نصب الحاكم في عصر الغيبة
هناك أكثر من رأي ولدى الفقهاء في استفادة النصب وعدمه من الروايات المتقدمة في
ولاية الفقيه، نوردها هنا واحدة بعد أخرى، ثم نشخص الرأي الذي نختاره منها.
1ـ النصب العام
وهو رأي أكثر الفقهاء القائلين بولاية الفقيه، ودليل هؤلاء عموم النصب في روايات
ولاية الفقيه مثل قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة:
1 ـ (من كان منكم من قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا
به كحكماً، فاني قد جعلته عليكم حاكماً)
2ـ وقوله عليه السلام كما في رواية الصدوق:(اللهم ارحم خلفائي)، قيل له يا رسول
الله، ومن خلفائك؟ قال: (الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي).
3ـ ورواية (الفقهاء حصون الإسلام)،وحديث (العلماء ورثة الأنبياء).
4ـ والتوقيع الشريف: (وأما الحوادث الواقعة، فأرجعوا فيها الى رواة احاديثنا، فإنهم
حجّتي عليكم).
5ـ ورواية تحف العقول عن أبي عبد الله الحسين عليه السلام: (مجاري الأمور والأحكام
على أيدي العلماء).
فان هذه الروايات تدل على عموم النصب لكل الفقهاء لهذا المنصب الخطير في الإسلام.
وعليه فان كل الفقهاء الذي تتوفر فيهم الشروط التي لابد منها في الحاكم يعتبرون
حكاماً بموجب هذه النصوص.
ويتوجه الى هذا الرأي مناقشتان اساسيتان احداهما في مرحلة الثبوت والأخرى في مرحلة
الاثبات:
المناقشة في مرحلة الثبوت:
اما التي في مرحلة الثبوت ففي عدم معقولية النصب الشامل والعام لكل الفقهاء، فاننا
اذا امعنا النظر في معنى كلمة (الحكومة والولاية العامة) لا يمكن ان نتصور معنىً
للتعدد وعموم وشمول النصب لكل الفقهاء في عرض واحد، فان كلمة (الحاكم) تدل على
حاكمية وولاية (الحاكم) على الآخرين، وحقه في طاعة الآخرين وانقيادهم، وعمومية
ولاية الفقيه الحاكم على الآخرين، بمن فيهم الفقهاء، وهو ينافي عموم النصب للفقهاء
للولاية.
فان النتيجة التي تترتب على عموم النصب هو ان يكون الفقيه والياً ومولى عليه في وقت
واحد وعلى صعيد واحد[1]وهو أمر غير ممكن. والنتيجة الاخرى التي تترتب على ذلك هو ان
يكون لمجموعة من الفقهاء ولاية وحاكمية على عامة الناس في وقت واحد، وكل يكون أمره
وحكمه نافذاً على الناس، وهو يؤدي عادة الى الكثير من التزاحم والتضارب.
وايضا لا نعتقد ان للشارع طريقة جديدة في النصب والتعيين غير الطريقة التي يعتمدها
عامة العقلاء، فان طريقة العقلاء عامة في النصب هو اختيار واحد من الناس لمهمة
الولاية العامة ضمن مواصفات الولاية والحكومة.. ولم يعهد من طريقة العقلاء في
الولايات والحكومات عموم النصب والاختيار لطبقة او لفئة من المجتمع، وأنما يمكن أن
يكون النصب والاختيار يتم من داخل فئة او طبقة، او ممن تتوفر فيه شروط واوصاف
معينة.
وطريقة الشارع لا تشذ عن هذه الطريقة، وعليه فلابد من توجيه الروايات الدالة على
عموم النصب بما يناسب هذه الطريقة العقلائية في النصب والاختيار هذا من الناحية
الثبوتية.
وأما من الناحية الاثباتية فإن اوضح ما يدل على عموم النصب هو مقبولة عمر بن حنظلة،
وفيها يقول الإمام الصادق عليه السلام، كما في الرواية: (فاني قد جعلته حاكماً).
ومن الواضح ان الذين ينصبهم الامام الصادق عليه السلام في حياته لا يكاد ان يكون
للولاية العامة وذلك ان الولاية العامة كانت له عليه السلام في حياته، ومن بعده
لأنجاله، الأئمة المعصومين عليهم السلام، فلا يكاد ان يكون هذا النصب إلاّ في
الولايات الجانبية، كولاية الامور الحسبية، مثلاً، والتصرف في أموال الغائبين
والقصر وامثال ذلك.
وأما الروايات الأخرى من قبيل(مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء) او( وأما
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا) فيحتمل فيها جميعاً أحد الأمرين
التاليين:
الأمر الأول: أن تكون الفقاهة من شروط الولاية، والأمر الثاني: ان تكون الولاية من
احكام الفقاهة.
ونحن نعتقد ان الاحتمال الاول هو الأقرب والاوثق الى طريقة العقلاء في بيان أمثال
هذه المواضيع، و ان لم يكن هو المتعين.
فاذا قال القائل مثلاً: (وأما في شؤون ارادة المستشفيات فارجعوا فيها الى الاطباء)
او (في شؤون وزارة الدفاع فارجعوا فيها الى العسكريين فانهم أكثر خبرة وتجربة) فليس
معنى ذلك: ان كل طبيب يحق له ان يتولى ادارة المستشفيات، او ان كل عسكري يحق له
ادارة شؤون وزارة الدفاع، وانما نفهم من مثل هذا الكلام ان الخبرة الطبية من شروط
وزير الصحة، والخبرة العسكرية من شروط وزير الدفاع... وهذه طريقة عقلائية معروفة
لدى الناس على التفاهم، وعكس ذلك غريب عن الطريقة المعروفة في التفاهم لدى الناس.
ومهما يكن من أمر، فان لم يكن هذا الاحتمال هو المتعين فهو الاوفق والاقرب الى
طريقة العقلاء والشارع لم يتجاوز طريقة العقلاء في امتثال هذه الامور، فلا تكون هذه
الروايات ظاهرة في معنى النصب العام بالمعنى الذي يذكره المشهور من الفقهاء.
2ـ التأهيل
المناقشات التي سبق وإن ذكرناها حول الرأي السابق في النصب العام تؤدي الى القول
بأن مفاد روايات ولاية الفقيه هو(التأهيل) للولاية، وليس النصب.
وبذلك ينقلب العموم الذي يعتبر مفاداً للرأي السابق وهو (كل فقيه حاكم) الى القول
بلزوم ان يكون (كل حاكم فقيه)، وليس العكس. في الحقيقة يكون مفاد هذه الروايات هو
اشتراط الفقاهة في ولي الأمر وهو تفسير معقول لأدلة ولاية الفقيه نظراً للمناقشات
التي سبق وان ناقشنا بها الرأي الأول من الناحية الثبوتية والإثباتية.
وإذا لم تكن ادلة ولاية الفقيه بموجب ما تقدم من المناقشات ناظرة الى (عموم النصب)،
وانما تكون ناظرة الى اشتراط الفقاهة في الحاكم.. فلابد ان نبحث عن مسألة النصب؛
كيف يتم نصب الفقيه للحكم والولاية، وما هو دليل هذا النصب؟
الانتخاب:
النصب للولاية من حق الله تعالى فقط، ولا أشكال في هذه الحقيقة، ولا مجال للمناقشة
فيها، وليس لأحد ان يفرض ولايته على الناس من دون اذن الله تعالى، ولا للناس ان
ينتخبوا بعضهم بعضاً من دون إذن الله، فان حق الحاكمية في حياة الإنسان لله تعالى،
وهو الذي يملك الأمر والحكم في حياة الإنسان فقط.
وهذه الحقيقة نابعة من (التوحيد) مباشرة:
وحيث لم يصلنا دليل على النصب والتعيين الخاص من جانب الله تعالى وأوليائه
المعصومين عليهم السلام في عصر الغيبة، فإننا نطمئن الى ان الشارع او كل أمر
الإنتخاب، والإختيار الى الناس أنفسهم، ضمن المواصفات والشروط التي حددها الشارع،
والتي قرأنا شطراً منها في ادلة ولاية الفقيه، وأهمها الفقاهة والتقوى والكفاءة،
وذلك للنقاط التالية:
1ـ يجب على المسلمين على نحو الكفاية العمل والسعي لإقامة الدولة الإسلامية.
2ـ لم يصلنا من جانب الشرع دليل على النصب الخاص والتعين في عصر الغيبة.
3 ـ حدد لنا الشارع المؤهلات والشروط التي تؤهل الفرد للولاية والحكومة على
المسلمين، ومن أهم هذه المؤهلات والشروط؛ الفقاهة، والتقوى، والكفاءة.
وفي ضوء هذه النقاط نطمئن الى أن الشارع قد أوكل أمر الانتخاب الى الناس أنفسهم في
ضمن الشروط والمواصفات التي عينها الشارع من قبل.
ذلك لأن الاسلام يطالبنا بالعمل لإقامة الحكم الإسلامي، ولا يتم من دون نصب الحاكم
قطعاً، فإذا لم يعين الشارع أحداً لهذه المهمة، لم يبق سبيل معقول ومألوف[2] غير ان
يقوم الناس أنفسهم بأمر انتخاب الامام والحاكم ضمن المواصفات والشروط.
وهذا الانتخاب هو (البيعة) ولها سابقة في تاريخ الإسلام.
ولابد أن نشير هنا الى نقطتين في أمر هذا الانتخاب.
النقطة الاولى: ان هذا الانتخاب يجب أن يتم ضمن الملاكات التي عينها الشارع من
الفقاهة والكفاءة والعدالة والتقوى، وحتى الاولويات التي عينها الشارع في هذه
الملاكات، فلا يجوز ان يكون أمر الانتخاب للناس يختارون من يشاؤون بما يرتضون من
ملاكات.
والنقطة الثانية: ان اجماع الناس على شخص للرئاسة والولاية لما كان من غير الممكن
عادة... فكان لابد من وضع بديل معقول لاتفاق الأمة وهذا البديل أما أن يكون هو
اتفاق وجوه الأمة وأهل الحل والعقد فيهم او أكثرية الأمة، وسوف يأتي أن شاء الله
مزيد من التوضيح لهذه النقطة في بيان الرأي الثالث(عموم النصب في مرحلة الانشاء).
3ـ عموم النصب في مرحلة الانشاء
وهذا الرأي هو تطوير للرأي الاول، وفيه استدراك لبعض نقاط الضعف الموجودة في الرأي
الاول.
وخلاصة هذا الرأي هو القول بعموم النصب والتعيين في عصر الغيبة لعامة الفقهاء، كما
في الرأي الاول، ورفع التزاحم الذي يقع في مرحلة الممارسة الفعلية للولاية بين
الفقهاء بمرجحات باب التزاحم المعروفة.
فان عموم نصب الفقهاء للولاية والحكم لا يؤدي الى اي تعارض في الولاية والحكم،
لتمامية ملاك الولاية والحاكمية في كل واحد من الفقهاء، وليس انشاء الولاية لاي
منهم يعارض انشاء الولاية للآخر، وليس بينهم تعارض وتكاذب، كما يحصل ذلك في مورد
الامر باتباع فتويين مختلفين، او العمل بروايتين متعارضتين، وانما التزاحم بين هذه
الولايات تتم في مرحلة الممارسة الفعلية للولاية، فان الساحة الاجتماعية لا تحتمل
الا ولاية واحدة. فاذا تزاحمت الولايات المتعددة لعديد من الفقهاء فلابد من الرجوع
الى مرجحات باب التزاحم لترجيح واحدة من هذه الولايات، وتختلف مرجحات التزاحم تختلف
عن مرجحات التعارض، وذلك لأن الدليلين المتعارضين او الامرين المتعارضين يتكاذبان،
وينفي كل واحد منهما صادق الآخر كما لو ورد حكمان مختلفان في مورد واحد بدليلين
مختلفين، فان كل حكم ينفي صحة الآخر، وكل دليل ينفي صحة الآخر بطبيعة الحال، ونقطع
بعدم صدق واحد الحكمين واحد الدليلين في هذا الفرض، ولذلك فلابد في الترجيح من
الرجوع الى المرجحات السندية، فنختار الاقوى منهما سنداً ونترك الاضعف منهما.
اما عندما يكون لمورد مورداً للتزاحم وليس للتعارض، كما لو حدث تزاحم بين دليل
فورية الصلاة آخر الوقت ودليل حرمة المكث في الأرض المغصوبة، فلابد من ان نختار
احدهما بمرجح.
وهذا المرجح لا يكون مرجحاً سندياً بالطبع لعدم الشك في صحة الدليلين من حيث السند،
وإنما لابد من أن يأخذ المكلف بأهم الخطابين ملاكاً لدى المولي، ويختار أولاهما
وأهمهما عند الشارع، فيكون المرجح في باب التراحم بالملاكات وليس بالسند.
والترجيح هنا لأفضلهم في الفقاهة والتقوى والكفاءة، فتتعين فعلية الولاية له دون
الآخرين.
ولابد ان نشير هنا الى أن الملاك عبارة عن محصلة لهذه العناصر الثلاثة (الفقاهة
والتقوى والكفاءة). فلو كان شخص افقه من الآخرين واكفا منهم ولكن كان ينقصه التقوى
مثلاً فيرجح عليه من يملك التقوى ويكون دونه في الفقاهة والكفاءة، وهكذا في الصورة
الأخرى.
ففي الترجيح بالملاك الاقوى نلاحظ هذه المحصلة التي اشرنا اليها. إذن تتعين الولاية
الفعلية للفقيه الذي تتوفر فيه هذه المحصلة من الملاكات بصورة أقوى.
وكل مكلف تتعين في حقه ولاية الفقيه الذي يحرز أنه اقوى ملاكاً(من حيث المحصل)
وعليه فأن الفقيه الذي يحرز المسلمون جميعاً أنه اقوى في هذه المحصلة من الملاكات
عن غيره من الفقهاء تتعين ولايته الفعلية من بين الآخرين في مرحلة الاثبات.
الا ان الواضح ان المسلمين لايكاد ان يتفقهوا جميعاً على رأي واحد في هذا الامر،
وانهم سوف يختلقون مذاهب وآراء شتى في معرفة الفقيه الاصلح للولاية والحكم.
ففي مرحلة الاثبات اذن يختلف التشخيص للفقيه الذي يتولى الحكم بصورة فعلية في
المجتمع ويكون لكل فريق من الناس تشخيص خاص، ولما كانت مسألة الولاية والحاكمية من
المسائل التي لا يصح فيها التعدد والاختلاف وكان تعيين الفقيه الحاكم بالفعل
واجباً، مقدمة لاقامة الحكم الإسلامي كان لابد في مقام الاثبات من اعتماد تشخيص
الاكثرية من الناس او من أهل الحل والعقد باعتباره الطريق العقلاني الوحيد في هذا
الامر. ومن دون ذلك لابد من ارتكاب واحد من المفاسد التالية:
1 ـ اهمال امر التعيين والتشخيص الذي يؤدي الى اهمال الامر باقامة الحكومة
الاسلامية.
فان لتعيين وتشخيص الفقيه الاكفأ مقدمة لتعيين الفقيه الحاكم وهو مقدمة لقيام
الحكومة الاسلامية، واهمال امر غير جائز قطعاً.
2ـ قبول تعدد الحكام والولاة حسب اختلاف الناس في تشخيصهم،وذلك يؤدي الى هرج وفوضى
عجيبين في المجتمع ونقطع بعد رضا الشارع به، مع غض البصر عن النصوص الواردة في وحدة
الامام.
3 ـ سلوك وسائل وطرق غير عادية وغير مألوفة شرعاً وعرفاً في امثال المقام في تعيين
الحاكم من قبيل القرعة مثلاً او اعتماد رأي الاقلية من عامة الناس او الاقلية من
أهل الحل والعقد ونحن نقطع بعد ارتضاء الشارع لامثال هذه المسالك، فينحصر الامر اذن
في اعتماد رأي الاكثرية من الناخبين واهل الحل والعقد الذين ينتخبهم الناس لهذا
الغرض.
يقول أحد الفقهاء المعاصرين بهذا الصدد في توجيه شرعية الاكثرية:
(والتحقيق ان يقال بعدما اثبتنا صحة الانتخاب وانعقاد الامامة به عند عدم النص: إن
حصول الاطباق والاتفاق في مقام الانتخاب على فرد واحد مما يندر جداً أن لم نقل بعدم
وقوعه عادة، ولاسيما في المجتمعات الكبيرة، وان فرض كون جمعيهم أهل علم وصلاح، او
قلنا بان الرأي يختص بأهل العلم والصلاح ولا اعتبار بآراء غيرهم.
وذلك لاختلاف الآراء والانظار في هذا السنخ من الامور، فلا مجال لحمل الادلة الدالة
على صحة الامامة بالانتخاب على صورة حصول الاطباق فقط، وقد استمرت سيرة العقلاء في
جميع الاعصار والاصقاع على تغليب الاكثرية على الاقلية في هذه الموارد، فتكون
الادلة الشرعية التي اقمناها على صحة الانتخاب امضاء بهذه السيرة الشرعية)[3].
***
__________________________
[1] يقصد من كلمة(وعلى صعيد واحد) نفي حال الطولية في هذين الامرين بحيث تكون
ولايته على الآخرين في طول ولاية الآخرين عليه... فليس في ذلك بأس.
[2] انما نقول: لم يبق سبيل معقول ومألوف، لان هناك بعض السبل غير الانتخاب،
كالقرعة مثلاً، نقطع بأن الشارع لا يمكن أن يجعله طريقاً لتعيين الحاكم.
[3] ولاية الفقيه1/553