المرجعية مع الشورى
ما حكم المرجعية في حالة تكون فيها الولاية شورى؟
إن الأدلة التي عرضناها آنفاً تدلّنا على حرمة تعدد المرجعية؛ سواء كان الفقيه
حاكماً ومبسوط اليد أم كان مكفوف اليد وبعيداً عن الساح؛ فمهما كان سبب بعده عن
القيادة فلا يجوز له أن يعدد المرجعية.
وإذا كان يرى نفسه أعلم وأخبر، وأن تقليد الأعلم واجب، وأن على الأعلم أن يتصدى
للمرجعية؛ فإذا كان يرى كل ذلك فإننا نرجوه أن يرى أيضاً ضرورة وحدة الأمة وتوحيد
طاقاتها وقرارها وموقفها، فإن هذه مصلحة غالبة على كل مصلحة. فلا ينس أن رأيه حول
الأعلمية يراه الكثيرون لا هو فقط، بمعنى أن كل مجتهد ـ إلاّ ما ندر ـ يرى نفسه
أهلاً للمرجعية والقيادة. وتصدّي الكثيرين للمرجعية ـ كما هو الغالب، فقد يزيدون عن
العشرين في آن واحد ـ يوجب ضياع الأمة وتبديد طاقاتها وأموالها على ما لا ينبغي.
فيا حبذا لو اجتمع المجتهدون كلهم معاً وقاموا لله بإخلاص، وفرضوا المرجعية فرضاً
على الجدير بها إذا كرهها، وتحوّلوا هم إلى أذرع وسواعد للمرجع، ويبحثون مشاكل
الإسلام في العالم، ويختارون السبل الصالحة لتربية المجتمع تربية دينية، وإيصال
الإسلام لكل الدنيا، وتنمية المجتمع الإسلامي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً
وثقافياً. فيا حبذا لو قاموا بذلك، لكانوا قد قطعوا بالإسلام أشواطاً هائلة إلى
الأمام، ويكون وضع الشعوب الإسلامية أفضل مما هو عليه الآن بمراحل شاسعة.
نعم، على المجتهدين الاجتماع ليجعلوا الكفؤ مرجعاً للشعب، ويكونون كغيرهم من أهل
الخبرة والاختصاص أعضاء في الشورى، بعد أن كان الفقيه القائد غير متوفر في
المجتهدين حسب المفروض.
كيفية تعيين الفقيه
كيف يتم تعيين الفقيه مرجعاً وقائداً للأمة؟
إن المسألة بسيطة، فلا مراسم ولا حيرة؛ فأهل الخبرة يدركون كفاءته وهم يعلنون عنها
للناس الذين يكونون قد عرفوه سابقاً من خلال توجيهاته وإدارته، فلا معنى لأن
يعرفوهم على المجهول لهم تماماً، فإن إطاعتهم له مشكوكة، كما أن كفاءته القيادية
مشكوكة مادام المجتمع لا يعرفه ولا الساحة تشهده. فأهل الخبرة الثقاة يشهدون
بكفاءته الفقهية، وسيرته وممارسته شاهدان بتديّنه وخبرته القيادية، فهذا هو الأسلوب
الوحيد لمعرفته بعد أن كان غير معصوم حتى تظهر المعجزة على يديه. فلم يبق إلاّ
الاختيار العملي لتثبت كفاءاته العلمية والدينية والاجتماعية والقيادية. فقد رأينا
بعض المجتهدين الكبار ممن تسلّم مركز المرجعية.. رأيناه ضعيفاً في إدارة المال إلى
درجة الحيرة في التصرف بأموال المرجعية، فأخذ يضعها في البنوك ولم يهتد لتصريفها!
كما أننا لمسنا العجز في السياسة واتخاذ المواقف الجريئة، حتى صار مركز المرجعية
مستغلاً من قبل آخرين، وصار المركز حماماً يغتسل به الظلمة! ونحن ننسب ذلك للبساطة
الناتجة من العزلة عن الناس والحياة العامة، فلو كان هناك ممارسة في القيادة
الاجتماعية لكان للمناطق الإسلامية وضع آخر.
الولاية والرأي العام
ما هو دور الرأي العام في ولاية الفقيه؟
لا دور للرأي العام في تعيين الولاية للفقيه أو لغيره، فقد رأينا أن الحكم مجعول له
من قبل الله تعالى، وليس الشعب مصدر السلطات في الإسلام، بل الله تعالى هو المصدر.
كما رأينا أن الاختيار هو الذي يهدينا للفقيه الجامع للشروط، حسبما مر معنا في
البحث السابق، وعلى الشعب إطاعة هذا الكفؤ الجدير بالقيادة.
كما قد مر معنا سابقاً بعض الحالات التي نرجع فيها للشعب، مثل اجتماع الشروط في
أكثر من فقيه من دون تفاضل بينهم في شرط، فالشعب يختار قائده من بين عدة أكفاء
مجعولة الولاية شرعاً لكل واحد منهم بحد ذاته، من دون أن يكون للشعب دور في جعل
المركز للقائد، بل هو يختار القائد الفعلي من بين عدة قادة شأنيين، حسب بعض
التعبيرات في علم الأصول.
تعيين الفقيه خليفته
هل يصح للفقيه أن يعيّن خليفة من بعده؟
إن مسألة القيادة مسألة مصيرية؛ فليس الفقيه معصوماً ليكون تعيينه فصل الخطاب، بل
المسألة موقوفة على نفوذ حكم الفقيه في الموضوعات، وبعبارة أخرى تارة الفقيه يرشد
إلى خليفته، وتارة يعين خليفته!
فالأول يعني أن الفقيه يتكلم بما هو واحد من أهل الخبرة، فلا يكون قوله ملزماً
لأحد، وإنما يؤخذ بعين الاعتبار ويوضع مع بقية أقوال أهل الخبرة، وفي نهاية المطاف
يتخذ القرار المناسب.
وأما التعيين الذي مرجعه لحكم الحاكم؛ كأن يحكم بأن فلاناً خليفته، فهو راجع إلى
حجية حكم الحاكم في الموضوعات، كحكمه أن غداً عيد، أو أن فلانة بلا بعل، أو أن
فلاناً مدين ونحو ذلك. وقد اختلف العلماء في حجية حكم الحاكم فيها، فأنكرها بعضهم
مدعياً عدم الدليل عليها، وأن دليل الحجية خاص بالأحكام وفعل الخصومات.
ولكن الصواب حجية حكمه في الموضوعات كالأحكام بلا فرق للأدلة التالية:
الأول: إطلاق ما دلّ على كونه قاضياً وحاكماً، من دون ما يصلح للتقييد في المقام
سوى وساوس وشكوك في غير محلها.
الثاني: مهمة الحاكم تتناول كلا الحقلين: الأحكام والموضوعات، فقد يحكم بين
متنازعين في بيع نجس ـ مثلاً ـ فحكمه بصحة النجس ماض حتى ولو خالف رأي المرجع، كما
أنه حكم على مفهوم يحرم ردّه ولا يجوز الخروج عليه. وقد يحكم الحاكم بموضوع خارجي،
كحكمه بالصغر، والسفه، والرشد، وموت المرء وحياته، وخلو المرأة من الزوج، وبيع
الشيء وإجارته و... إلخ. ويترتب الحكم الشرعي على تلك الموضوعات حسبما حكم الحاكم،
لأن الردّ عليه ردّ على الله تعالى. وقد بيّنا أن صلاحية الحاكم واسعة ولا تختص
بالقضاء، فهو يدير المجتمع، وحكمه نافذ في الموضوعات والأحكام.
الثالث: ان ولاية الفقيه ولاية معصوم، كما مر معنا من آيات وروايات وحكم وعقل، فلا
مبرر بعد هذا للحد من صلاحياته، لأن حكم المعصوم نافذ في الموضوعات والأحكام: {وما
كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}،
فإذا قال الفقيه: حكمت أن فلاناً خليفتي، وجب قبول حكمه ما لم يتضح خطؤه، كما مر
معنا، كما ينعزل هذا تلقائياً إذا فقد بعض الشروط.
وعلى كل، فالفقيه الكفؤ ينظر ما هو الأصلح في مسألة خليفته، فقد يبقى ساكناً تاركاً
سواه من أهل الخبرة يقول، وقد ينهج نهجاً آخر.