ومما ينبغي ملاحظته أن الفعل الذي يكون فيه
إعتداء على الآخرين إنما يحرم في الشريعة الإسلامية، إذا كان ظلماً
وتعسفاً، ولكن هناك بعض الأفعال التي لا تعد في نظر العقل ظلماً،
وهي مع ذلك يمكن أن يصدق عليها الإعتداء على الآخرين، ومثل هذه
الأفعال ليست محرمة في الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يمثل على ذلك
بأمرين:-
1- ما نجده في الأسواق التجارية من المنافسة بين التجار، فإنه لا
إشكال بأن التاجر لا يرتاح إذا جاء تاجر آخر ببضاعة مشابهة إلى
بضاعته، لما سوف يصيبه من الكساد، ولو كان مستطيعاً أن يمنعه لمنعه
بما أوتي من قوة وطول. ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق أنه لا ينبغي
لتاجر أن يؤذي عواطف إخوانه من هذه الناحية، فإن ذلك جائز عرفاً
وشرعاً فإن لكل شخص ان يبيع وأن يشتري ما يشاء(1).
وكذلك بالنسبة إلى المنافسة في التقدم العلمي، فإن حسد الحاسدين من
المتخلفين الذين لا يستطيعون التفهم الصحيح لمحتويات العلوم، لا
يعني
__________________________
(1) انظرهذا الحكم في (محاضرات في الفقه الجعفري) تقريرات بحث
السيد الخوئي ادام الله ظله ص165.
على الإطلاق أن يترك المجد المتقدم في هذا المضمار إجتهاده وتقدمه
في سبيل إرضاء أولئك الحاسدين.
2- العقوبات التي يفرضها الإسلام على العاصين لأوامره والخارجين
على حقوق الآخرين. فإن هذا العقاب وإن كان مؤلماً لهم، إلا أنه في
صالح الهيأة الإ<تماعية، من حيث كونه ردعاً للآخرين عن السقوط في
هذا المهوى الوضيغ، بل وفي صالحهم أيضاً من حيث كونه تطهيراً لهم
مما إرتكبوا، وردعاً لهم عن السقوط مرة أخرى في حضيض الجريمة . ومن
هنا كان القيام بمعاقبة مثل هؤلاء شيئا حسنا يرضاه الإسلام ويثيب
عليه
بعد هذه الجولة في وجهة النظر الإسلامية في الحرية، يمكننا أن نميز
كيف أن القانون الإسلامي وضع الحدود على الحرية بشكل عادل يكفل به
سعادة البشر ورفاههم، وسيادة المحبة والوئام بينهم بشكل يرقى بهم
إلى الكمال والخلود
ثم إن الفرد بعد تقيده بتعاليم دينه القويم، أن يفعل ما يشاء، وأن
يقول ما يشاء، وأن يذهب إلى حيث يشاء، لا حرج عليه في ذلك. إلاّ أن
يده لن تفعل، ولسانه لن ينطق إلاّ الشيء الذي يرضاه الإسلام، بعد
أن يكون قد إنصهر في بوتقة تعاليمه، وكون في كيانه نفساً وضميراً
إسلاميين يأمرانه بالخير، وينهيانه ويؤنبانه على الشر، والخروج على
تعاليم الإسلام
ولكن الشيء الذي ينبغي ملاحظته في المقام إن هذه الحرية التي
ينالها الفرد في الإسلام لا تكون إلا إذا أراد الإنسان أن يقتصر
على إطاعته للواجبات، وإجتنابه للمحرمات الإسلامية، وإلا فهو إن
اراد ان يتابع الإسلام في جميع تعاليمه وإرشاداته، فإنه لا بد أن
يلاحظ ذلك في كل نفس من أنفاسه، وكل دقيقة في دقائق عمره، فإن
للإسلام طائفة ضخمة من التعاليم والإرشادات لأجل تربية الإنسانية
والفرد وتهذيبهما وجعلهما إنسانية وفردا عادلين بجميع ما في هذه
الكلمة من معنى . وإنما يتبغ الفرد هذه التاليم بمقدار إخلاصه
الديني، وبمقدار إخلاصه الديني، وبمقدار توفيقه إلى نيل الكمال
الأعلى
(10)
المادة الخامسة : ليس للقانون أن يمنع غير الأعمال المضرة بالهيأة
الإجتماعية ، ولا يجوز منع أي عمل لم يحظره القانون، ولا يجبر أحد
على القيام بعمل لم يفرضه القانون.
ما دام البرجوازيون هم الذين يضعون القوانين ويفسرونها وهم أصحاب
المصلحة فيها، فإن مقصودهم، في هذه المادة، من الأعمال المضرة
بالهيأة الإجتماعية، الأعمال التي تكدر عليه تجارتهم وتحد من نشاط
صناعتهم، وليس لأحد أن يمنعهم عن عمل لم يمنعوه هم في قانونهم، من
التوسع في التجارة، وإتخاذ الأساليب المشروعة وغير المشروعة من
الناحية الإنسانية، في سبيل ذلك. كما أنه ليس لأحد أن يجبرهم على
القيام بعمل لم يوجبوه، هم، في القانون الذي وضعوه. وهم يشيرون
بذلك إلى عدم جواز تحديد نشاطهم البرجوازي. فإن هؤلاء البرجوازيين
الذين يدورون في فلك مصالحهم الخاصة لا يمكنهم أن ينظروا إلا إلى
تلك المصالح، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يراعوا مصالح غيرهم
من الناس، كما رأينا ما وقع فعلاً من التعسف والجور على رؤوس العال
والفلاحين البؤساء أما بالنسبة إلى رأي الإسلام فيما إحتوته هذه
المادة، فإن الإسلام قانون إلهي، ليس لأحد أن يقترح عليه شيئاً،
ولا أن يغير منه حكماً، وهو أدرى بما قد نهى عنه وما أمر به، على
حسب مصالح البشر وحوائجهم، وما ينزههم عن الموبقات، ويسمو بهم إلى
الكمال
فقولهم : ليس للقانون أن يمنع، أو لا يمنع
نعم قولهم هذا ليس ذا معنى بالنسبة إلى قانون الإسلام.
ومن ناحية أخرى فإن الأعمال المضرة بالهيأة الإجتماعية ليست وحدها
هي المضرة من الناحية الإنسانية، فإن الإعتماد على الفرد مضر
أيضاً، ويجب على القانون تحريمه، وهو بالطبع محرم في سائر
القوانين، إلاّ أنّ هؤلاء البرجوازيين تناسوه لأجل أن يتعسفوا على
حقوق العمال والفلاحين في سبيل مصالحهم البرجوازية
أما بالنسبة إلى الرأي الإسلامي في الفقرات الأخيرة من المادة، وهي
التي تنص على عدم جواز منع العلم الذي لم يحظره القانون، وعدم جواز
إجبار الشخص علىالقيام بأي عمل لم يفرضه القانون، بصرف النظر عن
تفسيرها الرجوازي
فاما أن يكون الشخص الذي يمنع الفرد عن العمل أو يجبره على القيام
بعمل معين، هو شخص متسلط متعسف ظالم يريد أن ينال من هذا الشخص
بواسطة سيطرته وقوته، واما أن يكون هو الحاكم الشرعي الإسلامي
المنصوب من قبل الله عزوجل رئيسا للدولة الإسلامية، وحجة من الله
على خلقه. فإن كان شخصاً ظالماًفإنه أهل لأن يجازى على تعسفه،
بالتعسف وعلى ظلمه بالعقاب. وخاصة إذا كان التعسف يحمل الطابع
الديني زوراً وبهتاناً، فإنه يرجع في نظر الإسلام، إلى إبتداع
تشريع لم يسنه الإسلام في الردع عن البدعة. فمن ذلك ما ورد عن
النبي (صلى الله عليه وآله) قوله : ((من سن سنة حسنة كان له أجرها
وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها
ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة))(1)
أما بالنسبة إلى الحاكم الشرعي الإسلامي، فهو منصوب من قبل الله
(عزوجل) لقيادة البشر، وتطبيق النظام الإسلامي في ربوع المعمورة،
وهو مخول أن يختار ما يشاء من أساليب التطبيق الجزئية الموضعية
التي يراها أصلح للبشر، وأقرب إلى النتيجة، وأجدر في إزالة العوائق
والعقبات التي تعترض سبيل تطبيق النظام الإسلامي، ومن ثم هو يختار
ما يشاء من الأوامر والنواهي التي تؤدي إلى هذا السبيل، وإن لم تكن
واردة في نص القوانين الإسلامية العامة، ولكن هذا لا يعني أن لح حق
الإبتداع والتشريع م نجديد، فهو إنما خول تطبيق الأوامر الإلهية
الصادرة سلفاً، وفرق كبير بين التشريع والتطبيق
ومما ينبغي أن يلاحظ أن الحاكم الشرعي الإسلامي لن يختار من وسائل
التطبيق إلاّ ما هو في صالح المجتمع الإسلامي، وما يضمن به
للمسلمين العدل والسعادة. ويترههم عن الفوضى والفساد. وذلك لأن
الحاكم الإسلامي المنصوب من قبل الله (عزوجل) وهو الإمام المعصوم
(عليه الصلاة والسلام) ومعنى كونه معصوماً، كونه مبرءاً من الذنوب
خالياً من
________________________
(1) الفصول المختارة للشيخ المفيد (قده) ص136
العيوب، آمناً من السهو والغفلة والخطأ والنسيان، وبالجملة يجب أن
يكون خير البشر في عصهر، لأنه ليس من العدالة الإلهية أن يبقى
الأفضل خاملاً، ويكون المفضول حاكماً، وهذه العصمة هي التي يعتقدها
جميع المسلمين في النبي (صلى الله عليه وآله)، ونعتقدها نحن الشيعة
الإمامية في الائمة المعصومين الاثنى عشر (عليهم افضل السلام).
ومثل هذا الشخص لا يمكن ان يظلم احدا، أو ان يتعسف بحق احد، وان
خير مثال حي بعد نبي الإسلام( صى الهل عليه وآله) لذلك الشخص
المعصوم هو سيدنا وملانا أبو الائمة الهداة امير المؤمنين( عليه
السلام) وهو الذي يقول حين عوتب على التسوية في العطاء: ((أتامروني
أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله وما أطور به سمر سمير،
وما أم نجم في السماء نجما. ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف؟
وانما المال مال الله . الا وان عطاء المال في غير حقه تبذير
وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرى، ويكرمه في
الناس ويهينه عند الله))(1) . اما في حالة عدم وجود الإمام
المعصوم، فإن كان ذلك ناتجاً عن بعد البلد عن العاصمة الإسلامية،
فإن الإمام (عليه الصلاة والسلام) يبعث إليه من يختاره ليقوم نيابة
عنه بإدارة شؤون البلد، والحكم فيه طبقاً للقانون الإسلامي،
والإمام – بالطبع- لن يختار إل
________________________
(1) نهج البلاغة شرح محمد حسن نائل الرصفي ص296 ج1
الشخص الصالح لهذا المنصب الخطير، كما إنه لن يكتفي بإرساله، بل
يتعاهده بالنصح والتوجيه. ويجعل من نفسه ومن الشعب الذي أسله إليه،
رقيباً عليه، بالإضافة إلى الرقابة الإلهية ورقابة ضميره الإسلامي،
الذين يستعرضان كل حركة وسكون من أفعاله وأقواله. وذلك كما نرى من
سلوك أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) مع ولاته وعماله. فهو
يبعث إلى أ؛دهم قائلاً: ((واني اقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني
انك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيراُ أو كبيراً، لاشدن عليك شدة
تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر ، والسلام))(1)
ويبعث (عليه السلام) إلى اخر منهم قائلاً : ((أترجو أن يعطيك الله
أجر المتواضعين، وأنت عنده من المتكبرين، وتطمع وانت متمرغ في
النعيم، تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما
المرء مجزي بما أسلف، وقادم على ما قدم، والسلام))(2) واما اذا كان
عدم وجود الإمام ناشيء عن غيبة الإمام القائم (عجل الله فرجه)، فإن
القائم مقامه هو وكيله العام للتصرف في الشؤون الدينية للمسلمين.
وهذا الوكيل هو الذي حدده الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله :
((انظروا إلى رجل منكم قد روى حيديثنا ، وعرف أحكامنا،
_____________________________
(1) نهج البلاغة ص24 ج2
(2) نهج البلاغة ص25 ج2
فاجعلوه قاضياً فإني قد جعلته قاضياً)) وفي بعض الأخبار : ((فارضوا
به حاكما، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل
منه، فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا راد على الله،
وهو على حد الشرك بالله عزوجل))(1) ومثل هذا الشخص المتشبع بالروح
الإسلامية، وبتعاليم الإسلام لا يمكن عادة أن يصدر منه تعسف أو ظلم
، بالإضافة إلى ما هو فيه من الرقابة الإلهية، ورقابة الإسلام ،
ورقابة ضميره الإسلامي، ورقابة الأمة الإسلامية ، على جميع أفعاله
وأقواله
وللمجتمع الإسلامي إن رأي مه أية هفوة أو خطأ، أن ينبهه وأن يلفت
نظره ، وأن يذكره بالطريق الصواب. وعلى الحاكم بعد ذلك أن يتلقى
هذه الإقتراحات بصدر رحب وقلب مفتوح، ثم ينظر في هذه الإقتراحات
بتجرد وإنصاف من حيث إنطباقها على القواعد الإسلامية. فإن رأى انه
كان مخطئاً فعليه أن يصلح خطأه وإلا كان خارجاً على التعاليم
الإسلامية. وخائناً للمسلمين. وإن رأى نفسه مصيباً، وإن المقترحين
هم الذين أخطأوا ألفت نظرهم إلى وجه الخطأ في رأيهم. وجادلهم بالتي
هي أحسن
_________________________
(1) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني قدس سره
كما ورد في كتاب القضاء
(11)
المادة السادسة : القانون هو الإعراب عن الإرادة العامة للمجتمع،
ولجميع المواطنين الحق أن يشتركوا في سنه بأنفسهم أو بواسطة
نوابهم.
والقانون واحد للجميع في حالتي الحماية وفرض العقوبات، ولما كان
المواطنون سواسية أمام القانون فيحق لهم بالتساوي الوصول إلى جميع
المناصب والرتب والوظائف العامة بحسب كفاءاتهم، ودون أي تمييز غير
فضائلهم ومواهبهم
وفي هذه المادة أيضاً تتجلى المصلحة البرجوازية ايضا، فالإرادة
العامة، في عرف هؤلاء البرجوازيين، هي إرادتهم هم أنفسهم، من حيث
إنهم أقوى طبقة في المجتمع الفرنسين فهم يقولون للعمال والفلاحين
نحن نمثلكم.
سواء رضى أولئك ام أبوا. ويصدر القانون معتمداً على هذا الإدعاء
الفارغ، وممثلاً للمصالح البرجوازية، ثم يقول البرجوازيون أنه ممثل
للإرادة العامة للمجتمع. وإلا فإنه ليس من مصلحتهم أن يخضعوا لهذه
القاعدة على واقعها فيأخذوا بنظر الإعتبار آراء العمال ولافلاحين،
لأنهم سوف يفسحون المجال لهم حينئذ للشكوى والتذمر من الظلم
البرجوازي، والتصويت على القوانين بطريقة تخالف المصلحة الرجوازية،
وهذا ما يخشاه البرجوازيون
ومن ناحية أخرى فإن تمييز الأفراد لأجل فضائلهم ومواهبهم لم يكن
ليفسح المجال ويتيح الفرصة لنيل المناصب والرتب والوظائف العامة،
إلا أمام البرجوازيون أنفسه، ومن ثم فإنهم يكونون الطبقة الوحيدة
المسيطرة على الحكم في بلادهم، وبذلك يضمنون مصالحهم كلها على أحسن
وده. وما ذلك إلا لأن الطبقة البرجوازية هي التي كانت متميزة ددون
غيرها بالثقافة والوعي والمقدرة على إدارة البلاد
والتعبير بالإرادة العامة Volote General تعبير ورد في كتابات
(روسو)، الذي هو أحد أعضاء مدرسة (العقد الإجتماعي) Contral Social
التي تحتوي على تصوير خاص لطريقة الحكم في الولة، تلك النظرية التي
بدأها (توماس هوبز) Hobbes (1588 – 1679) الفيلسوف الإجتماعي
الإنكليزي، بكتابه عن الفلسفة السياسية المسمى Leviathan في سنة
1651 (1) . ثم جاء (جون لوك) J. Lock الفيلسوف الإنكليزي الشهير
(1621 – 1704) ، فصقلها وأضاف إليه
وقد عالج لوك أصل الدولة في رسالتيه السياسيتين اللتين نشرتا في
__________________________
(1) المذاهب الإجتماعية الحديثة، محمد عبد الله عنان الصفحات
بالترتيب 13و15و19
سنة 1690 تحت عنوان ((آراء عن الحكومة المدنية))(1) of Givil
Government ثم جاء (جان جاك روسو) الكاتب والفيلسوف الفرنسي (1712
– 1778) فأضاف إليها آراءه. وقد تأثر (روسو) في صوغ نظرياته
السياسية بمباديء (لوك) وتفكيره تأثراً كبيرا، ولا سيما فيما يتعلق
بفكرة أصل السلطة في الدولة المدنية، وصوغها في صورة ميثاق أو عقد
هو أساس الدولة المدنية(2) . وكان ، وقتها، أن نشبت الثورة
الفرنسية ووضعت هذا الإعلان في عام 1789 متأثرة بآراء هؤلاء
الفلاسفة الإجتماعيين، وخاصة الأخيرين منهم، فإن آراء هؤلاء
الفلاسفة الإجتماعيين ، وخاصة الأخيرين منهم، فإن آراء (هوبز) لم
تكن لتدخل أذهانهم لما فيها من الفساد والإسفاف، على ما سنرى
وينبغي لنا فيما يلي أن نذكر ملخصاً لآراء هؤلاء المفكرين لننظر
بعد ذلك رأي الإسلام، فيما يذهب إليه هؤلاء من نظريات
أما (توماس هوبز) فهو يرى أولاً أن القوة هي عماد الحكم، وإن
الطاعة للقانون هي جزء من طاعة الله، وإن الحاكم يستظل بسلطة الله،
فإذا حاد بأوامره عن قوانين الله فإنه يفقد صفته كحاكم، ويصبح
الناس في حل من عصيانه. ثم إنه يجب أن يكون ثمة سلطة لتقرر بين
الناس ما هو الحق وما هو الباطل، وما هومتفق مع قانون الطبيعة وما
هو مخالف له،
___________________
(1) المصدر السابق نفسه، بعين الصفحات.
(2) المصدر السابق نفسه، بعين الصفحات.
وإنه لا يد للحكومة من السلطان المطلق لكي تحكم، وإن السلطة
الروحية يجب أن تترل عند حكم السلطة الزمنية، وإن الشعب يجب أن
يخضع لقوانين الملك والحكومة
واما عن نظرية العقد الإجتماعي، فهو يرى أنها ترجع إلى طبيعة
الإنسان ذاته، فالإنسان حيوان كثير الحب لنفسه، مفطور على تحقيق
شهواته ورغباته وهو ذلك يدفع للاجتماع ويشعر بالضرورة بالإنضمام
إلى زملائه لإنشاء مجتمع مشترك، ثم إن رغبة كل إنسان في السلامة
تؤدي إلى فقد السلامة إطلاقا، والعقد يملي على البشر أن يبحثوا عن
مخرج لذلك . ذلك لأنهم يعيشون في المجتمع في حالة كفاح مستمر،
تحدوهم نفس الماشعر والأهواء، وهم كثيرو الشك شديدو المنافسة ، ولا
سلطان لهم على أهوائهم، ولكن للبشر عقولاً يبحثون بها في أساب
الأشياء، والعقل يدفعهم إلى التوسع في مدى أهوائهم فيقع الصدام
بينهم، وهذا ما يسميه (هوبز) ب (الحالة الطبيعية)
وهذا يشعر البشر أن العيش في غمرة الكفاح المستمر امر لا يطاق،
ويرون أنهم يستطيعون أن يؤلفوا مجتمعاً مشتركاً، ذلك أنه تحدوهم
جميعاً رغبة السلامة. وهم إذا إستعملوا العقل رأوا إن الوسيلة
الوحيدة لتحقيق السلامة، هي أن يقيموا سلطة مشتركة يفوضون إليها كل
سلطتهم، وهنا تتفق الجماعة فيما بينها على الخضوع إلى سلطة واحدة،
وتصبح هذه السلطة عماد الدولة، وعماد الحكم، وهي سلطة يمثلها في
الغالب ملك أو حاكم مطلق(1).
وإن الدولة تظهر للوجود نتيجة لعقد أو إتفاق يعقده كل فرد مع كل
فرد آخر، على أن يتنازل عن حقه الطبيعي في حكم نفسه إلى شخص أو
جماعة من الأشخاص، ويسمي (هوبز) هذا الشخص أو هذه الجماعة، صاحب
السادة أو السلطان Sovereign ، وليس هو بطرف من أطراف العقد، ولا
يحد سلطته أي شرط أو التزام من جانبه. ولا يجوز للرعية بعد التنازل
عن حقوقهم في حكم أنفسهم إلى صاحب السادة أو السلطان، أن يعقدوا
عقداً شرعياً فيما بينهم، او أن يظهروا الطاعة إلى اي شخص آخر دون
موافقة صاحب السادة نفسه، فإن سلطة هذا الأخير مطلقة وغير محدودة
ولا يمكن لصاحب السيادة أو لرعيته نقض العقود، ولا يمكن تحررهم
منها لأي سبب كان، وإن تغيير الحكومة معناه إنحلال الدولة والعودة
إلى الفوضى
وإذا رغب أي شخص في سحب موافقته على العقد يعود إلى حالة الحرب
التي كان عليها الناس قبل دخولهم في الإتفاق(2)
________________________
(1) المذاهب الإجتماعية الحديثة : محمد عبد الله عنان ص13 -14
(2) حق الثورة في تأريخ الفكر السياسي للدكتور فاضل حسين
اما (جون لوك) فقد قال : بأن الناس في حالتهم الطبيعية أحرار
ومتساوون ومستقلون، ولا يجوز أن يخضع أي شخص لسلطة الآخرين
السياسية دون موافقته (1) . بيد أنه لا يتصور هذه الحالة الطبيعية،
مثل سلفه (هوبز) حالة توحش وإعتداء متبادل ، بل إنه يرى أنها حالة
إجتماعية في صفتها، وفيها يخضع الناس لحكم العقل الذي يعلم كل
إنسان ألا يؤذي أخاه في نفسه أو حريته أو ماله، وقد تقع الحرب أو
الإعتداء، ولكن فقط حينما يجانب الناس حكم العقل الذي هو من
طبائعهم. على إنه لا توجد في الحالة الطبيعية سلطة مشتركة عليا
تنفذ حكم العقل، وكل فرد يحاول أن يفسر الأمور وفق هواه، وهذا ما
يؤدي إلى الإضطراب والفوضى(2). كما إنه يرى أن تلك الحالة الطبيعية
من الحرية والمساواة ، كانت تعوزها ثلاثة أمور:
أولاً : القانون الذي يتفق الجميع على إنه مقياس الصواب والخطأ.
ثانياً : القاضي الذي يفصل في الخلافات وفقاً للقانون.
ثالثاً : السلطة التي تسند حكم القانون والقاضي وتنفذه
__________________________
(1) حق الثورة في تاريخ الفكر السياسي.
(2) المذاهب الإجتماعية الحديثة 16-17
ولهذه الأساب دخل الناس في عقد أو إتفاق، وتنازلوا عن المساواة
والحرية والسلطة التنفيذية إلى الهيأة الإجتماعية ، ما دام ذلك –
حتماً- أفضل لحماية حقوقهم الطبيعية في الحياة والحرية والتملك .
عندما يدخل الفرد في الهيأة الإجتماعية يتنازل عن تفسير قانون
الطبيعة وتنفيذه ، ولكنه يحتفظ بجميع الحقوق الأخرى التي كان يتمتع
بها في الحالة الطبيعية. وإنما وجدت الهيأة الإجتماعية للمحافظة
على هذه الحقوق وإدامتها. وإنما وجدت الهيأة الإجتماعية للمحافظة
على هذه الحقوق وإدامتها. وقد أدى هذا العقد في تكوين الهيأة
الإجتامعية إلى ظهور الدولة، وفيها يتنازل الفرد عن إرادته ويسلمها
إلى إرادة وتصميم الأكثرية، وهذه الأكثرية تعمل بالنيابة عن الفرد،
ووفقاً لإلتزامات القانون الطبيعي
ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تتحكم بصورة تعسفية، بل عليها أن
تحكم وفق القوانين المشروعة والمنشوة، لكي يطلع الناس على واجباتهم
ويكونوا آمنين ومطمئنين ضمن حدود القانون. ولا يجوز نقل السلطة
التشريعية أو تقويضها لأن ذلك يعتبر نقضاً للعقد الذي أسس الناس به
السلطة التشريعية، ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تفرض الضرائب على
أموال الناس دون موافقتهم أو موافقة مندوبيهم، لأن الحكومة إنما
توجد من أجل الحفاظ على أرواح الناس وحرياتهم وأموالهم(1).
__________________________
(1) حق الثورة في تاريخ الفكر السياسي.
على أنه توجد وراء السلطة التشريعية، سلطة الأمة العليا، وهي التي
تستطيع أن تلغي السلطة التشريعية أو أن تعدلها، إذا رأت أنها خرجت
في عملها عن حدود التفويض الذي ألقي إليها، وبذلك تكون الجماعة هي
صاحبة اليد العليا، وبعبارة أخرى يوجد حق الثورة فقط حينما تتصرف
السلطة التشريعية أو التنفيذية خلافاً لحدود هذا التفويض(1).
اما (روسو) فإنه يعرض نظرية العقد الإجتماعي بطريقة جديدة، وفي
رأيه إن الحالة الطبيعية هي أسعد حالة للإنسان ، وإن الإنسان يتمتع
في ظلها بصحة ومتانة لا تشوبها مفاسد المدنية وهذه في ذاتها سعادة
لا تقدر، ويرجع أصل المجتمع إلى الوقت الذي يشعر فيه الإنسان في
حالته الطبيعية، بأنه أضحى عاجزاً بقوته الفردية ، عن مكافحة
العقبات التي تعترض سبيل حياته، أو بعبارة أخرى تغدو الحالة
الطبيعية متى زاد عدد البشر حالة لا تطاق، وتزيد الأخطار المهددة
لسلامة الإنسان في هذه الحالة، على ما يمكن أن يستخدمه لسلامة
نفسه. وهنا يرى البشر أنه لا معدى لهم عن إنقاذ أنفسهم إلاّ
بالإجتماع. ويرى الفرد نفسه مرغماً على أن يترل عن حريته الطبيعية،
وأن يتفق مع زملائه على أن يستبدل الحرية الطبيعية بالحرية
المدنية، وأن تقوم جماعة يمكن أن تحمي بالقوة الإجتماعية المشتركة،
النفس والمال لكل عضو فيها. وبما أن
_____________________
(1) المذاهب الإجتماعية الحديثة ص17
الإنسان يكون على هذه الصورة متحدا مع جميع زملائه فهو لا يطيع
إلاّ نفسه، ويبقى متمتعاً بحريته كما كان، وهكذا ينتظم المجتمع في
شكل ميثاق إجتماعي، خلاصته أن يضع كل منهم في النطاق المشترك يتخذ
شكل هيأة أدبية مشتركة أو هيأة عامة، وفي هذه الهيأة يتمثل السلطان
أو السلطة. وكل مواطن هو عضو مشترك في هذه السلطة، وهو أيضاً عضو
في الجولة ورعية للسلطة التي يعتبر منذ البداية عضواً مكوناً لها.
ومن خواص هذه السلطة أنه لا يمكن التصرف فيها ولا يمكن قسمتها(1).
والهيأة السياسية لا تمثل شخصاً معيناً بالذات بل تمثل كل فرد بوجه
عام، فلا يمكن أن تتصرف ضد مصلحة أولئك الذين أوجدوها. إن (الإرادة
العامة) هي جوهر نظرية (روسو) السياسية . وقد حاول أن يميز بين
(إدارة الجميع) و (الإدارة العامة) . فإرادة الجميع تأخذ بنظر
الإعتبار المصالح الفردية، وتمثل مجموع إرادات الأفراد . وتهتم
الإرادة العامة بالمصالح العامة المشتركة، وهذه الإرادة مصيبة
دائما، وتميل لتحقيق الخير العام واعتقد (روسو) ان السايدة في
الشعب كله وأن القانون هو التعبير
__________________
(1) المذاهب الإجتماعية الحديثة 19- 20
المباشر لإرادته العامة التي تمثلها أكثرية الشعب ومن يرفض إطاعة
الإرادة العامة تجبره الهيأة الإجتماعية على ذلك. ولا يمكن أن يكون
القانون غير عادل لأن العدالة هي إرادة أكثرية الشعب، واما الحكومة
فمجرد وكالة فوضت إليها سلطات يمكن سحبها وتعديلها(1)
وبعد هذه الجولة بين آراء هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، حين تترهنا بين
مناظر مختلفة ، واطلعنا على الإنسانية في حالتها الطبيعية الهادئة،
وعندما يحتدم الصراع بينهما نتيجة تفرق الأهواء والآراء، وعندما
يجتمعون ويتعاقدون ليوكلوا أمرهم إلى فرد معين أو إلى جماعة معينة
أو إلى الهيأة الإجتماعية، ويتنازلون مختارين حفظاً لأمنهم ونظام
معاشهم، عن إرادتهم وحرياتهم، لهذه الجهات. وعندما تسن القوانين
على هذا الأساس، وتحدد الحريات لأجل حفظ النفس والحرية والتملك،
ولأجل صيانة الإنسانية عن حالة الفوضى التي أصبحت في نهاية أمرها
حالة لا تطاق
ولعمري إنني لا اعلم إلى أي حد حلق هؤلاء الفلاسفة في أجواء
الخيال، وإلى كم أستندوا في تفكيرهم إلى الصور الشعرية البراقة، مع
أنه ليس ذلك من شأن الفلسفة ، ولا من شأن الأبحاث الموضوعية التي
تبحث عن صميم الواقع
____________________
(1) حق الثورة في تأريخ الفكر السياسي للدكتور فاضل حسين.
في أي وقت من التاريخ ثبت وجود مثل هذه الحالة الحرة التي كان كل
فرد فيها يحكم نفسه بنفسه غير ملزم بنظام أو قانون؟ مع أن البشرية
لم تعهد منذ فجر التاريخ إلا محكومة لملوك وإلا خاضعة لقوانين او
تقاليد. فإن كان هذا الذي ذكروه سرداً لوقائع تاريخية، إذن فيجب
إقامة الدليل المقنع على ذلك، وليس فيما ذكروه ما يصلح للبرهنة
عليه. وإن كان فرضاً وتقديراً للحياة عند عدم وجود الحكومات
والقوانين، من حيث إن الأصل في كل فرد أن يحكم نفسه حينئذ، ويكون
غير مسؤول عن أي نظام أو قانون، ومادام ذلك غير ممكن فلا بد من
خضوع الفرد للقانون من أجل حماية نفسه وحريته وتملكه. إذا كان هذا
هو المقصود، فما هذا التسلسل المنطقي الذي سلسلوا به الحوادث
البشرية في الحالة الطبيعية كأنها قصة من القصص، وما هذا الوصف
الدقيق لتلك الحالة، مع إن ذلك التسلسل وهذه الأوصاف لا توافق في
كنهها أسلوب الفرض والتقدير. فلربما يمكن للمفكر أن يفترض ببساطة،
أن الأصل في الإنسان أن يحكم نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يفترض
حوادثاً جارية وقصصاً متسلسة إلاّ في عالم الخيال
بالإضافة إلى أ،ه : متى وجدت أو يمكن ان توجد مثل هذه الحالة
الطبيعية هل هي في ابتداء تكون البشرية؟ ويمكن أن يؤيد ذلك، قول
(روسو) : ((إن الحالة الطبيعية تغدو بعد تزايد عدد البشر حالة لا
تطاق، ام انها حالة إجتماع جماعة من الناس ليكونوا بعد مرور السنين
مجتمعاً جديداً))
فإن كان الأول فكيف اطلع هؤلاء الفلاسفة على تلك الأزمنة السحيقة
في القدم وعن طريق أي أثر أو كتاب تأريخي، فإن مبدأ البشرية لم
يعرف إلا من الكتب المقدسة وبخاصة القرآن الكريم. وهذه الكتب خالية
من الإشارة إلى الحالة الطبيعية. ولكنه على كل حال يمكن أن يشابه
النظرية الإسلامية في تكون البشرية حيث يذهب الإسلام إلى وجود آدم
ابي البشر (ع) وأن نسله ازدادوا بالتدريج، والإسلام إنما عرف ذلك
عن طريق القرآن النازل من عند خالق البشر لا عن طريق تأريخي
إعتيادي، ولولا التوفيق الإلهي لقي ذلك في طي الكتمان. إلا ان
الإسلام لا يرى أن أولئك البشر كانوا في حالة فوضى وتسيب، فإن آدم
نفسه كان مرشدهم وموجههم على ضوء ما عرفه عن طريق الإلهام الإلهي،
مادام حياً، وبعد موته خلف عليهم أرشد أولاده بعد أن علمه مما
يعلم، وأرشده إلى طريق توجيه البشر وإدارتهم . وهكذا فقد بقي
التوجيه الإلهي مرشداً للإنسانية، منذ بدئها، وسيقى ملازماً
للبشرية إلى فنائها، ولو كره المشركون
ومن هنا يتضح أن يتضح أن العناية الإلهية لم تدع الشرية في حالة
فوضى وتسيب لما تعلمه في حكمتها البالغة أن تلك حالة لا يمكن أن
تطاق.
اما إذا كان المقصود من هذه النظرية هو تكون مجتمع جديد، فإن هؤلاء
الناس الذين فرضنا إجتماعهم ليكونوا نواة لهذا المجتمع، لم ينزلوا
من السماء، وإنما جاءوا من مجتمعات لها عاداتها وتقاليدها وأساليب
حكمها، وقد حملوا كل ذلك في أذهانهم، مما لا يدع فرصة لوقوع الخلاف
بينهم، فإنهم يبادرون بدون تردد أو تباطوء إلى تطبيق ما عرفوه
واعتادوه في مجتمعاتهم الأولى. بالإضافة إلى اننا نتساءل عما إذا
كانت هذه الأرض التي تيجتمع عليها هؤلاء الناس غير محكومة لدولة
ولا يسودها قانون، فإن كانت تحت سيطرة دولة من الدول كما هي الآن
جميع المناطق في العالم، فلا مجال لهم على التعاقد فيما بينهم
وإصدار قانون جديد، وإن فرضنا – بعيداً – أنها غير محكومة لدولة،
فقد أخطأ هؤلاء الناس إلى الذهاب إلى مثل هذه المنطقة المنقطعة عن
العالم، وأسرفوا في التوحش والغربة، بالإضافة إلى ما أسلفناه من
أنهم يبدأون تلقائياً في مثل هذه الحالة من تطبيق مسبقاتهم الذهنية
التي تلقوها في مجتمعاتهم القديمة
هذا ولكن الكلام حول مثل هذه الفروض، كلام أقرب إلى النوادر
والطرائف منه إلى الكلام الجدي الصحيحن الذي يقصد منه الوصول إلى
الواقع عن طريق البرهان الموضوعي.
بالإضافة إلى ان تعاقد الشعب وإيكال إرادته وحريته إلى شخص أو
جماعة، وإن كان ينجيهم من حالة الفوضى، إلا إنهم لا يستطيعون أن
ينالوا به مصالحهم الحقيقية، لأن العقل البشري كما سبق أن أكدنا لا
يستطيع إدراك هذه المصالح بتفاصيلها، ولا بد في ذلك من التوفيق
الإلهي.
ومن هنا نعرف أن هؤلاء المفكرين لم يصلو ا بالقصة إلى نهايتها
الطبيعية، تلك النهاية التي هي اقرب إلى واقع البشر من تلك الصور
الشعرية التي ألفوها، فإن هؤلاء البشر سوف يوكل كل جماعة منهم
أمرها إلى فرد غير من أوكلت الجماعة الأخرى إليه، وسوف تضع كل
جماعة قانوناً أو مجموعة من القوانين التي تمثل مصالحها ومداركها
الخاصة، ثم تبدأ كل جماعة بالتعرض بصاحبتها لأجل إخضاعها وتغيير
قوانينها لصالحها. وهنا ترجع الحالة إلى الصراع العنيف الذي كان
قبل التعاقد، ولعله أقصى وأضرى، لأنه كان أولاً صراعا بين أفراد،
اما الآن فقد أصبح صراعاً بين جماعات، ومثل هذا الصراع لا يمكن أن
يحله التعاقد منجديد بعد أن يكون كل فرد منهم قد أوكل إرادته
وحريته إلى من يثق به ويعتمد عليه، وخاصة بعد هذا الصراع الذي يسلب
ثقة كل جماعة بصاحبته
وحينئذ يتحتم وجود العناية الإلهية لتحل بينهم التراع، وتعلمهم
القواعد اللازمة لأجل حفظ النظام وسيادة العدل. ولكن الواقع أن
العناية الألهية، لمدى حكمتها البالغة، لم تصل بالبشرية إلى هذا
الحد، بل أسعفتهم من أول الأمر بالتوجيه والإرشاد
هذا، بالإضافة إلى اننا لم نفهم بالضبط صفات تلك الحالة الطبيعية
التي أجمع هؤلاء المفكرون الثلاثة على وجودها أو على إفتراضها. حيث
إننا نراهم قد اختلفوا اختلافاً كبيراً في تحديد صفاتها ورسم
معالمها. فإننا نرى من ناحية (هوبز) قد ذهب إلى أنها حالة توحش
وصراع رهيب، في حين ذهب (روسو) إلى انها أسعد حالات الإنسان، وإن
الإنسان يتمتع في ظلها بصحة ومتانة لا تشوبها مفاسد المدنية، وهذه
في حد ذاتها سعادة لا تقدر! على حين توسط (جون لوك) بين ذلك. اما
نحن النظارة فما الذي يمكن ان نفهمه من هذا الخلاف. هل يمكن ان
نجمع بين اقوالهم على تناقضها، ونقول إنها صفات للحالة الطبيعية؟
أو ان نصدق احدهم ونرفض قولي المفكرين الآخرين! في حين ان هذا مناف
للموضوعية العلمية . أو أن نقول إن هذه الحالة الطبيعية ليست إلا
حالة فرضية خيالية ذهب كل فيلسوف في صفتها ما شاء له فكره أن يذهب؟
وللقارئ تحديد الصواب من هذه الإحتمالات
ومما تنبغي ملاحظته أن هؤلاء المفكرين ، قد ذهبوا جميعهم إلى ان
العقل يحكم بضرورة التخلص من الحالة الطبيعية، بعد أن تصبح حالة لا
تطاق، وحتى (روسو) الذي لم ينص على ذلك إلا إن قوله : (( وهنا يرى
البشر أنه لا معدى لهم عن إنقاذ أنفسهم إلا بالإجتماع))، يدل على
ذلك بصورة واضحة، فإن هذا الرأي الذي يتكون بين البشر ينشأ عن
العقل. وبهذا نرى هؤلاء المفكرين قد أعطوا العقل فرصة للإقتراح
وإبداء الرأي، وهذه بادرة جميلة تدل على إحترامهم للعقل، وأخذهم
بالقواعد العقلية. وهذا نفس ما ذهب به الإسلام حيث إعتمد على العقل
في كثير من تعاليمه، فمنها عقيدته الرئيسية الأولى ، وهي الإعتقاد
بوجود الخالق (عز وجل)، فإن ذلك إنما يدرك بقانون العلية، وهو
قانون مرتكز في فطرة العقل. وكذلك اعطى الإسلام للعقل فرصة إدراك
الحسن، والقبح، والظلم ، والعدل، واعتبر هذه الأمرو أفكاراً عقلية
متأصلة الوجود لا يمكن التصرف بها أو تحريف مقتضياتها. وكذلك اعطى
الاسلام للعقل فرصة إدراك صدق الإسلام وعدالة أحكامه وتعاليمه،
وإدراك انه وارد من المورد الإلهي الأعلى. كما انه أعطاه حق
استنباط الأحكام الشرعية من القواعد الإسلامية المتوفرة، وذلك تحت
شروط معينة
كانت هذه مناقشات عامة لآراء هؤلاء الفلاسفة، اما التعرض إلى رأي
كل منهم ونقده على ضوء القواعد والتعاليم الإسلامية ، فيمكن أن
نلخص بعض الملاحظات حول ذلك، فيما يلي: اما بالنسبة إلى آراء
(توماس هوبز)، فقد ذكر أولاً إن الحاكم يستظل بسلطة الله، وهذا
يرجع إلى ((نظرية الحق الإلهي في الحكم)) وقد برر (هوبز) بذلك
استبداد (آل ستيوارت) في انكلتزا، الذين عاصرهم(1). وليس هذا
المفكر هو أول من اكد على ذلك فإن كثيراً من الملوك في العهود
الساقة كانوا يدعون هذا الدعى تثبيتاً لحكمهم وإخضاعاً لشعوبهم.
ومنهم أول ملوك هذه الأسرة التي دافع عنها (هوبز)، وهو (جيمس
الأول) (1603 – 1625) الذي أصدر كتاباً عنوانه ((القواعد الصحيحة
للملكيات True Rules of Monarchies )) ، إدعى فيه إن الله هو الذي
نصب الملوك(2) . وكان ذلك قبل حوالي ربع قرن قبل صدور كتاب (هوبز)
عن الفلسفة السياسية. والإسلام وإن كان يذهب إلى أن رئيس الدولة
الإسلامي، بالأصالة، إنما هو الإمام المعصوم المنصوب من قبل الله
(عزوجل) إلا إن بين هذه النظرية الإسلامية وبين نظرية الحق الإلهي
في الحكم، بونا بعيداً هو البعد الموجود بين العدل والظلم ، وبين
التعسف والرحمة، وبين الظلام والنور. فإن الملك الذي يدعي إنه
يستظل في عرشه بظل الله (عزوجل)، إنما هو ملك جائر مستبد، تذرع
بهذه النظرية لحفظ ملكه وإخضاع
_________________________
(1) حق الثورة في تاريخ الفكر السياسي
(2) محاضرات في التاريخ الحديث.