ثانيا : ضرورة إقامة الحكومة في عصر الغيبة
المجتمع الإسلامي بعد النبي الأكرم:
تبين لنا في الدرس السابق ضرورة تحرك المجتمع الإسلامي في ظل إشراف ورعاية النبي
والأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين عينهم الله تعالى.
فبعد عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) المبارك بقيت الأمة الإسلامية محرومة
من القيادة السياسية للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، إلا في مرحلة حكومة الإمام
علي عليه السلام التي كانت قصيرة. ولقد قام هؤلاء الأئمة العظام في مجال إعمال
الولاية الإلهية وخلافة النبي بتحقيق الأبعاد الأخرى للرسالة العظيمة، وبكل ما
يملكون من قوة حفظوا الدين وأحكامه وتعاليمه، ونشروا علومه وحقائقه، ووقفوا أمام
البدع والتحريف، وسعوا لهداية الأمة معنوياً والدفاع عن كيان الإسلام والمسلمين.
وكانوا أسوة حسنة في الإسلام وحججاً لله على خلقه بالقول والعمل والأخلاق، وحفظة
لدينه في جميع الأبعاد، وذلك لأنهم المظهر الكامل للعلم والأخلاق والتقوى والزهد
والعبادة والشجاعة وكل الصفات الحميدة الكمالات الإنسانية، ولم يبخلوا في لحظة
واحدة من عمرهم في الدفاع عن الحق والمظلومين ومواجهة الظالمين حتى لاقوا ربهم
شهداء بالقتل والسم بعد سنوات المعاناة الطويلة والسجون والعذاب.
بدأ عصر الغيبة والاحتجاب لصاحب الطلعة الغراء والشمس البهية، الإمام المعصوم (عليه
السلام)، في أواسط القرن الهجري الثالث. واقتضت الإرادة الإلهية أن لا تحصل الأمة
الإسلامية ـ التي لم تقدّر تلك المشاعل الوضاءة للهداية ـ على فيض حضور إمام العصر
(عليه السلام) وأن لا ترتبط به في العلن والظاهر.فغاب آخر حجة لله، الإمام محمد بن
الحسن العسكري (عليه السلام)، وإن كان فيض وجوده المبارك يسطع من وراء ستار الغيبة
على كل العالم، ويقيم كل ما سوى الله ببركة وجوده.
وتقسم هذه المرحلة إلى عصرين: الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى.
أ ـ الغيبة الصغرى: بدأ هذا العصر بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام
(سنة 260 للهحرة) واستمر لسبعين سنة. في هذا العصر كان للإمام أربعة سفراء هم:
عثمان بن سعيد العمري، ومحمد بن عثمان العمري، والحسين بن روح النوبختي وعلي بن
محمد السمري، توالوا على خدمة الشيعة كنواب خواص لإمام الزمان (عليه السلام)،
يجيبونهم عن حل مشكلاتهم ورفع احتياجاتهم. وقد كان كل واحد منهم عالماً موثقاً
يعتمد عليه الإمام في الارتباط بينه وبين الأمة (منتهى الآمال للشيخ عباس القمي).
ب ـ الغيبة الكبرى: بدأ هذا العصر مع وفاة آخر نائب خاص لإمام الزمان، ويستمر إلى
الوقت الذي سيظهر فيه الإمام. وفي هذا العصر جعل مقام النيابة العامة والخلافة عن
الإمام بعهدة "الفقهاء الجامعين للشرائط"، وأوكل إليهم مقام "الولاية والقيادة"
للأمة. وأضحت إطاعتهم واجبة. فولاية الفقيه فرع للولاية التشريعية للنبي (عليه
السلام) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ومخالفتها حرام.
والآن، بعد هذه المقدمة، نقوم بدراسة "لزوم إقامة الحكومة في عصر الغيبة" ودراسة ما
إذا كان على الأمة الإسلامية أن تبقى في هذا العصر في حالة الضياع والفوضى، ترضخ
لحكم الطواغيت أو أن الضرورة تقتضي إيجاد جهاز الحكومة بقيادة واعية عادلة أمينة؟
أدلة لزوم إقامة الحكومة الإسلامية:
الدليل الأول: الإسلام دين جامع وكامل
لقد جاء الإسلام والقرآن كآخر دين وقانون إلهي، وأنزله الله على قلب خاتم الأنبياء
(صلى الله عليه وآله) كدين يمثل الدين الأكمل والأكثر جامعية وشمولاًَ. فهذا الدين
يعتني بجميع احتياجات الإنسان ويضع لكل واحد منها برنامجاً وحكماً.
لم يُهمَل هذا الإنسان في دين الإسلام! فمنذ أن يكون نطفة وحتى يصبح في العالم
الآخر، يرعاه حكم للإسلام، وبالإضافة إلى البعد الفردي فقد حدد له أحكاماً للبعد
الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والحقوقي. وبناء على هذا، لا يصح أن لا يمتلك مثل
هذا الدين ـ الذي يعتبر نفسه جواباً لكل احتياجات المجتمع البشري، والذي به كان
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو خاتم الأنبياء ـ برنامجاً لإدارة المجتمع
ونظاما للحكم. فجامعية دين الإسلام وكماله يقتضيان أن يعين حاكما في عصر حضور
المعصوم (عليه السلام) وكذلك في غيبته، ويشخص الكفاءة والصلاح ولا يترك الناس بلا
تكليف.
الدليل الثاني: الإسلام دين عالمي خالد
إن دين الإسلام وأحكامه وقوانينه لا تنحصر بزمان أو مكان خاصين، بل هو دين عالمي
خالد لجميع الأجيال وكافة العصور، لم يختص بزمن النبي (صلى الله عليه وآله) أو
الأئمة المعصومين (عليهم السلام). فبناء على هذا، إن تطبيق قوانين الإسلام ونشر
معارفه في عصر غيبة الإمام من الأمور الضرورية، ولأجل تحقيق هذا الأمر لابد من
إقامة الحكومة وإنشاء أجهزة الحكم.
الدليل الثالث: ضرورة تطبيق الأحكام والقوانين
إن مجموع القوانين والأنظمة الاجتماعية ليس كافياً لإصلاح المجتمع. وهذا الأمر يصدق
بحق جميع القوانين. وبعبارة أخرى، إن أي قانون لا يكفي لوحده وبدون الأخذ بعين
الاعتبار وجود من يشرف على تطبيقه لأجل إصلاح المجتمع، وذلك لأن كل قانون إنما وضع
لكي يطبق وإلا أصبح لغواً بلا ثمر. ففائدة القوانين تحصل عندما تطبق وتتم رعايتها.
ومن جانب آخر، إذا أجرينا دراسة سريعة وعابرة فيما يتعلق بقوانين الإسلام، فإننا
سنصل إلى هذه الحقيقة، وهي أن للإسلام أحكاماً ومقررات تشكل نظاماً اجتماعياً خاصاً
بحيث إذا أردنا إجراءها على الأرض في الأبعاد الواسعة للثقافة والحقوق والسياسة
والاجتماع والاقتصاد، لاحتاج الأمر إلى وجود حكومة مقتدرة، حيث إن تطبيق أحكام
الإسلام غير ممكن بدون تحقق الحكومة الإسلامية! لان عدمها يعني تعطل الكثير من
الأحكام الإسلامية. والله تعالى لا يرضى بذلك أبداً. وهكذا، لابد من إقامة الحكومة
في عصر الغيبة لأجل إعمال الأحكام الإسلامية.
ونذكر الآن بعض النماذج من أحكام الإسلام كمثال:
1 ـ القوانين المالية:
إن القوانين المالية في الإسلام من قبيل الخمس والزكاة وغيرها تشكل ميزانية عامة قد
جعلت تحت تصرف الحاكم الإسلامي. وهذا الأمر يدل على أن هذه الميزانية الكبيرة لم
تكن فقط لأجل تأمين بعض احتياجات السادة الفقراء أو سائر المحرومين، بل لأجل تشكيل
الحكومة وتأمين إمكانياتها المالية ونفقاتها الضرورية في هذا المجال.
2 ـ أحكام الدفاع:
في الشريعة الإسلامية يوجد مجموعة من الأحكام المتعلقة بالدفاع عن حريم الدين
وأراضي المسلمين واستقلالهم. وعلى المسلمين أن يعدوا لهذا الدفاع وجهاد الأعداء
المعتدين كل ما يمكنهم من قوة. ومن الواضح جداً أن الدفاع عن الوطن والأنفس
والأموال، والوقوف بوجه المعتدين لا يمكن بدون تشكيل حكومة إسلامية، وتجهيز الجيوش
وتأمين الامكانات العسكرية والدفاعية، ووجود القيادة الكفوءة والعادلة.
4ـ الأحكام الحقوقية والجزائية:
إن القسم الأكبر من فقه الإسلام يتعلق بالأحكام الحقوقية والجزائية من قبيل أحكام
القضاء ورفع النزاعات واجراء الحدود والقصاص والديات وأحكام الزواج والطلاق. وهذا
كله من الشؤون الحكومية للإمام وولي أمر المسلمين. فإقامة هذه الأحكام وتطبيقها
منوط بوجود الحاكم الإسلامي، سواءً به أو بمن هو تحت إشرافه. وهذا الأمر يحتاج إلى
جهاز حكومي وجهاز قضائي منسجمين لأجل متابعة كافة القضايا المتعلقة بالحكم
والتنفيذ.
5 ـ الأحكام العبادية:
يوجد فيما يتعلق ببعض العبادات، كالصلاة والصوم والحج، أحكام تدل على أن أصل وجوبها
أو الوصول إلى روحها وحقيقتها لا يمكن أن يحصل بدون وجود حكومة إسلامية، وحاكمية
القائد والإمام العادل. ففي مجال صلاة الجماعة والجمعة والعيدين مثلاً، توجد روايات
تبين بالإضافة إلى أبعادها العبادية، أبعادها الحكومية والسياسية، وارتباطها
بالحاكم الإسلامي وشؤون الحكم.
فالإمام الرضا عليه السلام يذكر ضمن تعداد أسباب لزوم وجود ولي الأمر للمسلمين:
"ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم" (بحار الأنوار، ج6, ص60).
وكذلك في مورد الصوم، نصل إلى مجموعة من المسائل التي ترتبط بالشؤون الحكومية من
قبيل إثبات رؤية الهلال، والحكم ببداية شهر رمضان، أو بداية شهر شوال وعيد الفطر،
أو إجراء مراسم العيد. يقول الإمام الباقر عليه السلام:
"إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام
بالإفطار في ذلك اليوم" (وسائل الشيعة، ج5، ص104).
والحج أيضاً من العبادات ذات الأهداف السياسية والاجتماعية الكبرى، وقد جعلها الله
وسيلة لقيام وقوام الناس (راجع سورة المائدة، الآية 97).
وقد ورد في هذا المجال من الأحكام ما يدل على أن الحج كان من شؤون الحكومة
الإسلامية، حيث لا يمكن تحقق أهدافه السامية وروحه وحقيقته إلا تحت إشراف ولى أمر
المسلمين.
فقد جاء في بعض الروايات أن الناس لو تكاسلوا عن الحج وزيارة بيت الله، فعلى الإمام
أن يجبرهم على أداء هذه الفريضة الإلهية. ولو كان السبب عدم سعتهم المالية وتمكنهم،
فإنه يؤمن ذلك من بيت المال (وسائل الشيعة، ج8، ص16).
ويستفاد كذلك من روايات أخرى أن أعمال الحج ينبغي أن تؤدى تحت نظر حاكم وولي أمر
المسلمين. فسائر أعمال الحج من الانطلاق من مكة إلى عرفات ومنها إلى المشعر ومنى ثم
إلى مكة وتعيين يوم عرفة وعيد الأضحى ينبغي أن تكون تحت إشراف "أمير الحج" الذي
يعتبر ممثلاً للحاكم الإسلامي، ينبغي حضوره في جميع الأمكنة (وسائل الشيعة، ج1، ص5
و277).
وروايات أخرى تدل على أن على الحجاج بعد إنهاء مراسم الحج الرجوع إلى الوطن، أن
يلتقوا بإمام المسلمين ويعلنوا له عن وفائهم ومحبتهم. (وسائل الشيعة، ج10، ص252).
ثم يأخذوا منه الأوامر اللازمة في المجالات السياسية والاجتماعية والعسكرية
والاقتصادية والدينية لينقلوها إلى أبناء وطنهم ويعرفوهم على فكر وآراء القائد.
الدليل الرابع: السيرة العملية للنبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه
السلام)
بناءً على سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام)، يعتبر أصل
"تشكيل الحكومة" جزءاً من مجموع برامج الإسلام. فلم يكن النبي (صلى الله عليه وآله)
يكتفي بإبلاغ الوحي وتبيين الأحكام، بل قام بتشكيل الحكومة وتولى قيادتها وأرسل
الولاة والقادة إلى الأمصار والمناطق، وقام بالمعاهدات وشن الحروب. وبمعزل عن هذا،
فقد عين ـ طبق حديث الغدير ومجموع الأدلة الأخرى ـ خليفة وحاكماً من بعده. وهذا
الأمر يدل على ضرورة استمرار الحكومة لما بعد عصر الرسالة الخاصة. ولم يكن عند أحد
من المسلمين أدنى شك في لزوم الحكومة، بل كان اختلافهم حول شخصية الخليفة طريقة
تعيينيه.
بناء على هذا، فإن أصل "ضرورة إيجاد الحكومة، وتعيين الحاكم لإدارة المجتمع
الإسلامي" كان جزءاً من السيرة العملية للنبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين
(عليه السلام).