ثالثاً: في أدلة إثبات ولاية الفقيه
ذكرنا في الدرس السابق أن "الفقهاء الجامعين للشرائط" قد عينوا من جانب الأئمة
المعصومين (عليهم السلام) في المناصب الثلاثة: الإفتاء، القضاء، وقيادة المسلمين،
وذلك في عصر غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام). والآن نقوم بدراسة الأدلة التي
تثبت هذه النظرية.
1 ـ المرجعية في الإفتاء وبيان الأحكام
من المسلم أن المقام هو للفقهاء في زمن الغيبة، وقد أوكل إليهم بالبيان الصريح من
جانب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ولا يخالفه أحد.
يقول الإمام الحسن العسكري عليه السلام:
"فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر
مولاه فللعوام أن يقلدوه" (الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني، ص130، مركز بقية
الله الأعظم، الطبعة الأولى، 1998، بيروت).
بناء على هذا، فإن الفقهاء قد نصبوا في عصر الغيبة بمقام النيابة العامة للإمام
المعصوم (عليه السلام)، وعلى الأمة الإسلامية أن تتبعهم في مجال معرفة الحلال
والحرام وأحكام الدين.
2 ـ القضاء والفصل في الخصومة
إن منصب القضاء والفصل في الخصومات هو في الأصل للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وقد أوكل للفقهاء في عصر الغيبة. هذا الايكال هو
من جانب الإمام المعصوم (عليه السلام) وعلى الناس أن يرجعوا إليهم في نزاعاتهم
وأمورهم الحقوقية وأن يعملوا برأيهم المطابق للأحكام الإلهية، فمن هذه الناحية تثبت
الولاية للفقيه.
يقول أبي خديجة: أمرني الإمام الصادق (عليه السلام) أن أوصل هذا الأمر للشيعة وهو:
"إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد
من هؤلاء الفساق. اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم
قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر" (الحكومة الإسلامية،
الإمام الخميني، ص130، مركز بقية الله الأعظم، الطبعة الأولى، 1998، بيروت).
فقد نصب الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث الفقيه في منصب القضاء، ونهى
الشيعة عن الرجوع إلى القاضي الفاسق والمعين من قبل السلطان الجائر.
3 ـ القيادة السياسية والاجتماعية
من المناصب الأخرى للفقيه: الزعامة السياسية والاجتماعية للناس، وتشكيل الحكومة
الإسلامية وإدارة أمور المجتمع الإسلامي ورعايته في عصر الغيبة. بمعنى أن الفقيه
كالنبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) في امتلاك حق الولاية على الأمة
وإقامة الحكومة والتدخل والإشراف على سائر الأمور المتعلقة بإدارة المجتمع
الإسلامي. وقد عين في هذا المجال من قبل الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأئمة
الهدى (عليهم السلام) لقيادة الأمة الإسلامية.
نقوم الآن بدراسة الأدلة التي تثبت هذا البعد.
الدليل العقلي:
حيث ان الوصول إلى الإمام المعصوم في عصر الغيبة غير متيسر، وبما أن تطبيق الأحكام
الإلهية وإقامة الحكومة من الضروريات، فمن اللازم وجود من يتولى هذه الولاية
والإدارة. ولأجل تحقق هذا المقصد يوجد طريقان:
1 ـ ولاية الفقيه العادل.
2 ـ ولاية غير الفقيه وغير العادل.
إن كل إنسان إذا أدرك بعقله معنى ولاية الفقيه العادل ومفهومه، فإنه سيحكم مباشرة
أن غير الفقيه وغير العادل لا يليق للولاية والحكومة.
فالذي يمكنه أن يقيم الحكومة الإسلامية ويطبقها في المجتمع هو العالم بأحكام
الإسلام ونمط الإدارة الإسلامية، الذي يلتزم جانب التقوى والالتزام، فلا يضيع مصالح
البلد فداء لميوله وأهوائه النفسانية والشيطانية. وبالإضافة إلى هذا، فإن العقل
يحكم ليس فقط في مجال الحكومة الإسلامية، بل في مجال أية حكومة أن الجاهل والمحب
للجاه والسلطة لا يكون لائقاً للحكم. فالفقيه العارف بأحكام الإسلام وأحوال الزمان،
والحائز على صفات التقوى والعدالة والإدارة والكفاءة وغيرها من الصفات الكمالية
اللازمة، هو الأكثر لياقة من غيره لهذا الأمر الحساس.
يقول الإمام الخميني (قدس سره) في هذا المجال:
"وولاية الفقيه من المواضيع التي يوجب تصورها التصديق بها، فهي لا تحتاج لأية
برهنة. وذلك بمعنى أن كل من أدرك العقائد والأحكام الإسلامية ولو إجمالاً، وبمجرد
أن يصل إلى ولاية الفقيه ويتصورها فسيصدق بها فوراً، وسيجدها ضرورية
وبديهية.."(المصدر السابق).
الدليل النقلي:
في هذا المجال يوجد مجموعة كبيرة من الروايات التي نقلت عن النبي صلى الله عليه
وآله والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، نشير إلى البعض منها:
الروايات التي تشير إلى مقام العلماء: فقد وردت مجموعة من الروايات التي تشير إلى
موقعية علماء الدين ووصفتهم بالحافظين للدين والأمناء والخلفاء والورثة للنبي (صلى
الله عليه وآله). وهذه العبارات تدل على وظائف ومسؤوليات هذه الفئة بشكل واضح وليس
مجرد الألقاب والتزلف، لأن هذا بعيد عن ساحة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام
(عليه السلام).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال ثلاثاً:
"اللهم ارحم خلفائي".
فسئل: ومن خلفاؤك؟
قال: "الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي" (اصول
الكافي، ج1، ص37).
وهذا الحديث يشمل الذين يستنبطون العلوم والأحكام الإسلامية وسنة النبي الأكرم (صلى
الله عليه وآله) بالاجتهاد من القرآن والروايات ويعلمونها الناس، وليس مجرد النقل
والبيان.
ولكلمة "الخليفة" معان واسعة. فالخليفة تقال لمن يحل محل غيره في مسؤولياته
ووظائفه، ونحن نعلم أن من وظائف النبي (صلى الله عليه وآله) تبليغ الأحكام وبيانها
للناس وتطبيقها وإدارة المجتمع والحكومة. فالفقهاء يخلفون النبي في جميع شؤونه
ومنها قيادة الأمة ما عدا تلقي الوحي.
يقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):
"الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في
الدنيا؟ قال: اتباع السلطان. فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم". (وسائل الشيعة ,
ج18, ص101).
وفي هذه الرواية تم تعريف الفقهاء تحت عنوان الأمناء المعتمدين للرسل. وهذا يعني!ا
أن الفقهاء العدول مكلفون بأداء جميع الأمور التي تقع على عاتق الأنبياء (عليهم
السلام). ومن هنا يمكن القول: إن الفقهاء أمناء الرسل في تطبيق القوانين وقيادة
الجيوش وإدارة المجتمع والدفاع عن الأحكام والأمة الإسلامية والقضاء و..، وعليهم أن
يقوموا بذلك. وينقل علي بن حمزة عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال في
مورد الإشارة إلى أن موت الفقيه ثلمة في الإسلام لا يجبرها شيء: "لأن المؤمنين
الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها".
ففي هذا الحديث بيّن الإمام الكاظم (عليه السلام) أن حفظ الإسلام بعقائده وأحكامه
يعتبر أحد المسؤوليات الملقاة على عاتق الفقهاء. ومن الواضح أن إقامة الحكومة
الإسلامية ووجود الفقيه على رأس الأمور من أفضل الأعمال التي تحفظ حريم الإسلام.
لأن الفقيه إذا اعتزل المجتمع ولم يأخذ بزمام الأمور ولم يتدخل في القضايا
الاجتماعية والقضائية والسياسية، فلن يقال له أنه حافظ للإسلام، وحصن له.
1 ـ رواية عمر بن حنظلة
"سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو
ميراث فتحاكما إلى السلطان والى القضاء، أيحل ذلك؟ قال: "من تحاكم إليهم في حق أو
باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنه يأخذه سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً
له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى {يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}. فقلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى
من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به
حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف
بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله" (أصول
الكافي، كتاب فضل العلم, باب اختلاف الحديث, الحديث 10).
في بداية هذه الرواية يبيّن لنا الإمام الصادق (عليه السلام) حكماً كلياً وعاماً،
وهو أن كل من يرجع إلى قضاة وسلاطين الجور في دعوى له، حقاً كانت أم باطلاً، فقد
رجع إلى الطاغوت وهذا حرام بحد ذاته. فهذا حكم فقهي وسياسي للإسلام يؤدي إلى تجنب
المسلمين الرجوع إلى القضاة والأجهزة التابعة للدولة الجائرة، وتكون النتيجة أن
تصبح هذه الأجهزة القضائية والحكومية فاقدة للاعتبار ومنزوية، مما يشكل خطوة تحقق
إقامة القضاء والحكومة الإسلامية، وهذا ما يسمى اليوم بوجود دولة ضمن الدولة. ويمثل
هذا الحكم نوعاً من المواجهة السلبية ضد حكام الجور، ودعوة إلى الحكومة والقضاء
الشرعي الإلهي. وحيث قد بيّن هذا الحكم بشكل عام وكلي، فإنه يشمل زمن غيبة الإمام
المعصوم (عليه السلام).
في القسم الثاني للرواية يُسأل الإمام الصادق: ما هي وظيفة الأمة الإسلامية؟ وماذا
يجب أن تفعل في هذا المجال؟ وفي جوابه عن هذا السؤال يبيّنا لخصائص التي ينبغي أن
تنطبق على المجتهد الجامع للشرائط. فمثل هذا الفقيه هو الذي ينصبه الإمام للقضاء
والحكومة.
وهذه الرواية تثبت، بالإضافة إلى منصب القضاء، منصب "ولاية وقيادة الفقيه"، لأن
الإمام قد قال: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً". أي أن ولاية الفقيه الجامع للشرائط
تعتبر ولاية مجعولة من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام). وذلك لورود صيغة فعل
"جعلته". وبمعزل عن هذا، لو كان مراد الإمام الصادق (عليه السلام) منصب القضاء فقط،
لكان قال "بينكم" بدلاً من "عليكم". فإذا قال: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً"، فهو
مرجعكم في الأمور الحكومية والأمور القضائية. فإذا كان حاكماً فسوف يكون قاضياً
أيضاً. هذا، إن كان موضوع السؤال في الرواية هو النزاع في الدين أو الميراث وقضية
القضاء والفصل في الخصومة، ولكن الإمام المعصوم بنفي حكام الجور، قد نصب الفقهاء
للولاية والقيادة والحكومة وليس للقضاء فقط.
2 ـ أحاديث وظيفة الشيعة في زمن الغيبة
هناك بعض الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وفيها تتحدد وظيفة
الشيعة في عصر غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام). ومنها ما جاء في التوقيع عن إمام
الزمان (عليه السلام) في جواب إسحاق بن يعقوب الذي سأله عن بعض المسائل: "وأما
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنه حجتي عليكم وأنا حجة الله
عليهم". (كما الدين، ج2, ص484, باب التوقيعات، الحديث 4).
ففي هذه الرواية حدد تكليف الأفراد في مجال "الحوادث الواقعة"، والمراد منها كل
واقعة فردية اجتماعية، سياسية وحكومية، وفيها يأمر إمام الزمان (عليه السلام)
بالرجوع إلى "رواة حديثنا"، في الحوادث والمشكلات، وهؤلاء هم الفقهاء. يقول المرحوم
الشيخ الأنصارى: "إن المراد من الحوادث هو في الظاهر مطلق القضايا التي لابد للناس
فيها بحكم العرف أو العقل أو الشرع، من مراجعة الرئيس أو الحاكم. أما أن يكون
المقصود منها مجرد المسائل الشرعية في الحلال والحرام فهو بعيد من جهات عدة:
أ ـ أن الإمام يرجع الناس في أصل الحوادث إلى الفقهاء وليس في حكم الحوادث. فلم يقل
الإمام للناس: ارجعوا إلى الفقهاء في أحكام الحوادث، حتى نقول عندها ان الفقهاء
يمثلون حجة ونيابة للإمام في بيان الحلال والحرام وإصدار الفتاوى. وانما قال:
ارجعوا في نفس الحوادث إلى الفقهاء.
ب ـ يستفاد من تعبير "فإنهم حجتي عليكم" إن الفقهاء معينون من قبل الإمام في مجال
الأمور التي تعد من شؤون إمامة وقيادة المجتمع. ولو كان هذا التعيين مقتصراً على
بيان الأحكام الإلهية، لكان من المناسب أن يقول: "فإنهم حجج الله"، لأن الإمام كما
أنه مبين الأحكام الإلهية فهو حجة الله، فالفقهاء من هذه الناحية هم حجج الله لا
حجة إمام الزمان (عليه السلام). فالفقهاء إذاً، حجة إمام الزمان (عليه السلام)
لأنهم يتولون الأمور والأعمال التي يتولاها الإمام لو كان حاضراً، ومنها قيادة
المجتمع الإسلامي.
ج ـ لقد كان الرجوع إلى الفقهاء في مسائل الحلال والحرام وتبيين الأحكام من القضايا
الشائعة والعادية للمسلمين ومن بديهيات الإسلام. ومثل هذه القضية الواضحة لا ينبغي
أن تخفى على شخص مثل إسحاق بن يعقوب، بحيث يجعلها ضمن المسائل المشكلة. خلافاً
للمسائل الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالمصالح العامة للمسلمين التي أمر فيها
الإمام بالرجوع إلى العلماء والفقهاء.
3 ـ خطبة الإمام الحسين (ع) في منى
من الروايات الأخرى التي يمكن الاستناد إليها في مجال "إثبات ولاية الفقيه" ما ورد
عن الإمام الحسين عليه السلام في خطبته المشهورة في منى. ففيها يخاطب العلماء،
ويلومهم بالتوبيخ على ترك الأمور للظالمين وحكام الجور، فيقول عليه السلام:
"وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون. ذلك بأن
مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم
المسلوبون تلك المنزلة. وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد
البينة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤنة في ذات الله كانت أمور الله
عليكم ترد، وعنكم تصدر وإليكم ترجع. ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور
الله في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات" (تحف العقول, ص172).
بالالتفات إلى صدر الكلام وذيله يتضح أن الخطاب التوبيخي متوجه إلى العلماء.
فالعالم بالله الذي هو عالم بأحكام وقوانين الله هو الذي يتحمل مسؤولية الإمساك
بزمام أمور المجتمع وقيادة الأمة، وينبغي الوقوف مقابل وقوع ذلك بأيدي الظالمين.
وعليه، من مجموع الروايات التي ذكرت، نستنتج أن الفقهاء الجامعين للشرائط معينون في
عصر الغيبة مقام الخلافة عنه (عجل الله فرجه) لقيادة الأمة الإسلامية، وعلى الناس
أن يرجعوا إليهم ويطيعوهم.