شعبه، ثم إنه هو الذي يسن القوانين على أساس
أهوائه ومصالحه الخاصة وتفكيره الخاص، وهو الذي يطبقها على شعبه
بأي إسلوب شاء، وبدون أن يكون لشعبه حق المناقشة والإعتراض
اما في الاسلام فإن الله (عزوجل) نصّب إماماً معصوماً مبرءاً من
الذنوب، خالياً عن العيوب، يستحيل عليه الزلل والخطأ، لما في نفسه
من ملكه قدسية عالية، هي المسماة ب((العصمة)). . نصبه لكي يطبق
القوانين التي أنزلها الله عزوجل لسعادة البشرية ورفاهها وإنشار
العدل في ربوعها. ومثل هذا الإمام ومثل هذه القوانين، هي أهل لأن
تخضع لها البشرية وتدين بتعاليمها، فإن العقل يحتم على الإنسان أن
يختار النظام الأفضل لمعيشته، وليس ذلك، إلا ما أختاره الله تعالى
خالق البشر ورازقهم، والمطلع على سرائرهم وحاجاتهم وغرائزهم، لهم
من القوانين. وحسب الإنسانية من السعادة والكمال أن يطبق في ربوعها
مثل هذا القانون بواسطة مثل ذلك الإمام المعصوم
ومن هنا نعرف أن الإمام ( عليه السلام) لا يضع القوانين كما هو شأن
الملوك الذين يدعون السلطة الإلهية . بل إنه مخول فق طبأن يختار
الطريق الصالح إلى تطبيق القوانين الموضوعة سلفاً من قبل المشيئة
الإلهية، كما إنه أجل قدراً، وأشرف نفسا، وأقرب عند الله تعالى ،
من أن يظلم أحداً، أو أن يتجاوز على حقوق أمته، أو تعاليم دينه
القويم، كما مضى وأكدنا على ذلك في غضون مناقشاتنا للمادة الخامسة
لهذا الإعلان. حيث استشهدنا هناك بقول سيد الأوصياء وإمام المتقين
أمير المؤمنين (عليه السلام) ((أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن
وليت عليه))
أما ما ذهب إليه (هوبز) من أنه يجب أن يكون ثمة سلطة لتقرر بين
الناس ما هو الحق، وما هو الباطل، وما هو متفق مع قانون الطبيعة،
وما هو مخالف له، فكأنه يقصد من ذلك أن ما هو الحق هو الموافق
للطبيعة، وما هو باطل هو مخالف لها، فكأن أهواء الإنسان وغرائزها
التي تطلب الإشباع بأي طريق كان، هي شيء مستحسن ينبغي للقانون أن
يفسح المجال له، وأن يضع تعاليمه على طبق ما يدعو إليه، وإلاّ كان
القانون مخالفاً للحق! اما الأخلاق، والنظام، وضبط النفسن وسائر
الأمور التي تقيد الطبيعة، فهي أمور باطلة تجب محاربتها وإلغائها ،
فإذا كان الأمر كذلك فعلى الفكر الإنساني ألف تحية وسلام
ولكن مهما يكن من الأمر ، فإن السلطة القانونية ليست هي صاحبة الحق
في تحديد الحق والباطل، فإن الحق والباطل لا يتحدد بيد السلطات،
وإنما الحق والباطل – كنا سبق أن أكدناه _ أمران عقليان صرفاً لا
يمكن التعرف عليهما، وغاية ما يفعله المشرعون هوتشخيص المصاديق
والجزئيات لهذه القاعدة الكلية العقلية، وغاية ما يمكن ان يفتخر به
قانون من القوانين إنه قد اقترب من العدالة او الحق، اكثر فاكثر،
وكلا هذين المفهومين من المفاهيم العقلية الصرفة
ولا ينبغي الخلط بين هذه القواعد العقلية وبين ما سماه (هوبز)
بقانون الطبيعة، فإن هناك فرقاً شاسعاً بينهما، فإن قانون الطبيعة
يعني الإنسان مجرداً عن العقلن مستسلماً لأهوائه ونزواته، تقوده
حيث تشاء، اما القواعد العقلية، فإنها تعني الإنسان متحلياً
بالعقل، ومجرداً من العاطف والغرائز إلى اكبر حد مستطاع، لكي لا
يمكنها أن تؤثر في بحثه وأفكاره، ومن ثم هو ينظر إلى الواقع نظرة
موضوعية عادلة
إلا أنه يمكن أن يكون مقصود (هوبز) من قانون الطبيعة، هو القانون
العام الساري في الكون، وما يتطلبه من تكييف النفس على أساسه،
بدعوى أن التكيف المناسب ، حق وعدل، والتكيف غير المناسب ظلم
وباطل. إلا إن هذا إذا امكن إرجاعه في جوهره إلى حكم العقل بالحسن
والقبح والعدل والظلم، من حيث إن العقل لا يمكن أن يحكم بهذه
الأمور جزافاً، وإنما يحكم بها من حيث إن العقل لا يمكن أن يحكم
بهذه الأمور جزافا، وإنما يحكم بها من حيث مطابقتها للنظام الكوني
العام . فتكون نظرية (هوبز) هذه صحيحة ومطابقة للحقيقة. وإن كان
المقصود منها شيئاً آخر كالذي ذكرناه قبل قليل، فهومحل المناقشة
اما بالنسبة إلى ما أدعاه (هوبز) من أن السلطة الروحية يجب ان تترل
عند حكم السلطة الزمنية، فهو إنما يريد بذلك ان يخضع الكنيسة
المسيحية لإستبداد (آل ستيوارت). ولكن هذا الكلام بالنسبة إلى
الإسلام، لا يمكن أن يكون له ظل من الحقيقة. فإنه، إما في الدولة
الإسلامية فإن الجهة الدينية هي الجهة الحاكمة والإمام المعصوم
(عليه السلام)، الذي هو رئيس هذه الدولة، هو في عين الوقت المرجع
الديني الأعلى لجميع المسلمين. واما في أيامنا هذه فإنه ينبغي
للدول، لأجل ضمان سعادتها ورفاه شعوبها، أن تستنير بنور الإسلام
وأن تقتدي بهداه ، فإن واضعي القانون أنفسهم والحاكمين في كل دولة،
مكلفون بإتباع الأوامر الإسلامية ، حيث يشملهم نداء الإسلام العام
الذي وجهه إلى البشر، يحثهم فيه على إتباع أوامره، والسير تحت
لوائه وذلك كما في قوله (عز وعلا) : ((يا أيها الناس قد جاءكم
برهان من ربكم، وأنزلنا إليكم نوراً مبينا* فأما الذين ءامنوا
بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً
مستقيماً))(1)
اما بالنسبة إلى رأي (هوبز) في إسقاط هذه الحكومة التي فرضها تحكم
بنظرية الحق الإلهي، فقد إختلف عنه النقل في المصدرين اللذين
إعتمدتهما في الإطلاع على آرائه . فقد نقل عنه صاحب (المذاهب
الإجتماعية الحديثة) إنه إذا حاد الحاكم في أوامره عن قوانين الله
فإنه يفقد صفته كحاكم، ويصبح الناس في حل من عصيانه، ونقل عنه
__________________________
(1) النساء آية (174، 175)
الدكتور فاضل حسين قوله : إن سلطة هذا الحاكم مطلقة وغير محدودة،
ولا يمكن لصاحب السيادة أو لرعيته نقض العقود، و لا يمكن تحررهم
منها لأي سبب كان. وقد نقلنا كل ذلك فيما سبق.
ونحن وإن كنا نرجح الرأي الأخير هو ما يذهب إليه (هوبز) من حيث إنه
أقرب إلى مذاقه المستنتج من مجموع كلامه، وخاصة وهو فس سبيل الدفاع
عن دكتاتورية (آل ستيوارت)، وهذا لا يناسب أن يكون للشعب إسقاط
الحاكم في وقت من الأوقات إلا أنه من الممكن أن يكون قد ذهب في
الواقع إلى الإعتراف ((بحق الثورة))
أما بالنسبة إلى الرأي الإسلامي في الموضوع، فهو أقرب إلى الرأي
الأول، لولا أنه يفرق من وجهة النظر الإسلامية بين أن يكون الحاكم
الأعلى إماماً معصوماً أو أن يكون شخصاً آخر، فإن كان إماماً
معصوماً، فإنه – كما سبق أن أكدنا أكثر من مرة – يستحيل عليه
بعصمته الخروج عن الأوامر الإلهية وتعاليم الإسلام، ومن ثم فحق
الثورة عليه منتف من أساسه، و لايكون الخروج على حكمه إلاّ خروجاً
على الدين الإسلامي نفسه، اما إذا لم يكن الحاكم معصوماً فإنه معرض
للهفوة والخطأ. ومن ثم فهو مراقب من جهات عديدة، من قبل الله (عزو
جل ) وم نقبل الإمام (عليه السلام) ومن قبل أمته، ومن قبل التعاليم
الإسلامية التي تجعل حسابه عسيراً عند أقل مخالفة لمقتضياتها، وإن
استلزم ذلك عزله من منصبه، ومعاقبته على فعله
اما ما هو الذي يقصده (هوبز) من قوانين الله (عزوجل) ، فلا بد ان
يكون هو قانون الطبيعة، من حيث أن الطبيعة نفسها من خلق الله
(عزوجل) وكلما تتطلبه إنما تتطلبه بمشيئة من الله (جل وعلا). فإن
كان المقصود من قانون الطبيعة هو متطلبات القانون الكوني العام،
فذلك شيء صحيح، فإن الإسلام نفسه لم يود إلاّ لتحديد التكيف الصحيح
مع متطلبات الكون، والملائمة العادلة بين مقتضيات البيأة والغريزة.
وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يعني على الإطلاق إن الله تعالى قد أجاز
الإنطلاق الجنوني للغرائز للوصول بها إلى ما لا يحمد عقباه. فإنه
(عزوجل) إنما خلق هذه الغرائز لمصالح مختلفة تتعلق بحفظ النوع،
وحفظ النفس، وتيسير المعيشة للفرد، ويمكننا أن نتصور هذه المصالح
بوضوح إذا تصورنا حالة الفرد عند عدم وجودها أو إنعدام أحدها،
وبأيه حالة من العسر والحرج سوف تكون حياته. ولكن ذلك لا يمكن أن
يعني أن هذه الغرائز يجوز أن تستعمل حتى في الطرق الشاذة المؤدية
إلى الفساد، فإن الله (عزوجل) بعد أن خلق تلك الغرائز جعل لها
أنظمة وتعاليم ليفهم الناس طريقة إستعمالها على الإسللوب الصالح
الصحيح ويتجنب بها طريق الفساد والرذيلة. اما أقوال (هوبز) الأخرى
في الدفاع عن إستبداد (آل ستيوارت) وتبريره الحكم المطلق، فإنها قد
أصحبت في عهودنا المتأخرة، أقرب إلى الفكاهة منها غلى أي شيء آخر
اما (جون لوك) فقد أرسل إرسال المسلمات قوله : (إن الناس في حالتهم
الطبيعية أحرار ومتساوون ومستقلون، ولا يجوز أن يجضع أي شخص لسلطة
الآخرين السياسية دون موافقته) وهذا بالنسبة إلى الإسلام غير ذي
معنى، لأنه منتف أساسً في الدولة الإسلامية. فإن الفرد هناك غير
خاضع لأحد غير الله (عزوجل)، خالقه ورازقه وصاحب التصرف في شؤونه.
وذلك لأن الإنسان بحسب تكوينه ووجوده هو من فيض ا لله تعالى إذا
لولا نعمة الوجود التي أنعمها الله عزوجل عليه بمنه ولطفه لكان في
عالم العدم، والله تعالى هو صاحب القدرة عليه في كل زمان ومكان،
وليس حراً ولا مستقلاً كما يريد أن يذهب إليه (لوك). وحينئذ فإن
الله (عز وجل) بلطفه ورحمته بعباده، ولعلمه أنه لا يمكن أن تحيا
الإنسانية في (الحالة الطبيعية) لأنها ( حالة لا تطاق)، قد أنزل
على عباده قوانين عادلة وأنظمة حكيمة، لكي يضمن بها البشر نظام
حياتهم وسيادة الأخلاق والعدالة في ربوع مجتمعاتهم. وخول الله (عز
وجل) أفضلهم صفةن وأحسنهم نفساً، وأقربهم إليه (عز وجل) لكي يضطلع
بتطبيق تلك القوانين، وهو شخص معصوم يستحيل عليه الزلل والخطأ
والخروج عن التعالمي الإلهية، كما سبق أن أسلفنا. ثم جعل الله (عز
وجل) هذه القوانين، وهذا الحاكم الشرعي الإسلامي، واجبي الإطاعة
يعاقب من خالفهما، وخرج على أوامرهما، وذلك لعلمه (عز وعلا) بأن
الغرائز البشرية لا يمكن أن تخضع للقيد إلا تحت سيطرة قوية لما
فيها من الإندفاع والطب الحثيث، فهو يجعل بتعاليمه في نفس الإنسان
وازعاً قوياً يستطيع به كبح جماح شهواته، والانخراط في سلك النظام
والأخلاق، ولعلمه من ناحية أخرى بما في هذه القوانين، وما في أوامر
الإمام (عليه السلام) من سعادة للبشرية ورفاهها ورقيها إلى كماله
المنشود
ومن هنا يتبين أنه لاحاجة للناس بأن يتنازلوا لأحد، في الدولة
الإسلامية، عن إرادة أو حرية. بعد ان لم يكونوا في وقت من الأوقات
في (حالة طبيعية) – كما سبق أن أثبتناه - بل إن العناية الإلهية قد
أسعفتهم ن أول الأمر بالقوانين الصالحة وبالتوجيه والإرشاد.
وبعد أن كانت إرادة الفرد وحريته ليست ملكاً له في الواقع، وإنما
هي ملك الله (عز وجل) وتحت تصرفه، وهو الذي أمر باتباع أوامر
الإسلام. بالإضافة إلى هذا القيد الذي تفرضه القوانين الإسلامية
على حرية الفرد، ليس هو شئياً خارجاً عما يجب ان يكون عليه الواقع
إذا أريد التنظيم الأكمل الذي يضمن سعادة المجتمع ورفاهه وسيادة
الهدى والنظام فيه. فإن هذا القيد اما أن يحجز الحرية التي في
مقابل الخضوع لله تعالى، ومثل هذه الحرية لم تتوفر لدى الإنسان من
أساس خلقته التكوينية، إذن فهذا لاقيد لم يسلبه شيئاً كان يملكه
فيما سبق. واما أن يحجز هذا القيد الحرية من عباة الله (عز وجل)
والتقرب إليه، فإن مثل هذا القيد مما ينبغي أن يكون حتى مع صرف
النظر عن تعاليم الإسلام. فإن الله الذي خلق الإنسان، وأنعم عليه
بالسمع والبصر والعقل، وهيأ له سبل الحياة المرفهة الكريمة لهو أهل
لأن يقضي الإنسان هذا العمر البسيط الذي وهبه إياه الله (عز وجل)
في عبادته والتقرب إليه. فضلاً عن هذه المظاهر السطحية التي يقوم
بها المسلم العادي، وذلك لأن وجوب شكر المنعم قاعدة عقلية منطبقة
على كل منعم. فإن كل من أعطالك هدية أو قضى لك حاجة يجب عليك أن
تشكر له إحسانه وفضله.
فكيف لا تنطبق هذه القاعدة على الله (عز وجل) خالق البشر. ولم يفعل
الإسلام أكثر من أنه الفت نظرنا إلى هذه القاعدة العقلية، وحدد
الأسلوب الذي ينبغي أن يستعمل في عبادة الله والتقرب إليه (عز وجل)
. واما أن تحجز التعاليم الإسلامية الحرية مقابل التقيد بمراعاة
الآخرين ومسايرتهم بالأخلاق والإنصاف، فإن هذا أيضاً مما ينبغي أن
يكون، حتى مع صرف النظر عن التعاليم الإسلامية فإن كل مجتمع لا
يمكن أن يستمر في الوجود بدون الآداب والأنظمة المرعية، إلا كانت
الحالة فيه كالحالة الطبيعية جحيماً لا يطاق
واما ان تكون الحرية التي تحجز بسبب التعاليم الإسلامية هي الحرية
في مقابل الخضوع للدولة وتلبية أوامرها، فلعمري إن ذلك مما يدعو
إليه العقل، كما ذهب إليه هؤلاء الفلاسفة ولا يكون الأمن والنظام
إلاّ به والإنسان لم يخرج منذ أول خلقته عن سلطة حاكم يحكمه ويدير
شؤونه، فهلا كان هذا الحاكم هو قوانين الله (عز وجل) وشخص معصوم هو
الإمام (عليه السلام)، ليرقى المجتمع إلى قمة العدالة الإنسانية
اما بالنسبة إلى رأي (جون لوك) من أنه لا بد للتخلص من الحالة
الطبيعية من وجود القانون الذي يتفق الجميع على أنه مقياس الصواب
والخطأ. فإن الذي يعين الصواب من الخطأ – كما أسلفنا - ليس هو
القانون ولا السلطة التشريعية، بل هو العقل. وغاية ما تفعله السلطة
التشريعية هو تشخيص مصاديق القواعد العقلية الأولية، وليس اتفاق
الجميع على شيء يعني أنه صواب ولا رفضهم له يعني أنه خطأ. فإن
العقل البشري المختلط بالأهواء والرغبات، والذي تمثله آراء
الأكثرية، غير قابل لأدراك مصالحة الحقيقية، بالإضافة إلى أن إسناد
تمييز الخطأ من الصواب، إلى أتفاق الجميع يؤدي إلى ضياع الخطأ
والصواب لما في هذا الإتفاق من التحول والإختلاف بين زمان وزمان،
بإختلاف أنواع الثقافة والتقاليد والذوق العالم في حين أنه يستحيل
على الحقيقة العقلية أن تتغير.
أما ( حق الثورة) الذي هو جوهر نظرية هذا المفكر الإنكليزي، فإنه
إنما قال به على تقدير مخالفة السلطة التشريعية والتنفيذية لحدود
التفويض والتعاقد الذي فرضها إليه الشعب أثناء العقد الذي جرى
بينهما.
ومادام هذا العاقد والتفويض منتف في الدولة الإسلامية، من حيث أن
كلا من الشعب والدولة خاضعان لله (عزوجل) ولقوانينه العادلة، فإن
هذه النظرية باطلة أساسً في نظر الإسلام. ولكن ذلك لا يعني عدم
وجود مفهوم الثورة في القانون الإسلامي، فإنه إن كان المقصود من
الثورة عزل الحاكم، فذلك راجع إلى التفريق الذي قلناه عند مناقشة
آراء (هوبز)، من أن هذا الحاكم اما ان يكون معصوماً عن الخطأ
والزلل فينتفي هذا الحق بالنسبة إليه من الأساس، لأن طاعته طاعة
الله تعالى الذي ولاه الحكم وإدارة دفة البلاد، والخروج عليه خروج
على الإسلام والأوامر الإلهية. اما إذا لم يكن معصوماً فإنه يجوز
عزله بل قد يجب، عند مخالفته لتعاليم دينه الحنيف. أما إذا كان
المقصود من الثورة، هو قلب النظام الأساسي للدولة الإسلاميتة، فهو
بالطبع محرم في دين الإسلام، لأنه يكون خروجاً عن الإسلام نفسه،
وتمرداً على القوانين الإلهية العادلة وإغضاباً لله تعالى، ومن ثم
فهو تعريض للنفس إلى عقابه الشديد، وهو من ناحية أخرى تسافلاً
مشيناً إلى الحضيض، ورفضاً للقوانين المثلى العادلة التي بها جاء
الإسلام ليخرج البشر من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط
المستقيم
وأما قوله أنه يجب على السلطة التشريعية أن تحكم وفق القوانين
المشروعة والمنشورة لكي يطلع الناس على واجباتهم، ويكونون آمنين
ومطمئنين ضمن حدود القانون فإن مناقشة هذا الأمر سوف يأتي عند
التعرض لمناقشة المادة الثامنة من هذا الإعلان، وستعرف هناك أن
الإسلام يوافق على هذه القاعدة
اما قوله إنه لا يجوز للسلطة التشريعية أن تفرض الضرائب على أموال
الناس دون موافقتهم أو موافقة مندوبيهم، فهذا ما سوف تأتي مناقشته
عند التعرض لمناقشة المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان، وسنعرف
هناك أن في الإسلام ضرائب معينة وليس للدولة ولا للناس رأي فيها،
وإن هذه الضرائب هي من جملة القانون الإلهي الوارد لأجل مصلحة
البشر، ولا حاجة بعد ضمان المصلحة إلى إحراز موافقة الناس عليها
لأنه (( ... وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا
وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون))(1)
أما بالنسبة إلى آراء (روسو)، فإنه قد إتضح مما سبق رأي الإسلام في
كثير مما قاله، كالحالة الطبيعية، او العقد الذي عقدوه فيما بينهم
للتخلص
_____________________
(1) البقرة آية (216)
منها حين أصبحت حجيماً لا تطاق، ومن هنا ينتفي جميع ما أضافه عليها
من الآراء والنظريات. إلا أنه ينبغي التعرض إلى بعض ما اختص به من
الآراء
فإنه ذهن إلى أن الحالة الطبيعية هي أسعد حالة للإنسان، أي ان
الإنسان يتمتع في ظلها بصحة ومتانه لا تشوبها مفاسد المدينة، وهذه
في ذاتها سعادة لا تقدر! وفي هذا الرأي خلط واضح بين الحياة
الريفية التي لا تشوبها مفاسد المدنية، ومن ثم يكون الإنسان في
ظلها أقوى عوداً وأوفر صحة، وبين الحالة الطبيعية التي يكون فيها
الإنسان مسؤولاً عن حماية نفسه وضمان حاجاته الضرورية، فهو دائماً
حائر مشتت الذهن، فإنه قلما يمكن الحصول على الأمن والحاجات
الضرورية في مثل تلك المجتمعات البدائية بل وهذه الحيرة وهذا الغم
في نفسه يؤثران على الصحة تأثيراً كبيراً. بالإضافة إلى أن الصحة،
من أين يمكن أن تأتيه؟ وليس لديه ثقافة طبية عامة يمكنه بها أن
يميز المضر من النافع، من المأكولات أو المشروبات أو الأمكنة أو
الأجواء، فربما عرض نفسه لأخطار المرض وهو لا يعلم، وليس هناك طبيب
يشخص مرضه ويصف له الدواء. ولعمري إن اللذة الناشئة من الأخلاق
الفاضلة والنظام والأمن لهي خير من تلك اللذة البدائية البسيطة.
ولعل تلك السعادة التي أراد أن يدعيها (روسو) ناشئة من التحرر الذي
تتصف به الحالة الطبيعية المفترضة، حيث ينطلق كل فرد مع شهواته
ونزواته ويمارس إشباعها كيفما شاء وأنى شاء، بدون رادع من نظام أو
وازع من دين. وهذه بالطبع ليست إلاّ سعادة مادية صرفة ناتجة عن
إشباع الإنسان لغرائزه من ناحية، والشعور بالتحرر من السيطرة من
ناحية أخرى. ولكننا لو علمنا أن تلك الحياة ليست إلاّ حياة بهيمية،
وإن كبح جماح الغرائز والخضوع لسيطرة القانون هي من الركائز الأولى
لأستتباب الأمن والنظام وانتشار الأخلاق في ربوع المجتمع. ومن ثم
فإنّ الإسلام يرفض بحزم تلك الحياة البهيمية الفاسدة، ويؤكد على
السعادة التي ينالها الفرد من دراسة العلوم أو خدمة المجتمع أو
التقرب إلى الله تعالى والخضوع له وعبادته بإيمان وإخلاص
اما نظريته حول (الإرادة العامة ) التي هي جوهر فلسفته ونظريته
السياسية، ومحاولته الإدعاء بأن هذه الإرادة مصيبة دائماً وتميل
إلى تحقيق الخير العام، وإن القانون هو التعبير المباشر للإرادة
العامة التي تمثلها أكثرية الشعب، ولا يمكن أن يكون القانون غير
عادل لأن العدالة هي إرادة أكثرية الشعب.
فإن كل هذه الأمور محل مناقشة من وجهة النظر الإسلامية فإن تمييز
الخطأ والصواب ما دام موكولاً إلى العقل لا إلى أي شيء آخر كما
عرفنا، فإن الإرادة العامة قد تطابقه فتكون مصيبة، وقد تخالفه
فتجانب الصواب، وكذلك بالنسبة إلى العدالة فإن إرادة أكثرية الشعب
إن إجتمعت على أمر عادل من الناحية العقلية فذلك، وإلا فإن الإرادة
العامة قد تخطء إذا إجتمع الشعب على شيء باطل
ومن هذا يظهر أنه يلزم من جعل الإرادة العامة مقاساً للصواب
والخطأ، ضياع هذين المفهومين وانطماس آثارهما، لأنّ هذه الإرادة
متغيرة بين زمان وزمان، بل قد لا يحتاج تغيرها إلى أكثر من عام
واحد، بحسب إختلاف الآراء العامة والتيارات السياسية والإتماعية.
مما ينتج أن يكون الفعل صواباً وعدلاً في زمان، وظلماً وخطأ في
زمان آخر، وأ، يكون الفرد مستحقاً للعقاب على فعل معين في وقت
ومحموداً على نفس الفعل في وقت آخر، وهذا مخالف للوجدان والفطرة
العقلية
كما إن جعل الإرادة العامة مصدراً للقوانين يلزم منه أن لا يصدر
القانون برضاء كل فرد من الشعب، وخاصة بعد أن فرق (روسو) بينهما
وبين (إدارة الجميع)، حيث ذهب إلى أن إرادة الجميع تأخذ بنظر
الإعتبار المصالح الفردية، وتمثل مجموع إرادات الشعب، في حين تهتم
الإرادة العامة بالمصالح العامة المشتركة، وذلك لأن كل فرد يضطر أن
يتنازل أثناء وضع القانون عن بعض آرائه تحت ضغط آراء الآخرين،
ومراعاة لحريتهم في التصويت، وتؤثر في عملية التصويت هذه عوامل
متعددة نفسية وفكرية وإجتماعية تؤثر في وضع القانون وينتج القانون
أخيراً ذو شكل لا هو مرضي لكل فرد منهم، لأن كلا منه قد إضطر إلى
التنازل فلم يكن القانون مطابقاً لآرائه تمام المطابقة، ولا هو
مرضي لمجموعهم بعد أن كان غير مرضي عند كل فرد، ولكنه عبارة عن
نتاج هذه التفاعلات والتنازلات التي قامت بين الأطراف المشتركة في
مناقشة القانون والتصويت عليه
هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه من عدم إستطاعة العقل البشري إدراك
المصالح البشرية الحقيقية، بالإضافة إلى أنه يلزم من متابعة
الإرادة العامة التي هي عبارة عن إرادات الأكثري، أن تكون هناك
دائماً وبصورة مستمرة أقلية مظلومة في البلاد، فإنه ما دامت
الإرادة العامة غير مضبوطة وقابلة للتغير بين تصويت وتصويت، إذن
فكل فرد من الشعب مهدد بأن يكون ضمن الأقلية، مغموط الحقوق في يوم
من الأيام.
ومما سبق يظهر أن السيادة ليست للشعب، وإنما هي لله (عز وجل) ولمن
جعلهم أمناء على خلقه وهم الأئمة المعصومون (عليه السلام)، وحسب
البشرية فخراً ان تكون محكومة بالقوانين الإلهية من قبل أمناء الله
تعالى على خلقه. وليس للشعب أن يغير بآرائه العاليم الإلهية فإن
الله (عز وجل) أدرى بمصلحة البشر أكثر من أي فرد منهم كمنا أنه ليس
للفرد أن يرد على قول المعصوم (عليه السلام) أو يرفضه
لأن قوله من قول الله (عز وجل) والراد عليه راد على الله تعالى.
قال الله تعالى في كتابه الكريم (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
قضى الهل ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ........))(1).
والإمام بدوره لن يقول إلا صواباً ولن يتصرف إلاّ على حساب المصلحة
العليا، وذلك لما اتصف به من ملكة روحانية متأصلة في نفسه تمنعه من
الذنوب والموبقات. وهذه الملكة هي التي تسمى بالعصمة
كما أن القانون ليس هو التعبير المباشر للإرادة العامة في رأي
الإسلام، بل هو تعبير عن إرادة الله (عز وجل) . كما إن الحكومة
الشرعية الإسلامية ليست قائمة لتنفيذ رغبات الشعب، بل لتنفيذ أوامر
الله (عز وجل)، فإن أوامر الله تعالى أولى بالإتباع وأجدر أن تهدي
إلى الصراط المستقيم، من رغبات الشعب التي كثيراً ما تخطيء الطريق
الصحيح، وخير للشعب أن يعيش في ظل القوانين الإلهية العادلة من أن
يعيش تحت حكم نفسه وفي حدود عقله البشري القاصر
بعد أن تجولنا هذه الجولة المتصلة في (مدرسة العقد الإجتماعي)
السياسية، تلك الجولة التي اقتضتها عبارة (الإرادة العامة) التي
إقتبسها واضعو هذه الإعلان من كتابات (روسو) وحشروها في هذه
المادة، وقد عرفنا قبل لحظات الرأي الإسلامي الصحيح في مناقشة
الإرادة العامة،
_________________________
(1) الأحزاب آية (36)
واكدنا بما لا مزيد عليه، إن الإرادة في الدولة الإسلامية إرادة
الله تعالى وإرادة من فوضه الله للحكم بين الناس
نعود الآن لمواصلة مناقشة البقية الباقية من هذه المادة : يتبين
مما مضى بوضوح الرأي الإسلامي : في أن يشترك المواطنون في سن
القانون بأنفسهم أو بواسطة نوابهم، فإنه دين الله الحنيف الذي
أنزله (عز وجل) لأجل مصلحة البشر وضماناً لسعادتهم ووصولهم إلى
كمالهم، ليس بحاجة إلى مثل ذلك، لأن التصويت إ،ما يجري على أي
قانون لأجل إحراز رضا الشعب عنه، لئلا يطبق على الشعب قانون خارج
عن إرادته لأجل ان يثبت ان هذا القانون عادل، لأن العدالة هي إرادة
أكثرية الشعب، كما ذهب إليه (روسو). ولكننا ما دمنا نعرف أن الشعب
إنما يريد تمامية مصالحه وقضاء حوائجه وضمان رفاهه، وليس التصويت
إلاّ مقدمة لذلك عن طريق إفتراض أن آراء الأكثرية إذا إنعقدت على
قانون ما، فإ،ه حتاً يكون في صالح الشعب. ولكن الشعب المسلم ما دام
يعلم أن القوانين الإلهية الإسلامية هي أبع دنظراً وأوسع أفقاً
وأعمق تأثيراً في سعادته ورفاهه من أي قانون آخر، إذن فلا حاجة له
إلى التصويت على أي قانون آخر
وما دام الشعب المسلم يعلم أيضاً من هو إمامه وبأي صفات يتصف تلك
الصفات الفاضلة التي عرفنا عنها شيئا فيما سبق. فلا حاجة له حتماً
أن ينتخب شخصاً آخر ليتولى إدارة شؤونه، لأنه على كل حال لن يرى
شخصاً هو خير من الإمام المعصوم الذي اختاره الله (عز وجل) بحكمته
البالغة ليكون حجة على البشر، وليطبق عليهم قوانين الإسلام
العادلة.
بالإضافة إلى ما يمكن أن يقال، على طريقة أولئك المفكرين من أن
الشخص المسلم، بصفته مسلماً، قد أوكل إرادته في التشريع والتنفيذ
إلى الله (عز وجل) ومن ثم فإن الله (عز وجل)، نصب خير من يمكن أن
ينصبه في هذا المحل السامي ليكون مضطلعاً بواجباته فيه. إلا أن هذا
كلام جدلي لا معنى له في الدين الإسلامي بعد أن نعرف أن الإنسان
مخلوق لله (عز وجل)، ولم يكن يملك في مقابل إرادة الله (عز وعلا)
يوماً من الأيام إرادة أو حرية
هذا بالإضافة إلى ما سبق أن قلناه من أن العدالة في القوانين ليست
هي إرادة أكثرية الشعب لها، لأنه لم يمر في أية فترة من فترات
التاريخ، في أي شعب من شعوب العالم، إ، أكثرية العشب واعية بحيث
تتولى بنفسها وضع القوانين وتوافق عليها(1)، فكيف يمكن ضمان
العدالة رغم ذلك، مع ما سبق أن قلناه من أن العدالة إنما هي مفهوم
عقلي وغاية ما يمكن أن يفتحر به المشرع أو القانون هو إقترابه من
هذا المهفوم إلى أكبر حد ممكن.
_______________________
(1) محاضرات في التاريخ الحديث للدكتور فاضل حسين في السنة الرابعة
في كلية الفقه.
اما قولهم بأن القانون واحد في حالتي الحماية وفرض العقوبات فهو
بالضبط ما يذهب إليه الإسلام، وبشكل أكثر عدالة وعمقاً من مفهومهم
البرجوازي الضيق، الذي يحمي البرجوازيين فقط، ويصب سوط عذابهم على
العمال والفلاحين. فإن المواطنين سواسية أمام القانون الإسلامي
سواء في حالتي العقاب والثواب. وهذا ما سبق أن فصلنا فيه القول في
المادة الأولى
ولكن هناك فرقاً صغيراً، ولكنه عميق الأثر في عين الوقت، بين
القوانين الوضعية وبين قانون الإسلام، نعرف منه كيف أن الإسلام
أكثر عمقاً في المساواة من هذه القوانين. فإن الحماية مفروضة في
الإسلام على كل مواطن، ولكن بالشكل الذي لا يتعدى حدود التعاليم
الإسلامية، بينما توجد في القوانين الوضعية الحديثة حالة يتمتع
فيها لافرد بالحرية أكثر من سائر الأفراد في كثير من أعماله
وأقواله، ولكن هذا الشيء غير موجود في الشريعة، فإنه من ناحية أولى
لا يوجد في الدولة الإسلامية منصب يمكن أن ينعت بهذه الصفة وتضفي
عليه مثل هذه القدسية، فإن الذين يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية في
الدولة الحديثة هم الملك، أو رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء،
والوزراء ، والنواب وأعضاء مجلس الأعيان، والسفراء، والقائمين
بالأعمال إلى مناصب أخرى غيرها، وكل
هذه المناصب غير موجودة في الدولة الإسلامية آنذاك، فإن الإمام ليس
ملكاً لأن الملوكية لها أسس خاصة من أوضحها توارث العرش وإن الأبن
الأكبر لا بد أن يستولي عليه مهما كان فاسد الأخلاق أو قليل العقل،
أو ضعيف الإرادة، في حين أن منصب الإمامة منصب إلهي لا صلة له
بالتوارث، وإنما صار أئمتنا (عليهم السلام) متوارثين لا لأجل
خصوصية في التوارثن بل لأن الإمام لا بد أن يكون قد تلقى علمه من
سلفه، وتلقى منه القواعد الأساسية للإمامة منه، وليس أقرب إلى
الإمام من ابن الإمام (عليه السلام) الذي يتربى في ذلك البيت
السامي تحت رعاية أبيه المعصوم وعنايته، ونتعقد نفسه ومواهبه، وهو
أقرب الناس إليه لتلقي علومه منه وإرشاداته، وبذلك يكون الإمام قد
توفرت لديه المؤهلات البيأية والوراثية لأجل هذا المنصب العظيم،
وهما العاملان الأساسيان في تكوين نفس الفرد
ومن الواضح بعد كل ما مضى أن لا يوجد في الدولة الإسلامية رئيس
للجمهورية. كما أنه لا يوجد هناك رئيس للوزراء، ولا وزراء، وإنما
يوجد موظفين يعينهم الإمام (عليه السلام) لأجل تصريف شؤون الدولة
وتطبيق نظام الإسلام. كما إنه ليس في الدولة الإسلامية مجلس للنواب
ولا مجلس للأعيان. كما إنه لا يوجد هناك سفراء ولا قائمين بالأعمال
لأن المفروض أن الدولة الإسلامية دولة عالمية واحدة تحت سيطرة
الحكم
الإلهي، وفي مثل هذه الدولة ينتفي معنى السفراء والقائمين
بالأعمال، لأن ذلك إنما يكون بين دولتين ذواتي كيان مستقل. هذا
فيما مضى، اما اليوم ففي المسألة إجتهاد آخر
ومن الناحية الأخرى، فإن الحصانة الدبلوماسية غير متوفرة لأي موظف
في الدولة الإسلامية، فإن كل فرد مسلم مهما كان عمله مسؤول عن
سيئاته كما هو محمود على حسناته، وهو مراقب من جهات عديدة ذكرناها
على نحو الإجمال فيما سق، وسيأتي تفصيل الكلام حولها عند مناقشة
المادة الخامسة عشر من هذا الإعلان
اما ما ذكره واضعو هذه المادة من تقديم المواطنين بحسب كفاءاتهم في
المناصب والرتب والوظائف العامة، فهذا نفس ما يذهب إليه الإسلام.
غاية الأمر إن ميزان الكفاءة يختلف في نظر الإسلام عنه في نظر
هؤلاء البرجوازيين، فإن الفرد الكفؤ في الإسلام أجمع للفضائل
الروحية من الفرد الذي يتوخاه البرجوازيون ليتولى حماية مصالحهم
الخاصة، وذلك كما سبق أن أشرنا إلى تفصيله في مناقشة المادة الأولى
من هذا الإعلان.
(12)
المادة السابعة : لا يجوز إتهام أحد أو توقيفه أو حجزه إلاّ في
الأحوال المبينة في القانون، وبحسب الإجراءات المحددة فيه. ويجب أن
يعاقب جميع الذين يطلبون تنفيذ أوامر تعسفية أو يوافقون عليها أو
ينفذونها أو يأمرون بتنفيذها. ولكن على كل مواطن يستدعى أو يوقف
طبقاً للقانون أي نيطيع حالاً ويكون مذنباً إذا قاوم
ومن الملاحظ في المقام بأن الإسلام لم يشرع السجن عقوبة إلا نادرا،
فإن من يتصفح سجل العقوبات في الفقه الإسلامي لا يجد من عقوبة
السجن إلا نادراً، كما في المرأة المرتدة عن الإسلام فإنها تحبس
دائما وتضرب في أوقات الصلاة(1) . والواقع أن الإسلام قد رتب
العقوبات بشكل فني وعادل بحيث لم يجعل هناك مالاً لعقوبة السجن.
نعم، هناك في الفقة الإسلامي ما يمكن أن يسمى بالإصطلاح الحديث
حجزاً أو توقيفاً، كأن يحبس الغريم في الدين لو أدعى الإعسار حتى
يثبته(2) ، وكما إذا أبى المدعى أن يحلف بعد رد اليمين عليه من
المنكر فإنه يحبس
_________________
(1) اللمعة الدمشقية، كتاب الحدود ص368 ج2
(2) اللمعة الدمشقية ص403 كتاب الدين ج1
إلى أن يحلف أو يقضى بنكوله(1). وبالطبع فإن الموقوف يجب أن لا
يعامل معاملة سيئة إلاّ ما كان ضرورياً لبضائه رهن أمر السلطة، كما
إنه لا يجوز أن يؤخذ منه الإقرار بالتعذيب والتعسف، فإن ذلك كله،
ظلم وإعتداء على الآخرين بما لا يستحقونه وهو محرم في الشريعة
الإسلامية، ولأن لأخذ الإعتراف ولثبوت الحكم في صالح الشخص أو ضده،
أصولاً خاصة مشروحة بشكل مفصل في كتب الفقه الإسلامي وليس منها
التعذيب والتعسف. كما إنه لا يجوز حجز أحد أو توقيفه في غير
الأحوال المنصوص عليها في الإسلام، وإلاّ كان بدعة وإدخالاً في
الدين ما ليس فيه بالإضافة إلى ما فيه من الإعتداء على الآخرين
وكلاهما من المحرمات الكبرى في الإسلام
اما بالنسبة إلى عدم جواز إتهام أحد إلا في الأحوال المبينة في
القانون، فهو أمر بديهي بالنسبة إلى الدين الإسلامي الحنيف، لأن
المواطن المسلم لا يكون معرضاً للعقاب إلا في الحالات المعينة
المبينة في القانون الإسلامي، ولا يجوز عقاب ا؛د في غير تلك
المواضع وإلاّ كان ذلك بدعة في الدين وإعتداءاً على الآخرين.
بالإضافة إلى أن الأصل في الإسلام براءة الذمة، كما سوف تأتي
الإشارة إليه في المادة التاسعة من هذا الإعلان. إلا أن ذلك لا
يعني أن لا ينظر في شأن الشخص الذي
_______________________
(1) اللمعة الدمشقية ص283 كتاب الفضاء ج1
ترجحت التهمة في حقه بتمرد على الدولة أو المجتمع أو الدين أو
أشتكى عليه شخص آخر يدعي أنه قد اعتدى عليه وغمط حقه، فإن مثل هذا
الشخص يجب أن ينظر ف يحاله فإن ثبت كونه مذنباً بحسب القواعد
الإسلامية المتوفرة أدين بها ولقي جزاءه العادل، وإلا بقي حراً
طليق
اما بالنسبة إلى معاقبة الذين يطلبون تنفيذ أوامر تعسفية أو يأمرون
بتنفيذها، فيجب أن نرجع إلى رأي الفقه الإسلامي في الموضوع، الذي
هو المرآة الصادقة للقانون الإسلامي الخالد. فإن الفقهاء يفصلون
بين ما إذا كان الفاعل المأمور كالآلة بالنسبة إلى الآمر، كأن يرسل
صبياً غير مميز أو مجنوناً لإرتكاب الجريمة، فإن الآمر في هذه
الحالة هو الذي يعاقب على الجريمة، حيث إن الفاعل لم يكن له وجود
مستقل في مقابل وجود الآمر.
أما إذا كان الفاعل لم يكن له وجود مستقل في مقابل وجود الآمر. اما
إذا كان الفاعل شخصاً مميزاً عاقلاً فيجب عليه عصيان الأمر
بالجريمة مهما كلفه ذلك، ولو كلفه ذلك حياته إذا كان الأمر متوجهاً
إليه بجريمة قتل، أما لو فعل فإن العقاب يترك عليه فقط، ولا يعتبر
الآمر كالفاعل في العقاب .