مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه

الفقيه والمرجعية



هل يجب اتحاد الفقيه الحاكم مع مرجعية التقليد أو يجوز انفكاكهما؟
قد نجد الكثيرين يقولون بجواز الانفكاك؛ فالمرجع يصدر أحكاماً للناس، بينما شخص آخر يدير المجتمع ويصدر أحكاماً في القضايا العامة، والناس تطيعه في هذه القرارات كما تطيع المرجع في الأحكام الفردية من صلاة وصيام ونحوهما، فلا دليل يلزم علينا اتحاد المرجع والفقيه القائد للأمة.
بل قد يستدلون بما مر معنا من أحاديث يجعل الإمام فيها للأمة أكثر من مفتٍ، بينما هو قائدها الأكبر الذي ترجع إليه الأمور.
والجواب عن هذا الدليل واضح إذا عرفنا أن الرواة الأجلاء لم يكونوا مفتين في قبال الإمام(ع)، وإنما كانوا يأخذون عنه الأحاديث ويبلغونها للناس؛ فهو المرجع للجميع في نهاية الأمر، بينما المفتون اليوم يعتبر كل واحد منهم نفسه مستقلاً عن غيره تمام الاستقلال، ويرى كل واحد منهم ذاته أنه بديل عن الآخرين. فليس هناك مركز يحومون حوله كما هو حال الرواة مع الإمام(ع). هذا أولاً.
وثانياً: قد يكون البعد الجغرافي وصعوبة الاتصال سابقاً يبرران جعل تعدد المفتين، فلكل صقع مفتٍ، لأنه يصعب الاتصال بالإمام(ع) لأخذ كل الأمور منه. فالإمام يتصل بالمفتين وهم يتصلون بالناس. بينما اليوم يمكن الاتصال بسهولة من أقصى الأرض إلى أقصاها، ويمكن تعميم الفتوى الواحدة على كل الأرض في لحظات، والمسؤولون في كل قطر يبلّغون الشعب بالوسائل المعروفة للإعلام؛ فلا مبرر اليوم لتعدّد المفتين ولا ضرورة له.
وثالثاً: في عصر الإمام كان الفقيه يفتي، وإذا حكم وتسلط فإنه يفعل ذلك على بقعة خاصة لا يزاحمه فيها سواه، ولا يصطدم قراره بقرار غيره، تماماً كما كان حال الولاة تحت حكم أمير المؤمنين(ع). بينما كل مرجع اليوم يرى نفسه القائد المطلق؛ لأن مركز المرجعية مركز قيادة، فهو قائد الناس بفتياه في أمور الدنيا والآخرة، فهذه هي حقيقة المرجعية. ولو كانت المرجعية ذنباً لا رأساً لما ضربها ظالم ولا طمع فيها أحد، وبالتالي لا يصح تسميتها بالمرجعية أبداً. ومن هنا طمع بها الكثيرون، وتصدى في كل عصر لها أكثر من مجتهد كبير متعرضاً لقيادة الأمة، حتى اضطرب أمر الناس وصار الحليم حيران. ومن هنا نتمكن من الاستدلال على ضرورة توحيد القيادة والمرجعية بما يلي من أدلة:
الأول: ان المرجع اليوم ليس مفتياً يعطي الناس الحكم الشرعي ويذهب هو والناس كل منهم لحال سبيله، بل هو القائد لهم في كل قضاياهم ويرتبطون به، ولكل فئة مرجعها الخاص المشهود له بالكفاءة من أهل الخبرة. فتعدد المرجعية يشرذم الأمة مزق مزق، فهذا هو الواقع شئنا أم أبينا، فإذا كان هذا التشرذم مقبولاً قبل قيام حكم إسلامي ـ وهو غير مقبول ـ فإنه غير مقبول اليوم بعد قيام الجمهورية الإسلامية أعزّها الله.
فالواجب توحيد الجهود والكلمة والالتفاف حولها وحول قائدها لنكون جميعاً صفاً واحداً في وجه الكفر والنفاق والفسق؛ فالكفر العالمي يوحّد جهوده ضد الجمهورية، فالواجب رص الصفوف في قبال التحديات، ولا ننسى آيات الله الباهرة في المقام: {لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا}؛ فوجود قائدين فعليين في الأمة يؤدي لخرابها، فكيف لو كان بها عدة قادة معاً؟!
ما حال الأمة لو كانت كما قال الشاعر الشيخ علي الشرقي:
بلدي رؤوس كلها أرأيت مزرعة البصل!
{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا}. ومن الواضح الجلي أن تعدد المرجعية القائدة أول أساس التفرق وليس اعتصاماً بحبل الله الواحد؛ لأن هذا قد جعل الأمة شذر مذر.
{إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}. ولكن تعدد القيادة وجدناه جعل الأمة رماداً منثوراً، وهذا يكرهه الله ولا يحبّه!
جميل أن يكون بالأمة عدة مجتهدين معاً، بل ذلك واجب للقيام بمهمات جسام، ولكن من القباحة المطلقة أن يكون بها أكثر من قائد.
الثاني: ان تعدد المرجعية والقيادة يجعل خزينة الأمة وبيت مالها بيد غير الحاكم؛ فالمرجع يطلب الخمس ـ وهو المورد الأهم ـ من مقلديه فيصل له، وقد يكون مقلدو القائد قلة أو يكون بلا مقلدين ـ فلا أحد يدري كيف دولاب الزمن ـ فيبقى الحاكم معطل الصلاحيات، عاجزاً عن خدمة الأمة والقيام بواجبه لقلة ذات يده. وحتى لو حكم بدفع الخمس إليه لما استبعدنا أن يتفاجأ بحكم معاكس أو فتوى معاكسة يصدران من آخرين يمنعان الدفع إليه ويوجبان الدفع للمرجع فقط، وأنه لا تبرأ الذمة بغير ذلك، فلا يجد ابن الشعب سوى التجاوب مع فتوى مرجعه، ولا يبقى للحاكم من عمل سوى عدّ النجوم!
فانفصال المرجعية عن القيادة يؤدي لشلل القيادة مالياً، وتتعذر إقامة حكم الله بالنهاية. وسواء وقع هذا الشلل فعلاً أم لم يقع لسبب أو لآخر فإن الانفصال المذكور يوصل إليه ويكون من نتائجه، ويفتح هذا الباب الكبير من الفساد!
الثالث: النزاعات والخصومات بين حواشي المراجع وأتباعهم ومقلديهم، وخاصة البطانة القريبة من المرجع المعروفة باسم (الحاشية)، وكل من له صلة بالمرجعية عن كثب يعرف مقدار بعد (الحواشي) عن الله تعالى، إلاّ من رحم الله وقليل ما هم. وهنا يتوجه هذا السؤال الذي لا نستطيع التهرب منه:
هل الحاشية من اللوازم القهرية للمرجعية، أو أنه يمكن للمرجع التخلّي عنها؟! ومن الواضح أن الحاشية تفرض نفسها، فهي جهاز إداري لتصريف شؤون المرجع، فهي حكومة مصغرة؛ ويشب النزاع بين الحكومات توسعة للنفوذ وتفرداً بالسلطة. فلم يكونوا يختلفون حول صلاة الليل! بل تجاوباً مع النزعة الأصيلة في المرء وهي التفرد بالسلطة! فقد كانوا يطبقون حكم العقل القاضي بوحدة القيادة، ولكن لم يسلكوا الأسلوب المعقول لهذه الوحدة. فقد وجدوا الفتوى تساعد على تعدد المراجع فراحوا يفعلون ما يحلو لهم. نعم، راحوا يفعلون ما يحلو لهم. وصرنا أخشى ما نخشاه أن يكون المرجع عالماً بأعمال الحاشية وراضياً عنها. وصرنا نخاف على المرجع أن يعيش أجواء حاشيته، وأن يسعى لتدمير الآخرين كي يستتب سلطانه!
قال المرجع الجليل السيد محسن الحكيم(قده) ـ ولا ينبئك مثل خبير ـ قال في شرائط المرجع من مستمسكه: "والإنصاف أنه يصعب جداً بقاء العدالة للمرجع العام في الفتوى ـ كما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو جماعة ـ إذا لم تكن بمرتبة قوية عالية ذات مراقبة ومحاسبة، فإن ذلك مزلة الأقدام ومخطرة الرجال العظام، ومنه سبحانه نستمد الاعتصام"(38).
والخلاصة: ان الحواشي ـ إجمالاً ـ ليسوا عناصر صلاح، وهذا أقل ما يقال، وكل الحوزة تعرف ذلك؛ وعمل الحاشية منعكس على الشعب، وليست خلافاتهم محصورة فيما بينهم. وحيث إنه لا مرجعية بلا حاشية، تعين إلغاء المرجعيات المتعددة والاكتفاء بمرجعية واحدة رشيدة تدير هي الأمة وتكون حاشيتها الدولة بأسرها؛ فلا تعدد كراسي ولا خلاف على سلطة، ولا تنهش الأمة لحمها مقتدية بالحاشية.
الرابع: ان فصل المرجعية عن القيادة يشل القيادة ولا يترك لها دوراً في حياة الناس؛ فقد يفتي المرجع لمقلديه بعدم ولاية للفقيه، أو أن حكمه خاص بمن يقلده أو يدعي أنه هو الأفقه والأعلم والأسبق قراراً وحكماً من القائد، أو يدّعي خطأ الفقيه في هذا القرار خطأً أكيداً يوجب مخالفته ولا يجوّزها فقط، أو يفتي لمقلديه أنه لا عنوان ثانوياً في المقام، فلا يبقى موضوع لحكم الحاكم. وهكذا نجد أكثر من منفذ للقضاء على قيادة الفقيه عملياً. وبالتالي يكون الفصل بين المرجعية والقيادة أكبر عائق أمام إقامة حكم الله عز وجل.
الخامس: ان المفتي تابع للحاكم ولا عكس؛ فلو اختلف المرجع مع شخص آخر لتحاكما معاً عند الحاكم الذي يكون حكمه نافذاً حتى لو خالف فتوى المرجع في نفس الواقعة، فلا يكون المرجع هو الخصم والحكم؛ فقد وجدنا أن حكم الحاكم مقدم على فتوى المفتي، لأنه صادر لإدارة البلاد وإقامة النظام العام، بينما الفتوى علاج لمشكلة خاصة تعني الفرد نفسه. وعلى كل حال فالأدلة القاطعة تحرّم هدم حكم الحاكم الذي يقدم حكمه على فتوى المفتي عند تخالفهما كما عرفت، ولا قيمة للفتوى إذا وافقت حكمه، أي لا تظهر أهميتها إذ هي حجة على صاحبها فقط دون الحكم الذي هو حجة على الجميع. فالقرار الفعال للحاكم، ولا شأن بعد هذا لفتوى المرجع أو المراجع إلاّ لأشخاصهم فقط، وعليهم العمل بحكم الحاكم لا بها (الفتوى) إذا قضى وألزم الناس بشيء في الصلاة أو الحج أو الجهاد أو التجارة أو أي شيء آخر.
السادس: ان فصل المرجعية عن القيادة هو نفس رأي الغرب في فصل الدين عن السياسة! وهي محاولة تطعن الإسلام بالصميم! فيتركون للمرء الأحكام الفردية من عبادات وأخلاقيات زاعمين أن الدين هو هذا فقط، والمرجع هو الذي يبين أحكامه، بينما قيادة الناس وسياسة المجتمع مربوطة بآخرين غير فقهاء وغير متدينين، ويمنعون رجل الدين أن يتدخل في السياسة منعاً باتاً. وهذه المقولة مرفوضة إسلامياً رفضاً باتاً، فلا نقص في الإسلام ليستعين برأي سياسي، ولا أنه يعزل الدين عن الدنيا ولا العبادة عن القيادة والسياسة، بل هو يملك نظاماً عاماً لكل تصرفات المرء، ويطلب من الإنسان أن تكون كل أفعاله وكل أقواله منسجمة مع نظامه الخاص؛ فسواء كانت الحادثة في الصلاة أو في السياسة فلابدّ فيها من تنفيذ حكم الله ورأيه.
وإذا سقط فصل الدين عن الدولة سقطت نظرية فصل المرجعية عن القيادة، لأن هذه في الحقيقة عين تلك. وعليه فلا يصح فصل المرجعية عن القيادة بأي شكل من الأشكال.
السابع: بعض الأخبار في المسألة حيث تدل على وحدة القيادة؛ ففي صحيح الحسين بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد الله(ع): تكون الأرض ليس فيها إمام!
قال: لا.
قلت: يكون إمامان!
قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت(39).
فالإمام مثال للقائد. وإذا كان القائد الثاني غير مسموح له بالحديث حتى ولو كان معصوماً، فما حال القائد غير المعصوم الذي يريد منافسة القائد الموجود! وبتعبير آخر: إن مركز المرجعية مركز قيادة وتوجيه، فلابدّ من شخص واحد يكون هو القائد والمرجع.
وبالمناسبة نقول ـ ولو استطراداً ـ إن أحاديث الباب المذكور في الكافي (وهو أن الأرض لا تخلو من حجة) تدل بمغزاها الأعمق على ولاية الفقيه وحكومته؛ لأن مفادها أن الإمام لابدّ منه كي يعرف الناس الحق ويدعوهم إلى سبيل الله! وهذه الفائدة تحصل في حال ظهور الإمام وتعرف الناس عليه، وأما في حال غيبته وانقطاعه عن الناس فالفائدة المذكورة غير حاصلة؛ إلاّ إذا كان للإمام من ينوب عنه ويقوم بمهمة التبليغ والإرشاد، ويدير المجتمع ويوجهه نحو الخير ويبتعد به عن الشر، وهذا هو الفقيه نائب الإمام الذي لابدّ من ولايته كي لا تنهدم حجج الله تعالى، ولا يبقى الفساد هو المتسلط والقائد للبشرية. فهذا هو المفاد الصحيح للأحاديث.
الثامن: ان القائد هو الأعلم والأخبر في أمور الحياة؛ فهو يتخذ المواقف المنسجمة مع الإسلام ـ في مفروض البحث ـ أي هو فقيه قائد؛ وتحديد موقف الإسلام في الأمور العامة من حرب وسلم وإمضاء وتجارات ومعاهدات ومصادرة أملاك وقطع علاقات، هذا التحديد يطلب وعياً كبيراً، وفهماً عالياً للإسلام وللواقع المعاش، وللوضع السياسي في الداخل والخارج. وهذه المهمة أشق بمراحل من مهمة استنباط حكم فرعي فقهي، في باب الوضوء أو الطلاق أو غيرهما من أبواب الشريعة، التي أوكلوا أمرها للمرجع ـ في المفروض ـ وجعلوا له عالم استنباط الأحكام الفرعية؛ بينما جعلوا للقائد تحديد الموقف الإسلامي في قيادة المجتمع نحو الأفضل. فمهمة القائد أشق بلا شك، وتطلب وعياً إسلامياً لا يطلبه استنباط حكم فرعي آخر. وهذه حقيقة يدركها كل من مارس العمل الإسلامي بعمق في حقليه القيادي والاستنباطي. وحيث كان القائد أعلم بالإسلام وأعمق فهماً له من سواه، كان هو المتعين للمرجعية الدينية عند أكثر العلماء، لأن تقليد الأعلم عندهم أمر لابدّ منه ولا يصح سواه.
فاتضح من هذه الأمور وحدة المرجعية والقيادة؛ ولا يصح الفصل بينهما بأي شكل كان، لأنه فصل بين الشيء ونفسه!
وأخيراً نوجه تقديرنا واحترامنا للشهيد الجليل السيد محمد باقر الصدر(قده)، الذي أدرك أنه لا يكون رأسان على جسد واحد، فوجه رسالة لطلابه وتلامذته الذين كانوا يدعون إليه وطلب منهم الالتفاف حول مرجعية الإمام الخميني الرشيدة، والذوبان في وجودها العظيم كما هي ذائبة في هدفها الكبير العظيم.
لقد كان عميق الإخلاص في هذا الموقف، وعظيم الرأي إلى حد بعيد؛ لقد برهن أنه بلغ الغور الأعمق لنظرية ولاية الفقيه، تاركاً الكثيرين يحومون حول نبعها الفياض، وراثياً للذين نهلوا منه قطرة باهتة على إصبع.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية