الرجوع إلى الخبراء
3 ـ الرجوع إلى الخبراء
الحكومة لها عرض عريض، وشعب كثيرة، وكثيراً ما يحتاج في معرفة الموضوعات إلى وجهات
نظر الخبراء، فعلى الفقيه تلقي نظرهم في ذلك إذا كانوا مؤتمنين وليس هذا من
المشاورة بل من قبيل الرجوع إلى العالم ويشبه التقليد من بعض الجهات في مثل هذه
الموضوعات المعضلة الخاصّة.
توضيح ذلك: أن كلّ حكم يحتاج إلى موضوع يتعلّق به، كالمسكر والقمار والأوثان
والأصنام، بالنسبة إلى تحريم الشرب واللعب والعبادة وقد يفرق بين «الموضوع» و
«المتعلّق» فالمتعلّق هو الفعل الذي يكون مهبط الحكم، كالشرب في لا تشرب الخمر،
والعبادة في لا تعبد الصنم، وأمّا الموضوع هو الذي يتعلّق به الأفعال «كالخمر
والصنم وآلات القمار» (وقد يطلق الموضوع على ما هو أعمّ منها والأمر سهل بعد وضوح
الحال).
والموضوعات على أقسام:
«منها» : ما يكون شرعياً محضاً مستنبطاً من الكتاب والسنّة، كالصلاة والصوم والحجّ
والطواف وغيرها من أشباهها، والأخرى ما ليس كذلك، بل يكون عرفياً، وهو أيضاً على
قسمين: ما يكون معلوماً لكلّ أحد، يعرفه العالم والجاهل، كالماء المطلق والمضاف،
والدم والبول، والفراسخ في باب صلاة القصر، والغنم والبقر في أبواب الزكاة وغيرها
من أشباهها.
وقسم لا يعرفه إلاّ الخبراء من أهل العلوم والفنون المختلفة، مثل قيمة الدار عند
الشكّ فيها والحاجة إليها لمعرفة موضوع الغبن في البيع وعدمه، وكون الصيام ضاراً أم
لا، ومقدار حاجة العسكر إلى السلاح وإعداد القوى، ومقدار حاجة المسلمين إلى الأرزاق
وغيرها ممّا يكون فقدها ضرراً عليهم، وكذا مقدار الثمر على الشجر عند الخرص
والتخمين لأخذ الزكوات، كما كان معمولاً في عصر النبي (صلى الله عليه وآله).
وبالجملة معرفة مصالح الأمة يحتاج في كلّ خطوة إلى الخبراء العالمين بها لاسيّما في
عصرنا هذا، الذي ازدهرت الحضارة البشرية فيه، واتسع نظاق العلوم والفنون والصنايع
والحرف، ولا يقدر الإنسان على أن يكون خبيراً في جميعها، بل ولا في شطر منها إلاّ
في حقل محدود.
فالولي الفقيه في هذه الموارد إنّما يستنبط الحكم من موضوعه ويأمر بانفاذه، أمّا
معرفة مصاديقه و موضوعاته فهو في هذا القسم خارج عن قدرته غالباً لابدّ له من
الرجوع إلى أهله، ولكن لاشكّ في اعتبار كونهم مأمونين على الدين والدنيا وكلّما
يعتبر في المشير يعتبر فيهم، بل وأزيد، وضرر الرجوع إلى الخبراء غير المأمونين قد
يكون أكبر من ترك الرجوع إليهم كما لا يخفى على الخبير.
وهل يعتبر فيهم الإيمان مضافاً إلى الوثاقة؟
لاشكّ في أنهم إذا كانوا مؤمنين كان أحسن وأفضل، بل مادام يمكن الوصول إلى أهل
الإيمان لا ينبغي الرجوع إلى غيرهم، ولكن قد لا يكون الخبراء إلاّ من غير أهل
الإيمان مع الأمن منهم، وحينئذ لا مناص عن الرجوع إليهم ولكن مع الاحتياط والحذر
اللازم، كما ورد في الأثر من رجوع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عندما ضربه
اللعين، ابن الملجم إلى الطبيب النصراني[1].
والدليل على ذلك كلّه أدلّة وجوب التقليد والرجوع إلى أهل الخبرة، فإن بعضها عام
يشمل الموضوعات وغيرها كبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم وآية السؤال،
مضافاً إلى سيرته (صلى الله عليه وآله) وأمره عبد الله بن رواحة لتخمين مقدار الثمر
لأخذ الزكاة وغيرها من أمثالها.
4 ـ لزوم الأخذ بأحكام الشرع في جميع أموره
الفقيه بما أنه صاحب الفتوى ومرجع التقليد يستنبط الأحكام الشرعية عن مصادرها، ولكن
بما أنه حاكم على الناس يكون مطيعاً لهذه الأحكام ومحقّقاً لها في الخارج، فهو من
هذه الجهة ليس له إلاّ التنفيذ، فلا يتخطى عن طور الأحكام، بل لابدّ له من التمسّك
بها، فإن أمكنه الأخذ بالعناوين الأولية فبها، وإلاّ فبالعناوين الثّانوية كالأحكام
الواردة على عنوان العسر والحرج، والضرر، وإقامة النظام وغيرها، والحاصل أن وظيفة
الحاكم بما أنه حاكم هو تنفيذ الأحكام والقوانين الشرعية لا غير.
وما قد يقال أن الحكم على ثلاثة أقسام:
1 ـ حكم أولي
2 ـ حكم ثانوي.
3 ـ حكم ولائي.
فالحاكم غير مقيد بالأخذ بالأحكام الأولية والثّانوية، بل له حكم مستقل ولائي، في
عرض الأحكام الأولية والثانوية ناشيء من الخلط بين الأحكام التشريعية والأحكام
الإجرائية، لا نقول ليس له حكم ولائي بل هو ثابت له، ولكنه ليس في عرضهما بل في
طولهما.
توضيح ذلك: أن الأحكام الأولية كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد، والثّانوية كنفي
الضرر والحرج ولزوم حفظ النظام، أحكام كلية إلهية، وقوانين عامّة شرعية، وأمّا
الحكم الولائي حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكلية الإلهية
على مصاديقها الجزئية، مثلاً: الفقيه الذي يحكم بأن التدخين بالتنباك في هذا اليوم
بمنزلة الحرب ضد الحجّة المنتظر (أرواحنا فداه) في الحقيقة ينظر إلى حكم كلي، وهو
أن كلّ شيء يكون سبباً لإضعاف المسلمين، وكسر شوكتهم وأسرهم في أيدي الأعداء، فهو
بمنزلة المحاربة له (عليه السلام) واستعمال التنباك في ظروف خاصة كان بنظر الفقيه
الجامع لشرائط الحكم وبحسب رأيه الصائب مصداقاً لذلك، فيحكم بهذا الحكم الولائي
باتاً، وإذا ارتفعت العلّة الموجبة له يحكم بجوازه. لتبدل موضوعه، كما وقع كلاهما
للسيّد الأكبر الميرزا الشيرازي (قدس سره).
وكذلك حكم الفقيه برؤية الهلال، ولزوم الصيام أو الإفطار، إنّما ينشأ من الأخذ
بالشهادة وتطبيق أدلّة حجيتها على مصداق خاصّ، وهكذا إعلام يوم الوقوف بعرفات ويوم
العيد الأضحى لتنظيم مناسك الحجّ.
ومثله حكمه الولائي بلزوم إعداد قوى خاصة وأسلحة معيّنة. وأخذ مقدار من الأموال
زائداً على الوجوه الثابتة الشرعية في برهة من الزمان لحرب أعداء الله، فإن الحكم
الكلّي الشرعي في جميع هذه المقامات معلوم، وهو قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم
من قوّة)، أو وجوب مقدّمة الواجب أو غير ذلك من أشباهه، ولكن الولي الفقيه يرى
تحقّق موضوعه في الخارج فيتصدى لانفاذ هذا الحكم ويحرض الناس عليه بمقتضى وظيفته
وتكليفه.
وإن شئت توضيحاً أكثر لهذه المسألة المهمّة فأعلم أن: الأحكام الولائية (أي الأحكام
التي يصدرها الوالي) على أقسام:
قسم منها يكون كنصب أمراء الجيش والقضاة والموظفين في دائرة الحكومة الإسلامية،
فإنها أحكام إنشائية في مواردها تحصل من إنشاء الوالي لها، لمن فيها الصفات
المعتبرة لهذه المناصب، وقسم آخر منها أحكام خاصّة ناشئة عن تطبيق كبريات الأحكام
الأولية على مصاديقها، كالأمر بجباية الزكاة والأخماس، ووضعها في مواضعها، وإعداد
القوى لحرب الأعداء، وتعيين زمان الحرب والصلح (كلّ ذلك بعد مراجعة الشورى
والخبراء).
وقسم ثالث: أحكام خاصّة حاصلة من تطبيق كبريات الأحكام الثّانوية على مواردها،
كإيجاب العمل بما يقتضي النظام في أمر عبور السيارات في الشوارع داخل المدن وخارجها
فإنها مقدّمة لحفظ النفوس والدماء وأمن السبل، ومقدّمة الواجب من الأحكام الثّانوية
كما سيأتي.
وكتحريم بعض التجارات مع الأجانب، أو إيجاب بعض الزراعات في برهة من الزمان، لإضعاف
شوكة المعاندين، والمنع من تدخلهم في شؤون المسلمين، وحفظاً لنظام أرزاق الناس
والقيام بمكافحة الغلاء وقحط الأرزاق، ممّا يكون تركه مضرة للناس لاسيّما الفقراء
والضعفاء منهم.
وقسم منها: يكون لدفع ظلم الظالمين واعتداء بعض الناس على بعض، كالأمر بفتح مخازن
المحتكرين، وبيع ما فيها على الناس، وتعيين الأسعار فيما تحتاج إليه الأمة عند حدوث
إجحاف التجار وذوي الصناعات والحرف في التسعير، وما أشبه ذلك.
وقد ورد كثير من هذه الأقسام في العهد المعروف الذي كتبه مولانا أمير المؤمنين علي
(عليه السلام) إلى الاشتر النخعي حين ولاه مصر، وله نظائر من بعض الجهات في العهود
التي عهدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمرائه عند إرسالهم إلى مختلف بلاد
المسلمين.
ولكن كلّ هذه الأحكام تدور حول الأحكام الكلية الإلهية التي وردت في الكتاب والسنّة
من الأحكام الأولية والثّانوية، و لا يتعداها أبداً في شيء من مواردها ولو مورداً
واحداً.
فليس للوالي حكم خاصّ في عرض الأحكام الإلهية يسمى الحكم الولائي، بل له أحكام
إجرائية في طولها، ولا أظن أحداً يلتزم بغير ذلك، وليس له حقّ التشريع وجعل الأحكام
الكلية ممّا لم يرد في الشرع، بل ليس للإمام المعصوم (عليه السلام) أيضاً ذلك كما
سيأتي البحث عنه مفصلاً إن شاء الله عن قريب، فإن الله قد أكمل دينه، وأتم نعمته
ولم يبق شيء إلاّ وقد أنزل الله فيه حكماً حتّى أرش الخدش، ولا توجد واقعة ليس لها
حكم إلهي كما في الأحاديث المتضافرة، وممّا ذكرنا ظهر لك أن هناك فرق واضح بين
الحكم الولائي والأحكام التشريعية الأولية والثّانوية وإليك بعضها.
1 ـ الأحكام الولائية أحكام إجرائية جزئية في طريق أنفاذ الأحكام الكلية الإلهية
(والمراد من الجزئي هنا الجزئي الإضافي لا الجزئي الحقيقي كما هو ظاهر، فمثل
المقررات التي وضعت لتنظيم الحركة والمرور وإن كانت أحكاماً كلية إلاّ أنها، إنّما
هي مقدّمة لحفظ الدماء والنفوس ونظام المجتمع فهي جزئية بالنسبة إليها).
2 ـ البحث عن الأحكام الولائية دائماً بحث موضوعي لما عرفت أنها في سبيل إجراء
الأحكام الكلية الإلهية، بخلاف الأحكام الكلية، فوظيفة الفقيه بما أنه مفت استنباط
هذا القسم من الكتاب والسنّة وبما أنه وال، استخراج الأوّل من طريق تطبيق الكبريات
على صغرياتها.
3 ـ الأحكام الولائية في طول الأحكام الشرعية الأولوية والثّانوية لا في عرضها،
فهذه فروق ثلاثة، يرتبط بعضها ببعض، وإن شئت قلت، بعضها نتيجة بعض.
بحث حول العناوين الثّانوية
لما انتهى الكلام إلى أحكام العناوين الثّانوية اشتاقت نفوس جمع من الأحبة إلى
تعريفها، وبيان الفرق بينها وبين غيرها، وما يخصّها من الأحكام، ولاسيّما أننا لم
نرَ أحداً من الأعلام قد تعرض لها بشكل مفصل في طيات كتب «الفقه» و «الأصول» ولم
نجد إلاّ إشارات طفيفة في مختلف أبواب الفقه، فأحببت تفصيل الكلام في ذلك لما فيه
من آثار كثيرة لاسيّما في زماننا هذا. فنقول ومنه جلّ ثنائه نستمد التوفيق
والهداية: لابدّ هنا من رسم أمور:
1 ـ تعريف العناوين الثّانوية وحدوده
قد عرفت أن الأحكام تحتاج إلى موضوع ترد عليه، ومتعلّق، تتعلّق به، وانهما قد
يتحدان، وقد يفترقان، ففي مثل وجوب الصلاة، الموضوع والمتعلّق أمر واحد، وفي مثل
شرب الخمر مختلفان، وذكر بعض الأصوليين أن الموضوع أشبه شيء بالمعروض في مقابل
العرض، ولكنّه مجرّد تشبيه، وإلاّ فالأحكام أمور اعتبارية لا مساس لها بالعرض الذي
هو من الأمور الحقيقية.
وعلى كلّ حال، العنوان المأخوذ في الموضوع قد يكون «عنواناً ثابتاً له مع غضّ النظر
عن العوارض والطوارئ التي تتغير الأحكام بها، فيسمى عنواناً أولياً، وأخرى تكون من
العوارض والطوارى التي قد يلحقها ويتغير بها حكمه، فيسمى عنواناً ثانوياً.
وإن شئت فانظر إلى مثل لحم الميّتة وحرمتها، ثمّ الاضطرار إلى أكلها لبعض ما يرد
على الإنسان، كالسفر إلى بلاد غير المسلمين مع عدم التمكّن من ذبيحة المسلم، ومع
عدم القدرة على ترك اللحم زماناً طويلاً للخوف على النفس.
فلحم الميّتة حرام ذاتاً بما أنها ميّتة، ولكن عروض عنوان الاضطرار يوجب تغيير
حكمها مؤقتاً، ثمّ بعد زواله يرجع إلى ما كان عليه، و كذا الكلام بالنسبة إلى حرمة
الكذب، وإباحته أحياناً لما فيه من إصلاح ذات البين، فالكذب عنوان ثابت أولى للحرمة
لا يتغير من هذه الجهة ولكن عنوان «إصلاح ذات البين» أمر عارضي مؤقت يوجب إباحته
فعلاً.
وكذا الواجب في الوضوء هو مسح الرأس والرجلين، ولكن عروض عنوان التقية قد يوجب
تغيير حكمه وتبدله بالغسل، وإذا زالت التقية زال حكمها.
وإن شئت قلت: قد ينقسم الشيء إلى أقسام، بذاته، كالماء المنقسم إلى الكر والقليل
والمتغير بالنجاسة وغير المتغير والطاهر والنجس، وقد ينقسم بأمور خارجة عن ذاته
كالماء المضطر إلى شربه وما لم يضطر، فمثل هذه العناوين، من العناوين الثّانوية.
فمن هذه الأمثلة الثّلاثة وما أشبهها وما ذكرنا في صدر الكلام وذيله، يعلم حال
العناوين الثّانوية واختلافها مع العناوين الأولية ولا نحتاج إلى مزيد البحث في
ذلك.
2 ـ كثرة العناوين الثّانوية وتنوعه
قد ظهر ممّا ذكرنا عدم حصر هذه العناوين في الضرورة والاضطرار كما توهمه بعض من لا
خبرة له بالفقه والأصول، بل هي كثيرة متفرقة في أبواب الفقه، ويشكل حصرها في عدد
خاصّ ولكن الأشهر من بينها العناوين التالية:
1 ـ عنوان الضرورة والاضطرار ـ وهو ما ورد في قوله تعالى (وما لكم ألاّ تأكلوا ممّا
ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه) [2]. وظاهره
عام يشمل جميع المأكولات، اللّهم إلاّ أن يقال أن ورودها في سياق آيات أحكام اللحوم
يوجب انصرافها إليه فقط، وهو بعيد.
وقد أُشير إليه في آيات أخر أيضاً من كتاب الله العزيز[3] كلّها واردة في أحكام
اللحوم، ولكن ملاك الحكم عام كما هو ظاهر.
وقد روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المريض هل تمسك له
المرأة شيئاً فيسجد عليه؟ فقال: لا إلاّ أن يكون مضطراً ليس عنده غيرها، وليس شيء
ممّا حرم الله إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه[4].
وما روى سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء... فقال: لا بأس بذلك، وليس
شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه[5].
وحكم الاضطرار والرخصة الحاصلة منه ثابت بالأدلّة الأربعة كما لا يخفى على من
راجعها.
2 ـ عنوان الضرر والضرار ـ وهو أيضاً وارد في الكتاب العزيز في موارد خاصّة مثل
قوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) [6]. الواردة في حكم الرضاع
وقوله تعالى: (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) [7] الواردة في حكم المطلقات، والعمدة في
عموم الحكم هو حديث «لا ضرر ولا ضرار» المعروف بين الفريقين وغيره من أشباهه، وقد
أوردناها جميعاً في كتابنا القواعد الفقهية في قاعدة «لا ضرر» فراجع القاعدة الأولى
من القواعد الثلاثين.
3 ـ عنوان العسر والحرج ـ وقد ورد أيضاً في كتاب الله في قوله تعالى: (وما جعل
عليكم في الدين من حرج) (3) ويدلّ عليه الروايات الكثيرة المستفيضة التي لعلّها
تبلغ حد التواتر، وقد نقلنا شطراً منها في الكتاب المذكور «القاعدة الثّانية من تلك
القواعد».
4 ـ عنوان التقية ـ بما لها من الأقسام «الخوفي» و «التحبيبي» و «التقية المقابلة
للإشاعة وإذاعة الأسرار (بناء على كونه قسماً ثالثاً كما مال إليه بعض. وأن اخترنا
في محله أنها راجعة إلى القسم الخوفي) وعلى كلّ حال يدلّ على أصل هذا العنوان،
الأدلة الأربعة أيضاً كما تظهر القاعدة بمراجعة الكتاب المذكور، وهذا العنوان قد
يوجب تحليل الحرام أو تحريم الحلال بعنوان حكم موقت عارضي.
5 ـ مقدّمة الواجب أو الحرام ـ (بناءً على ما هو الحقّ من وجوب الأوّل، وحرمة
الثّاني كما ذكرناها في محلّه) وهذا العنوان هو الدليل الوحيد أو الدليل العمدة على
بعض المسائل المشهورة في الفقه، مثل وجوب المكاسب والحرف التي يتوقف عليها حفظ
النظام، فإن حفظ النظام واجب قطعاً ويمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة، بل
العلّة في تشريع كثير من الأحكام لاسيّما الحدود والتعزيرات هو هذا، فيجب ما يكون
مقدّمة له.
ولعلّ تحريم التنباك في القضية المشهورة عن السيّد الأكبر الميرزا الشيرازي من هذا
القبيل، لأن استعماله كان سبباً لمزيد اشترائه، وهو بدوره كان سبباً لازدياد قوّة
الدول الاستعمارية واستضعاف المسلمين وسلطة الأجانب عليهم (وقد يكون مصداقاً لعنوان
آخر وهو الإعانة على الحرام) وكذلك الكذب إذا كان مقدّمة لإصلاح ذات البين، أو
الغيبة مقدّمة لنصح المسستشير، وجميع هذه إنّما تجب أو تحرم بعنوان ثانوي وهو عنوان
المقدمة.
ومن هذا القبيل أيضاً أخذ بعض الأموال من الناس زيادة على الحقوق الواجبة المعروفة
مقدّمة لابتياع السلاح وما يكون أعداده في مقابل الأعداء في بعض الظروف الخاصّة.
6 ـ قاعدة الأهم والمهم عند التزاحم ـ ويدلّ عليها «العقل» و «الشرع» بل يمكن إقامة
الأدلّة الأربعة عليها كما لا يخفى على الخبير، كالمثال المعروف الدارج بينهم من
الدخول في الأرض المغصوبة لانجاء الغريق، وكالأكل في المخمصة لحفظ النفس، فإن الحكم
الأولي وإن كان يقتضي عدم جواز التصرّف في أموال الناس، ولكن مزاحمة الواجب الأهم
وهو حفظ النفس المحترمة تقتضي جوازه بل وجوبه بعنوان ثانوي.
بل ويمكن إرجاع مسألة مستثنيات الكذب والغيبة إليها، وكذا قاعدة الضرورة والاضطرار
وكذا الضرر والضرار، وهكذا مسألة التقية (سواء الخوفي والتحبيبي منها) ففي جميع هذه
الموارد يدور الأمر بين مصلحتين، ويقع التزاحم بين ملاكين فيؤخذ بالأقوى منهما،
وبهذا البيان يمكن إرجاع كثير من العناوين الثّانوية إلى قاعدة الأهم والمهم تزاحم
الملاكين وليكن هذا على ذكر منك.
وممّا لابدّ من التأكيد التام عليه أن معرفة المصالح والمفاسد، والأهم من غير
الأهم، لابدّ أن يكون بحسب مذاق الشرع، وما عرفنا من لسان أدلته، من اهتمام الشارع
المقدس ببعض الأمور أكثر من بعض، لا بحسب مذاقنا وما يبدو في أذهاننا من
الاستحسانات.
والحاصل أن معرفة مصاديق هذه القاعدة إنّما هو إلى الفقيه العالم بلسان الشرع لا
أنه موكول إلى الاستحسانات والعقول الضعيفة.
7 ـ أمر الوالد ونهيه ـ سواء قلنا بوجوب إطاعته في غير الواجب والحرام، أو قلنا أن
المحرم هو العقوق (أي ما يوجب أذاه) فقط، وقد دلّ عليه الكتاب والسنّة، فالسفر قد
يكون مباحاً أو مستحباً لكونه مقدّمة للحجّ المستحب، ولكن يأمر الوالد به أو ينهى
عنه فيصير واجباً أو حراماً بالعنوان الثّانوي مؤقتاً، مع بقاء الحكم الأولي في
مرحلة الإنشاء فإذا ارتفع هذا العنوان ارتفع حكمه.
8 و 9 و 10 ـ النذر والعهد والقسم ـ الثابت بالكتاب والسنّة، جميعها من العناوين
الثّانوية، فكم عمل مستحب أو مباح بعنوانه الأولي يجب أو يحرم بالنذر أو العهد أو
القسم، فصلاة الليل مستحب بعنوانه الأولي، ولكن تجب بالنذر بعنوانها الثّانوي، فإذا
انقضى النذر انقضى هذا الحكم، وكذا الإنفاق في سبيل الله وشبهه وفعل بعض الأمور،
مكروه بعنوانه الأولي ولكن بالنذر أو القسم على تركه يحرم وهكذا أشباهها.
فهذه عشرة عناوين من العناوين الثّانوية، ولا ندعي حصرها في ذلك، ولعلّه يعثر
المتتبع على عناوين أخرى في طيات كتب الفقه، ومنه يعلم عدم حصرها في عنواني
«الضرورة» و «الحرج» كما زعمه بعض، بل هناك عناوين كثيرة أخرى لا ترتبط بالضرورة أو
العسر والحرج، قد عرفت الإشارة إلى شطر منها، مثل التقية الحبيبية وأمر الوالد
والنذر والقسم وغيرها.
3 ـ دور العناوين الثّانوية في حياة الفقه الإسلامي وازدهاره
هناك أصلان يعدان من الأصول المسلّمة في الإسلام:
أبدية الإسلام وعالميته، فالإسلام لا ينحصر بزمان، دون زمان وبمكان دون مكان، ولا
قوم دون قوم، بل يجري مجرى الشمس والقمر، مدى الدهور والاعصار، وفي مختلف أنحاء
العالم، يضيء ويشرق على الجميع إلى آخر الدنيا وفي جميع الأقطار.
يدلّ عليهما ما ورد في القرآن من التعبير بقوله تعالى: «يا أيّها الناس، ويا بني
آدم، ويا أيها الذين آمنوا، ويا أيّها الإنسان، ويا عبادي» في آيات كثيرة تدلّ على
أن المخاطب بها جميع البشر من زمان نزولها إلى آخر الدنيا، وفي كلّ مكان من
الأمكنة، وكلّ بقعة من بقاع الأرض.
ويدلّ على الثّاني بالخصوص آية الخاتمية: (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم ولكن
رسول الله وخاتم النبيين) وغير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى (وما
أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) وشبهه.
وفي السنّة روايات كثيرة ليسنا بصدد ذكرها الآن، وقد صار هذان الأصلان من الواضحات
يعرفه كلّ من له إلمام بالإسلام.
ثمّ إذا كان الإسلام ديناً عالمياً أبديا لنوع البشر، مع أن المجتمعات لا تزال في
تطور وتغيير، ولا تزال حوائجهم تختلف وتزداد وتتنوع وتتشعب، مع كون قوانين الإسلام
ثابتة مؤيدة، يُتسائل أنه كيف ينطبق ذاك الأمر المتغير دائماً، على هذه القوانين
الثابتة دائماً؟ وهل يمكن الجمع بينهما؟ مع أنّا نرى القوانين في المجتمعات
الإنسانية ـ مرادنا القوانين التي وضعتها أيدي البشر ـ تتغير دائماً كي تنطبق على
مراداتهم، فالإسلام يجعل قوانينه ثابتة ومع ذلك يقضي بها حوائج الناس في جميع أقطار
العالم وجميع الإعصار، وهذه مسألة مهمّة عجيبة.
وقد فاز الإسلام في هذا الميدان فوزاً عظيماً، والسرّ فيه مضافاً إلى أن واضع
القانون هنا هو الله، العالم بالسرائر، والواقف على الضمائر، وهو الخالق للإنسان
الخبير بحاجاته المادية والمعنوية، فإن في الإسلام أصولا كلية، وقوانين جامعة، لها
شمول كثير، ودوائر واسعة، وخطوط عريضة، تزدهر زماناً بعد زمان، وتتغير مصاديقها
وتبقى ذواتها، مثل «أوفوا بالعقود» و «المؤمنون عند شروطهم»، و «ما حكم به العقل
حكم به الشرع» وغيرها من أشباهها.
أضف إلى ذلك، القواعد الكثيرة المشتملة على العناوين الثّانوية مثل «قاعدة لا ضرر»
و «قاعدة لا حرج» و «الضرورة» و «لزوم ما يتوقف عليه حفظ النظام»، و «قاعدة الأهم
والمهم عند تزاحم المصالح» وأشباهها.
فكم من مشكلة عظيمة انحلت بفضلها، وكم من عويصة غامضة مظلمة انكشفت في ضوء أنوارها،
فأحكام العناوين الثّانوية من أهم أسباب الحكومة الإسلامية لحلّ المعضلات.
ولكن هنا أمران يجب التنبيه عليهما، والتحذير منهما كلّ الحذر.
الأول: أنه ليس معنى هذا الكلام، أتباع الأهواء والجري على وفق جريان الماء وأخذ
الأحكام الأولية كشمعة يصنع بها ما يشاء، ويتلاعب بها كيف يراد.
بل لابدّ من الدقّة، وكمال الدقّة، في كشف مصاديقه والأخذ بما هو مقتضى الحزم
والاحتياط فيها، فإن الأمر هنا صعب مستصعب، وقد خفى على بعض من لا خبرة له بالفقه
حتّى أصبحت أحكام الله تعالى تابعة لميولهم، رغم حكم الإسلام بوجوب الخضوع لأحكام
الله تعالى، وقوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا
يجدون في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليما) [8].
وقد سمعنا أنه أتت بعض النساء من العوام إلى القاضي تدّعي العسر والحرج في البقاء
مع زوجها وتطلب الطلاق بذرائع واهية (مثل أن زوجها له عادة سيئة عند الأكل والشرب
أو في الملبس والمشرب أو غير ذلك).
فلابدّ للفقيه أن يصمد تجاه هذه الأهواء التي قد تفرغ الإسلام من محتواه، فالإفراط
باطل، كما أن التفريط وترك التمسّك بهذه العناوين لحلّ المعضلات العديدة الاجتماعية
بدعوى التقدس والاحتياط أيضاً من أهواء الشيطان ومكائده.
الثّاني: إن بعض العناوين الثّانوية ممّا تختص بحالة الضرورة وشبهها لا يمكن الأخذ
بها في كلّ حال وجعلها كقانون مستمر في حال الاختيار، ولا يمكن بناء أكثر أحكام
الشرع عليها وحلّ جلّ المشكلات بها. بل لابدّ من اللجوء إلى العناوين الأولية
والقوانين المتخذة منها فإنها العمدة في حلّ المعضلات الاجتماعية، ولو بذلنا الجهد
في هذا السبيل لظفرنا بالمقصود قطعاً، ثمّ نأخذ من العناوين الثّانوية لحالات خاصّة
وظروف معيّنة.
والحاصل أن القول بأنه لا تدور رحى المجتمعات البشرية اليوم إلاّ مدار عناوين
الضرورة والاضطرار، والضرر والضرار، قول فاسد، ومفهومه أن حياة الإسلام وقوانينه
(نعوذ بالله) قد انقضت، ودورها قد انتهى، فيكون كالمريض الذي لا تستمر حياته إلاّ
بالتغذية عن طريق وريده فقط.
نعم لاشكّ أنه قد يكون في عمر الإنسان ساعات لا يمكن التحفظ على حياته إلاّ بهذا
الطريق، ولكن لو أن إنساناً لا يعيش أبداً إلاّ بهذا الأسلوب، ولا يقدر مدى حياته
على التغذية كما هو المتعارف، ففي الحقيقة قد تمت حياته وانقضت أيّامه، ولم يبق له
شيء، وكذلك قد تكون في البلاد اضطرابات لا تمكن الغلبة عليها إلاّ بالتوسل بالقوّة
العسكرية، ولكن هذا خاصّ ببرهة من الزمان، فلو أن بلداً من البلاد وحكومة من
الحكومات لا يقوم أمرها إلاّ بهذا النحو من الحكومة كان دليلاً على اضمحلالها من
أصل، وعلى أن دورها قد انتهى، وهكذا الإسلام لو قلنا أنه لا يبقى له شيء إلاّ من
طريق الأحكام الثّانوية الاضطرارية وهذا أمر ظاهر لا ستر عليه.
وملخص الكلام، أنه ليس دور هذا القسم من العناوين الثّانوية الاضطرارية إلاّ حل
المعضلات الناشئة عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ولا يمكن التمسّك بها في كلّ
الحالات وجميع الظروف.
وبعبارة أوضح لو قلنا أن نظام الأمة الإسلامية في زماننا هذا لا يتم إلاّ بالأخذ
بالعناوين الثّانوية الاضطرارية في جميع الأمور فقد اعترفنا بنقص قوانين الإسلام
وعدم احتفاظها على مصالح البشر في عصرنا هذا، وإلاّ كانت العناوين الأولية من
أحكامه تعالى كافلة لهذه المهمة.
وهذا الاعتراف العملي، خطأ عظيم وذنب لا يغفر ونعوذ بالله منه.
4 ـ النسبة بين العناوين الثّانوية والأولية
والنسبة بينهما تارة تكون بالحكومة كما في أدلّة لا ضرر والاضطرار، فإن قوله (صلى
الله عليه وآله) : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وقوله «وليس شيء ممّا حرمه الله
إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه» وكذلك أدلّة النذر والعهد والقسم كلّها بالنسبة إلى
العناوين الأولية، وكلّ ما كان بلسانه ناظراً إلى غيره، سواء جعله موسعاً أو
محدوداً فهو حاكم عليه والمقام من هذا القبيل.
وأخرى: يكون مقدماً عليه من جهة الرجحان في الملاك عند تزاحم الواجبين أو المحرمين،
كما في عنوان الأهم والمهم.
وثالثة: من قبيل تقديم ما فيه الاقتضاء على ما ليس فيه الاقتضاء، كوجوب الأمر
المباح إذا كان مقدمة للواجب، وكحرمته إذا كان مقدمة للحرام، فإن أدلّة وجوب
المقدمة عقلية لا معنى لجريان الحكومة فيها، بل تقدّم على أدلّة المباحات لأنها ليس
فيها اقتضاء وملاك للوجوب أو الحرمة، وبعدما صار مقدّمة للواجب أو الحرام كان فيها
اقتضاء لذلك، كما لا يخفى على الخبير.
فتقديم العناوين الثّانوية على الأولية إنّما يكون لجهات شتى، في كلّ مقام بحسبه.
5 ـ ولاية الفقيه بنفسها من العناوين الأولية
كما أن منصب الإفتاء ومنصب القضاء أيضاً كذلك، فهذه المناصب الثلاثة كلّها من
العناوين الأولية، ولكن الكلام كلّه في متعلّق هذه المناصب، فمنصب الإفتاء يدور
مدار استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، ومنصب القضاء يدور حول إحقاق الحقوق
وإجراء الحدود على وفق أحكام الشرع، والولاية تدور مدار إصلاح نظام المجتمع
الإنساني من طريق تنفيذ أحكام الشرع وإجرائها، فكلّ هذه المناصب تدور مدار الأحكام
الإلهية الأولية والثّانوية لا غير، وجميع هذه في طول تلك الأحكام، فكما أن منصب
الإفتاء لا يتعدى كشف أحكام العناوين الأولية والثّانوية، والقضاء لا يتعدى عن
إحقاق الحقوق على وفق أحكام الشرع، فكذلك الولاية لا تتعداها أبداً، وإلاّ لم تكن
ولاية إلهية إسلامية، ومن الواضح أنه ليس للفقيه الولاية كيفما شاء وأراد كما مرّ
مراراً.
الثّالث: كشف النقاب عن الولاية المطلقة
إن قلت: أنه قد ورد في بعض كلمات الأعاظم (قدس سرهم) أن ولاية الفقيه مطلقة لا
تقييد فيها.
قلت: نعم هي كذلك، ولكن المراد منه أنه لا تتقيد بالضرورة والاضطرار وشبه هذه
الأمور، توضيح ذلك:
نه قد تطلق العناوين الثّانوية ويراد منها جميع ما ينطبق عليه التعريف الذي ذكرنا
آنفاً، ولها حينئذ عرض عريض يشمل العناوين العشرة السابقة وغيرها.
وأخرى تطلق ويراد منها خصوص الضرورة والاضطرار، فمعنى خروج ولاية الفقيه عن
العناوين الأولية والثّانوية هو الأخير، وحينئذ لا مانع من انطباق عناوين أخرى
عليه.
والشواهد على ذلك كثيرة أولها: ما ذكر في كلماتهم من الأمثلة «منها» حكم الفقيه
بترك الحجّ في بعض السنين، وفي بلد من البلاد، إذا كان هناك مصالح أهم منه فإنه لا
ريب في انطباقه على ما عرفت من قاعدة الأهم والمهم، فهل ترى أحداً من الفقهاء يحكم
بترك الحجّ الواجب بل المستحب لا لمصلحة شرعية تكون في الترك، أهم وأولى من مصلحة
فعلها؟ و «منها» إحداث الشوارع أو إبداع القوانين والأنظمة الحاكمة على مرور
السيارات لما فيها من حفظ النفوس والدماء التي تكون أهم من تخريب بعض البيوت وإعطاء
قيمتها كما هو حقّها (من دون إذن صاحبها) وكذلك سلب حرية الناس في الشوارع وتقيدهم
ببعض القيود، فهذه كلّها من مصاديق قاعدة الأهم والمهم، ولعمري أن هذه الأمثلة من
أقوى الشواهد على ما ذكرنا.
ثانيها: إن قلنا أن ولاية الفقيه لا تتقيد بشيء، فهل نقول بأنه لا تتقيد بمراعاة
مصالح المسلمين أبداً، أو نقول بوجوب مراعاتها عليه؟
والأول لا يتفوه به أحد، وعلى الثّاني فهل هذه المصلحة مشكوكة، أو مظنونة أو قطعية
تستفاد من لسان الشرع والعقل؟
والأول أيضاً لا يقول به أحد، والثّاني أمّا أن لا يترجح على ما في ارتكاب مخالفة
الأحكام الأولية من المفاسد، أو يترجح.
والأولى أي ما كان ملاك المفسدة أهم فيه لا يظن الالتزام به من أحد، وعلى الثّاني
يدخل في قاعدة الأهم والمهم، وقد عرفت أنه داخل في العناوين الثّانوية وهو المطلوب،
فولاية الفقيه ترجع بالمآل إلى مراعاة الأهم فالأهم شرعاً.
ثالثها: ما عرفت من أن الأحكام الولائية، أحكام إجرائية وتنفيذية لأنها مقتضى طبيعة
مسألة الولاية، وأنها دائماً ترجع إلى تشخيص الصغريات والموضوعات، وتطبيق أحكام
الشرع عليها. وتطبيقها على أحكام الشرع، وليس للوالي بما أنه وال التدخل في نفس
الأحكام الكلية، بل بما أنه مفت ومرجع للفتوى، كما أنه ليس له القضاء بما أنه وال،
بل بما أنه قاض، ومن الواضح أن الفقيه بماله من منصب الإفتاء يجوز له استنباط
الأحكام عن أدلتها واستنباطها عن منابعها، فتدبر جيداً فإنه حقيق به.
فولاية الفقيه مطلقة في حريم أحكام الشرع، لا فيما خالف أحكامه، ولا يظن بأحد القول
بإطلاقها في ما خالف الشريعة، لأنه منصوب لإجرائها وتنفيذ أحكامها، وأحكامها تدور
على العناوين الأولية والثّانوية فحسب، والأمر واضح بحمد الله.
المقام السّادس: من صلاحيات الولي الفقيه: «مهمة الولاية على التشريع»
أمّا الجزئية أعني الأحكام الإجرائية فلا إشكال فيه، ولكنّها كما عرفت من قبيل
تطبيق الكبريات على مصاديقها، ولا ينبغي أن يسمّى تشريعاً، وذلك مثل أنظمة مرور
السيارات فإنها مقدّمة لحفظ النفوس والدماء ونظم البلاد.
وأمّا الكلية فالجواب عن هذا السؤال فيها وإن كان واضحاً، ولكن توضيحه أكثر من هذا
يحتاج إلى بيان مقدّمه نذكر فيها وجهات نظر علماء الإسلام وآرائهم حول التشريع
الإسلامي فنقول ومنه نستمد الهداية:
أجمع علماء الإسلام على أنه لا يجوز الاجتهاد في مقابل النصّ، فلو كان هناك نصّ في
حكم من الأحكام لم يجز إلاّ قبوله، بل هذا مرادف لقبول النبوة والاعتقاد بها، وما
صدر من بعض الماضين مخالفاً لهذا فإنّما صدر غفلة واشتباهاً، وإلاّ فالمسألة واضحة.
وأمّا في ما لا نصّ فيه فقد أخذ الجمهور بالقياس والاستحسان والاجتهاد بمعناه
الخاصّ، ووضعوا فيه أحكاماً بآرائهم، زعماً منهم أن ما لا نصّ فيه لا حكم فيه في
الواقع، فلا مناص إلاّ من تشريع حكم فيه، أمّا بقياسه على غيره من أحكام الشرع،
وأمّا بالبحث والفحص عن المصالح والمفاسد، فما ظنوا فيه المصلحة أوجبوه، وما ظنّوا
فيه المفسدة حرمّوه «ومنع قليل منهم القياس والاستحسان ولكنه شاذ»، كلّ ذلك يسمّى
عندهم اجتهاداً بالمعنى الخاصّ.
وأمّا أصحابنا الإمامية (رضوان الله تعالى عليهم) فقد قالوا بأنه ليس هناك واقعة لا
نصّ فيها ولا يوجد أمر خال عن حكم شرعي، وإن الدين قد كملت أصوله وفروعه بحيث لم
يبق محل لتشريع أحد أبداً.
نعم هذه الأحكام تارة وردت في نصوص خاصّة، وأخرى في ضمن أحكام كلية وقواعد عامة
وجميعها محفوظة عند الإمام المعصوم، صادق بعد صادق، وعالم بعد عالم ووصلت أكثرها
إلينا من طريق الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل، وربّما لم يصل بعضها إلينا،
ولكنّه ثابت في الواقع، فعلى المجتهد الجد والجهد في المصول عليها، وإن يئس عن
الوصول إلى بعضها أحياناً فعليه الأخذ بما هو وظيفة الشاك، من الأصول العملية التي
لا تخرج عنها واقعة، ولا يشذ عنها شاذ، بل هي جامعة وشاملة لجميع الموارد المشكوكة
فعلى هذا، «الفراغ القانوني» غير موجود في مكتب أهل البيت (عليهم السلام) ومن يحذوا
حذوهم، بل كلّما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، في حياتهم الفردية والاجتماعية،
المادية أو المعنوية، فقد ورد فيه حكم إلهي وتشريع إسلامي، فلا فراغ، ولا نقص
أصلاً، ولا يبقى محل لتشريع الفقيه أو غيره.
فالذي للفقهاء دامت شوكتهم، أمران:
الأوّل: الجهد والاجتهاد في كشف هذه الأحكام عن أدلتها.
الثّاني: تطبيقها على مصاديقها وتنفيذها بما هو حقّها، والأول هو الإفتاء، والثّاني
هو الولاية والحكومة.
ويدلّ على ذلك أمور:
1 ـ آيات من كتاب الله:
«منها» قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا) [9] وكيف يكون الدين كاملاً لو خلت الوقائع عن الأحكام اللازمة؟ وكيف يكون
الدين خاتماً والشريعة عالمية مع عدم وجود ما يغني الإنسان إلى آخر الدهر، وفي جميع
أقطار العالم من الأحكام والشرائع؟
فكما نقول بكمال الدين في أصوله بنصب ولي الله المعصوم (عليه السلام) فكذلك في
فروعه، كما أن القول بعدم النصّ في الأصول وأنه موكول إلى الناس مردود، فكذلك القول
بعدمه في الفروع أيضاً مردود ممنوع.
وقد ورد في تفسير الآية عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل ما لفظه: «وما ترك
شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ بيّنه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد ردّ
كتاب الله، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر» [10].
فكما أنه لم يجعل أمر الإمامة بأيدي الناس، وإلاّ لم يكن الدين كاملاً، فكذا أمر
الأحكام والتشريعات.
«منها» قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء) [11].
ظاهر هذه الآية إن الأشياء التي لها صلة بسعادة الإنسان وكرامته وصلاحه وفساده
مذكورة في كتاب الله، في عمومه أو خصوصه.
وقد ورد في تفسير الآية أحاديث كثيرة تؤكد على هذا المعنى ستأتي الإشارة إليها إن
شاء الله.
__________________________
[1] الإنعام: 119.
[2] راجع البقرة: الآية 173 والمائدة: الآية 3 والنحل: الآية 115.
[3] الوسائل: ج4 ب1 من أبواب القيام ح7.
[4] الوسائل: ج4 ب1 من أبواب القيام ح6.
[5] البقرة: 232.
[6] الطلاق: 6.
[7] الحجّ: 78.
[8] النساء: 65.
[9] المائدة: 6.
[10] تفسير البرهان: ج1 ص435.
[11] النحل: 89.