ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو
انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا))(1)
فالمواطنون سواسية أمام القانون الإسلامي الخالد، يجزي كلا منهم
بإحسانه وبذنوبه عقاباً من دوم تمييز ولا تفضيل.
بل إن الاسلام بنظره الثاقب وعدالته المستقيمة ليذهب في المساواى
إلى أبعد من ذلك. فالحاكم كما يجب أن يطبق القانون على المواطنين
بالسوية وبدون أي تمييز، فإنه أيضاً يجب عليه ان يخضع نفسه وخاصة
أهله وأصدقائه ، فضلاً عن سائر معارفه ومتعلقيه، للقانون نفسه،
فيخضع الظالم منهم للمظلوم من غيرهم، وإلا كان ظالما مجحفاً بحق
الآخرين. وذلك كما قال سيدنا وملانا أمير المؤمنين وسيد الوصيين
(عليه الصلاة والسلام) في عهده لمالك الاشتر النخعي عندما ولاه
مصر: ((أنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وم لك فيه هوى من رعيتك،
فإنك غلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده،
ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حرباً حتى ينزع أو يتوب))(2).
بل أن رئيس الدولة الإسلامية خاضع إلى قانون المساواة ، المساواة
اما العدالة والمساواة في الحالة ألإقتصادية ، بل انه أولى من سائر
الشعب
______________________
(1) النساء آية (123 – 124)
(2) نهج البلاغة ص428
بذلك وأجدر، لأنه مثل أعلى للشعب من ناحية فيجب أن يتعلمون منه
الخصال الحميدة العالية، وهو من ناحية اخرى رئيس للدولة، فيجب ان
يشعر مثل هذ1 الشخص بآمال وآلام شعبه، ويعيش حالته الإقتصادية كأقل
فرد في الشعب لئلا ينسى حالة الفقراء والمعوزين والمظلومين، ولئلا
تبطره النعمة فيستسلم إلى عالم الأحلام. ولقد كان سيد الأوصياء
أمير المؤمني (عليه السلام) مثلاً رائعاً في ذلك حين نراه يقول :
(( ولو شئت لاهتديت الطريق إلىمصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ،
ونسائج هذا القز. ولكن هيهات ان يغلبني هواي ويودني جشعي إلى تخير
الأطعمة، ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص، و لاعهد
له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى واكباد حرى، او أكون
كما قال القائل :
وحسبك داء ان تبيت ببطنه وحولك اكباد تحن إلى القد
أاقنع من نفسي بأن يقال هذا امير المؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره
الدهر، أو أ:ون أسوة لهم في جشوبة العيش))(1).
السلام عليك يا سيدي ومولاي يا امير المؤمنين ورحمة الله وبركاته،
لقد ضربت بكلماتك السامية مثلاً إسلامياً رائعاً في العدالة
والمساواة، وعرفت
_________________________
(1) نهج البلاغة ص418
البشر كيف يجب ان يعيشوا، وكيف يجب ان يسلكوا حتى يحيوا متحابين
متآلفين تسودهم العدالة، ويرفرف فوق رؤوسهم الرفاه والسلام
اما بالنسبة إلى إيقاف المساواة بين المواطنين عند معارضتها
بالمصلحة العام، فهو أمر صحيح بالنسبة إلى الإسلام في حدود معينة.
فإن الاسلام الذي نشر تعاليمه لأجل المصلحة العامة، ولاجل ان يرقى
بالبشر إلى الكمال، ليقدم الشخص الكفوء الذي يخدم شعبه ووطنه ودينه
ويصلح للادارة وتصريف الأمور على الشخص الخامل الفاسق، فإن ذلك
داخل في الحقيقة ضم المصلحة العامة، وغ، كان يظهر بمظهر تقديم
الفرد. ولكننا يجب أن نفهم أولاً من هو الفرد الكفوء بحسب وجهة
النظر الإسلامية لنحكم ما إذا كان تقديمه موافقاً حقا للمصلحة
العامة أو ل
أن الفرد الكفوء في الإسلام ليس هو الرجوازي الطامع في إكتساب
المال، المندفع وراء مصالحة وأهوائه، بل إن معايير الكمال في الفرد
المسلم هي العلم والتقوى والجهاد، قال اله (عزوجل) في كتابه العزيز
((هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون))(1) وقال : ((ان
العاقبة للمتقين))(2) وقال : (( وفضل الله المجاهدين على القاعدين
أجراً عظيما))(3) . كل هذه الأمور صفات نفسية روحية عالية ، وهي
اولى
___________________
(1) الزمر آية (39).
(2) هود آية (49).
(3) النساء آية (95)
بأن تسعى بصاحبها نحو الكمال من الصفات المادية الرخيصة، من الطمع
في العرض الزائل، والتكالب على المتاع الدنيء. وهو إلى جانب ذلك
يأخذ حصافة الرأي ، ودقة النظر، والقدره على الإرادة وغيرها من
الصفات في جملة المميزات للموظف في الدولة الإسلامية. ومثل هذا
الموظف يستحق التقديم، ويكون – بالتأكيد – تقديمه في الصالح
الحقيقي للشعب ، بخلاف تقديم البرجوازي الطامع في توسيع أملاكه
والظالم للعمال والفلاحين
(7)
المادة الثانية : الغاية من كل مجتمع إنساني صيانة الحقوق الطبيعية
الثابتة للانسان ، تلك الحقوق هي الحرية والتملك والطمأنينة
ومقاومة الظلم . تتجلى المصلحة البرجوازية في هذه المادة أيضاً
بشكل واضح، فإنهم إنما أثبتوا لأنفسهم هذه الحقوق، وجعلوها الغاية
في كل مجتمع إنساني، لأجل ان يضمنوا مصالحهم البرجوازية، ويطمئنوا
على سعة تجارتهم وصناعتهم . فهم انما يقصدون بالحرية حرية التجارة
والصناعة والتوسع بها على أكبر نطاق مستطاع، بدون ان تتدخل
القوانين أو السلطات الحكومية في الحد من غلوائها، وإيقاف جماحها
عند الحد العادل المعقول. كما انهم يقصدون بالحرية من ناحية أخرى
ان يكون لهم الحق في تشغيل العمال اكبر عدد ممكن من الساعات في
اليوم، وان يكون لهم الحق أيضاً في إعطائه أي كمية من المال شاءه
لهم هواهم، بدون أن يكون للعامل أو حتى القانون أو السلطات
الحكومية أي حق في فرض أي قيد على هذه الدكتاتورية الرأسمالية
ولعلنا لا ننسى في هذا الصدد أن القوانين في بلادهم موضوعة من
قبلهم فهي ليست إلاّ صدى لمصالحهم وأهوائهم ، ورجال الحكومة ليسوا
إلاّ افراد منهم، ومن ثم فليس هناك أي خطر علىالتوسع البرجوازي ،
ولا يبقى لهذا العامل المسكين أي ناصر أو معين
أما بالنسبة إلى الحقوق الثلاث فالتملك واضح الأهمية بالنسبة إلى
المصالح البرجوازية، لإنه داخل في صميم وجهة نظرهم الإقتصادية وذلك
بالنسبة إلى الطمانينة، ويقصدون بها إلا يكون في البلاد قلاقل
وإضطرابات ، لأجل ان تزدهر التجارة ولاصناعةفي ربوع الأمن والسلام.
كم اأنهم يقصدون من مقاومة الظلم، ومقاومة الإقطاع من ناحية، ذلك
الإقطاع الذي ذاقوا منه الظلم والتعسف مدة قرون طويلة، كما يقصدون
من ناحية أخرى مقاومة من يتدخل في شؤونهم التجارية والصناعية ،
ويحاول كفكفتها والحد من توسعها المفرط.
اما الإسلام ذلك الدين القيم الذي يسعى بالبشرية نحو الكمال والرقي
والسعادة، فإنه لم يقتصر على هذه الحقوق فقط، فإن هذه الحقوق وحدها
أقل شأناً وأضعف خطراً من أن تخدم الإنسانية بجميع وجوه سلوكها
وعلاقاتها، حتى وإن أولت هذه الحقوق تأويلاً صحيحاً وصرفت عن
تفسيرها البرجوازي، لأنها ليست إلاّ أربع حقوق! في حين إننا نجد
الإسلام قد جعل طائفة كبيرة من الحقوق لكل واحد تجاه الآخرين، وذلك
ليضمن سيادة الأخلاق والفضيلة في ربوع المجتمع، ولترفرف عليه ألوية
السعادة والرفاه
ويمكن ان نرجع في استعراض هذه الحقوق الإسلامية إلى رسال الحقوق
التي أملاها الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين
(عليه أفضل التحية ولاسلام)، لنرى الأوج السامي الذي بلغته
التعاليم الإسلامية في تحديد العلاقات الإنسانية ، والزامها بأفضل
الصفات وأنبلها، فقد حددت تلك الرسالة حقوقاً وآدابا لعلاقة
الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه وأفعاله، وعلاقته بغيره سواء كان هذا
الغيرحاكماً أو محكوماً، معلماً او تلميذا ، زوجاً أو زوجة ، والدا
أو والدة، بنتاً أو ولدا، بعيدا او قريبا، وسواء كان ذلك الغير
جاراً او صاحبا، شريكا أو غريماً، مشيرا أو مستشيرا، سائلا أو
مسؤولاً، صغيرا او كبيرا، إلى آخر ما فيها من تفاصيل، وقد اثبتت
لكل هؤلاء حقوقاً ونصحتهم بنصائح، لو اتبعوها لكانوا في اعلى مراقي
السعادة والكمال . فمن المستحسن لك ان تراجعها لكي تحصل على كتر
إسلامي ثمين.
اما بالنسبة إلى رأي الإسلام في هذه الحقوق الأربعة التي أثبتها
واضعو هذا الإعلان، وجعلوها طبيعية ثابتة للإنسان ، إنه قد مضى شيء
م الكلام حول الحرية، وسيأتي ما يفي بحق المووضع اما بالنسبة إلى
التملك فسيأتي الكلام حوله في المادة الساعبة عشر إنشاء الله
تعالى
واما الطمأنينة فهي تعني السلام الذي رأينا كم دعاة الإلحاد من
الشيوعيين يطلبون له ويزمرون به في سبيل ترويج دعوتهم الحمراء،
ويجعلون دعوتهم إليه مقرونة مع الخروج على الدين والتمرد على
تعاليمه الإسلامية الخالدة، كأنهم لم يعلموا أنه ليس ف يالعالم
جاهل او مجنون فضلاً عن العاقل المفكر من يود الحرب وإراقة الدماء،
فإن حب النفس والركن إلى الأمن والطمانينة غريزة من الغرائز
المتأصلة في النفس الإنسانية، وانه ليس ادعى للهلع والذعر للقلب
الإنساني من منظر القتل والحروب.
والدين الإسلامي من الموافقين على أساس هذه الفكرة، فكما إن حفظ
النفوس وسعة التجارة والصناعة لا يتمان إلا في جو من الأمن
والسلام، فكذلك لا يمكن انتطاع التعاليم الدينية او ان يقوم
الإنسان الشرعية ، او ان يتعلم من العلوم التي حث عليها الإسلام،
او يقوم بصلة أقربائه وأصدقائه، تلك الصلة التي دعى لها الإسلام
ووضع لها النظم والنصائح الثمينة، ولا ان تنفذ سائر التعلايم
الإسلامية على وجهها الصحيح ، إلا في ظل من السلام والوئام
إلا إن الاسلام ابعد نظراً واعمق تفكيراً من ان يدعو إلى السلام
على كل حال ، وان اعتدى على الامة المعتدون ، ونال منها النائلون ،
وتعرض دينهم الحنيف إلى الخطر الشديد، بل إن هذا الأمر من الوضوح
بحيث لا يحتاج إلى أي تفكير، وهو مما توافق عليه سائر الأنظمة في
العالم بالنسبة إلىحماية أنفسها، وحتى هؤلاء الدعاة الملحدون . فإن
الدفاع عن النفس حق مقدس ناشئ عن حب الإنسان لنفسه، ذلك الحب الذي
هو غريزة متأصلة في نفس الإنسان
ومن هنا تتضح وجهة النظر الإسلامية بالنسبة إلى مقاومة الظلم الذي
يرجع في الواقع إلى حق الدفاع عن النفس، وهو حق معترف به في
الإسلام.
المادة الثالثة : الأمة مصدر كل سلطة و لا يجوز لأي جماعة او أي
فرد ان يمارس سلطة ليست مستمدة منه
هذه المادة هي من اكبر ركائز الفكر الحديث، حيث تنص على الإسلوب
الديمقراطي للحكم، وتوجب ان يصدر القانون عن الامة او عن ممثليها،
و لايجوز ان يفرض على الامة فرض
ولكن هذا مما يتم مع تمامية احد الأمرين ، احدهما : صرف النظر عن
التعاليم الدينية . وثانيهما : خشية فرض القوانين على الامة بصوةر
تعسفية ظالمة. وحينئذ لا يبقى مجال إلاّ لأن تعمل هذه القاعدة
عملها ، وإلاّ لأن تعمل هذه القاعدة عملها، وإلاّ ذاقت الآمة الظلم
والحرمان
ولكن الدين الإسلامي الوارد من المصدر الإلهي العام بخصائص البشر
والمطلع على سرائرهم، والعلم بمشاكلهم وآمخالهم وآلامهم ، والعارف
بما يحقق تلك الآمال، ويحل تل كالمشاكل ويرفع تلك الآلام . هذا
الدين الإلهي الحنيف لا يعترف بهذه القاعدة لأنه ليس في حاجة
إليها، بعد إعتضاده بالقوة الإلهية السرمدية.
بالإضافة إلى القوانين التي تضعها الأمة لن تكون – حتى في حالات
الديمقراطية المثالية – خيراً من القوانين الإلهية التي أنزلها
الله تعالى للبشر في سبيل سعادتهم ورقيهم نحو الكمال، لأن العقل
البشري قاصر عن ان يدرك مصالحة الحقيقية وكمالاته النفسية، وخاصة
بعد أن أحاطته عدة أغشية من الغرائز ، والإنفعالات والمصالح التي
تطمس أمامه الطريق الصحيح إلى الحق، ومن المحال على المرء أن يتجرد
من صفاته الفردية، كما ينص على ذلك علماء النفس، مهما أوتي من
موضوعية ودقة تفكير
هذا بالنسبة إلى الفرد، فكيف بالنسبة إلى الجماعة، حيث تكون العقول
مختلفة والآراء متضاربة والإعتبارات متباينة، مما يجعل القانون
مزيجاً عجيباً من هذه الآراء وهذه العقول. بالإضافة إلى باقي
المشاكل الإجتماعية من تشعب وتعقيد بضمنها بعض الإعتبارات النفسية
والفكرية والعاطفية للشعب، والتي قد تخفى أكثرها على واضعي
القانون
ومن هنا نجد ان القوانين الوضعية غير قابلة لأن تعمر طويلاً ولا
يمكنها أن تثبت للزمن، فسرعان ما يبدو خللها وتحتاج إلى إصلاح، ثم
يحتاج الإصلاح إلى إصلاح. وهلم جرا.... هذا بالإضافة إلى منا في
الدين من قيم واعتبارات لم يكن ليدركها البشر لولا تعاليم الدين
نفسه، فمنها الجزاء على الإحسان برضاء الله (عزوجل) والجنة.
والمجازات على الإساءة بغضبه (عز أسمه) والنار. وكيف يمكن أن تؤخذ
هذه الأمور بنظر الإعتبار من قبل واضعي القانون مع غض النظر عن
الدين؟ مع إنها ثابتة بثبوت العقيدة الدينية
اما ما يمكن أن يؤهم بذلك من آيات القرآن العزيز، فآيتان : هما
قوله عز من قائل : ((فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليط
القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر،
فإذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين))(1) وقوله عزوجل
: ((والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم، ومما
رزقناهم ينقفون))(2) وكلا هاتين الآيتين واردتان في موارد التعاليم
الأخلاقية، والنصائح الإ<تماعية التي تحث الأصدقاء على أن يتشاوروا
فيما بينهم لئلا يستبد فرد منهم برأية فيفشل في حياته وهما غير
متعرضتين على الإطلاق لمسألة التشاور لأجل التشريع وسن القوانين
_____________________
(1) آل عمران آية (159).
(2) الشورى آية (38).
اما بالنسبة إلى الآية الأولى فإن في سياقها دلالة صريحة على أن
هذا التشاور بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين المسلمين ليس إلا
للألفة وزرع الوفاق بينهم وبين قائدهم العظيم، ولأجل إستئناسهم
وتطيب نفوسهم، وأخذ آرائهم في الأمور الجزئية التي قد يقوم بها
النبي (صلى الهل عليه وآله)، ليتم تنفيذها، عن رضاهم وطيب قلوبهم.
وهذا هو المعنى المناسب للعفو عنهم والإستغفار لهم
أما القوانين العامة والتشريعات الأساسية فليس في الآية أي تعرض
لها، ولا يمكن أن يكون ذلك، لأن القرآن نفسه نازل من قبل الله
تعالى الذي له النهي والأمر، وهو مملوء بالأوامر والنواهي التي
يقصد بها حفظ مصالح المجتمع الإسلامي، ولا يقصد أخذ رأي الأمة في
ذلك بقليل ولا كثير. ولم يرد تاريخياً أن النبي (صلى الله عليه
وآله) إستشار اصحابه في هذه التعاليم الإسلامية في يوم من الأيام.
بالإضافة إلى أن هناك آية صريحة على خلاف ذلك، وهو قوله عزوجل : ((
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً ان يكون لهم
الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا))(1)
أا الآية الثانية فهي أيضاً تدل على أنها من باب تشاور الأصدقاء،
والمداولة بينهم حول أمورهم الخاصة، لا لأجل سن القوانين حيث
___________________
(1) الآحزاب آية (36)
مدحهم الله عزوجل: ((الذين استجابوا لربهم وأقاموا لاصلاة وأمرهم
شورى بينهم))(1) أي أن الفرد منهم لا يبت بأمر من أموره إلا بعد
مشاورة أصدقائه وإخوانه في الدين، لأجل أن لا تزل قدمه في حل مشاكل
حياته، فيكون التشاور، بذلك، مستمراً بين المسلمين، و لا يعني ذلك
بحال من الأحوال إجراء إستفتاء شعبي لإقرار أو رفض قانون من
القوانين
بل أن هذه الآية النانية قد فسرت بعكس ذلك، فقد ذكر في تفسيرها أن
معنى الآية أنه ينبغي للمسلمين أن يشاوروا الإمام (عليه السلام)
فيما يحتاجون إليه من أمر دينهم كما قال الله (عزوجل) : ((ولو ردوه
إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم))(2)
والمشورة في الأمور المعاشية والحياتية الإعتيادية أمر مستحسن في
الشريعة ألإسلامية ، وهذا ما قد حثت عليه هاتان الآيتان، وذلك لأن
الفرد العادي قد يمكن ان لا يهتدي إلى الطريق الصحيح ، أ, أن تخفى
عنه جوانب من أموره ، فيستعين بعقول أخرى لأجل مساعدته في حل
مشاكله وتسوية أموره. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)
كما في نهج البلاغة : ((من استبد برأيه هلك ، ومن شاور
______________________________
(1) الشورى آية (38).
(2) تفسير الصافي للفيض الكاشاتي ص518 ج2
الرجال شاركها في عقولها)) وقال (عليه افضل التحية والسلام) :
((والإستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه)). وقد ورد عن
نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) : ((ما من رجل يشاور أحداً إلا
هدي إلى الرشد))(1)
ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن يكون القانون الإلهي الإسلامي
عرضة للتحوير والتطوير بيد آراء بشرية قاصرة ، وأهواء طائشة
ومن هنا يتضح مناقشة القسم الثاني من المادة وهو أنه (( لا يجوز
لأي جماعة أو فرد أن يمارس سلطة ليست مستمدة منها)) فإن مثل هذا
الفرد إنما يكون مستحقاً للعقاب إذا نفذ على الأمة قوانينا تعسفية
ظالمة، لا فيما إذا نفذ في صالحهم القانون الإلهي الحكيم
(9)
المادة الرابعة : تقوم الحرية على إمكان عمل كل ما لا يضر بالغير،
ولذلك فإن ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان لا تقف إلاّ عند الحد
الذي يضمن لبقية أعضاء المجتمع بهذه الحقوق نفسها، ويمكن تعيين تلك
الحدود بالقانون وحده.
__________________________
(1) نفس المصدر السابق
تتكفل هذه المادة تعريف الحرية، ثم تبين الحد الفاصل الذي تنتهي به
حرية الفرد لتبدأ حرية الآخرين. وأنما يوضع هذا الحد بواسطة
القانون وحده، دون أية قوة أخرى. والبرجوازيون هم الذين يضعون
القانون ويفسرونه، وهم أصحاب المصلحة فيه. إذا فهم الذين يقررون
هذا الحد الذي يضمن لبقية أعضاء المجتمع التمتع بالحقوق. ومن هنا
نرى انه من الحرية بالنسبة إلى مصالح الرجل البرجوازي تشغيل العال
14 ساعة في اليوم، وإعطائهم أقل ما يمكن من الأجر، ومن حرية العامل
أن يذهب في الليل إلى كوخه وينام، ثم يستأنف العمل المضني قبل طلوع
الشمس. وعليه فإننا نفهم من ذلك، كما سبق أن أكدناه، إن الطبقة
البرجوازية تضع القانون، وحتى هذا الإعلان على حسب مصالحها وبمقدار
وعيها السياسي
والقاعدة التي تقررها هذه المادة، قاعدة صحيحة م ع صرف النظر عن
التفسير البرجوازي لها، فإن ذلك مما يقتضيه الأمن اوالنظام، بل مما
تقتضيه الحرية نفسها، فإن معنى الحرية بالنسبة إلى الفرد هو أن
يقول ويفعل ما يشاء، وكذلك فإن الحرية تعني أيضاً توفر هذا المبدأ
نفسه بالنسبة إلى الجميع، ومن هنا تتصادم مصالح الأفراد وحرياتهم ،
مما يضطر المشرع إلى وضع الحدود والسدود أمام الحرية ليسود الأمن
ويستتب النظام، وذلك بتقييد حرية كل فرد بما لا تتعارض وحرية
الآخرين.
ومن ذلك نفهم أن هذه القاعدة قاعدة صحيحة ولا بد من تشريعها في
المجتمعات الإنسانية، ولكن هذه القاعدة لا تعني إلا تقييد الحرية
ووضع السدود أمامها. وليس الإدعاء بأنها قاعدة إيجابية بالنسبة إلى
الحرية، الا إدعاءا فارغاً لا معنى له. نعم هي قاعدة إيجابية
بالنسبة إلى الأمن والنظام والأخلاق
وحيث عرفنا أن المجتمع لا يمكن ان تتيسر الحياة فيه إلاّ في ضمن
قيود وآداب تحدد سلوكه، وتضبط أقواله وأفعاله، فالمشرع الحاذق –
كما سبق أن أشرنا إليه في مناقشة المادة الأولى – وهو الذي يضع هذه
الحدود بالشكل العادل الذي يضمن به أكبر قدر ممكن من الوفاق
والؤئام، وليس هو المشرع الذي يقتصر على أقل قدر ممكن من القيود،
لأن في هذا الإقتصار أخطاراً ومحاذير تنتج أموراً فاسدة ومضرة
بالمجتمع، تلك المفاسد التي لا تزال الإنسانية تنوء بثقلها إلى
الآن في أكثر المجتمعات البشرية
ومن هنا نرى الإسلام لم يكتف بوضع هذا القيد وحده على الحرية، لأنه
رأى بثاقب نظره أنه غير كاف لتهذيب الفرد وصقل نفسه وسلوكه، فليس
من الحكمة أن يطلق عنان الفرد في خلال عدم مساسه بحقوق الآخرين،
فإن ثمت أفعالاً يقوم بها الفرد وليس فيها أي إعتداء على حقوق
الآخرين ، في حين أن لها النصيب الأوفر في التأثير السيء على تهذيب
الفرد وصفاء نفسه وجمال سلوكه. بالإضافة إلى ما يمكن أن تخلفه من
آثار سيئة في الناحية العقلية أو النفسية أو الجسمية من كيانه
الشخصي
بل إن هناك أفعالاً واقوالا، يمكن ان يقوم بها الإنسان، فيدخل
الراحة والسرور على صاحبه من الناحية الحسية المادية كالإجتماع على
الفاحسة او سماع الغناء، فإن لها آثاراً روحية تسبب غضب الله عزوجل
على الفرد ، وتعرضه لعذابه الأليم، وإنما حرمت لأجل مصالح كثيرة
ليس هنا موضع سردها، وأوضحها أنها سوف تكون داءاً إجتماعياً وبيلا
على تقدير تفشيها وإنتشاره
ومن هنا فإن الدين الإسلامي الحنيف قيد الحرية بأن لا يخرج الفرد
بواسطتها على تعاليمه، فيشمل ذلك ما يكون اعتداءاً على حقوق
الآخرين، او مشاكة على إثم وعدوان، كما يشمل عصيان الأوامر الفردية
التي وجهها إلى الناس والتي لا يبدو لها في بادىء الرأي أي اثر
إجتماعي، وهي الأمور العبادية التي يقوم بها لافرد بينه وبين ربه.
مع العلم أن لها في المدى البعيد آثاراً إجتماعية واسعة النطاق،
فإن في الحج وصلاة الجماعة وحفظ مظاهر الصيام في شهر رمضان آثاراً
إجتماعية كبيرة كما هو واضح، وكذلك فإن الصلاة التي يصليها الفرد
في داره، لها الأثر الكبير – كما ثبت في محله من تعاليم الإسلام –
في صقل خلق الفرد وتجريده من روح الغضب والحقد والحسد، وجعله شخصاً
مهذباً يطفح وجهه بالإشراق، وأفعاله بالأدب الجم والسيرة الحسنة،
وذلك لمدى الأثر الروحي الذي تخلفه العبادة في الشخص الذي يؤدي
عبادته بإيمان وإخلاص.