ولاية الفقيه في كتب أهل السنة
لا وجود لهذه المسألة بالخصوص عند أهل السنة، بل عندهم مسألة الإمامة، ويشترطون
العلم في الإمام؛ فهم لا يرون شخصاً معيناً ذا ولاية، وإنما يأتي الإمام عن طريق
التشاور من الأمة، فيقول ابن خلدون متحدثاً عن منصب الإمامة:
وإذا تقرر أن هذا النصب واجب بالإجماع فهو من فروع الكفاية، وراجع إلى اختيار أهل
العقد والحل، فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعاً طاعته لقوله تعالى: {أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. وأما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم،
والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل، واختلف في
شرط خامس وهو النسب القرشي.
فأما اشتراط العلم فظاهر لأنه إنما يكون منفذاً لأحكام الله تعالى إذا كان عالماً
بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها؛ ولا يكفي من العلم إلاّ أن يكون مجتهداً لأن
التقليد نقص والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال.
وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى
باشتراطها فيه. ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات
وأمثالها. وفي انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف.
وأما الكفاية فهو أن يكون جريئاً على إقامة الحدود واقتحام الحروب، بصيراً بها
كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفاً بالعصبية وأحوال الدهاء، قوياً على معاناة
السياسة، ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام
وتدبير المصالح.
وأما سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة: كالجنون والعمى والصمم والخرس، وما
يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرجلين والأنثيين فتشترط السلامة منها
كلها، لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه. وإن كان إنما يشين في المنظر
فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السلامة منه شرط كمال(5).
وكلامه واضح في أن الشروط الأربعة إجمالية حيث ذكر الخلاف في شرط النسب؛ كما أنه
يتحدث عن أن الإمام لا يكون إلاّ فقيهاً. ولا يتحدث عن أن كل فقيه إمام أو ذو ولاية
أو لا يستحق شيئاً. فمسألة ولاية الفقيه ذات شأن في الفقه الشيعي، باعتبار أن
الفقيه نائب الإمام المنصوب من قبل الله عز وجل، فيصح التساؤل حول ولاية الفقه
وعدمها؛ بينما المشكلة محلولة في الفقه السني، لأن كل من جمع الشروط المذكورة
وانتخبه أهل الحل والعقد صار إماماً. فلا معنى لنيابة فقيه عنه لأنه هو الذي يعين
من يشاء من مسؤولين وأصحاب مناصب.
ولا نقاش لنا مع ابن خلدون في شروطه التي ارتآها فذلك خروج عن الموضوع؛ فليس حديثنا
عن الإمامة وشروطها، هذا مضافاً إلى الخلاف الشهير بين الشيعة والسنة في مسألة
الإمام وتفاصيلها. وعلى الرغم من كل ذلك فلا يحسن منا المرور العابر على مفكر بحجم
ابن خلدون من دون نقاش ولو كان استطراداً ومقتضباً...
فلنا عليه أولاً: أنه جعل الإمامة شورى مع اعترافه أن الإمامة تستدعي الكمال في
الأوصاف لسبب أو لآخر، فهذا عبد الرحمن بن عوف الذي شهد له الخليفة الثاني أن
إيمانه يرجح إيمان الأمة كلها لو وُزن بها، نراه يعلن ندامته من اختياره عثمان بن
عفان خليفة على المسلمين. فكيف حال بقية المختارين للخلفاء مع العلم أنهم لا يملكون
إيمان عبد الرحمن ولا علمه!
ولنا عليه ثانياً: أنه آمن بإمامة قوم فاقدين لشروطه التي ذكرها. فليقل لنا ابن
خلدون كم من الأشخاص الذين تربعوا على الكرسي الأعلى جمعوا الشروط كلها..! فهل
معاوية بن أبي سفيان جمع الشروط أو ولده يزيد؟! أو الوليد بن يزيد فرعون هذه الأمة!
أو المنصور العباسي الدوانيقي! أو هارون الرشيد! أو ولده الأمين! أو المتوكل
العباسي أبو الآثام والجرائم!؟
ولنا عليه ثالثاً: أنه هنا يأمر بطاعة الإمام ويوجبها على كل الناس مستدلاً بالآية
الكريمة، وإذا به في موضع آخر يهدم الإمامة والطاعة من الأساس ويفتي للأمة بجواز
الخروج على الإمام، حيث قال كلاماً طويلاً مدافعاً به عن معاوية بن أبي سفيان الذي
خرج على مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي يعترف له ابن خلدون بصحة بيعته،
ومع ذلك يصوّب معاوية في خروجه على أمير المؤمنين!
وكذا قضية سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فقد ثار على يزيد الطاغية، الذي
بايعه أهل الحل والعقد ـ بزعمه ـ فكانت بيعته لازمة للناس؛ فعلى قاعدة ابن خلدون
التي وضعها كانت الثورة ضد يزيد محرمة حتماً، مع أن ابن خلدون يجيزها ويجعل الإمام
الحسين (ع) معذوراً في ذلك على الرغم من أن الإمام (ع) لا يملك القوة التي تبرر له
هذه الثورة وتجعله عملاً مشروعاً في نظر ابن خلدون، الذي نراه يزيف التاريخ بوضوح
ويريد أن يجعل الإمام (ع) معتقداً بقوة شوكته، ومن هنا كانت ثورته على يزيد جائزة.
مع العلم أن الإمام (ع) كان يعرف أنه ذو قوة عسكرية متواضعة جداً، فهذا هو تاريخه
شهير معروف.
فابن خلدون يرى فسق يزيد ويرى جواز الخروج على الفاسق بشرط وجود القوة، ويريد أن
يجعل الإمام الحسين (ع) واجداً لهذه القوة بظنه فلا يكون آثماً بثورته! فإذا عرفنا
أن الإمام (ع) لم يظن ضخامة قوته العسكرية، بل الأمر بالعكس، نعلم أن ابن خلدون
مزوّر للتاريخ ويتلاعب بالحكم الشرعي. فهو يريد جعل الإمام (ع) مصيباً في الخروج
على الحاكم بأسلوب أو بآخر، بل يصرح ابن خلدون أن عمر بن الخطاب منع رسول الله (ص)
من كتابة الوصية ولم يدن عمر على فعلته(6).