقل بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظن والتقدير الشخصي للموقف، أداة رئيسية للاثبات إلى صف البيان الشرعي، ومصدرا للفقيه في الاستنباط، وأطلقت عليه اسم الاجتهاد. وكان على رأس هذه المدرسة أو من روادها الاولين أبو حنيفة المتوفي سنة (150) والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أنهم كانوا حيث لا يجدون بيانا شرعيا يدل على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصة وما يدركون من مناسبات وما يتفق عنه تفكيرهم الخاص من مرجحات لهذا التشريع على ذاك ويفتون بما يتفق مع ظنهم وترجيحهم ويسمون ذلك استحسانا أو اجتهادا. والمعروف عن أبي حنيفة أنه كان متفوقا في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي، فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن أن أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه حتى إذا قال: استحسن لم يلحقه أحد. وجاء في كلام له وهو يحدد نهجه العام في الاستنباط " إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده أخذت بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الامر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي أن أجتهد كما اجتهدوا ". والفكرة الاساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبني العقل المنفتح


[ 37 ]
بوصفه وسيلة رئيسية للاثبات ومصدرا لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول: " إن البيان الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة قاصر لا يشتمل إلا على أحكام قضايا محدودة، ولا يتسع لتعيين الحكم الشرعي في كثير من القضايا والمسائل ". وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتجاههم المذهبي السني، إذ كانوا يعتقدون أن البيان الشرعي يتمثل في الكتاب والسنة النبوية المأثورة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط، ولما كان هذا لا يفي إلا بجزء من حاجات الاستنباط اتجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل والمناداة بمبدأ الاجتهاد. وأما فقهاء الامامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي، لانهم كانوا يؤمنون بأن البيان الشرعي لا يزال مستمرا باستمرار الائمة (عليهم السلام) فلم يوجد لديهم أي دافع نفسي للتوسع غير المشروع في نطاق العقل. وعلى أي حال فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب والسنة لاشباع حاجات الاستنباط، ولعبت دورا خطيرا في عقلية كثير من فقهاء العامة ووجهتهم نحو الاتجاه العقلي المتطرف. وتطورت هذه الفكرة وتفاقم خطرها بالتدريج، إذ انتقلت الفكرة من اتهام القرآن والسنة - أي البيان الشرعي - بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثير من القضايا، إلى اتهام نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شؤون الحياة، فلم تعد المسألة مسألة نقصان في البيان والتوضيح بل في التشريع الالهي بالذات. ودليلهم على النقص المزعوم في الشريعة هو أنها لم تشرع لتبقى في ضمير الغيب محجوبة عن المسلمين، وإنما شرعت وبينت عن طريق الكتاب والسنة لكي يعمل بها وتصبح منهاجا للامة في حياتها ولما كانت نصوص الكتاب والسنة في رأي العامة لا تشمل على أحكام


[ 38 ]
كثير من القضايا والمسائل، فيدل ذلك على نقص الشريعة وأن الله لم يشرع في الاسلام إلا أحكاما معدودة، وهي الاحكام التي جاء بيانها في الكتاب والسنة وترك التشريع في سائر المجالات الاخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء من الناس بتعمير أخص ليشرعوا الاحكام على أساس الاجتهاد والاستحسان، على شرط أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الاحكام الشرعية المحدودة المشرعة في الكتاب والسنة النبوية. وقد رأينا أن الاتجاه العقلي المتطرف كان نتيجة لشيوع فكرة النقص وانعكاسها، وحين تطورت فكرة النقص من اتهام البيان إلى اتهام نفس الشريعة انعكس هذه التطور أيضا على مجال الفكر السني، ونتج عنه القول بالتصويب الذي وصل فيه ذلك الاتجاه العقلي المتطرف إلى قصارى مداه، ولتوضيح ذلك لا بد من إعطاء فكرة عن القول بالتصويب. القول بالتصويب: بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد، لانفسهم أن يعملوا بالترجيحات والظنون والاستحسانات وفقا للاتجاه العقلي المتطرف، كان من الطبيعي أن تختلف الاحكام التي يتوصلون إليها عن طريق الاجتهاد تبعا لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي يهتمون بها. فهذا يرجح في رأيه الحرمة لان الفعل فيه ضرر، وذاك يرجح الاباحة لان في ذلك توسعة على العباد، وهكذا. ومن هنا نشأ السؤال التالي: ما هو مدى حظ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع ؟ فهل يعتبرون جيمعا مصيبين ما دام كل واحد منهم قد عبر عن اجتهاده الشخصي ؟ أو أن المصيب واحد فقط والباقون مخطئون ؟ وقد شاع في صفوف مدرسة الرأي القول بأنهم جميعا مصيبون، لان


[ 39 ]
الله ليس له حكم ثابت عام في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفر فيها النص، وإنما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد وما يؤدي إليه رأيه واستحسانه، وهذا هو القول بالتصويب. وفي هذا الضوء نتبين بوضوح ما ذكرناه آنفا من أن القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص وتحولها إلى اتهام مباشر للشريعة بالنقص وعدم الشمول، الامر الذي سوغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ويصوبوا المجتهدين المختلفين جميعا. وهكذا نعرف أن فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتجاه العقلي المتطرف تعويضا عن النقص المزعوم في البيان الشرعي، وحينما تطورت فكرة النص إلى اتهام الشريعة نفسها بالنقصان وعدم الشمول أدى ذلك إلى تمخض الاتجاه العقلي المتطرف عن القول بالتوصيب. وهذا التطور في فكرة النقص الذي أدى إلى اتهام الشريعة بالنقصان وتصويب المجتهدين المختلفين جميعا، أحدث تغييرا كبيرا في مفهوم العقل أو الاجتهاد الذي يأخذ به أنصار الاتجاه العقلي المتطرف، فحتى الآن كنا نتحدث عن العقل والادراك العقلي بوصفه وسيلة إثبات، أي كاشفا عن الحكم الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو السنة، ولكن فكرة النقص في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملا تشريعيا لا اكتشافيا، فالعقل بمعناه المنفتح أو الاجتهاد في مصطلح الاتجاه العقلي المتطرف لم يعد - على أساس فكرة النقص في الشريعة - كاشفا عن الحكم الشرعي، إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد، وإنما هو أساس لتشريع الحكم من قبل المجتهد وفقا لما يؤدي إليه رأيه. وهكذا يتحول الاجتهاد على ضوء القول بالتصويب إلى مصدر تشريع، ويصبح الفقيه متشرعا في مجالات الاجتهاد


[ 40 ]
ومكتشفا في مجالات النص. ولسنا نريد الآن أن ندرس القول بالتصويب ونناقشه، وإنما نستهدف الكشف عن خطورة الاتجاه العقلي المتطرف وأهمية المعركة التي خاضتها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ضد هذا الاتجاه، إذ لم تكن معركة ضد اتجاه أصولي فحسب بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها وشمولها لمختلف مجالات الحياة، ولهذا استفاضت الاحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في عصر تلك المعركة تؤكد اشتمال الشريعة على كل ما تحتاج إليه الانسانية من أحكام وتنظيم في شتى مناحي حياتها، وتؤكد أيضا وجود البيان الشرعي الكافي لكل تلك الاحكام متمثلا في الكتاب والسنة النبوية وأقوالهم عليهم السلام. وفيما يلي نذكر جملة من تلك الاحاديث عن أصول الكافي: 1 - عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شئ، حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه ". 2 - عنه (عليه السلام) أيضا أنه قال: " ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة ". 3 - وعن الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قيل له: أكل شئ في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه ؟ قال: " بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه ". 4 - وفي حديث عن الامام الصادق (عليه السلام) يصف فيه الجامعة التي تضم أحكام الشريعة، فيقول: فيها كل حلال وحرام وكل شئ يحتاج إليه الناس حتى الارش في الخدش. رد الفعل المعاكس في النطاق السني: ولا يعني خوض مدرسة أهل البيت معركة حامية ضد الاتجاه العقلي
 

  التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله