الوحدة والتعدد في الولاية
التطبيقات التاريخية
هذه المسألة قديمة في التاريخ السياسي والفقهي في الإسلام، واول مرة طرحت فيها هذه
المسألة يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اجتماع المهاجرين والانصار
في (سقيفة بني ساعدة) حيث طلب الانصار بعد ان فشل مرشحهم سعد بن عبادة من احراز
الخلافة ان يكون لهم امير وللمهاجرين أمير فقال عمر يومئذ(سفيان في غمد واحد لا
يصطلحان)[1]. وكتب معاوية الى أمير المؤمنين عليه السلام بعد معركة صفين: (اذا
ماشئت .. فلك العراق ولي الشام)[2] فرفض الامام عليه السلام ذلك.
وتكرر طرح هذه المسألة في التأريخ السياسي والفقهي في الاسلام، كما قامت دول
اسلامية متعددة باسم الخلافة والشرعية الاسلامية في زمان واحد وفي اقاليم مختلفة من
العالم الاسلامي.
الرأي الفقهي في المسألة:
يختلف الرأي الفقهي في هذه المسألة في القطر الواحد، عن الاقطار المتباعدة، فلم
يجوزه في القطر الواحد بالاجماع، يقول امام الحرمين الجويني: (ذهب اصحابنا الى منع
عقد الامامة لشخصين في طرفي العالم.. والذي عندي فيه ان عقد الامامة لشخصين في
مجتمع واحد متضايق الخطط والمخالف[3] غير جائز، وقد حصل الاجماع عليه، واما اذا بعد
المدى وتخلل بين الامامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن
القواطع[4].
واما في الاقطار المتباعدة فقد اختلف فيها الرأي فمنعها جمهور الفقهاء[5]واجازهم
بعضهم[6]ومهما يكن من امر فلابد لنا ن ننظر في الادلة التي اقاموها لهذا الامر.
الادلة والحجج.
ذكروا لوحدة الولاية والحاكمية في القطر الواحد وفي الاقطار المتباعدة ثلاثة ادلة
وهي:
اولاً: النصوص الاسلامية
فقد روى مسلم في كتابه الجامع الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من بايع اماماً فاعطاه صفقة يده وثمرة قلبه
وفليطعه ان استطاع فان جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر)[7].
وعن ابي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فوا ببيعة الاول فالأول
واعطوهم حقهم)[8].
وروى مسلم في (الجامع الصحيح)،والبيهقي في (السنن) عن ابي سعد الخدري، عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم : (اذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)[9].
وروى مسلم في (الجامع الصحيح) عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول: (انه ستكون هنات وهنات، فمن اراد ان يفرق امر هذه الامة وهي جميع
فاضربوه بالسيف كائناً من كان)[10].
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: (لأنها بيعة واحدة لا يثني فيها النظر، ولايستأنف
فيها الخيار، الخارج منها طاعن، والمروي فيها مداهن)[11].
ثانياً: الإجماع
فقد رفض المهاجرون طلب الانصار بان يكون لهم أمير وللمهاجرين أمير ثم رضى الانصار
بوحدة الامامة فصار اجماعاً.
واستدلوا ثالثاً: بان التعدد في الولاية والامارة يؤدي الى اثارة الخلافات وحدوث
الصراع والحرب فيما بين المسلمين، وقد امرنا الله تعالى ان نعتصم بحبله الوثيق ولا
نتفرق فقال تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ
تَفَرَّقُواْ)[12]. وقال تعالى: ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[13].
وقد كان ابو بكر بن ابي قحافة يقول: (لايحل ان يكون للمسلمين اميران، فانه مهما يكن
ذلك يختلف امرهم واحكامهم، وتتفرق جماعتهم، ويتنازعوا فيما بينهم، هنالك تترك
السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح)[14].
وقد ذكرنا ان الانصار لما طلبوا من المهاجرين ان يكون منهم رجل ومن المهاجرين رجل،
قال عمر بن الخطاب يومئذ: (سيفان في غمد واحد اذن لا يصطلحان)[15].
الاستدلال:
ومهما يكن امر هذه الادلة ومهما قيل في المؤاخذات التي اوردها عليها فان الولاية
بشكل عام تنقسم الى قسمين اثنين:
1 ـ الولاية العامة.
2ـ الولاية الخاصة.
والولاية الخاصة هي الولاية التي تثبت لشخص في دائرة محدودة من دوائر حياة الناس،
وفي مساحة اجتماعية محدودة من نحو ولاية مدير المدرسة، وولاية مدير العمل على
المعمل، وولاية الوزير على الوزارة التابعة له، وهذا القسم من الولايات محدودة
المساحة والمسؤولية بطبيعة الحال وهي متعددة وفي عرض واحد وليس فيها تنافس ولا
تعارض.
اما الولاية العامة والمطلقة، فهي التي تندرج تحتها الولايات الخاصة وهذه الولايات
تأتي في امتداد ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام من
بعده وهي تحمل نفس الاطلاق والشمول الذي تحمله ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فان ولاية رسول الله عامة على كل المسلمين ، وكذلك كل ولاية تأتي على امتداد
ولاية رسول الله وخلافة الائمة تكون عامة ومطلقة، وبمعنى اولوية صاحبها في التصرف
من كل مسلم على نفسه، وهذه الولاية مطلقة، وتعدد الولايات يخل بهذا الاطلاق
بالضرورة، فإن وجود اية ولاية في عرض هذه الولاية يكون بمعنى الاستثناء في ولاية
الاول على الثاني وعلى من يجب عليه طاعة الثاني من الناس.. وبالتالي يتحقق التزاحم
بينهما ولذلك فان الولاية العامة التي تأتي على امتداد ولاية رسول صلى الله عليه
وآله وسلم ولاية مطلقة وشاملة لكل المسلمين، وهذا الاطلاق ينفي شرعية اية ولاية
اخرى في عرضها.
وقد وردت طائفة من النصوص في مسألة توحيدج الولاية وحظر حالة التعدد في الولاية من
طرق الشيعة الامامية، وفيما يلي نذكر طائفة من هذه الروايات.
النصوص المانعة من التعدد:
روى الصدوق رحمه الله في (علل الشرائع) عن الرضا عليه السلام: (فإن قال: فلِمَ لا
يجوز ان يكون في الأرض امامان في وقت واحد او أكثر من ذلك؟ قيل: لعلل:
منها: إن الواحد لايختلف فعله وتدبيره والاثنين لا يتفق فعلمها وتدبيرهما، وذلك انا
لم نجد اثنين الا مختلفي الهمم والارادة، فاذا كانا اثنين ثم اختلفت همهمها
وارادتهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن احدهما اولى بالطاعة من صاحبه، فكأن
يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثم لا يكون احد مطيعاً لأحدهما إلاّ
وهو عاص للآخر، فتعم المعصية أهل الارض، ثم لا يكون مع ذلك السبيل الى الطاعة
والإيمان ويكونون انما اوتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف
والتشاجر اذا امرهم باتباع المختلفين.
ومنها: انه لا يكون واحد من الحجتين اولى بالنطق والحكم والامر والنهي عن الآخر،
فاذا كان هذا كذلك وجب عليهما ان يبتدئا بالكلام وليس لأحدهما ان يسبق صاحبه بشيء
اذا كانا في الامامة شرعاً واحداً، فان جاز لا حدهما السكوت جاز السكوت للآخر مثل
ذلك. واذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والاحكام وعطلت الحدود وصار الناس كأنهم لا
أمام لهم)[16].
وفي صحيحة الحسين بن ابي العلا، قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تكون الأرض لس فيها
إمام؟ قال: (لا)، قلت يكون إمامان؟ قال: (لا، إلاّ وأحدهما صامت)[17].
وفي كمال الدين للصدوق عن ابن ابي يعفور انه سأل ابا عبد الله عليه السلام : هل
يترك الأرض بغير إمام؟ قال: (لا)قلت: فيكون امامان؟ قال: (لا ، إلاّ واحدهما
صامت)[18].
كلمات اعلام اهل السنّة:
وقد صرح اعلام المسلمين بشكل قاطع بعدم جواز تعدد الولاية في بلاد المسلمين، وان
حكم السابق من الولاية هو النافذ واللاحق باطل.
ومن هؤلاء التفتازاني في شرحه على العقائد النفسية ص 138، والإمام الشافعي في الفقه
الاكبر، الطبعة الاولى، ص 39، واحمد بن يحيى المرتضى ، في البحر الزخار، 5/386،
وغيرهم، ونحن ننقل فيما يلي بعض كلمات الاعلام على سبيل الشاهد:
يقول الماوردي المتوفي سنة 450هـ في الاحكام السلطانية:(اذا عقدت الامامة لامامين
في بلدين لم تنعقد امامتهما لانه لا يجوز ان يكون للامة امامان في وقت واحد وان شذ
قوم فجوزوه).
واختلف الفقهاء في الامام منها، والصحيح في ذلك، وما عليه الفقهاء والمحققون ان
الامامة لأسبقهما بيعة وعقداً.. فاذا تعين السابق منهما استقرت له الامامة وعلى
المسبوق تسليم الأمر اليه والدخول في بيعته[19].
ويقول ابو العلي محمد بن الحسين الفراء الحنبلي المتوفي سنة 458 هـ.(ولا يجوز عقد
الامامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة، فان عقد لاثنين وجدت فيهما الشرائط، فان
كان في عقد واحد فالعقد باطل فيهما، وان كان العقد لكل واحد منهما على الانفراد،
فان علم السابق منهما بطل العقد الثاني)[20].
ويقول السيد صديق حسن في (الروضة الندية في شرح الدرر البهية) : (واذا كانت الامامة
الاسلامية مختصة بواحد، والامور راجعة اليه مربوطة به ، كما كان في ايام الصحابة
والتابعين، وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء به بعد ثبوت ولاية الاول ان
يقتل اذا لم يتب عن المنازعة)[21].
__________________________
[1] سنن البيهقي، حيدر آباد دكن(8/144 ـ (145)
[2] تاريخ الطبري 6/345 حوادث سنة 40 من الهجرة.
[3] والمخالف، والمخاليف،: جمع خلاف اي الناحية.
[4] الارشاد لإمام الحرمين، ص 425 ط السعادة بمصر.
[5] راجع البحر الزخار، 5/384 / مطبعة السنة المحمدية.
[6] راجع اصول الدين للبغدادي، ص 274، والبحر الزخار، 5/386
[7] صحيح مسلم بشرح النووي المطبعة المصرية 12/233 ـ 234.
[8] صحيح مسلم بشرح النووي المطبعة المصرية 12/230.
[9] سنن ابن ماجد2/204 سنن البيهقي8/144 والمحلي9/360
[10] صحيح مسلم بشرح النووي، 12/242وسنن البيهقي 8/144 ط مطبعة دار المعارف
العثمانية حيدر آبادر ومستدرك الحاكم 2/156.
[11] صحيح مسلم بشرح النووي12/241.
[12] سورة آل عمران،الآية 13.
[13] سورة المؤمنون ، الآية 52.
[14] نهج البلاغة باب الرسائل كتاب رقم (7).
[15] سنن البيهقي8/145، ط دائرة المعارف العثمانية حيدر اباد.
[16] عيون اخبار الامام 2/101 الباب 34 الجديث 1. وعلل الشرائع 1/254 الباب 182(باب
علل الشرائع) الحديث 9.
[17] اصول الكافي 1/178 كتاب الحجة باب ان الارض لا تخلو من حجة ج1.
[18] رواه المجلسي في البحار 25/106
[19] الاحكام السلطانية للماوردي ص 9 مطبعة مصطفى السباعي بمصر 1386هـ.
[20] الاحكام السلطانية لأبي العلي، ط اندونيسيا 1394هـ.
[21] الروضة الندية في شرح الدرر البهية للسيد صديق حسن ، ص 413، ط المطبعة
الاميرية مصر.