مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه

ولاية الفقيه في زمن المعصوم



لا ولاية للفقيه في زمن الحضور من الرسول أو الإمام(ع)؛ فللمعصوم فعل ما يريد، فله أن يجعل غير الفقيه المجتهد والياً على البقاع إذا رأى ذلك مناسباً، ولكن نحن نعلم أن حكمة المعصوم تدفعه لجعل الفقهاء ولاة على المناطق. وعلمنا بالتنصيب شيء وكون المنصوب ذا حق ذاتي شيء آخر. ولعل هذا الحكم من الواضحات فلا يستحق الإطالة.
الفرق بين الحكم والفتوى
من المعروف جواز الخروج على فتوى المفتي دون حكم الحاكم، مع أن هذا وتلك قراران شرعيان، فما هو الفرق بينهما؟
يقول السيد أبو القاسم الخوئي في التفرقة بين القضاء والفتوى ما لفظه: "والفرق بينه وبين الفتوى أن الفتوى عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها، الفتوى لا تكون حجة إلاّ على من يجب عليه تقليد للمفتي بها، والعبرة في التطبيق إنما هي بنظره دون نظر المفتي.
وأما القضاء فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الترافع والتشاجر، فيحكم القاضي بأن المال الفلاني لزيد أو أن المرأة الفلانية زوجة فلان وما شاكل ذلك، وهو نافذ على كل أحد حتى إذا كان المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً"(32).
وهذا الفرق ليس بصحيح؛ لأن القاضي يعطي حكماً كلّياً بجوهره ومغزاه كالفتوى تماماً، فعندما يحكم بزوجية امرأة عقد عليها باللغة الهندية مع حالة قدرة الزوجين على اللغة العربية يكون القاضي قد أصدر حكماً كلّياً بالحقيقة، وهو صحة العقد بغير اللغة العربية، فهذا لازم قهري لتطبيقه رأيه الديني على تلك القضية الخاصة. هذا أولاً.
وثانياً: ان الحادثة هي الموضوع الذي يصدر القاضي عليه حكمه تماماً، فالموضوع الذي يفترضه المفتي ويعطيه حكمه، كحكمه بطهارة الماء المتغير من قبل نفسه، فهل المفتي هنا مطبق أم أنه غير مطبق؟
فإن كان مطبقاً كان الفرق بينه وبين القاضي ضائعاً لأن التطبيق مهمة لهما، وإن كان المفتي غير مطبق كان القاضي كذلك، فلا يكون فرق بينهما إلاّ في أن موضوع المفتي افتراضي يشمل الحاضر والآتي، بينما موضوع القاضي فعلي جاهز في عالم الخارج قد اطلع عليه القاضي وأصدر الحكم. ومثل هذا ليس فارقاً بالبداهة.
وثالثاً: قد يقدم الشخص موضوعاً جاهزاً للمفتي ويعرض له حالته المعينة فيعطيه الحكم الشرعي المناسب، تماماً كالقاضي الذي يصدر حكماً على الموضوع الجاهز. فهل صار المفتي قاضياً هنا؟ أو هل صار القاضي مفتياً؟! أو هل صار الفقيه هذا وذاك معاً؟! وأين الخصومة هنا ليكون قاضياً؟
ورابعاً: قد يطبق المفتي الحكم على مصاديقه الخارجية، وهذا ليس ممنوعاً عليه بل هو حسن، لأنه يساعد المقلدين على فهم الحكم أكثر عندما يضرب الأمثلة. فهل صار المفتي قاضياً عندما طبق الموضوع على مصداقه؟! وكيف يكون التطبيق ـ إذن ـ هو الفارق بينهما ما دام التطبيق من محسنات الفتوى؟!
وخامساً: ان العلماء ألّفوا في الفقه ومنه القضاء، فما الفرق بين مسائله ومسائل الميراث مثلاً؟ فالواضح أن الفقيه مفتٍ في البابين بلا فرق بينهما. وعندما يأتي تطبيق تلك الفتاوى من العالم المؤلف نفسه على مواضيعها الخارجية، ويطبق نفس ما كتبه في كلا البابين، فلماذا يسمى قاضياً في تطبيق فتوى القضاء دون تطبيق فتوى الميراث الذي لا فرق بينه وبين ذاك أصلاً؟!
ويقول السيد الحكيم(قده) في بحث جواز نقض حكم الحاكم قولاً يدل على الفرق بين الحكم والفتوى؛ فالأول صادر على نحو الموضوعية، بينما الفتوى صادرة على نحو الطريقية. ففرق هناك بين قول المجتهد: هذا نجس، وبين قوله: حكمت بأن هذا نجس. فإذا عرفنا بالخطأ في الأول يسقط عن الحجة، دون علمنا بالخطأ في الثاني فيبقى حجة. لأن الحكم منصب وولاية، فحكم الحاكم نظير حكم الوالي والأمير واجب الاتباع ولو مع العلم بالخطأ، ما دام يحتمل موافقته للواقع. ثم أخذ (قده) يناقش الفكرة حتى ألغى فكرة موضوعية الحكم، وبيّن أنه على نحو الطريقية(33). وهو (قده) قد خرج بنتيجة عدم الفرق بينهما، ولو كان بحثه معقوداً لشيء آخر، ولكن حديثه لا يساعد على التفرقة بين الحكم والفتوى. فراجع.
فالحق في المقام هو أن الفتوى صادرة من المرء من باب كونه عارفاً بالحكم الشرعي وخبيراً به، سواء كان مجتهداً أم عامياً علم الحكم من مصدره وأعطاه لغيره، كما لو سأل الإمام(ع) فلا يستعمل المفتي أية صلاحية ولا يستخدم أي مركز عندما يفتي ويقول غسل الجمعة مندوب ـ مثلاً ـ استنباطاً لذلك من الأدلة أو نقلاً عن المعصوم(ع)، فهو يتكلم من باب أنه عالم بالمسألة وخبير بها وكفى. فالإفتاء بيان حكم شرعي ولا يشترط فيه المركزية ولا الاجتهاد كما رأينا، ولا أن يكون ذا شعبية تقلده وترجع إليه. فالفتوى التي يعطيها نافذة عليه قبل غيره لأنه يعطيها من باب أنها حكم الله في الشيء الفلاني، فلا يجوز خلافه.
وأما الحكم فإنه صادر من المرء من باب كونه ذا سلطة على المجتمع ومديراً له ويرعاه، ولذا لو كان الفقيه فاسقاً ـ والعياذ بالله ـ كان حكمه مرفوضاً لعدم سلطانه، بينما فتواه نافذة بحقه ولا يجوز له الخروج عليها، لأنه يرى الواقع ويرى أن حكم الله كذا. ولذا لا مسرح لحكم الحاكم سوى الأمور العامة المتعلقة بإدارة الناس، فلذا لا يجوز لأحد أن يهدمه لأنه ينقض سلطانه الثابت له أكيداً، بينما الفتيا التي هي رؤيا شخصية لحكم الله تعالى يجوز الخروج عليها لصاحب رؤيا شخصية معاكسة، ولا يكون أحدهما هدم الآخر لأن لكل منهما فهمه الخاص وهو حجة عليه.
وحكم الحاكم في الموضوعات طريق للواقع، فلو حكم على فلانة بأنها خلية وأنت تعلم أكيداً أنها ذات بعل لما جاز لك زواجها، لأن حكمه لا يقلب الواقع عما هو عليه.
وأما حكمه في المفاهيم فهو حجة على الجميع، لأنه من باب العناوين الثانوية الناتجة عن ممارسة السلطات، ويمكن فيها انكشاف الخلاف، كما لو قال حكمت عليكم بحرمة السفر غداً، فالسفر بذاته مباح والفتوى بإباحته لا قيمة لها هنا لأنها حكم أولي، بينما التحريم حكم ثانوي قد صدر بعد أن أعمل الفقيه سلطانه لمصلحة ما، وعلى كل واحد من المجتهدين تنفيذ قراره، لأن الردّ عليه ردّ على الله تعالى حتى ولو كانوا يرون أن الحكم الثانوي شيء آخر، فولاية لا تهدم ولاية، نعم له إلغاء هذا الحكم لأمر أو لآخر، وقد يكون الخطأ في أسباب القرار، لو اتضح أنه لا يحتاج للرجال غداً كما كان معتقداً، وحرم عليهم السفر ليبقوا حوله. فقد اتضح الحال له أو لغيره بعد صدور حكمه بالتحريم وإعمال ولايته، فهنا نعلم أن القرار فارغ المحتوى وأنه بلا مبرر واقعاً، وأنه أشبه بالتلهي، فلا يكون الردّ عليه ردّاً على الله، ولا تساعد الحكمة تنفيذ قرار كهذا. وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: يا رسول الله(ص)، تأمرني بالأمر فأذهب إليه، فأكون كالسكة المحماة (أي لا يتريث بل يمضي على وجهه تماماً كقطعة الحديد الحامية التي تشق طريقها في لحم لامسها من دون تروٍّ؛ أو أن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب).
فأجابه الرسول(ص): "بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب".

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية