حدود ولاية الفقيه
الفقيه حاكم المجتمع وصلاحيته واسعة جداً كصلاحية المعصوم تماماً من دون فرق بينهما
في ذلك للأدلة التالية:
الأول: قوله عز وجل: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون
لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً}(الأحزاب:36).
فأنت حر في نفسك إلاّ أن يقضي الرسول(ص) عليك. فهنا لا خيار لك فحكم الرسول ينفذ،
سواء حكم بسفرك أم سهرك، أم زواجك أم طلاق زوجتك، أم بيع دارك أم أي شيء آخر، فعليك
التنفيذ، ولا يجوز لك العصيان بأي شكل.
وهذه الصلاحية ثابتة له من باب أنه حاكم فقط لا من باب أنه نبيّ ولا من باب أنه
معصوم؛ فهي ثابتة للأئمة المعصومين (عليهم السلام) وليسوا أنبياء ولا رسلاً؛ وهي
ليست ثابتة لسيدة النساء(ع) رغم عصمتها، كما أنها ليست ثابتة للإمام المعصوم مع
وجود الإمام قبله. ولو كانت تثبت للشخص من باب العصمة لكان في المجتمع الإسلامي في
زمن رسول الله(ص) خمسة حكام معاً في مرتبة واحدة، وهم أهل الكساء الطاهرون، وبطلان
ذلك غني عن البيان. فهذه الولاية ـ إذن ـ ثبتت للرسول(ص) من حيث إنه حاكم، فكل حاكم
هكذا بلا فرق.
الثاني: قوله تعالى: {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه
أمهاتهم}(الأحزاب:6).
فهذه الولاية الكبيرة التي له(ص) قد ثبتت له من حيث هو حاكم لا من حيث هو نبيّ أو
رسول، وإلاّ لما ثبتت للأئمة(ع) مع أنهم ليسوا أنبياء ولا رسلاً.
ولم تثبت له من حيث هو معصوم، وإلاّ لثبتت للملائكة، مع الموجود من أهل البيت(ع) في
عرض واحد، وبطلان هذا غني عن البيان كما مر آنفاً.
ولا ننسى أن هذه الأولوية فرع إشرافه علينا وقيادته لنا، فله سلطان علينا أكثر من
سلطاننا على أنفسنا، وإلاّ لو قصرنا النظر على النبوة فقط لما كانت له هذه الولاية
ولا الأولوية، لأنه رسول من الله ولا علاقة بينه وبيننا سوى قوله قال الله كذا؛
ونحن نملك مطلق الحرية في إطاعة قوله أو عصيانه. فهو من حيث كونه نبيّاً مبلّغ عن
الله فقط ولا سلطان له على الناس؛ فالسلطان من حيث كونه حاكماً مشرفاً على الناس،
وهذه الجهة موجودة في سواه من الحكام.
الثالث: قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى
الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم
ورحمته لاتبعتم الشيطان إلاّ قليلاً}(النساء:83).
فالآية تلوم الذين ينساقون وراء الدعايات والشائعات التي قد يكون لها مفعول عكسي،
كإشاعة الأمن من العدو وأنه نائم عنّا لا يبالي، فهذه توجب استسلامنا للراحة
فيأخذنا العدو على هدوئنا، وكإشاعة الخوف وأن العدو ذو عدد ضخم ومدجج بالسلاح، وغير
ذلك من التهويلات التي تهز أعصاب المجتمع المؤمن وتحطم النفسيات والمعنويات.
فالمطلوب من الناس أمام الشائعات إرجاعها للرسول وإلى أولي الأمر العلماء الخبراء،
فإنهم يحللون المعلومات ويستخرجون الصواب بالتأمل الصادق في القضايا بعد دراستها من
جميع جوانبها، ويجنّبون الأمة السموم الإعلامية. فالله تعالى يلوم الذين يتحدثون
بالأخبار هكذا من دون إرجاعها لأولي الأمر أي للحاكم؛ فالمطلوب من الناس استنطاق
الحاكم وأخذ رأيه فيما يسمعون ويسألونه ابتداء في هذه المسألة العامة التي هي ذات
مردود اجتماعي، فالناس ليسوا أحراراً في أن يتحدثوا بأمر هكذا مجرد حديث، ولا أن
يلوكوا ألسنتهم به من دون أن يعطي ولي الأمر رأياً في المسألة، سواء كان ولي الأمر
رسولاً أم إماماً أم سواهما. فالآية واضحة في أن هذه الولاية ثابتة للرسول(ص) من
باب كونه حاكماً، فكل حاكم هكذا له هذه الولاية حتى على الكلمات ذات المردود
الاجتماعي، فهي نوع من أنواع التصرف في عقلية المجتمع وذهنه تصرفاً يضعه باتجاه
معين، والمتصرف في المجتمع هو الحاكم. فلابدّ من الرجوع إليه في هذه الأمور
وأشباهها وكل ما له علاقة بإدارة المجتمع وتوجيهه.
الرابع: قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على
أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله
وسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور
رحيم}(النور:62).
فالآية واضحة في حديثها عن الرسول(ص) بما هو حاكم، فإذا اجتمع الناس معه على أمر
جامع، أمر عظيم؛ لم يذهب المؤمنون من تلقاء أنفسهم ولم يعتبروا أنفسهم أحراراً
يفعلون ما يريدون، وإنما يسألون الرسول(ص) إن كان يسمح لهم بالذهاب، لأن هذا الفعل
ليس مملوكاً لهم، فهو مرتبط بالمصلحة العامة، فقد يكون في هذا التفرق محذور اجتماعي
كبير. فتصرفات المرء مملوكة للقائد؛ فاستئذان الرسول من الإيمان، بل المؤمن الحق
الذي يستأذن. وهذا الذي يذهب من تلقاء نفسه ليس من المؤمنين. ومن الواضح وجوب كون
المرء مؤمناً. وللحاكم هذه السلطة على المرء والمجتمع لمصلحة عامة لا لمصلحة شخصية
بحتة تعود عليه هو، فقد تقتضي المصلحة تذليل عنفوان الفرد وتطبيعه للحكم الشرعي، أو
تقتضي إظهار مقدار احترامه للقيادة ومدى إخلاصه للدين، فيوجه الحاكم أوامر ونواهي
للفرد تتعلق بشؤونه الخاصة من أكل وشرب ونحوهما.
ولعل المتتبع يجد أكثر من ذلك من آيات كريمة، هذ! مضافاً لدليل العقل الحاكم
بإطاعته بعد أن ثبتت نيابته عن المعصوم(ع)، الذي هو أرقى من الفقيه بمراحل، ولكن
مسائل الحياة هي هي؛ فالاضطرار الذي برّر جلوس الفقيه على الكرسي الأكبر هو نفسه
يعطي الصلاحيات الواسعة ويبررها عقلاً.