مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ولاية الفقيه وحدودها

خلاصة الكلام في مسألة التفويض

وتلخص ممّا ذكرنا أمور:
أوّلاً: إن الذي يظهر من مجموع روايات الباب أنه أعطى النبي (صلى الله عليه وآله) الولاية على التشريع إجمالاً في موارد خاصّة، أعطاه الله ذلك امتحاناً لإطاعة الخلق (أو تعظيماً لمقامه الشريف، وإظهاراً لمنزلته عند الله سبحانه) وما ورد في روايات الباب أمور محدودة معدودة وهي إضافة الركعتين الأخيرتين في الصلاة، وسنة النوافل وسنة صوم شهر رمضان، وثلاثة أيّام في كلّ شهر، وتحريم كلّ مسكر غير الخمر وكراهة بعض الأشياء وطعمة الجدّ، بل وفريضته على رواية، ومقدار دية العين والنفس وما أشبهها.
ولكن ورد بعضها في الأحاديث الصحاح وبعضها في الضعاف، وإثبات جميع ذلك بتلك الأحاديث مشكل، ولكن المسألة على إجمالها ثابتة.
ثانياً: إن ذلك لم يكن تفويضاً كلياً إليه (صلى الله عليه وآله) وممّا يدلّ على أنه لم يكن المفوّض إليه، تشريعاً كلياً، أنه كثيراً ما كان ينتظر الوحي في جواب الأسئلة عن الأحكام وشبهها، حتّى ينزل في القرآن الكريم، بل ذكر هذه الأمور المفوّض إليه بالخصوص وعدّها في الروايات، دليل على أن الأصل الكلي في التشريع كان من قبل الله، وإنّما أذن لنبيه (صلى الله عليه وآله) التشريع الجزئي لما كان فيه من المصلحة.
ثالثاً: هذه الكرامة والمقام الخاصّ كان بإذن الله وإجازته أولاً، وفي النهاية أيضاً كان بإمضائه، فلا ينافي ذلك توحيد الحكم والتشريع الإلهي، ولا يكون دليلاً على تعدد الشارع، بل الشارع هو الله تعالى وحده وتشريع النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه الموارد إنّما هو بإذنه من قبل وإجازته من بعد، لبعض المصالح التي عرفتها.
رابعاً: إنّما ثبت هذا المقام للنبي (صلى الله عليه وآله) بعدما كان مسدداً من عند الله سبحانه ومؤيداً بروح القدس، لم يزِل ولم يخطيء، فمن ليس كذلك لم يثبت ذلك في حقّه قطعاً.
خامساً: الأئمّة المعصومون وإن كانوا مؤيدين بروح القدس، ولا يصدر منهم خطأ ولا زلة، ولكن لما كمل الدين وتمت النعمة بنزول الأحكام والمعارف الإلهية كلّها، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش لم يبق مجال لتشريع حكم من الأحكام من جانبهم، وما قد يوهم خلاف ذلك من أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) في جعل الأحكام الإجرائية الولائية المؤقتة سنتكلم عنه إن شاء الله بعد إتمام هذا المقال، فما ورد في بعض الروايات من تفويض كلّ ما فوّض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم مثل ما ذكره في البصائر عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي جعفر بن محمّد (عليه السلام) :
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يفوض إليه، إن الله تبارك وتعالى فوّض إلى سليمان ملكه فقال: هذا عطاؤنا فأمنن أو امسك بغير حساب) وإن الله فوّض إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) نبيه فقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحديث[1] ناظر إلى غير هذا من المعاني التي مرّ ذكرها للتفويض، من قبيل تفويض أمر الحكومة إلى الخلق، والإعطاء والمنع في العلم والمال، أو شبه ذلك، وسنشير إلى روايات تدلّ على عدم حكمهم بغير الكتاب والسنة فانتظر.
سادساً: قد عرفت أن للتفويض معان كثيرة، ومجرّد ذكره في بعض أحاديث الباب لا يكون دليلاً على التفويض في أمرالتشريع فلابدّ في كلّ مقام من ملاحظة القرائن الموجودة فيه، ولو لم يكن هناك قرينة معيّنة كان مجملاً لايصلح للاستدلال.
سابعاً: تحصل من جميع ذلك أنه ليس للفقيه تشريع في شيء من الأحكام لأمور شتى قد عرفت الإشارة إليها آنفاً، من عدم كونه معصوماً مؤيداً بروح القدس وكون الشريعة كاملة بعده (صلى الله عليه وآله) وغير ذلك، مضافاً إلى فقدان الدليل عليه، بل هو حافظ لأحكام الشرع ومواريث النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين، بل عليه استنباطها من أدلتها، ثمّ إجرائها وانفاذها، ولو بقي له شك في شيء من الأمور فعليه الرجوع إلى الأصول العملية والقواعد المقرّرة للجاهل الحاصرة لمجاريها.
ولاشكّ أن الأحكام الواردة في الشرع بعناوينها الأولية والثّانوية كافلة لجميع ما تحتاج إليه الأمة في أمر الدين والدنيا، ومن عمل بذلك كلّه وأضاف إليه الأحكام الولائية الإجرائية الجزئية فقد وفق لكلّ خير، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً، ولا يأتيه مكروه من بين يديه ولا من خلفه.
هذا ويؤيد ما ذكرنا من عدم وجود تشريع صادر من الإمام المعصوم فكيف بغيره، ما رواه في بصائر الدرجات في باب «أن الأئمّة يوفقون ويسددون في ما لا يوجد في الكتاب والسنّة» وهي خمس روايات كلّها دليل على المطلوب، ولكن الظاهر أنها ترجع إلى روايات ثلاث:
أحدها ـ ما رواه ربعي بن خثيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: يكون شيء لا يكون في الكتاب والسنّة؟ قال: لا، قال قلت: فإن جاء شيء، قال لا، حتّى أعدت عليه مراراً، فقال لا يجيء، ثمّ قال بإصبعه: بتوفيق وتسديد، ليس حيث تذهب، ليس حيث تذهب[2].
ثانيها ـ ما رواه هو بواسطة سورة بن كليب. : قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بأي شيء يفتي الإمام؟ قال: بالكتاب، قلت: فما لم يكن في الكتاب؟ قال بالسنّة، قلت: فما لم يكن في الكتاب والسنّة؟ قال ليس شيء إلاّ في الكتاب والسنّة، قال فكررت مرّة أو اثنين، قال: يسدد ويوفق، فأمّا ما تظن فلا[3].
ثالثها ـ ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سأله سورة وأنا شاهد، فقال: جعلت فداك، بما يفتي الإمام؟ قال: بالكتاب، قال فما لم يكن في الكتاب؟ قال بالسنّة، قال فما لم يكن في الكتاب والسنّة، فقال: ليس من شيء إلاّ في الكتاب والسنّة، قال ثمّ مكث ساعة ثمّ قال: يوفق ويسدد وليس كما تظن[4].
والمتحصل من جميع ذلك هو عدم وجود حكم لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة وعدم وجود تشريع للإمام (عليه السلام) وإن الله يوفقه ويسدده كي يستفيد من بطون الكتاب والسنّة، ولا يعمل بالقياس والاستحسان، كما توهمه السائل فتدبّر جيداً.
بقي هنا أمور:
الأوّل: قد يقال أنه يستفاد من بعض الروايات الواردة في أبواب الزكاة والخُمس أن للإمام (عليه السلام) أيضاً تشريعاً في بعض الأحيان، مثل ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم وزارة عنهما (عليهما السلام) قالا: وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية، في كلّ فرس، في كلّ عام دينارين، وعلى البراذين ديناراً[5] وقد أفتى بمضمونها الأصحاب كما يظهر من مفتاح الكرامة وغيرها.
ولكن الإنصاف إمكان اندراجه في الأحكام الجزئية الولائية وكونه من باب تطبيق العناوين الثّانوية على مصاديقها نظراً إلى وجود نوع ضرورة في ذلك الزمان إلى هذه الأموال، لا الحكم العامّ من قبيل سائر ما فيه الزكاة، ويشهد لذلك عدم ذكر النصاب فيها مع أن المعمول في جميع أبواب الزكاة وجود النصاب فيها، من النقدين والإنعام والغلات، وإن المتعارف في أبوابها كون الزكاة شيئاً من المال المزكى، ولا يُحدد بمقدار معيّن ثابت من الدنانير، فهذا كان نوعاً من الضرائب التي تصح على الفقيه أيضاً جعلها مؤقتاً لبعض الضرورات، ولإقامة نظام المجتمع الإسلامي أو حرب الأعداء، لا من الأحكام الكلية والتشريعات الدائمة الباقية.
سلّمنا ولكنه لا يقاوم ما مرّ من نزول كلّ ما يحتاج إليه إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش بحيث لا يكون هناك فراغ قانوني.
وقال في الحدائق: واحتمل بعضهم إن هذه الزكاة إنّما هي في أموال المجوس يومئذ جزية أو عوضاً عن انتفاعهم بمرعى المسلمين[6].
ولعلّ ذكر هذا الاحتمال بمناسبة غلبة الاستفادة من الخيول من قِبل المجوس فتأمّل.
وبالجملة ظاهر هذا الحكم لا يساعد على إثبات تشريع دائمي حتّى أنه يكفي في ذلك احتمال كونه من الأحكام الجزئية الضرورية الولائية، وليس حكماً كلّياً دائمي الإثبات.
هذا مضافاً إلى الأحاديث الكثيرة الواردة على نفي الزكاة عن غير التسعة مع أن لحن حديث وضع علي (عليه السلام) الزكاة على الخيل هو الوجوب، فراجع الباب الثامن من أبواب ما تجب فيه، تجده شاهد صدق على ما ذكرنا.
الثّاني: ما ورد في صحيحة علي بن مهزيار قال: كتب إليه أبو جعفر: وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة قال: إن الذي أوجبت في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومأتين فقط لمعنى من المعاني أكره تفسير المعنى كلّه خوفاً من الانتشار... وإنّما أوجبت عليهم الخُمس في سنتي هذه في الذهب والفضة التي قد حال عليهما الحول، ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة ولا ضيعة، إلاّ في ضيعة سأفسر لك أمرها، تخفيفاً مني عن موالي ومناً مني عليهم (الحديث) [7].
ملاحظات صاحب المعالم على الحديث
وذكر صاحب المعالم (رضوان الله عليه) في كتابه منتقى الجمان أنه يرد على ظاهر الحديث عدة ملاحظات:
الأوّلى: ما نصّة: أن المعهود والمعروف من أحوال الأئمّة (عليهم السلام) أنهم خزنة العلم وحفظة الشرع، يحكمون فيه بما استودعهم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأطلعهم عليه، وأنهم لا يغيرون الأحكام بعد انقطاع الوحي، وانسداد باب النسخ، فكيف يستقيم قوله (عليه السلام) في هذا الحديث «أوجبت في سنتي ولم أوجب ذلك عليهم في كلّ عام» إلى غير ذلك من العبارات الدالّة على أنه (عليه السلام) يحكم في هذا الأمر بما شاء واختار[8].
الثّانية: قوله: «ولا أوجب عليهم إلاّ الزكاة التي فرضها الله عليهم» ينافيه قوله بعد ذلك: فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام.
الثّالثة: أن قوله: «وإنّما أوجب عليهم الخُمس في سنتي هذه من الذهب والفضة التي قد حال عليها الحول» خلاف المعهود إذ الحول يعتبر في وجوب الزكاة في الذهب والفضة لا الخُمس، وكذا قوله: «ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم» فإن تعلّق الخُمس بهذه الأشياء غير معروف.
الرّابعة: أن الوجه في الاقتصار على نصف السدس غير ظاهر بعدما علم من وجوب الخُمس في الضياع التي تحصل منها المؤونة[9].
والإنصاف أن الملاحظات الواردة على ظاهر الرواية في بداية الأمر أكثر من هذا، وربّما تبلغ سبعاً:
1 ـ عدم كون الإمام المعصوم (عليه السلام) مشرعاً بل حافظاً مع أن ظاهرها التشريع.
2 ـ لا وجه لاشتراط حلول الحول في الخُمس فإنه معتبر في الزكوات لا الأخماس.
3 ـ لا وجه لاستثناء المتاع والآنية والخدم وشبهها ممّا يعد من المؤونة في خصوص هذا العام، لعدم تعلّق الخُمس بهذه الأشياء في كلّ عام.
4 ـ منافاة نفي الخُمس على الأرباح في بعض جملاته (عليه السلام) مع إثبات وجوب الخُمس في الغنائم والفوائد في غيرها.
5 ـ تفسير الغنائم والفوائد بخصوص الفوائد التي تحصل من طريق الجائزة أو الميراث التي لايحتسب أو شبهه مع أن المعروف في تفسيرها كونها شاملة لجميع الأرباح.
6 ـ الحكم بملكية المال الذي يؤخذ ولا يعرف له صاحب مع وجوب أداء خمسه، ينافي ما هو المعروف من وجوب التصدق بمجهول المالك.
7 ـ الحكم بوجوب نصف السدس في الضياع والغلات أمر لا يعرف له نظير لا في باب الخُمس ولا الزكاة.
ويمكن الجواب عن الجميع: أمّا عن الأوّل، وهو العمدة فيما مرّ من أنه ليس من قبيل تشريع الحكم، بل من قبيل حكم الحاكم، الراجع إلى تطبيق العناوين الأولية أو الثّانوية على مصاديقه، ثمّ الحكم على وفقها لتنفيذ هذه الأحكام في مواردها، وكأن المستشكل على الحديث، غفل عن مسألة الأحكام الولائية التي هي أحكام جزئية إجرائية، ومن شأن الوالي الفقيه الحكم بها من دون أن يكون فيها تشريعاً جديداً، فلعل بعض الضرورات الناشئة من سفره إلى بغداد أوجبت ذلك، فإن المعروف أن المأمون مات سنة 218 وغصب الخلافة من بعده أخوه المعتصم، ولما استقر عليه أمر الخلافة خاف من سطوة الإمام الجواد (عليه السلام) في المدينة ودعاه إلى بغداد، ودخل هو (عليه السلام) بغداد في أواخر محرم سنة 220 (العام المذكور في حديث علي بن مهزيار وقد استشهد سلام الله عليه في أواخر هذا العام على يد المعتصم «عليه لعنة الله»).
فهذه الضرورة هي التي أوجبت الحكم بأداء خمس جديد من الذهب والفضة، غير خمس الأرباح والغنائم وشبهها، وغير الزكاة المفروض فيها لبعض الضرورات التي لم يشرحها الإمام (عليه السلام) خوفاً من الانتشار، وهذا أمر جائز للفقيه، فكيف بالإمام المعصوم (عليه السلام) وهو من قبيل الأموال التي قد تؤخذ لضرورة الحرب التي تقع بين المسلمين والكفّار أو شبه ذلك.
ومنه يظهر الجواب من «الإشكال الثّاني» فإن اشتراط الحول إنّما كان في هذا الحكم الخاصّ المبتني على الضرورة لا في كلّ خمس، وكذا «الإشكال الثّالث» المنوط باستثناء المؤونة والمتاع فإنها مستثناة من هذا الحكم الخاصّ، وكان له (عليه السلام) أن لا يستثنيه، وبعبارة أخرى: أراد أن يبين أن هذه الأمور كما هي مستثناة من الخُمس المعمول، مستثناة من هذا القسم الخاصّ أيضاً.
وأمّا «الإشكال الرّابع» فيجاب عنه بأنه نفي الخُمس عن الأرباح في ذلك العام وأثبته في موارد خاصّة من الفوائد التي صرّح فيها، من المنافع غير المترقبة، فالذي لم يوجب عليه الخُمس هو الأرباح المعهودة المرتقبة في المكاسب، وأمّا الذي أوجب فيها فهي المنافع غير المترقبة من دون عمل مستمر.
وأمّا عن «الخامس» فبان تفسير الغنائم والفوائد بخصوص هذه الفوائد الحاصلة من طريق الجائزة وشبهها فهو وإن كان ينافي بعض ما ورد من تفسير الغنائم بمطلق الفائدة والإفادة يوماً بيوم (مثل ما عن الصادق (عليه السلام) قال في جواب السؤال عن تفسير آية الغنيمة: «هي والله الإفادة يوماً بيوم» الحديث) [10] إلاّ أنه يمكن حمله على أنه (عليه السلام) كان بصدد ذكر بعض المصاديق الواضحة الذي الزم الإمام (عليه السلام) أداء الخُمس منه، في تلك السنة دون مطلق الربح الذي حكم بنفي الوجوب عنه في ذاك العام (فتأمّل جيداً).
وأمّا عن «السادس» فبأن المقام ليس من قبيل مجهول المالك بل من قبيل الأموال التي تؤخذ من أهل الحرب، بقرينة قوله «يؤخذ» ولا يوجد له صاحب وبقرينة ما ذكر قبله وبعده من هذه الأموال، ولا أقل من حمله على ما ذكرنا عند الجمع بين الرواية وغيرها ممّا دلّ على وجوب التصدّق بمجهول المالك.
وأمّا عن «السابع» فبأن جميع الخُمس للإمام (عليه السلام) كما هو الحقّ، وله أن يبيح جميعه أو بعضه لشيعته أحياناً، فقد أباح هنا لشيعته من الضياع والغلات ما زاد عن نصف السدس، ولعلّ هذه الإباحة كانت بسبب ما ينهب السلطان من أموالهم، كما أشير في الحديث، فكانوا يأخذون منهم العشر، والإمام (عليه السلام) أمر بنصف السدس، وهو أقل من العشر بقليل، والمجموع يكون قريباً من الخُمس الواجب عليهم.
هذا ولكن الإنصاف إن بعض هذه الأجوبة لا يخلو عن تكلّف، ولكن لا محيص عنه عند أرادة الجمع بينه وبين غيره من الأحاديث، وأشكل من الجميع الأخير، لعدم معروفية عنوان نصف السدس في هذه الأموال، نعم في رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني عن أبي الحسن (الهادي) (عليه السلام) إشارة إلى أن «إيجاب نصف السدس كان من أبيه الإمام الجواد (عليه السلام) على أصحاب الضياع بعد مؤونتهم وبعد خراج السلطان» [11].
وللرواية طريقان أحدهما مصحح وهو ما رواه في الكافي.
والذي يسهل الخطب أنه لا يتفاوت فيما نحن بصدده من مسألة التفويض، فإن العمدة فيه هو إيجاب الإمام (عليه السلام) الخُمس في بعض الأموال هنا في سنة معيّنة، وقد عرفت أنه ليس من التشريع في شيء وإنّما هو من قبيل حكم الحاكم كما عرفت.
الثّاني: حديث التفويض إلى الأئمّة (عليهم السلام)
قد ورد في غير واحد من الروايات أن ما فوّض الله إلى رسوله فقد فوّضه إلى الأئمّة (عليهم السلام) مثل ما رواه محمّد بن الحسن الميثمي عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول: إن الله أدّب رسوله (صلى الله عليه وآله) حتّى قوّمه على ما أراد ثمّ فوّض إليه، فقال: (وما آتيكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا) فما فوّض الله إلى رسوله فقد فوّضه إلينا[12].
وما رواه موسى بن أشيم قال. : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسألته عن مسألة فأجابني، فبينا أنا جالس إذ جاءه رجل فسأله عنها بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابني... فقال يا بن أشيم إن الله فوّض إلى داود (عليه السلام) أمر ملكه... فوّض إلى الأئمّة منا وإلينا ما فوّض إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) فلا تجزع[13].
وما رواه حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، لأن الأئمّة منا مفوض إليهم، فما أحلوا فهو حلال وما حرموا فهو حرام[14].
وما رواه حسن بن زياد عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول أن الله أدب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد ثمّ فوّض إليه فقال (ما آتيكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا) فما فوض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوّض إلينا[15].
وما رواه مولى ابن هبيرة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا رأيت القائم أعطى رجلاً مائة ألف، وأعطى آخر درهماً، فلا يكبر في صدرك، وفي رواية أخرى فلا يكبر ذلك في صدرك، فإن الأمر مفوّض إليه![16]
وما رواه عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن الإمام فوّض الله إليه كما فوّض إلى سليمان؟ فقال: نعم، وذلك أن رجلاً سأله عن مسألة فأجابه فيها، وسأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأوّل، ثمّ سأله آخر من تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأولين، ثمّ قال هذا عطاؤنا فامسك أو أعط بغير حساب... قال: قلت أصلحك الله فحين أجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام؟ فقال: سبحان الله أمّا تسمع قول الله يقول في كتابه (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) وهم الأئمّة (الحديث) [17].
ولكن شيء من هذه الأحاديث لا دلالة لها على التفويض في أمر التشريع: أمّا الأوّل فإنه مناسب لتفويض الحكومة لقوله (عليه السلام) «قوّمه على ما أراد» ولا أقل من الإجمال.
وأمّا «الثّاني» فإنه كالصريح في التفويض بمعنى الإعطاء والمنع في خصوص العلوم والمعارف و «الثّالث» كذلك في خصوص الإعطاء من بيت المال أو غيره، و «الرّابع» شبيه ما ورد في الأول بعينه، و «الخامس» أيضاً كالصرح في الإعطاء والمنع و «السّادس» أيضاً كذلك في خصوص العلوم، وهكذا غيرها ممّا ذكره صاحب بصائر الدرجات في هذا الباب، وبالجملة لم نجد حديثاً يدلّ على تفويض الأمر في التشريع إلى الأئمّة الهادين، ولم يعرف منهم ذلك، بل كانوا حفظة للشرع المبين هذا أولاً.
ثانياً: سلمنا ثبوت هذا الحقّ لهم (عليهم السلام)، ولكنّه في حقل العمل منتف بانتفاء موضوعه، بعدما عرفت من إكمال الدين وإتمام النعمة، وعدم بقاء الفراغ التشريعي وعدم وجود النقص في الفقه الإسلامي، بأوفى البيان.
ثالثاً: سلمنا ثبوت ذلك للإمام المعصوم (عليه السلام) المسدد المؤيد بروح القدس، الموفق من عند الله، كما وقع التصريح في بعض ما مرّ عليك، ولكن لا دخل له بالفقيه غير المعصوم كما هو واضح.
الثّالث: الجواب عن مغالطة في المقام
هنا مغالطة واضحة توجد في كلمات بعض من يميل إلى تفويض التشريع إلى الفقيه، وهي أن إكمال الدين يحصل بتفويض الأمر إلى الفقيه، فإذا كان هذا التفويض أيضاً من أحكام الدين فكان الله أكمل دينه بهذه الطريقة، أي بتفويض جعل الأحكام إلى الفقهاء!
أقول: وهذا من أعجب ما ذكر في المقام، ويرد عليه:
«أولاً» : لأن معنى إكمال الدين تشريع قوانينه، لا تعيين من يكمله في كلّ عصر، فهل ترى من نفسك إذا انتخب الوكلاء والممثلون من قِبل الشعب لتدوين الدستور أو القوانين الأخرى لك أن تقول أن القوانين قد كملت، ولم يبق هناك فراغ، لأن الوكلاء انتخبوا، اللّهم إلاّ على سبيل المجاز، ومن أوضح ما يدلّ على ما ذكرنا قول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة في ردّ القول بجواز التشريع للفقهاء: «أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى» ؟ ولعمري أنه يستفاد من هذا البيان أن هذا القول من أنواع الشرك لقوله «شركاء له» نعم هو شرك في تقنين القوانين الإلهية، فتدبّر جيداً.
«ثانياً» : قد ورد التصريح في الروايات الكثيرة التي مرّ ذكرها أن تفاصيل الأحكام قد شرعت في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) حتّى أرش الخدش، وأنها كانت عند الأئمّة الهادين في كتاب يسمى جامعة أو غيرها، ومع هذا التصريح لا يبقى لهذا الكلام مجال، وكذا ما ورد في الروايات المتضافرة أن كلّ ما يجري من الأحكام على لسان الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) فهو رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وقد مرّ ذكر جميع ذلك آنفاً).
«ثالثاً» : كيف يتصدى الفقيه لتشريع الأحكام الكلّية؟ وفي أي موضع؟ هل هو في ما لا نصّ فيه، وقد عرفت أنه ليس هناك ما لا نصّ فيه، أم في ما هو فيه نصّ، كما قد يتفوه به بعض من لا خبرة له. فإن كان المراد ذلك فمعناه أن تشريع الفقيه ـ معاذ الله ـ مقدّم على تشريعات الله تعالى، وحينئذ أي فائدة في إرسال الكتب السماوية وبعث الرسل؟ بعد كون الفقيه ذا رأي مقدّم عليها؟ وصاحب علم بالمصالح والمفاسد أرجح منها، ولا نظن بأحد من العلماء يتفوّه بهذا المقال الباطل الفاسد.
الرّابع: التفويض في أمر الخلقة
ولا إشكال أيضاً في بطلانه، إذا كان المراد التفويض الكلّي بمعنى أن الله خلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين وجعل أمر خلق العالم ونظامه وتدبيره إليهم، فإنه شرك بيّن. ومخالف لآيات القرآن المجيد، الظاهرة، بل الصريح في أن أمر الخلق والرزق والربوبية وتدبير العالم بيد الله تعالى لا غيره.
نعم يظهر من بعض كلمات العلاّمة المجلسي معنى آخر للتفويض الكلّي بمعنى جريان مشية الله على الخلق والرزق مقارناً لإرادتهم ومشيتهم، وأنه لا يمنع العقل من ذلك، ولكن صرّح بأن ظاهر الأخبار بل صريحها بطلان ذلك، ولا أقل من أن القول به قول بما لا يعلم.
قلت: بل ظاهر الآيات القرآنية مخالف له أيضاً، وأن أمر الخلق والرزق والإماتة والإحياء بيد الله ومشيته لا غير.
نعم ورد في بعض الروايات الضعيفة مثل خطبة البيان التي نقلها المحقّق القمي (قدس سره) في جامع الشتات مع الطعن فيها، أن أمرها بيد الأئمّة (عليهم السلام) أو بيد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) [18]، لكنّه ضعيف جداً مخالف لكتاب الله عز وجل.
ولكن ظاهره المعنى الأوّل الذي لا يمكن القول به، ولا يوافق الكتاب ولا السنّة، بل قد عرفت أنه نوع من الشرك أعاذنا الله تعالى منه.
قال الله تعالى: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القهار) [19].
وإن كان ولابدّ من توجيهها فليحمل على العلّة الغائية، مثل «لولاك لما خلقت الأفلاك» و «بيمنه رزق الورى» فتدبّر جيداً.
وأمّا «التفويض الجزئي» في أمر المعجزات والكرامات إليهم، كشق القمر وإحياء بعض الموتى بأيديهم وشبه ذلك فهو ممّا لا مانع منه عقلاً ونقلاً، وإصرار بعض على كون هذا أيضاً من قبيل الدعاء والطلب من الله بأن يخلق كذا عند دعائهم ممّا لا وجه له، بعد ظهور قوله تعالى: (وإذ تخرج الموتى بإذني) [20] في كون المحيي هو المسيح (عليه السلام) ولكنّه بإذن من الله وتأييد منه تعالى.
ولنختم الكلام ببعض الروايات الواردة في المقام وكلمات أعاظم المذهب ممّا يؤكد ما ذكرنا في هذه المسألة، أي نفي التفويض في أمر الخلقة.
قال الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) في رسالة الاعتقاد: اعتقادنا في الغلاة والمفوضة أنهم كفّار بالله جلّ جلاله، وأنهم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والحرورية... إلى قوله كفّاراً[21].
ونقل العلاّمة المجلسي في مرآة العقول عن زرارة أنه قال: قلت للصادق (عليه السلام) : إن رجلاً من ولد عبد الله بن سنان يقول بالتفويض فقال: وما التفويض؟ قلت: إن الله تبارك وتعالى خلق محمّداً (صلى الله عليه وآله) وعلياً (عليه السلام) ففوض إليهما، فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا، فقال (عليه السلام) : كذّب عدو الله إذا انصرفت إليه فأتل عليه هذه الآية من سورة الرعد (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القهار) فانصرفت إلى الرجل فأخبرته فكأني ألقمته حجراً، أو قال فكأنما خرس[22].
المقام السّابع: من صلاحيات الولي الفقيه «الولاية على الأموال والأنفس وحدودها»
ولابدّ هنا من ملاحظة مقام النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) في مسألة الولاية على الأموال والأنفس ثمّ نتكلم عن صلاحيات الفقهاء، فنقول ومنه سبحانه نستمد التوفيق والهداية:
قال الله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلاّ أن تفعلوا إلى أولياءكم معروفاً كان ذلك في الكتاب مسطوراً) [23]، وهذا هو العمدة في المقام، والآية مشتملة على أحكام ثلاثة:
أحدها ـ أولوية النبي (صلى الله عليه وآله) بالمؤمنين من أنفسهم.
ثانيها ـ كون أزواجه (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأمهات في حرمة النكاح، فقط، دون غيره من الأحكام كجواز النظر والإرث وحرمة تزويج بناتهن للمؤمنين، والظاهر أنه لم ينقل من أحد من علماء الإسلام أثر لهذه الأمومة غير ما ذكرنا.
ثالثها ـ كون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غير الأرحام.
وذلك أنه كان الإرث في أول الأمر بين المؤمنين بالهجرة والمؤاخاة في الدين، فنسخت الآية هذا الحكم، وجعل أولي الأرحام بعضهم بالنسبة إلى البعض أولى من غيرهم، فصار الإرث بالقرابة والرحم.
وممّا ذكر يظهر أن ما هو المعروف في الأذهان من أن الآية ناظرة إلى طبقات الإرث، وإن الأقرب أولى من الأبعد غير صحيح، فإنه مبني على أن يكون «الباء» في قوله تعالى أولى ببعض بمعنى «من» حتّى يكون المعنى بعضهم أولى من بعضهم، مع أن المفضل عليه مذكور في نفس الآية مع «من» وهو قوله «من المؤمنين والمهاجرين» فأولوا الأرحام أولى من غيرهم، فليكن هذا على ذكر منك ونرجع إلى البحث عن الحكم الأوّل.
ذكر غير واحد من المفسرين أن الآية نزلت عندما أراد النبي (صلى الله عليه وآله) غزوة تبوك وأمر الناس بالخروج، وقال ناس نشاور آبائنا وأمهاتنا فنزلت (الآية وأكدت لهم أن أتباع أمره (صلى الله عليه وآله) مقدّم على غيره مطلقاً) ذكره في «روح البيان» [24]، ريب منه في «مجمع البيان» إلاّ أن فيه «نستأذن آبائنا وأمهاتنا» [25]. وقد ذكر في المجمع في معنى هذه الجملة من الآية أقوالاً:
«أحدها»: أنه أحق بتدبيرهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمهم على أنفسهم.
«ثانيها»: أن طاعته أولى من طاعة أنفسهم وما يميلون إليه.
«ثالثها»: أن حكمه أنفذ عليهم من حكم بعضهم على بعض.
وهي متقاربة المضمون وتتحد في النتيجة، وحاصلها وجوب إطاعته (صلى الله عليه وآله) في هذه الأمور وما يرتبط بمصالح المسلمين.
وهناك معنى رابع يستفاد من غير واحد من الروايات، مثل ما رواه في «تفسير القرطبي» أنه (صلى الله عليه وآله) كان لا يصلي على ميّت عليه دين، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلي قضائه، ومن ترك مالاً فلورثته، أخرجه الصحيحان، وفيهما أيضاً فأيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه[26].
وما رواه في تفسير «البحر المحيط» عنه (صلى الله عليه وآله) ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى به في الدنيا والأخرة، وأقرؤا إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فإيما مؤمن هلك وترك مالاً فليرثه عصبته، من كانوا، وإن ترك ديناً (وضياعاً) فعليّ[27].
وفي الوسائل في باب ضمان ولاء الجريرة، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، ومن ترك مالاً فللوارث، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فاليّ وعلي[28]. و (قد ادّعى تواتر الحديث عند أهل السنّة).
وعلى هذا معناه أولى بهم من أنفسهم في أداء ديونهم وضياعهم[29].
وهنا معنى «خامس» وهو أن الآية مطلقة من جميع الجهات، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كلّ أمر من أمور الدين والدنيا، كما ذكره غير واحد من المفسرين، منهم مؤلف «روح البيان» حيث قال:
والمعنى أن النبي (صلى الله عليه وآله) أحرى وأجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كلّ أمر من أمور الدين والدنيا كما يشهد به الإطلاق» [30].
وكما يشهد به صدر الحديث المروي عنه (صلى الله عليه وآله) في تفسير القرطبي وقد مضى، ويقرب منه ما في تفسير «الميزان» حيث قال: «النبي أولى بهم فيما يتعلّق بالأمور الدنيوية أو الدينية، كلّ ذلك لمكان الإطلاق» [31].
ولاشكّ أن الآية مطلقة شاملة لأي نوع من الولاية، ولكن الكلام في أمور.
أولاً: في أنه هل هي ناظرة إلى العموم في كلّ ما يكون له صلة بتدبير المجتمع وما فيه نظام الدين والدنيا؟ أو هي شاملة حتّى لماله صلة بأمر الفرد؟
ثانياً: على تقدير العموم هل هي منصرفة إلى ما فيه صلاح الفرد، أو يعم ولو لم يكن فيه صلاحه بل كان ضرره بحيث يجوز له (صلى الله عليه وآله) الإضرار بأيّ مؤمن لصلاح نفسه (صلى الله عليه وآله) لا لصلاح المجتمع.
الإنصاف قوّة انصراف الآية من الجهتين: من جهة اختصاصها بأمر المجتمع، ومن جهة تقييدها بالمصالح، لاشكّ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن يقدم على ما لم يكن فيه مصالح الأمة ولا يقدم مصلحة شخصه بما أنه شخص على مصالحهم، إنّما كلام في أنه هل اللفظ مطلق من هذه الجهة أو لا؟ وفي مقام البيان أوليس في مقامه من هذه الجهة؟ وممّا يؤيد الانصراف، الروايات الكثيرة التي ادّعى تواترها من طريق العامّة والخاصّة، وقد مرّ ذكرها ممّا ورد في شأن نزولها وغير ذلك.
ثمّ إنه لو قلنا بثبوت ذلك له (صلى الله عليه وآله) بمقتضى هذه الآية أو أدلّة أخرى، وثبوته لخلفائه المعصومين والأئمّة الهادين (عليهم السلام) ولكن إثباته للفقيه، دونه خرط القتاد، لما عرفت من أن غاية ما يدلّ على ولاية الفقيه هو الأخذ بالقدر المتيقن في أمر الحكومة على الناس، ومن الواضح أنه لا يدلّ إلاّ على التصرفات التي ليس لها صلة بهذا الأمر، ولابدّ أن تكون تحت العناوين الأولية أو الثّانوية من أحكام الشرع، فيصحّ له التصرّف في الأموال إذا كان بعنوان الزكاة والخُمس أو دعت الضرورة إلى أخذها زائدة على الزكوات والأخماس لحفظ بيضة الإسلام في مقابل الكفّار أو غير ذلك من أشباهه، وكذا يصحّ له الحكم بالقصاص وإجراء الحدود، والأمر بنفر الناس إلى ميادين الجهاد وغير ذلك، ممّا يعد تصرفاً في الأموال والأنفس، وأمّا أن يأخذ أموال الناس لمصلحة نفسه، أو يطلق امرأته، أو يقتل مؤمناً متعمداً من غير انطباق عنوان شرعي عليه فلا، وينبغي أن يكون هذا من الواضحات التي لا ريب فيها ولا شبهة تعتريها.
ومن الجدير بالذكر هو أنا لم نعهد في التاريخ، أن النبي (صلى الله عليه وآله) أخذ الناس بالولاية على الأموال والنفوس في غير ما يرتبط بنظام المجتمع والحكومة الإسلامية، وفي غير نطاق أحكام الشرع، بل ولا بالنسبة إلى الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
كيف تكون الأرض كلّها للإمام (عليه السلام)؟
بقى هنا شيء ـ وهو أنه ورد في روايات كثيرة أن الأرض كلّها لله ولرسوله وللأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أو شبه ذلك من التعابير.
وقد عُقد لذلك في أصول الكافي باباً أورد فيها ثمانية روايات، وهي تنقسم إلى ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: ما لا يدل على أكثر من ملك الانفال للإمام (عليه السلام) مثل ما رواه هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) «إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلّها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي (الحديث) [32].
وأبو خالد الكابلي اثنان «كبير» و «صغير» والأول ممدوح غاية المدح، كان من حواري علي بن الحسين (عليهما السلام) والثّاني غير معروف، وحيث يدور الأمر بينهما أو يكون الأظهر هو الثّاني يشكل الاعتماد على سند الحديث.
ومدلول الرواية بقرينة ذيلها هو مالكية الإمام بالنسبة إلى الانفال، وهو غير ما نحن بصدده.
وما رواه عمر بن يزيد في الصحيح قال: رأيت مسمعاً (وهو أبو سيّار) بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تلك السنة مالاً فردّه أبو عبد الله (عليه السلام) فقلت له: لِمَ ردّ عليك أبو عبد الله المال الذي حملته إليه...، فقال: أموالنا من الأرض وما أخرج الله منها إلاّ الخُمس يا أبا سيّار؟ إن الأرض كلّها لنا فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا[33].
وهو أيضاً ناظر إلى الانفال فلا دخل له بما نحن بصدده.
الطائفة الثّانية: ما دلّ على ملك جميع الأراضي له سواءً من الانفال وغيرها مثل ما رواه يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) مالكم من هذه الأرض؟ فتبسم، ثمّ قال: إن الله تبارك وتعالى بعث جبرئيل (عليه السلام) وأمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض، منها سيحان وجيحان وهو نهر بلخ، والخنثوع، وهو نهر الشاش، ومهران وهو نهر الهند، ونيل مصر، ودجلة، والفرات فما سقت أو استقت فهو لنا (الحديث) [34].
وهو يدلّ على ملكية جميع الأراضي لهم ولكن قوله فما سقت أو استقت الذي بمنزلة التعليل والنتيجة غير واضح المعنى، فإن قوله «فما سقت» إشارة إلى الأرض التي سقتها هذه الأنهار، وما استقت لعلّه إشارة إلى البحار التي تسقي هذه الأنهار منها، ولكن مجرد هذا أعني ملكية هذه المياه ليست دليلاً على مالكية الأراضي والبحار، نعم هو سبب لأجرة المثل لمياه فقط.
الطائفة الثّالثة: ما دلّ على أن الدنيا كلّها لهم وهي عدّة روايات:
منها: ما رواه محمّد بن الريان عن العسكري (عليه السلام) قال: جعلت فداك روي لنا أن ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا إلاّ الخُمس، فجاء الجواب أن الدنيا وما عليها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) [35].
وهو أيضاً ضعيف سنداً، ولكن دلالته من أوضح الدلالات على ملكية جميع الدنيا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والظاهر ملكية الأئمّة (عليهم السلام) أيضاً من بعده (صلى الله عليه وآله) لاتحاد الملاك.
ومنها: ما رواه عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم (عليه السلام) فلرسول الله (صلى الله عليه وآله) وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو للأئمّة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) [36]. وهو أيضاً ضعيف سنداً ولكن دلالته واضحة.
ومنها: ما رواه محمّد بن عبد الله عمن رواه قال: الدنيا وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا، فمن غلب على شيء منها فليتق الله، وليؤد حقّ الله تبارك وتعالى، وليبر إخوانه، فإن لم يفعل ذلك فالله ورسوله ونحن براء منه[37].
ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أما على الإمام زكاة: فقال: «أحلت يا أبا محمّد! إما علمت أن الدنيا والأخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء... » الحديث[38].
والذي يتحصل من جميع هذه الأحاديث بعد ضم بعضها ببعض، وتأييد بعضها للبعض، سنداً ودلالة كون العالم لله تعالى وبعده لرسوله (صلى الله عليه وآله) وبعده للأئمّة الهادين (عليهم السلام) يضعونها حيث شاؤوا.
ولازم ذلك عدم مالكية الناس لهذه الأموال كلّها بل كونها كالأمانة والوديعة في أيديهم، يتصرفون فيها بإذن مالكها الحقيقي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك أحكام كثيرة فقهية لا تصحّ إلاّ بكون الناس مالكين لهذه الأموال التي بأيديهم، كقوله (صلى الله عليه وآله) «الناس مسلطون على أموالهم» أو جواز «البيع» و «العتق» و «الهبة» و «الوقف» و «الوصية» بإجماع علماء الإسلام بل الضرورة، مع أنه لا تصحّ شيء منها إلاّ بملك، وما ورد من التعبيرات الكثيرة بعنوان الملكية في الأخبار والآثار والآيات الكريمة القرآنية التي لا تحصى كثرة. وكذلك ظاهر قوله تعالى «فلله خمسه» الذي يفهم منها كون الباقي لهم، وقوله تعالى (خذ من أموالهم..) الظاهر في كون ما عدا الزكاة لهم.
وقوله تعالى (الانفال لله ولرسوله...) وقوله تعالى (ما افاء الله على رسوله من أهل القرى...) الظاهر في كون الباقي للناس أنفسهم.
وكذلك الروايات المتواترة الواردة في أبواب الانفال والأخماس وأبواب الحيازة وغيرها، كالصريح في حصول الملكية للناس.
وطريق الجمع بينهما من وجهين:
احدهما: أن يقال بالملكية الطولية التشريعية بأن يكون المالك التشريعي لجميع هذه الأملاك هو الله تعالى، ثمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيّاً أو بعد وفاته أيضاً، لإمكان اعتبار الملك له (صلى الله عليه وآله) بل ولغيره ولو بعد الوفاة، كما ذكرنا في محله، ثمّ للأئمّة الهادين المعصومين (عليهم السلام) ثمّ لمن يملكها من طريق مشروع من الحيازة أو الإحياء أو الإرث أو العمل، وما أشبه ذلك، ولا منافاة بين تعدد المالك مع وحدة الملك بلا شركة ولا إشاعة، إذا كان الملك طولياً وإن هو إلاّ نظير ملك العبد وملك المولى له ولما في يده (على ما هو المعروف).
والملكية التشريعية أمر اعتباري والاعتبار خفيف المؤونة، نعم لا يتصور ملكية
شيء بتمامه لاثنين في عرض واحد، لأن مفهوم كلّ من الاعتبارين يضاد الآخر كما هو ظاهر.
وعلى كلّ حال لا مانع من إجراء أحكام الملكية من جانب من كان في المرتبة الأخيرة، كما يجوز ترتيب آثارها من ناحية المقام الأعلى، وهذا كملك المولى والعبيد كما عرفت.
ويدلّ عليه ما ورد في رواية أبي خالد الكابلي وعمر بن يزيد (وقد مرّ ذكرهما) من ترتيب الآثار الشرعية على ملك الإمام (عليه السلام) للأرض، اللّهم إلاّ أن يقال أنهما ناظرتان إلى الأنفال كما مرّ، وهي غير ما نحن فيه.
وما في حديث «أبي بصير» وظاهر رواية «محمّد بن الريان» كما لا يخفى على الناظر فيهما.
وممّا يدلّ على عدم التضاد بين هذين النحوين من الملك، إن ظاهر الروايات ثبوت الملك لله ولرسوله وللأئمّة في زمن واحد، فليس مالكية الأئمّة بمعنى سلب الملكية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا مالكية رسوله (صلى الله عليه وآله) بمعنى سلبها عن الله تعالى، فكلّهم مالكون على نحو طولي، فلها مراتب أربع كلّ في طول الآخر فراجع حديث أحمد بن محمّد (الحديث 2) بل لعلّ قوله تعالى (وانفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه) [39] أيضاً ناظر إليها. هذا ولكن الظاهر أن سيرتهم (عليهم السلام) قد استقرت على عدم الانتفاع بهذا النوع من الملكية، ولذا لم ينقل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا من الأئمّة الهادين الذين هم أوصيائه وخلفائه (عليهم السلام) أخذ شيء من أموال الناس بغير الطرق المعهودة في الفقه استناداً إلى أنهم مالكون لها، كما هو ظاهر لمن راجع سيرتهم.
ثانيها: حملها على الملكية والولاية التكوينية، فإن الله له الولاية على جميع الخلق، لأنه خالقهم وله ولاية تشريعية يتبعها، بل هو فوق التشريع كما لا يخفى، وأمّا أوليائه المعصومون (عليهم السلام) فلهم أيضاً ولاية تكوينية في أبواب المعجزات والكرامات بل وغيرها، لأنهم غاية الخلقة (فإن غاية الخلقة، الإنسان الكامل، وهم أتم مصاديقه) فالله ولي لأنه العلّة الفاعلية، وهم أولياء، لأنهم علل غائية، وحينئذ لا يكون لهذه الأخبار دخل بما نحن بصدده، بل هي ناظرة إلى ملكية، فوق الملكية الفقهية.
هذا ولكن هذا التوجيه لا يساعد بعض هذه الأخبار ممّا صرّح فيها بجواز أنواع التصرفات تشريعاً، اللّهم إلاّ أن يقال هذا القسم أخبار آحاد ضعاف فتأمّل.
وعلى كلّ حال لا دليل على ثبوت هذا المقام ـ على القول به ـ للفقهاء (رفع الله رايتهم وأعلى الله درجتهم) لعدم قيام دليل عليه مطلقاً، بل الدليل إنّما قام في خصوص إقامة الحكومة الإسلامية مع شرائطها لا غير، كما عرفت مبسوطاً، والله الهادي إلى سواء السبيل.
بقى هنا شيء:
قد ثبت ممّا ذكرنا بحمد الله ولاية الفقيه على أمر الحكومة إذا استكمل فيه شرائطها ومقدماتها وحدودها، ولكن يبقى السؤال في أن هذا الحكم عام لجميعهم أو خاصّ لبعضهم؟ وكيف طريق الاختيار عند التشاح أو التعيين لو كان هناك ملاك للتعين.
والاحتمالات هنا ثلاثة:
الأوّل: أنها ثابتة لهم بعنوان العام الافرادي الاستغراقي، فكلّ واحد له هذا الحقّ بالفعل، ولا تتوقف فعليته على أمر آخر وراء كونه فقيهاً جامعاً للشرائط.
الثّاني: أنها ثابتة لهم بالفعل بعنوان العام المجموعي، فالمجموع من حيث المجموع لهم هذا الحق، فلابدّ من التشاور والتعاضد من الجميع.
الثّالث: أنها ثابتة لهم بالاقتضاء بعنوان العام الافرادي، ولا تكون فعليته إلاّ بانتخاب الأمة، فالانتخاب هو الطريق الوحيد للفعلية.
وقد يورد على الأوّل باستلزامه الفوضى، ونقض الغرض، فإن الغرض الأعلى من الحكومة هو حفظ النظام، ولكن ثبوت الولاية الفعلية لكلّ واحد من الفقهاء مع اختلاف وجهات النظر والأفكار والسلائق، يؤدي إلى اختلال النظام.
وعلى الثّاني بأنه لم يقل به أحد، بل استقرت سيرة المسلمين على خلافه، وهذا ينتج الاحتمال الثالث.
أقول: أمّا القول الأخير فهو أشد مخالفة لسيرة أصحابنا من الثّاني لأنا لم نسمع من أحدهم الرجوع إلى الانتخاب في إثبات ولي أمر المسلمين، فإن الانتخاب أمر نشأ في القرون الأخيرة، أخذ من بلاد الغرب وليس له في أخبارنا عين ولا أثر، ولا يوجد في تاريخ الإسلام كما عرفت سابقاً، فكيف يقال بأن الطريق الوحيد لتعيين الوالي هو هذا؟
وأمّا مسألة «البيعة» فقد عرفت سابقاً أنها أجنبية عن مسألة الانتخاب من جهات شتى في مفهومها ونتائجها فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نبياً مرسلاً ووالياً وحاكماً بإذن الله واختياره تعالى، وكان يطالب البيعة كراراً من أصحابه وكان ذلك للتأكيد على وفائهم له، وطريقاً إلى بثّ روح جديدة وحركة نشيطة فيهم، وكذلك مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).
والفرق بين البيعة والانتخاب لا ينحصر بهذا، بل بينهما فروق كثيرة من جوانب أخرى مرّ ذكرها سابقاً.
نعم الانتخاب كان طريقاً وحيداً لتصدي بعض الخلفاء كالخليفة الأول لكن لا انتخاب الناس جميعاً، ولا أهل البلد، ولا انتخاب جميع أهل الحل والعقد، بل انتخاب جماعة خاصّة يسمونه بالشورى عندهم، وهم جماعة من الصحابة حضروا في السقيفة موافقون لمقاصدهم هذا هو حقيقة شوراهم وكيفية انتخابهم وقد نتج عن ذلك ما نتج.
فالاحتمال الأخير منفي من جهات، نعم قد يحتاج إليه لمراعاة الغبطة كما سنشير إليه إن شاء الله.
وأمّا القول الثّاني فهو ممّا لم يقل به أحد، ومخالف لما يظهر من الفقهاء (رضوان الله عليهم) قديماً وحديثاً من التصدي لأمر القضاء والقصاص وإجراء الحدود عند بسط اليد، وأخذ الأخماس والزكوات، من تصدي كلّ فقيه جامع للشرائط في بلده إذا قدر على شيء من ذلك من دون أن يتوقف في أمره على موافقة الباقين في البلد أو في خارجه، وهذا أمر ظاهر لا غبار عليه.
والذي استقرت عليه سيرة العلماء العاملين والسلف الصالح قديماً وحديثاً والمعاصرين، هو الاحتمال الأوّل، أعني ثبوت الولاية لكلّ واحد بالفعل مستقلاً، ولذا كان العلماء الكبار كما عرفت عند بسط يد بعضهم في بعض الأقطار يقيمون الحدود الإلهية، وينفذون الأحكام الإسلامية، من غير توقف على رأي الآخرين في البلد وخارج البلد، ومن دون توقف على انتخاب الأمة لما عرفت من أنه أمر مستحدث.
نعم يبقى الكلام فيما عرفت من الإشكال من لزوم التشاح والتنازع والفوضى بتصدي الجميع أو أمين كلّ واحد مستقلاً، ولكن الإنصاف أن دفع التشاح والتنازع أمر ممكن، وله نظائر في الفقه الإسلامي.
توضيحه: أن الظاهر من أدلّة الولاية ثبوتها لكلّ واحد من الفقهاء مستقلاً بعنوان عام أفرادي سواء قوله «أمّا الحوادث الواقعة... » أو «مجاري الأمور» أو قوله «إني جعلته عليكم حاكماً» (على القول بدلالتها) نعم الأخذ بالقدر المتيقن ربّما يؤيد الاحتمال الثّاني، أعني ثبوت الولاية للمجموع من حيث المجموع، اللّهم إلاّ أن يقال أنه مخالف للسيرة المستمرة بين الفقهاء وهو كذلك.
إذا ثبت أن الطريق منحصر في الأوّل، أعني ولاية كلّ واحد منهم فللمسألة صور مختلفة:
1 ـ لو أقدم بعض من اجتمعت فيه الشروط، على تأسيس الحكومة وجب على الباقين عدم الخروج عن أوامره وعدم مزاحمته، كما هو الوارد في باب القضاء ورؤية الهلال وغيرهما.
2 ـ إذا أقدم اثنان أو أكثر على تأسيسها وكان لكلّ أتباع وأنصار، ثمّ وافقا أو وافقوا على ولاية الشورى بأن تكون الحكومة بيدهما أو بيدهم أجمعين لم يبعد صحة أعمالهم منهم على هذا النحو، بعد تأكيد الشارع المقدس على المشاورة في جميع الأمور.
وما قد يقال من أن إدارة شؤون الأمة لاسيّما في الظروف المهمّة تتوقف على وحدة مركز القرار، والتعدد غالباً يوجب الفشل أو تعطيل كثير من المصالح صحيح بالنسبة إلى أمثالنا ممن لا عهد لهم بالأعمال الجمعية، ولا يقدرون إلاّ على العمل الفردي وأمّا إذا سادت ثقافة التعاون والتعاضد، والاستمرار على الجماعة حتّى في قمة الحكومة ـ كما في بعض بلاد العالم ـ فلا يبعد إمكانه وجوازه، بل ولو حصل الاستعداد لذلك ربّما كان أنفع وأصلح من حكومة الأفراد، ولكن المشكلة العظمى هي طريق تحصل هذا الاستعداد الروحي ونفي الاستبداد بجميع شؤونه.

3 ـ إذا لم يوافقوا على ولاية الشورى، أو قلنا بعدم إمكانها أو عدم الاستعداد لها، فأراد كلّ منهم تصديه لها منفرداً، ورأى المصلحة في ذلك، مع اجتماع الشرائط في كلّ منهم، فلابدّ من الرجوع إلى المرجحات، ويمكن الاستيناس لها بما ورد في باب التعادل والترجيح من المرجحات، وأوضح حالاً منه ما ورد في باب قاضي التحكيم في مقبولة عمر بن حنظلة، بناءً على كونها ناظرة إلى مرجحات قاضي التحكيم، بل ويمكن الاستدلال له بأنه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فلابدّ من الأخذ بالتعيين، وعلى كلّ حال يختار من فيه المرجح.
إن قلت: ما المعيار في تشخيص المرجحات؟ ومن المرجع في ذلك؟
قلنا: المرجع فيه هو أهل الخبرة كما في غيره من أمثاله في أبواب الفقه، فأهل الخبرة هم المرجع الوحيد في تعيين من هو الأصلح من بين الفقهاء الصالحين، ولو فرض فرضاً نادراً أو محالاً عادياً تساويهما من جميع الجهات أو بالكسر والانكسار في جهات مختلفة بحيث يتحير فيه أهل الخبرة، ولا يفضل واحد منهم على الآخر شيئاً، يمكن الرجوع إلى القرعة، ولكن الإنصاف إن هذا نادر جدّاً، أو لا يوجد له مصداق عادة، وعلى فرض وجوده فما المانع من الرجوع إليها بعد كونها مداراً لفصل الخصومات والمنازعات، والمفروض كون أطراف القرعة جميعهم صلحاء عدول لا يفضل واحد على الآخر.
________________________
[1] بصائر الدرجات: ب4 من الجزء الثامن، باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ح9 ص380.
[2] بصائر الدرجات: ب6 من الجزء الثامن، باب تسديد الأئمّة ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ح2 ص388.
[3] بصائر الدرجات: ب6 من الجزء الثامن، باب تسديد الأئمّة ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ح1 ص387.
[4] بصائر الدرجات: ب6 من الجزء الثامن، باب تسديد الأئمّة ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ح6 ص388.
[5] الوسائل: ج6 ب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح1.
[6] الحدائق الناضرة: ج12 ص152.
[7] الوسائل: ج6 ب8 من أبواب ما يجب فيه الخُمس ح5.
[8] نقلناه وما بعده من الحدائق الناضرة: ج12 ص355 ولعمري هذا شاهد صدق على ما ادعيناه سابقاً من كون المعروف عند الشيعة عدم تصدي الإمام للتشريع.
[9] منتقى الجمان (مطابقاً لنقل الحدائق الناضرة: ج12 ص355).
[10] وسائل ا لشيعة. : ج6 ب8 من أبواب ما يجب فيه الخُمس ح4.
[11] بصائر الدرجات: ب5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلى الأئمّة ح1 ص383.
[12] بصائر الدرجات: ب5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلى الأئمّة ح1 ص383.
[13] بصائر الدرجات: ب5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلى الأئمّة ح2 ص383.
[14] بصائر الدرجات: ب5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلى الأئمّة ح3 ص384.
[15] بصائر الدرجات: ب5 من الجزء الثامن، باب التفويض الأئمّة ح6 ص385.
[16] بصائر الدرجات: ب5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلى الأئمّة ح10.
[17] بصائر الدرجات: ب5 من الجزء الثامن، باب التفويض إلى الأئمّة ح13.
[18] جامع الشتات، ذكره في عداد المسائل المتفرقة من المجلد الثّاني.
[19] الرعد: 16.
[20] المائدة: 110.
[21] مرآة العقول: ج3 ص146.
[22] مرآة العقول: ج3 ص146.
[23] الأحزاب: 6.
[24] تفسير روح البيان: ج7 ص138.
[25] تفسير مجمع البيان: ج8 ص338.
[26] تفسير القرطبي: ج8 ص203.
[27] تفسير بحر المحيط: ج7 ص217.
[28] الوسائل. : ج17 ب3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة ح14.
[29] الظاهر أن المراد من الضياع (بالفتح) في الحديث هو «الأيتام».
[30] تفسير روح البيان: ج7 ص138.
[31] تفسير الميزان: ج16 ص291.
[32] الأصول من الكافي: ج1 باب أن الأرض كلّها للإمام ص407 ح1.
[33] الأصول من الكافي: ج1 باب إن الأرض كلّها للإمام ص408 ح3.
[34] الأصول من الكافي: ج1 باب إن الأرض كلّها للإمام ص409 ح5.
[35] الأصول من الكافي: ج1 باب أن الأرض كلّها للإمام ص409 ح6.
[36] الأصول من الكافي: ج1 باب أن الأرض كلّها للإمام ص409 ح7.
[37] الأصول من الكافي: ج1 باب إن الأرض كلّها للإمام ص408 ح2.
[38] الأصول من الكافي: ج1 باب إن الأرض كلّها للإمام ص408 ح4.
[39] الحديد: 7.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية