مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه

ولاية الفقيه في تاريخ الفقه الشيعي وتطوره



نظرية ولاية الفقيه ليست حديثة، فقد قال بها قدماء العلماء وأكابرهم، بل وأكثرهم؛ فهذا صاحب الجواهر الشيخ الجليل ينسب للإسكافي والشيخين والفاضل والشهيدين والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري والكاشاني وغيرهم من العلماء، ينسب لهم أنه يجوز للفقهاء المجتهدين العدول إقامة الحدود في حال غيبة الإمام (عليه السلام)، كما لهم الحكم بين الناس، مع الأمن من ضرر سلطان الوقت. ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك، كما يجب مساعدة الإمام (عليه السلام) عليه.
ويتابع صاحب الجواهر: بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً إلاّ ما يحكي عن ظاهر بن زهرة وإدريس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه... فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك (ولاية الفقيه) بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم (أهل البيت) ورموزهم أمراً، ولا تأمل المراد من قولهم: إني جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة، ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم... نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور التي يعلمون عدم حاجتهم إليها كجهاد الدعوة المحتاج إلى السلطان وجيوش وأمراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك ونحوه... وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة... وينقل لنا صاحب الجواهر عن سلاّر في كتابه (المراسم) هذه العبارة: فقد فوضوا (عليهم السلام) إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجباً ولا يتجاوزوا حداً، وأمروا عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة(1).
ولعل هذا البعض الذي يوسوس في ولاية الفقيه ويشكك فيها هو الشيخ مرتضى الأنصاري، المعاصر لصاحب الجواهر، فقد قال الشيخ في كتابه الشهير بالمكاسب: "فقد ظهر مما ذكرنا أن ما دل عليه هذه الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغاً عنها، بحيث لو فرض عدم الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية. وأما ما يُشك في مشروعيته كالحدود لغير الإمام، وتزويج الصغيرة لغير الأب والجد، وولاية المعاملة على مال الغائب بالعقد عليه، وفسخ العقد الخياري عنه، وغير ذلك فلا يثبت من تلك الأدلة مشروعيتها للفقيه، بل لابدّ للفقيه من استنباط مشروعيتها من دليل آخر. نعم، الولاية على هذه وغيرها ثابتة للإمام(ع) بالأدلة المتقدمة المختصة به مثل آية أولى بالناس (كذا) من أنفسهم. وقد تقدم أن إثبات عموم نيابة الفقيه عنه (ع) في هذا النحو من الولاية على الناس ليقتصر في الخروج عنه على ما خرج بالدليل، دونه خرط القتاد"(2).
فمن الصعوبة بمكان عند الشيخ الأنصاري أن تكون ولاية الفقيه كولاية الإمام إلاّ ما ثبت اختصاصه بالإمام كالجهاد الابتدائي حسب المعروف المشهور. ولعل أول رافض للولاية المحقق الحلي في الشرائع، وتبعه العلامة في بعض كتبه؛ ولا نجد رفضاً لفكرة الولاية قبلهما بشكل واضح. ونجد اليوم آية الله السيد الخوئي يقول مفتياً ويجوّز للحاكم الجامع للشرائط إقامة الحدود على الأظهر(3)، والظاهر أن الجواز هنا بمعناه الأعم أي عدم المانع من الإقامة ردّاً على من حرّمها ولا يريد من الجواز بمعنى الإباحة، بقرينة ما قاله بعد المسألة السابقة مباشرة ما هذا لفظه (مسألة178): على الحاكم أن يقيم الحدود بعلمه في حقوق الله كحد الزنى وشرب الخمر ونحوهما. وأما في حقوق الناس فتتوقف إقامتها على مطالبة من له الحق حداً كان أو تعزيراً.
فإن قوله (على الحاكم) واضح في الفرض والوجوب وضوح الشمس، بل إن دليل السيد الخوئي على المسألة الآنفة ـ وهو لزوم حفظ النظام ولا يتم ذلك إلاّ بتأديب المنحرفين في كل زمن ـ هو ذاته على ولاية الفقيه العامة لأن بها حفظ النظام كإقامة الحدود تماماً. ولذا نرى السيد الجليل آية الله الخوئي غير منسجم مع نفسه في نظرنا. فدليله الآنف ـ وارجع إليه إن شئت ـ دال في مغزاه الأكبر على ولاية الفقيه بينما يعلن هو في مقام آخر عدم الولاية للفقيه، فهو قد ناقض نفسه مناقضة مرة!
بل إن الولاية ـ على مذهب السيد الخوئي ـ تثبت للفقيه بالطريق الأولى لأنه يعطي للفقيه حق القتل ـ كرجم الزاني مثلاً ـ والقتل أكبر شيء، فتفتيش المنزل ـ مثلاً ـ من أجل مصلحة أمنية مهمة هو أقل من القتل بكثير ولا تصح المقارنة بينهما أبداً؛ فالولاية على الأكبر ـ مهما كان دليلها ـ ولاية على الأقل بالطريق الأولى.
وأما الإمام الخميني أعزّه الله وأدامه، فيقول مفتياً ما لفظه:
مسألة 3: فمن عصر غيبة ولي الأمر وسلطان العصر (عجل الله فرجه الشريف) يقوم نوابه العامة ـ وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء ـ مقامه في إجراء السياسات وسائر ما للإمام (عليه السلام) إلاّ البدأة بالجهاد(4).
وبعد هذا فغني عن البيان أن الفقيه كان يقيم حدود الله عز وجل حسبما تسمح به الظروف في شتى أنحاء العالم الإسلامي، فالإمام السيد عبد الحسين شرف الدين قد أقام الحد في بعض قرى جبل عامل حسبما سمعنا. كما أن والد أستاذنا المقدس الشيخ موسى عز الدين العاملي قد أقام الحد في بعض آخر من قرى جبل عامل حسبما سمعناه من أستاذنا مشافهة. ولا يتسع الوقت لاستعراض تاريخ الفقهاء الأجلاء ومقدار ما نفذوا من حدود وما مارسوا من صلاحيات الولاية. فذلك يتطلب مجلداً ضخماً مضافاً إلى الخروج عن الموضع، وسنعطي رأينا في حدود ولاية الفقيه في حينه إن شاء الله تعالى.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية