مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه

أين الملاك؟



لو فرضنا أن الفقيه ملزم بمشاورة أصحاب النظر، فهل الملاك رأي الفقيه أم رأي الأكثرية؟
وما هو الملاك في حالة عدم الحصول على الأكثرية؟
كل هذه الأبحاث فروض على فروض بعد أن بيّنا الأساس في المسألة، ومع ذلك نجيب عن السؤال الأول بأن رأي الفقيه هو الملاك لا الأكثرية، لأن التشاور شرط في تنفيذ رأيه وحجيته، لا موافقته الأقلية أو الأكثرية فقد يخالف الفريقين. والشرط قد حصل وليس له العدول عن رأيه بعد أن كان يرى بطلان ما سواه، فهذا سعي وراء الجهل، وحكم بخلاف العدل، ولا يجوز له ذلك أبداً.
وإذا لم يكن هناك أكثرية ـ كما يفرض السؤال الثاني ـ كان رأي الفقيه هو المرجع، لأنه قد قام بالتشاور فتحقق الشرط لحجية رأيه.



الفقيه السياسي
لو كان هناك فقيه وكان هناك شخص آخر غير فقيه، ولكنه أبصر من الفقيه ولديه رؤية سياسية فضلى، فهل المشاورة واجبة على الفقيه في هذه الحال؟!
نجيب عن ذلك بالإيجاب بعد أن ذكرنا سابقاً شروط الفقيه المجعول قائداً، وهذا الفاقد للشرط ليس مجعولاً رئيساً ولا نافذ القرار، وكذا غير الفقيه، فلا يشفع له فهمه السياسي الكبير، ولا يجعل رئيساً ما دام فاقداً للفقاهة إن لم يكن فاقداً سواها أيضاً، فلابدّ من الشورى في المقام، بعد أن توزعت الشروط ولم توجد في فرد واحد وإنما في مجموعة أفراد.
وإذا كان هذا الفقيه خبيراً سياسياً وعالماً بقيادة المجتمع، وكان هناك من هو أمهر منه بالسياسة فقط، فلا يجب عليه التشاور مع سواه بعد أن كانت الأدلة تتناوله بالجعل، وبعد أن كان يرى موقفه هو الصواب بعد التأمل والدراسة، فهو كالمجتهد الذي لا يجب عليه مراجعة الأفقه منه عندما يفتي، فلا تجب مراجعة هذا الأفضل سياسياً، خاصة إذا كان غير ملتزم دينياً، لئلاّ يتحقق عنوان الموادة والولاء، فيحرم الرجوع إليه في هذا الحال.
نفوذ الولاية
هل نفوذ ولاية الفقيه موقوف على التشاور؟
لقد صار السؤال مكرراً وذكرنا الجواب أكثر من مرة، فولايته مطلقة والشورى غير واجبة، فلا هي علة ولا جزء علة لنفوذ قراره، بل قد يمتنع عليه التشاور كما في الأمور المهمة التي تستوجب سرية زائدة لا ينبغي لأحد أن يعرفها، وما كأكثر أسرار الدولة التي هي من هذا القبيل.



عموم الجعل
هل كل فقيه جامع للشرائط له ولاية، أم أن الولاية مختصة بفرد واحد؟
لا شك في عموم الجعل، وأن الجامع للصفات وليّ فعلاً، كما مر معناه في الأدلة الجاعلة، ولكن يمنع عن إعمال الولاية من كل منهم لزوم الفوضى والفساد كما مرّ آنفاً. ولو أمكن أن يعمل الجميع في نفس الوقت كسلك القضاء تعيّن ذلك بعد أن كانوا مؤهلين للحكم الاجتماعي الأكبر من كرسي القضاء، ولا يحتاجون لجعل جديد.
وكذلك لو تساووا في الصفات، فالأمة تختار أحدهم كما مرّ، فالأمة تختار حجة من حجج، لا أن الذي تختاره يكون هو الحجة، فهذا باطل جزماً، لأنه يعني أن كل واحد منهم في مرتبة ذاته لا يطاله الجعل، وهو خلاف الأدلة القاطعة ويهدم التخيير أيضاً، فلا معنى لأن تخير الأمة بين جماعة كل واحد قاحل بحد ذاته، ولا سلطان له فعلاً من الله ولا من الناس.



ولاية الفقيه على الفقهاء ومقلّديهم
هل ولاية الفقيه نافذة على الفقهاء ومقلّديهم أيضاً أو ماذا؟
هذا السؤال بعد فرض تعدد المرجع والحاكم، وإلاّ فلا معنى له أبداً. ولا شك على كلٍّ من نفوذ حكم الفقيه قاضياً كان أم رئيساً، فليس لأحد هدمه من كل الدنيا لأنه ردّ على الله عز وجل في النتيجة {فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. (الأنعام: 33) ولأنه يلغو وجوده إذا لم يكن ساري المفعول على الجميع، فالقضاء لقطع التخاصم، والرئاسة لإدارة المجتمع وتنظيمه. فرفض قرار هذا أو ذاك لو كان جائزاً شرعاً كان هذا هو اللغو بعينه، وكان الجعل لعباً ومهزلة يبرأ الله تعالى منهما.
فحكم الفقيه نافذ حتى على شخص المرجع الذي نفترض وقوع خصومة بينه وبين أحد الناس، فلا يكون المرجع هو الخصم والحكم، إلاّ المعصوم فله حساب آخر، فلو حكم القاضي بخلاف ما يرى المرجع ـ سواء حكم له أم عليه ـ كان الحكم نافذاً لما ذكرناه من أدلة. وهذه المسألة من المتسالم عليها بين العلماء للنص الصادق فيها ولحكم العقل.



تناقض الفقيه مع المرجع
ما هو العمل لو تناقض الفقيه مع المرجع في الموضوعات والأحكام، فهل الإطاعة واجبة على المرجع وعلى مقلديه؟
لقد ذكرنا الحكم آنفاً ومر معنا قبلاً أيضاً، ففي الموضوعات حكمه نافذ، كما لو حكم أن هذا الكتاب لزيد وكان المرجع الذي لم يحصل الترافع عنده يراه لعمرو حسبما يملك من فقه إسلامي، فبما أنه يعلم بطلان القضاء اجتهاداً لا وجداناً، كان عليه تنفيذ حكم الحاكم الذي لم تعتبر الشريعة في وجوب تنفيذه سوى صدوره من أهله. ولم تعتبر الاعتقاد بالصواب أو الشك به أو الظن وما شاكل، لم تعتبر ذلك شرطاً في وجوب التنفيذ، بل التسليم المطلق هو المطلوب حسبما تضمنته الآية الكريمة. نعم لو علمنا أكيداً ـ فقهاء أو عوام ـ أن الحكم خلاف الواقع المحسوس الوجداني، كعلمنا أن زيداً لم ير الكتاب بحياته، وأنه لعمرو ويدعيه زيد زوراً، لما كانت قيمة لحكم كهذا؛ فلا نشتري الكتاب من زيد ولا نعامل عمراً معاملة الأجنبي عنه، لأننا نعلم بالواقع والحكم به عين العدل والحق، وحكم الحاكم طريق للصواب لا خالق للصواب. وقد جاء الحديث الصحيح عن رسول الله(ص) أنه قال: "إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض؛ فأيّما رجل اقتطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار"(34).
فالحديث واضح في كون حكم الحاكم طريقاً للواقع، كوضوحه في أن المعصوم كسواه في الموضوعات الخارجية عندما يقضي ويحلّ النزاع، فالله تعالى قد حجب علمها عنه ليقيم القضاء في البلاد بينما أعطاه علم موضوعات أخرى بلا حصر، ولعل المصلحة تجعل على يد مولانا الإمام (عجل الله فرجه الشريف)، فيعطيه الله عز وجل علم الموضوعات القضائية كسواها، فيقضي بعلمه وبلا بيّنة، كما نطقت بذلك الأحاديث. وعلى كل، فالحديث واضح في أن العدل بتطبيق موازين القضاء التي شرعها الله تعالى لا في إصابة الواقع، فهذا رسول الله(ص) يفترض في قضائه عدم إصابة الواقع، لذا كان آخذ المال آخذاً قطعة من النار، وفي حال الإصابة يكون آخذاً حقه الحلال الطيب.
وأما الأحكام الشرعية التي يقع الخلاف فيها بين الفقيه والمرجع فرأي الفقيه هو المتبع دون المرجع المفتي، الذي يبيّن حكم الله في حقه ويثق به آخرون فيأتون لتقليده، ويظن الكثيرون وقوع الصدام بين الرأيين، ونحن قد بيّنا سابقاً أن ولاية الفقيه لإدارة المجتمع وتتناول مسائل عامة، وأن أحكامه من باب العناوين الثانوية، لأنه ما من شيء إلاّ ولله فيه حكم واقعي، مع صرف النظر عن حكم الفقيه وولايته. فالواقع ثابت قبل الولاية وقبل القرار. وعلى كل، فالردّ على قراره الإداري ردّ على الله تعالى، بينما الفتوى تعني صاحبها فقط وللغير أن يهتدي إلى ما يعاكسها ويلتزم به. فقد ظهر أن حكم الحاكم مقدم على فتوى المفتي، وإلاّ لزمت اللغوية من تشريعه، ولا يكون للفقيه ولاية من الأساس على كل شيء. وكل هذا خلاف الواقع.
فمادام المرجع لا يعلم خطأ الحكم يقيناً فهو ملزم بالتنفيذ، لأن الحكم صادر لتنظيم المجتمع، وهو منه، فيشمله القرار وإن خالف اجتهاده بالصميم. ولنضرب مثلاً لذلك مسألة الجهاد الابتدائي في عصر غيبة الإمام(عج)؛ فالمرجع يرى حرمته حال الغيبة، بينما الفقيه يرى وجوبه بالعنوان الثانوي لمبرر أو لآخر، فأصدر أمراً بالجهاد من باب أنه حاكم للناس لا من باب أنه مفتٍ يعينه أمر نفسه فقط، فعلى المرجع أن ينضم كفائياً لقافلة المجاهدين وعينياً إن كان بهم قلة أو توقف الزحف عليه. فانقلاب العناوين معروف في الفقه؛ فالحرام قد يصبح واجباً كالزنى كما لو هددها بالقتل أو التمكين من نفسها، ويكون حال الجهاد من هذا القبيل حسبما تفرضه المصلحة القاهرة الطارئة.
هذا وحيث قد ذكرنا سابقاً مسألة الجهاد ووعدنا ببحثها في محله، وقد فاتنا ذلك نسياناً في مسألة حدود مسألة الفقيه، ناسب هنا الحديث عنها وبيان حكمها الأولي في عصر الغيبة.
لقد اتفق العلماء على عدم الجهاد في عصر الغيبة، بل في عصر الحضور ما دام الإمام غير مبسوط اليد؛ فوجود الإمام وبسط يده شرط في مشروعية الجهاد فضلاً عن وجوبه، والدليل على هذه الشرطية ما يلي:
الأول: الإجماع المحصل والمنقول حسبما ادعاه صاحب الجواهر في باب الجهاد، ولكن هذا الإجماع ساقط عن الاعتبار، فهو مدركي مرتكز على أخبار مشهورة في الباب، فلا يكون حجة ولا كاشفاً عن قول المعصوم، بل احتمال المدركية يوهنه.
الثاني: أخبار كثيرة في الباب وفيها الصحيح، وتركز على وجود الإمام وبسط يده ليكون الجهاد مشروعاً؛ فقد روى بشير الدهان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: إني رأيت في المنام أني قلت لك: إن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم والخنزير. فقلت لي: نعم، هو كذلك. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو كذلك، هو كذلك(35).
والأحاديث في الباب كثيرة تشبه هذه الحديث في المغزى، فارجع لها إن شئت. والجواب أن المعية في هذا الحديث في قوله (مع غير الإمام) ليست معية زمنية بلا شك، لأن الإمام موجود في كل عصر، فلا معنى لتحريم القتال بعد. كما أنها ليست معية مكانية بمعنى مرافقة الإمام في المعركة ليكون القتال مشروعاً، وبدون هذه المرافقة يكون حراماً كالميتة، فهذا غير مراد؛ فالإمام كان يرسل الحملات وهو في مكانه في بعض الحالات، ورسول الله(ص) كان كذلك أحياناً. فالمراد بالمعية معية المنصب والمركز أو معية المبدأ والتعاليم. وعلى كل حال، فلا يمنع الحديث من القتال مع الفقيه الجامع للشرائط، لأنه يسير خلف الإمام المعصوم(ع)؛ فمعية المبدأ متحققة، كما أنه ذو مركز وولاية مجعولين من نفس الإمام(ع)، فالرادّ عليه رادّ على الإمام الذي جعله، فمعية المركز أيضاً حاصلة، فالقتال مع الفقيه كالتحاكم إليه كلاهما يعودان للإمام في النهاية. وعليه فالحديث من أدلة الجهاد مع الفقيه لا من أدلة التحريم.
والذي يؤكد لك أن المرفوض تركيز عرش الطغاة وتوسيع سلطانهم، لا الجهاد تحت لواء الفقيه العادل المستقي من أهل البيت(ع) هذان الحديثان:
الأول حديث سماعة ـ وهو صحيح ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: لقي عباد البصري علي بن الحسين (عليهما السلام) في طريق مكة، فقال له: يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته! وأقبلت على الحج ولينه! إن الله عز وجل يقول: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله}... الآية. فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): أتمّ الآية فقال: {التائبون العابدون}... الآية. فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحج(36)!
والآيتان هما قوله تعالى في سورة التوبة (111ـ112): {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنين}.
فهذه الأوصاف الجليلة تدل على تدين صاحبها الشديد ولا تدل على إمامته، بل تدل على العكس؛ فالأوصاف مرفوعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم التائبون... الخ. والمعني بالأوصاف هم المؤمنون المذكورون بالآية الأولى الذين اشتراهم الله مع أموالهم، وهذا الشراء لكل مؤمن مخلص لا لخصوص المعصوم(ع) كما هو واضح بالبداهة. ومن الواضح أن الفقيه الكفؤ جامع للأوصاف؛ فالجهاد معه أفضل من الحج، حسبما فهمناه من هذا الحديث الشريف، وهو الحق الأكيد.
الثالث: حديث أبي بصير ـ وهو صحيح ـ عن الإمام الصادق عن آبائه قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه وآله): لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم، ولا ينفّذ في الفيء أمر الله عز وجل، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدونا في حبس حقنا، والإشاطة بدمائنا وميتته ميتة جاهلية(37). فالحديث لا يشترط المعصوم في الجهاد، كما أنه يبيّن المانع الذي يمنع المؤمن من الجهاد تحت لواء الظلمة. وهذا المانع ليس موجوداً عند الفقيه، لأنه على النقيض من الصفات المذكورة في الحديث، الذي هو واضح في جواز الخروج مع صاحب الصفات الحميدة، المأمون على الحكم، والمنفذ أحكام الله كما هو شأن الفقيه العادل.
فالحق أن الأحاديث مؤيدة للجهاد تحت لواء الفقيه الجامع للشرائط، فهو ينطلق من حكم أهل البيت(ع) لا من شهواته.
ولا ننس أن الحكمة من الجهاد هي هي في زمن الحضور والغيبة، فلا معنى لتركه بعد أن كان في تركه الذل وفقر المعيشة ومحق الدين، وبعد أن كان الخير كله في السيف وتحت ظل السيف؛ ولا يقيم الناس إلاّ السيف، والسيوف مقاليد (خزائن) الجنة والنار، كما جاء في الحديث عن رسول الله(ص). فكيف يسع الفقيه الذي حكم وسيطر أن يترك الأمة تضمر وتهزل ولا يجاهد في سبيل الله تعالى؟! كما علينا أيضاً أن نعرف أن آيات الجهاد مطلقة غير خاصة بزمن ولا بحالة، ولا دليل على تقييدها بسوى عدالة المقاتلين كما عرفت من الأحاديث، والعدالة حاصلة مع الفقيه، وما علينا سوى تلبية أوامر آيات الجهاد والقتال.
وأخيراً نحن نعلم أن الله وأولياءه يرضون في عصر الغيبة أن نقاتل من أجل إنقاذ شعب مظلوم مستضعف، غير مؤمن ولا مسلم، فهو أفضل دعاية للإسلام وتجاوب مع قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(الممتحنة:8). فالعمل لإنقاذهم من ظالميهم أولى وأهم من إعانة مالية يحبها الله حسب الآية الكريمة. فالحق أن الجهاد الابتدائي الذي هو دعوة للإسلام واجب تحت لواء الفقيه.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية