حالة تساوي الفقهاء هل تنتج الشورى؟
لو تساوى الفقهاء في الصفات، فهل التشاور وارد أم ماذا؟
قد نجد في هذا الفرض من يلجأ إلى الشورى معتمداً على ما يلي:
الأول: قوله عز وجل: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا
من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله
يحبّ المتوكلين}(آل عمران:159).
فإذا كان الله يطلب من رسوله مشاورة أصحابه، فالفقيه مأمور بذلك بالأولوية نظراً
للفرق الهائل بينه وبين الرسول(ص)، ونظراً لتفوّق الفقيه على كثير من الصحابة في
العلم والخبرة، فلابدّ من الشورى بين الفقهاء ليتم الحكم في البلاد.
والجواب: ان المشاورة في الآية مستحبة لا واجبة، بشهادة السياق واقترانها بالعفو
والاستغفار المندوبين بلا شك، فلا ظهور لها في مطلوبكم أصلاً. هذا أولاً.
وثانياً: ان القيادة حق لرسول الله(ص)، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فلا سلطان
لأحد معه أبداً؛ فمشاورته لهم تواضع منه ورحمة بالأمة، واكتشاف للمواهب، وبعث الثقة
في النفس، وظهور إخلاص المخلص، وفضح المنافق، وتعويد لهم على الوحدة. فهذه هي بركات
المشاورة.
وثالثاً: لو كان الصحابة شركاء مع الرسول(ص) في صنع القرار بحيث لا ينفذ إلاّ إذا
أخذ رأيهم لكان كل واحد منهم رئيساً مساوياً لرسول الله(ص)، ولما كان هناك مرؤوس
سوى الصبيان والمجانين الذين لا رأي لهم! وهذا المعنى باطل بالبداهة؛ فعلى الكل
إطاعته، ومن عصاه هلك.
رابعاً: ان نفس الآية تنفي حتى التشاور المزعوم، لأنها تأمر الرسول(ص) بالمضي
والتوكل على الله بمجرد العزم، سواء وافقه الناس أم خالفوه؛ ولو كانوا شركاء في
القرار لما أمره الله بالمضي والتوكل إلاّ بعد موافقة الجميع لا بعد عزمه هو فقط.
وخامساً: ان الأمر في الآية الشريفة بمعنى الشيء لا بمعنى الطلب والتشريع، فبناء
مسجد ـ مثلاً ـ أمر من الأمور وشيء من الأشياء، بينما الأمر ببنائه طلب وتشريع.
والآية تدل على حق التشاور لو كان بمعنى الطلب ليكون صدور الأمر من الجميع، ولتتم
الموافقة من الكل. بينما الأمر بمعنى الشيء يعني التداول في الرأي، فيبدي كل واحد
وجهة نظره حوله، ويكون بالتالي إصدار القرار له سواء اتفقوا على رأي أم اختلفوا،
فتبقى له(ص) كلمة الفصل ولا قيمة لاتفاقهم إذا لم يصدر القرار.
وبعبارة أخرى: لو وجبت مشاورتهم لبقي صدور الأمر منه وحده بحيث يكون التشاور شرطاً
لصدور الأمر، سواء وافقهم أم خالفهم، والأمر في الآية ظاهر بمعنى الشيء، لما تدل
عليه كلمة (شاور) و (في) فهي واضحة في التداول حول الشيء، وليست واضحة في استصدار
أوامر وطلب قرارات. فالآية لا تطلب أخذ الأوامر منهم ولا تفرض عليهم إصدار القرارات
حتى تكون دالة على حق الشورى.
الثاني: قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون}(الشورى:38).
فالآية معطوفة على ما مضى من صفات حسنة في آيات سابقة، فما عند الله خير وأبقى
للمؤمنين المتوكلين على ربّهم، والمجتنبين كبائر الآثام، والذين يغفرون إذا غضبوا،
ويستجيبون لربّهم، ويقيمون الصلاة، وأمرهم شورى بينهم؛ فالتشاور في الأمور مطلوب
ومن علامات الإيمان، فلا يجوز الاستبداد بالرأي.
والجواب: ان الآية لا تدل على وجوب الشورى، بل على حسنها بشكل عام، فسياق الآيات
شاهد على ذلك، ففيها المندوب معطوف على الواجب وبالعكس، فلا دلالة بعد على وجوب
لشورى، وخاصة أنها واردة بجملة اسمية لا طلبية، وقد مر معنا سابقاً بيان محاسن
الشورى المبرر لذكر الله لها. هذا أولاً.
وثانياً: لو كانت الشورى أسلوب حكم في الإسلام لذكر النبي(ص) حدودها وتفاصيلها من
حيث الأشياء التي تدخلها الشورى، ومن حيث الأشخاص الذين لهم حق إبداء الرأي، وكيفية
الحل إذا اختلفت الآراء، ونحو ذلك من ملابساتها؛ فالإسلام يبيّنها كما بيّن أجزاء
الصلاة وتفاصيلها وغيرها من العبادات التي اخترعها الإسلام وجاء بها. وهذه الأمور
غير موجودة حول الشورى أبداً، وهذا يعني أنها ليست طريقة حكم في الإسلام.
وثالثاً: ماذا تعني كلمة "أمرهم"؟ هل هي التشريع أو مطلق الشيء؟
لاشك في بطلان الشق الأول فالتشريع لله لا للبشر، فحكم الله مفروض من السماء لا من
شورى الناس. كما لاشك في عدم وجوب التشاور في الثاني، أي في مطلق الشيء، فلا يجب
على من يريد الزواج أن يستشير ولا على من يفكر بالسفر ولا بتفصيل ثوب ولا ببناء
منزل و... و... إلخ.
ورابعاً: لو كانت كلمة الأمر هنا تعني الحكم للزم بطلان خلافة وولاية كل الناس حتى
رسول الله(ص)؛ فالله قد فرض سلطانه لا عن مشورة، فالمنافقون ليسوا راضين بحكومة
الرسول. وأمير المؤمنين(ع) قد حكم من دون رضا أهل الشام فلم يبايعوه، بل حاربوه،
وأبو بكر قد حكم من دون رضا أمير المؤمنين(ع) وحزبه، كما حكم عمر بن الخطاب بوصية
من أبي بكر لا من تشاريع المسلمين في المسألة، وهكذا حال الحكام من بني أمية
والعباس، فهم يأتون بالوصاية من واحد حيناً وبالقهر والسيف حيناً آخر.. ولا شك في
بطلان اللازم لأن ولاية المعصوم صحيحة شاء الناس أم رفضوا، فالآية لا تعني حق
الشورى في الحكم أبداً.
وخامساً: قد مرّ معنا سابقاً في نقاشنا مع ابن خلدون أن الشورى أسلوب فاشل للحصول
على الحكم الصالح، فالشعب يختار السيئ كما نرى، فلا يمكن لله تعالى أن يجعل هذا
الأسلوب الفاشل سبيلاً للوصول إلى أخطر منصب وأهم قضية وهي قضية الحكم.
الثالث: ان أمير المؤمنين(ع) قد أخذ البيعة التي هي لون من ألوان الشورى، فلا مناص
للفقيه من التزام هذا الأسلوب.
والجواب: ان الإمام(ع) أخذ البيعة ليتحقق من رضا الناس به لا لتثبت شرعية سلطانه؛
فالله تعالى جعله خليفة منذ أول أيام الإسلام، من يوم الدار. هذا أولاً.
وثانياً: ان البيعة ليست شورى في الحكم ولا في اتخاذ القرار، فالحاكم يستقل في
قراره، بل لا يعرف الشعب أحياناً قرار الحاكم حتى ولو كان الشعب انتخب الحاكم.
فالبيعة إعلان ولاء للحاكم ورضا به منذ البداية.
وثالثاً: ان أمير المؤمنين(ع) حورب ونكثوا بيعته فحاربهم ولم يبال برفضهم، وهذا
واضح في أن البيعة لا تعطي ولاية، وأن الحكم في الإسلام ليس شورى، لأنه لا حق له في
حرب المعارضين الذين سحبوا تأييدهم منه، واستعملوا حقهم الشخصي، تماماً كما يستعمل
أحدنا متاعه فيرفض إباحته للناس بعد أن أوجدها، ولا يستحق اللوم من أحد. فقتاله لهم
يعني أن حقه سماوي من الله تعالى، ويحاربهم ليعترفوا بالحق وأهله ويعودوا لله
تعالى، تماماً كما حارب رسول الله (ص) لإقرار حقه السماوي وتركيز دين الله في
الأرض.
فالصواب هو أن الجعل للأفضل الذي يتعين تسليم الأمور إليه لو كان هناك أفضل، وقد
ذكرنا برهان ذلك سابقاً.
وإذا لم يكن هناك أفضل، بل كان الكل متساوين في الصفات الخيرة، كانت الأمة مخيرة
بين أولئك الأعلام، لأن أدلة الجعل تتناول الجميع معاً في عرض واحد، وحيث يمتنع
تعدد القادة معاً لأن ذلك يخلق فوضى مريعة، وتذهب الأمة صريعة اختلاف وجهات النظر
ويصبح الكرسي مركز تناحر لا مركز قيادة {لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا}؛
فدفعاً للفساد المحتوم تعين أن يختار الشعب قائده الفعلي، لأن المسألة تعنيه بشكل
مباشر، وكل واحد منهم وليّ شرعاً بحد ذاته.
وممارسة صلاحيتهم معاً كما هو شأن القضاة في البقاع المتعددة أمر متعذر، فلابدّ من
أن تختار الأمة ممثّلها من بين هؤلاء، والاختيار سنة العقلاء عند تساوي أهل الخبرة
من كل الجهات.