مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه


أدلة إثبات ولاية الفقيه في الكتاب والسنة والعقل والإجماع

مرادنا من ولاية الفقيه أنها رئاسة اضطرارية في زمن غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)؛ فولايته بالتعبير العلمي الأصولي ولاية طولية بالنسبة لولاية الإمام، فهي في مرتبة متأخرة عن ولاية المعصوم. وليست ولاية الفقيه ولاية عرضية مع ولاية الإمام بحيث يكون شريكاً للإمام في المسؤولية وندّاً له. فليس للفقيه هذا اللون من الولاية، لأن ولاية المعصوم كانت طولية بالنسبة لمعصوم آخر، فكل إمام كان مجمد الصلاحيات في زمن الإمام الذي قبله، فكيف يكون حال ولاية الفقيه بالنسبة لولاية المعصوم؟! هذا أولاً..
وثانياً: إن ولاية الفقيه ـ بنظرنا ـ ثابتة عقلاً؛ وعليه فالأدلة الشرعية المتكفلة لإثباتها مؤكدة لحكم العقل وليست متناولة جعلاً جديداً. وعليه فالدليل الشرعي ينفع من لم تثبت الولاية عنده من العقل، ولا ينفعنا نحن وإنما نسوقه لتأكيد الفكرة لا أكثر.
وثالثاً: لا يحكم العقل بلزوم ولاية الفقيه في زمن حضور المعصوم (ع)، فالإمام يفعل بدولته ما يريد. نعم، نحن نعلم أنه يستعين بالعلماء إذا كانت الدولة واسعة؛ يفعل هذا انسجاماً مع العقل والحكمة، لا لأن الفقيه ذو حق على المعصوم؛ ولذا لو فرضنا قدرة المعصوم وحده على إدارة الدولة ـ كما لو كانت صغيرة ـ لما حكم عليه العقل ولا الحكمة بلزوم نصب فقيه أو فقهاء!
رغم بداهة ولاية الفقيه وجدنا العلماء يستدلون عليها ويبحثون عن مدارك مستمسكات علمية لها، والذي يصلح للدلالة عليها والاعتماد عليه ما يلي:
الدليل الأول: الإجماع المنعقد على الولاية من قبل المحقق صاحب الشرائع؛ فاستفادة الإجماع من قول صاحب الجواهر عند السابقين غير بعيدة، فلا يضربه خلاف المتأخر. هذا ولكن الإجماع موهون جداً لما يلي:
أولاً: إن المخالف موجود على ما قيل كابن زهرة وابن إدريس؛ وصاحب الجواهر لم ينف وجود الخلاف وإنما نفى اطلاعه عليه، ولم يدّعِ الإجماع في المقام رغم تحسمه للفكرة، فدعوى الإجماع مجازفة كبرى.
ثانياً: ان هذا الإجماع مدركي؛ فلعل المجمعين اعتمدوا على أدلة أخرى من عقل وأحاديث وأفتوا، فلا يكون قولهم كاشفاً عن موافقة الإمام (ع) فيسقط الإجماع عن الاعتبار.
ثالثاً: إن الإجماع لم يثبت قيمته ـ بنظرنا ـ في علم الأصول؛ فلا نعده من الأدلة ولا نحفل به، سواء أيّدنا أم عارضنا.
الدليل الثاني على ولاية الفقيه: العقل القائل بحتمية الحاكم في زمن الغيبة كزمن الحضور، كما يحكم بلزوم تنفيذ حكم الله لا سواه، ولابدّ من علم الحاكم بالنظام الذي ينفذه، وهذا هو الفقيه الذي إذا رفضنا حكومته نقع في أحضان حكومة الشيطان، لأنه هو البديل الوحيد عن حكومة الإسلام العادلة.
ويظهر من بعض المؤلفين في الحكومة الإسلامية نقاش في الدليل العقلي المذكور، فقد قال: فإننا كما نحتمل أن تكون الولاية العامة بيد الفقيه نحتمل أيضاً أن تكون في كثير من المجالات بيد الأكثرية ـ مثلاً ـ مع اشتراط إشراف الفقيه على الجوانب الفقهية للقوانين، لضمان انسجامها مع الشريعة الإسلامية، وهو أمر غير الولاية العامة للفقيه.
وكذلك نلاحظ وجود مجالات حياتية عديدة لها خبراؤها الأخصائيون، وكما نحتمل أن تكون الولاية العامة للفقهاء مع اعتمادهم على هؤلاء الخبراء في ملء فراغ المجالات، نحتمل أن تكون الولاية بيد الخبراء على أن يراجعوا الفقهاء بقدر ما يتصل بالفقه. ومن الواضح أن النتائج العلمية قد تختلف باختلاف كون الرأي الحاسم لهذا أو لذاك(7).
وليس من شك في بطلان هذه الاحتمالات للأسباب التالية:
الأول: أنها مبنية على الاعتقاد بأن الفقيه مجرد مبدي رأي الفقه الإسلامي، فكأن الفتيا جاهزة على الرف وما على الفقيه سوى إبداء الرأي! ولكن هذه الفكرة خاطئة حتماً، فلابدّ من مشاركة الفقيه في تشخيص الموضوع ودراسة الظرف إن كان يسمح بالحركة، فلا يكفي حكم الأطباء ـ مثلاً ـ بضرورة بناء مستشفى الآن ليحكم الفقيه بجواز البناء، فلعل هناك شيئاً أهم كإيواء شعب مهجّر أو بناء جامعات دراسية ونحو ذلك من أمور ملحة أجدر بالاعتبار.
الثاني: ان الأكثرية مدانة عقلاً في كثير من الحالات، فما أكثر اتفاقها على باطل؛ كما أنها مدانة دينياً في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، فلا ربط بينها وبين إصابة الواقع ليكون مجال لاعتبار قولها دون قول الفقيه الخبير.
الثالث: ان اللجوء للأكثرية يشلّ الحياة عن الحركة؛ فكيف يستقيم الحال إذا أردنا أخذ رأي الأكثرية في كل أمور الأمة؟! ولو كان المراد الأخذ برأي أكثرية أعضاء مجلس الشورى ـ مثلاً ـ لوقعنا في مشكلة إماتة رأي أقلية الأعضاء التي قد تكون أخبر وأنضج ذهنياً، والتي تمثل من الشعب مساحة واسعة.
الرابع: ان تشكيل مجلس يمثل الأكثرية يفقد الدليل الديني والعقلي على مشروعيته، ما دام الهدف منه الوقوف في وجه ولاية الفقيه أو يكون بديلاً عنها؛ فالعقل يرفض مجلساً كهذا يكون عبئاً على الأمة بتكاليفه الباهظة، وبأشخاصه المتفاوتين في الإدراك والميول، والذين قد يضيّعون الكثير من مصالح الأمة نتيجة مناقشاتهم التي لا تنتهي. بينما الفقيه المتدين المحنك الخبير بشؤون الحياة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وما شاكل يكون البلسم الشافي والهين اللين والغيور الساهر، الذي لا يعرف معنى للتلكؤ. فهذا الفرد في نظر العقل أرجح من مجلس الشورى وأكثريته.
الخامس: إن الأكثرية برجوعها للفقيه كما هو المفروض تقر بولاية الفقيه من دون أن تشعر، لأن عليها تنفيذ رأيه بعد أن أعطى الحكم الشرعي على موضوعه الذي عاشه الفقيه بعمق. فقد يعطي حكماً ضد رغبة الجميع، وما عليهم سوى السمع والطاعة من أكبر رأس في الدولة إلى أصغر شخص؛ وهذا المعنى هو الولاية الكبرى التي جعلت الفقيه صاحب القرار الأول والأخير، ويستطيع هدم ما بناه الآخرون. ومن هذه المناقشات يتضح لنا تمامية الدليل العقلي على ولاية الفقيه.
الدليل الثالث على ولاية الفقيه: الكتاب الكريم الذي لم نجد أحداً تمسك بشيء من آياته لدعم ولاية الفقيه، وإنما وجدناهم يستدلون بالآيات على إقامة الحكومة الإسلامية من دون أن يجدوا لها آية تحدثنا عن قائد هذه الحكومة. ونحن قد ظفرنا بعون الله وفضله بعدة آيات تعني ولايته بأسلوب أو بآخر.
وقد دلت الآيات على ولاية الفقيه بالعنوان الأولي لا بعنوان الاضطرار، والذي هو حكم ثانوي. وبعض الآيات يحتاج قرينة عقلية كي تتم دلالته كما سيتضح إن شاء الله تعالى.
ومن لوازم إطلاق بعض الآيات ـ إن لم يكن الكل ـ عصمة هذا الفقيه الولي؛ وحيث كنا نريد إثبات ولاية لغير المعصوم كان التمسك بالآية من باب التمسك بملاكها ومغزاها الأكبر، أعني تفوق العالم على من سواه وحكومته عليه، ولا مانع من هذا التمسك أبداً بعد أن كان الفقيه مصداقاً للعالم. فالآية لا تسمي الشخص حتى تسقط دلالتها بذهاب شخصه أو عصمته، بل هي تذكر الوصف (العالم) وما شاكل. والعصمة ثبتت من قرائن المقام كالأمر بإطاعته إطاعة مطلقة، فتكون العصمة لازماً عقلياً قهرياً، وأنه لا يدعو لمعصية ولا فساد، وإلاّ لما كان الله تعالى أمر بإطاعته بشكل مطلق. وهذا المعنى دل عليه العقل دون اللفظ.
وباختصار نقول: الفقيه مصداق من المصاديق التي تتسع الآية لها مع صرف النظر عن العصمة (اللازم). ولو فرضنا أن بعض الآيات دال على ولاية الفقيه غير المعصوم لما ضرّنا هذا بشيء ولا يصير الفقيه شريكاً للمعصوم في أمر الأمة وإدارتها، لأن الجمع بين هذا اللون من الآيات وبين ما دل على ولاية المعصوم يبين لنا أن ولاية الفقيه طولية بالنسبة لولاية المعصوم، تماماً كولاية المعصومين (ع) بعضهم مع بعض. فالأدلة قد جعلت ولاية لهم (ع) معاً على مستوى واحد، لكن كان تنفيذ هذه الولاية المجعولة بشكل طولي ترتّبي، واحداً بعد الآخر، من دون أن تخلق هذه الطولية منافسة بين الأول والآخر، بل كان الثاني يطيع الأول حتى يأتي دوره في قيادة الأمة، حيث تصبح إمامته فعلية.
وبعد هذا نعرض الآيات الكريمة الدالة على ولاية الفقيه، وهي في الواقع كثيرة، ونحن نعرض آية من كل نوع، وربما يجد المتتبع والمتأمل أضعاف ما وجدنا، ففوق كل ذي علم عليم.
الآية الأولى: قوله عز وجل {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون... هم الظالمون... هم الفاسقون}(المائدة:44ـ47). فالآيات واضحة في لزوم إقامة نظام الله عز وجل، وأما شخصية هذا المنفذ للنظام والحاكم به فيحدّده قوله عز وجل: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}(الإسراء:36). فالمنفذ لنظام الله لابدّ أن يكون على علم به، فلا يجوز له اتباع ولا فعل ما يجهل. فالعالم بالحكم الإلهي هو الفقيه الواجب عليه الحكم بما أنزل الله، والواجب على الناس إعانته على ذلك الواجب المقدس، حتى لا يكونوا كافرين يسمحون لغير حكم الله بالحياة وبالوجود على ظهر هذه الأرض.
الآية الثانية: قوله عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً}(النساء:65).
فلا إيمان إلاّ بتحكيم الرسول (ص) في المنازعات التي نشبت، وإلاّ بالاستسلام لما حكم بكل معنى الكلمة. وحالة التنازع موضع من المواضع الواجب عليهم الرجوع فيها للرسول (ص) وليست هي الحالة الوحيدة قطعاً، بدليل نفي الإيمان عن القوم، فإذا لم يرجعوا للرسول في نزاعهم كانوا غير مؤمنين، كذلك لا يكونون مؤمنين إذا لم يتنازعوا، وإنما اتفقوا على الحكم بغير ما يرضي الله وبخلاف ما أنزل، كما لو اكتفوا بلوم الزاني ـ مثلاً ـ طارحين حكم الله الآمر بجلده مائة جلدة. فهم غير مؤمنين إذا تخلّوا عن حكم الله عز وجل سواء في ذلك مقام الخصومة وغيره، فهذا هو المستفاد من لب الآية، فلا تكون خاصة بالقاضي بين المتخاصمين حسبما يوحي به جوّها لأول وهلة. وهذا الرجوع للرسول (ص) ليس ثابتاً له بما هو رسول الله، لأنه يعني عدم وجوب الرجوع للإمام المعصوم ولا للقضاة الذين نصبهم الرسول للحكم بين الناس، كمعاذ بن جبل الذي نصبه النبي حاكماً على اليمن، ولا هذا الرجوع ثابت له من باب أنه معصوم لأنه يتعطل نظام القضاة في الدنيا ولا يبقى معنى لنصب القضاة في البقاع الإسلامية كما فعل الرسول وآله (ص)، فتعين أن يكون الرجوع إليه من باب أنه عالم بأحكام الله تعالى، فهذا هو السر الذي لو حصل عليه غيره لوجب الرجوع إليه. وهذا المعنى موجود في الفقيه العارف بالأحكام والضليع بأمور الدين.
الآية الثالثة: قوله عز وجل حكاية عن كليمه موسى والعبد الصالح (عليهما السلام): {قال له موسى هل أتّبعك على أن تعلمنِ مما عُلّمت رشداً * قال إنك لن تستطيع معي صبراً * وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبراً * قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً}(الكهف:66ـ70).
فكليم الله النبي موسى يلقي قياده للأعلم منه، للعبد الصالح، فلا العبد الصالح يرضى أن يأخذ ما ليس له، ولا يوجّه أوامر الطاعة إلى من فوقه أو من يساويه في المرتبة، ولا النبي موسى يتنازل عن حق لصيق به، ملازم له بحكم الله تعالى. فقد أصبح النبي موسى كليم الله. هذا النبي الضخم أصبح مأموراً هنا ويعلن إطاعته المطلقة لأوامر العبد الصالح الملهم المحيط بباطن الأمر وظاهره؛ فالآيات تقول إن حاكم المجتمع هو الأعلم والأفقه والأخبر بالأمور. فهذا هو مغزاها الأكبر الذي ينبغي التأمل فيه. فالآيات تؤكد هذه البديهة.
الآية الرابعة: قوله عز وجل: {أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}(الزمر:9).
فالاستفهام واضح في النفي؛ فهي تنفي تساوي العالم والجاهل، وحيث إنه لابدّ من حكومة للناس كما مرّ معنا مكرراً، فإما أن تكون الحكومة للجاهل على العالم وإما العكس. ولا شك في بطلان الفرض الأول، لأن الآية تنفي المساواة بينهما، فهي بالطريق الأولى تنفي سلطان الجاهل على العالم، حيث يحكم بعرضه وماله ودمه، فتعين الفرض الآخر وهو كون الحكم للعالم. وإذا ضممنا للآية الآيات الدالة على لزوم إقامة حكم الله عز وجل يكون الحاصل أن الحكم للفقيه العالم بالله ودينه.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}(التوبة:122).
فالنفر واجب على الطائفة لتتفقه في الدين بآدابه وعقيدته وأحكامه، وعلى الطائفة المتفقهة إبلاغ قومها حكم الله وتعاليمه، فلعل الناس تحذر وتفيق من سباتها وترجع إلى الله عز وجل. ومن الواضح وجوب سماع أقوال الفقهاء والائتمار بأوامرهم، ولا فرق في وجوب القبول من الفقهاء بين نقلهم الحكم مباشرة كحرمة شرب الخمر وبين إعمال نظرهم لاستخراج الحكم الشرعي، كما لو أجمعوا بين العام والخاص ـ حسبما تفرضه قواعد علم الأصول ـ.
كما أنه لا فرق في قبول قولهم بين نقلهم الحكم المنصب على مفهوم مباشر كحلّية التجارة، وبين إعمال جهدهم وصب رأيهم على موضوع كما لو حرموا السباحة في البحر لاعتبار ما، ومن باب الحكم الثانوي الذي يجد الفقيه له أكثر من مبرر وفي ظرفه الخاص، فكل ذلك واجب القبول لأنه صادر عن فقيه مأمور بإنذارنا. وإذا لم يجب علينا القبول كان الإنذار لغواً في لغو، ولا يكون لهذا الاستنفار التفقهي أي معنى أبداً. وهذا هو معنى الولاية؛ فالفقيه قائد مطاع ولا يجوز لأي أحدٍ أن يتخطاه. فالآية الكريمة تجعل ولاية للفقيه بحد ذاته، أي من حيث هو فقيه، ولكنها بالنسبة لولاية المعصوم (ع) ولاية طولية بلا شك، لأن ذلك تفرضه الأدلة القاهرة.
الآية السادسة: قوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبع أم من لا يهدِّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون}(يونس:35).
فالاتباع للذي يهدي إلى الحق، فهو حقيقة واضحة توردها الآية بأسلوب الاستفهام الاستنكاري، والفقيه العارف بأحكام الله وشؤون الحياة هو الذي يهدي إلى الحق دون سواه، حتى ولو كان عالماً بالطب والرياضيات وما شابه ذلك، فمادام يفتقد الخبرة السياسية العميقة والمعرفة الدينية الغزيرة فهو لا يهدي الشعوب إلى الحق ولا يقود الأمة إلى الصواب ولا يتخذ القرار المرضي لله. فالفقيه الخبير بالدين والدنيا أوضح مصاديق هذه الآية وهو أحق بالاتباع.
الآية السابعة: قوله تعالى: {ولا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}(آل عمران:139).
فإذا كان الحاكم الذي يملك القرار الحاسم في نفوسنا وأموالنا وأعراضنا غير كفؤ دينياً أو سياسياً أو فقهياً فهذا هو الهوان لنا والحزن والبؤس، وعندما نكون الأسفلين الأذلين؛ فلا يتحقق مفهوم الآية إلاّ بأن يكون الذي يجب علينا طاعته جديراً بالقيادة دينياً وسياسياً وخلقياً، فعندها نكون الأعلين الأقوياء الأعزاء.
الآية الثامنة: قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(الأنبياء:7).
فمهما كان المراد بأهل الذكر فإن مغزى الآية العميق هو السير وراء العلم، فالشيء الذي لا تعرفه تسأل عنه لتنفذ قول العالم، وإلاّ لكان الأمر بالسؤال بلا قيمة. فالعالم بالدين وشؤون القيادة والحياة هو من أهل الذكر المطلوب من الناس سؤاله والانصياع لأوامره، وهذا معنى الولاية والحاكمية.
الآية التاسعة: قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدةٍ}(النور:2).
فالآية واضحة في وجوب إقامة الحد والعقوبة، وليس من شك في أنه ليس لكل أحد إقامة الحدود والعقوبات، لأن ذلك ينتج فوضى مريعة، ويتفشى القتل والجلد والخطف بحجة إقامة الحدود، فلابدّ من شخص يمارس إقامة الحد ويعينه عليها المجتمع، ولذا كان الأمر بالجلد موجّهاً للكل. وهذا الذي يتولى الحكم في المجتمع وبين الناس هو رسول الله (ص)، وقد بيّنا سابقاً أن هذا ثابت له بما هو عالم بالدين، لا بما هو رسول، ولا بما هو معصوم، وقد أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً}(النساء:105). فالغاية من إنزال الكتاب والدين هي الحكم بالحق الذي أنزله الله، وهو يحكم لكونه يعلم بالكتاب الكريم والدين القويم، فكل عالم له الحكم والأمر.
الآية العاشرة: قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله}(النساء:64).
فالغاية من الإرسال إطاعة الناس له في التعاليم التي يحمل، ليوجد المجتمع الصالح، وهذه الطاعة التي هي حق ثابت له ثبتت له بما هو مبلغ عن الله تعالى لا بما هو رسول، وإلاّ لكان دينه يموت بموته؛ لأن وصف المرسل والمبعوث وما شاكل ينتهي بانتهاء الحياة. فالأمر الباقي من الرسول للأجيال القادمة إنما هو دينه ورسالته اللذين تلقاهما عن الله وبلّغهما للناس، فكانت الأجيال مأمورة بالطاعة لوصول التبليغ لها؛ فالطاعة ثابتة له بما هو مبلّغ عن الله تعالى. وهذا المعنى موجود في الفقهاء الراسخين في العلم. وبكلمة أخرى لو كان مبدأ الإطاعة مقصوراً عليه من حيث كونه رسولاً فقط لما وجبت طاعة الإمام لعدم كونه رسولاً؛ كما لا تجب أيضاً إطاعة المجعول رئيساً من قبل الرسول لنفس السبب، وبطلان هذا اللازم واضح جلي، فلابدّ من كون إطاعته من باب كونه عالماً مبلّغاً عن الله تعالى. وهذا المغزى موجود في الفقيه بلا أدنى شك، فهو الأمر الذي يجب أن يطاع ولا يجوز الخروج على قراره.
الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}(المجادلة:11).
فالمؤمن مرفوع على من سواه هنا في الدنيا؛ فشهادته مقبولة وغيبته محرمة؛ وبه يجوز الاقتداء في الصلاة، وله ولاية على القاصرين والمجانين في بعض الحالات، بينما لا يثبت لغير المؤمن شيء من ذلك أبداً. والعالم إذا كان غير مؤمن فهو هابط جداً بنظر الله تعالى؛ ففي سورة الجمعة يجعله كالحمار. وفي الآيتين (175ـ176) من سورة الأعراف يجعله كالكلب. وأما لو كان العالم مؤمناً متقياً فهو مرفوع درجات على من سواه من الناس؛ فولايته على المجتمع من هذه الدرجات الرفيعة التي رفع الله العالم إليها.
وبعبارة أخرى لا يحصل معنى للرفع إلاّ بحكومة العالم المؤمن على من سواه؛ فلو كان العالم مساوياً لغيره في المرتبة والمنزلة، أو كان غير حاكم عليه وأعلى منه لما تحقق معنى الرفع أبداً، وكان التفوق لغير العالم على العالم؛ وهذا ضد منطوق الآية وخلاف صراحتها الواضحة، بل إن تقريب دلالتها على ولاية الفقيه عبء لا مبرر له.
وأخيراً نحب لفت النظر إلى أن الآيات السابقة الكريمة تمثل النوع لا الكم، فعدد الآيات أكثر من ذلك بكثير، ولكن أخذنا عيّنة من كل نوع؛ أخذنا من لزوم إقامة حكم الله، وإطاعة الرسول، والرجوع إلى الرسول في حل الخلاف، وتفضيل العالم على الجاهل، وإقامة الحدود، وعزة المؤمنين، والأمر بالتفقه وسؤال العلماء، وأولوية الأعلم والأهدى إلى الحق. ولعل هناك أنواعاً أخرى من الآيات الكريمة تعني ولاية الفقيه، ولم نتمكن من ملاحظتها لسبب أو لآخر.
الدليل الرابع على ولاية الفقيه: السنة الشريفة. وقد كثر الحديث في ذلك واستفاضت الأخبار بل تواترت في جعل ولاية الفقيه بشكل مبدئي، ولكن حصل النظر في حدود هذه الولاية؛ ولبيان ذلك موضع آخر يأتي قريباً إن شاء الله، وإنما الآن نأخذ نماذج من الأخبار الشريفة.
النموذج الأول: ما دلّ على جعل الفقيه حاكماً؛ وأوضح مثال لذلك رواية عمر بن حنظلة الشهيرة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟!
قال (ع): من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذه سحتاً، وإن كان حقه ثابتاً، لأنه أخذ بحكم الطاغوت؛ وإنما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}.
قلت: فكيف يصنعان؟
قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا قد رد؛ الراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله(8).
وهذه الرواية الشريفة يعتبرها الكثيرون دالة على جعل الفقيه قاضياً فقط، ولا تدل على ولايته العامة ولا على حكومته المطلقة، نظراً لظهورها في القضاء وقطع الخصومة، ولكن هناك دلالات وقرائن تجعلها صالحة لإثبات ولايته العامة.
القرينة الأولى: كون التحاكم للآخرين تحاكماً ورجوعاً إلى الطاغوت الواجب علينا الكفر به، فالرجوع إليهم ليحكموا بيننا في الأمور ـ حتى ولو كانت صغيرة كالنزاع في بيضة دجاجة ـ أمر محرم ورجوع إلى الطاغوت؛ فما حال الرضا بولايتهم على الأنفس والدماء والأعراض؟! فما هو واجب المؤمنين اتجاه الحكومة المنحرفة في ظرف غيبة الإمام؟! فكيف يحرم التحاكم إليهم في أمر البيضة بينما يجوز الرجوع إليهم في إدارة البلاد والعباد؟! وهل هناك تناقض أفحش من هذا وأفظع؟!
القرينة الثانية: ان المصلحة الإسلامية العليا التي قضت برفض قضاة الجور، وقضت بتعيين الإمام حاكماً عادلاً بديلاً عن قضاة الجور، هي نفسها ـ وبشكل أولي ـ تقتضي جعل الفقيه حاكماً عاماً. فإذا كان الحفاظ على العدل دفع الإمام لتعيين قاضٍ يحكم بالعدل في النزاع حول البيضة وباقة البقل وغير ذلك من محقرات الأشياء التي ينشب النزاع حولها بين الناس؛ فإن ذلك الحافظ بالأولى يدفع الإمام لتعيين الحاكم العادل المسؤول عن البلاد والعباد. فمفهوم الأولوية ثابت في جعل الفقيه حاكماً عاماً كمفهوم الأولوية في حرمة الخضوع لحكومة الآخرين.
القرينة الثالثة: ان للقاضي صلاحية القهر والعنف لو تمرد المتنازعان أو أحدهما على حكمه، وهذا الحق ثابت له بالبداهة، وإلاّ ينسد باب القضاء لعدم سلطته على رافض الحكم؛ والفقه مشحون بالفتوى بذلك، فحمل القاضي للمتنازعين على تنفيذ حكمه على الرغم منهما هو آية الحكومة والولاية والتسلط على الناس. فإن القضاء الذي هو مجرد صدور حكم بين المتنازعين شيء، وسل السوط لقهر الرافض للحكم شيء آخر. فالولاية على النفوس ـ إذن ـ من اللوازم الحتمية للقضاء، ولكن لسعة هذه الولاية بيان آخر.
القرينة الرابعة: قوله (ع): "فإني قد جعلته عليكم حاكماً". فهو على الجميع حاكم لا على خصوص المتنازعين وعند القضاء فقط لا عليهما في كل الحالات، فهذا خلاف الظاهر من الرواية. فتعبير (حاكماً) و(عليكم) يدلان على سلطنة الفقه المطلقة، وما القضاء سوى بعض مهماته. وليس في الرواية ما يخصصها بالقضاء، ولا حرف هناك يوحي بذلك، وإنما موردها القضاء والخصومة، والمورد لا يخصص الوارد حسب التعبير الأصولي، فكان جواب الإمام شاملاً وحالاًّ مشكلة المؤمنين من أساسها حتى لا يحتاجوا للجائر في السياسة والقضاء وغيرهما.
القرينة الخامسة: ان الرد عليه رد على الله تعالى في نهاية المطاف. ولو كانت الرواية تجعله قاضياً لجاز الرد عليه لو اجتهد وحكم بمسألة سياسية، كوجوب التظاهر غداً لإسقاط الحكومة الظالمة، فللجميع أن يردوا عليه هذا الحكم الخطير الحيوي الذي ينهض بالبلاد من الموت، بينما لا يجوز لأي واحد أن يرد عليه حكماً أصدره في بصلة قد تنازعها اثنان وفصل بينهما؛ فرد الحكم هنا زندقة وإلحاد، بينما رد الحكم في المثال الأول ينسجم مع التقوى والدين، وهذا هو غير المعقول وباطل بالبداهة.
القرينة السادسة: ان تفخيم الإمام للفقيه بلغ الذروة حتى صار آبياً عن كل تخصيص. فهو بهذا الترقي التدريجي قد اتبع أسلوب الخطوة فالخطوة حتى أوصل السامع للحقيقة الكبرى من دون أن ينزعج فكره أو يضطرب كيانه. ولربما وجد الكثيرون صعوبة في قبول كلام الإمام (ع) الآنف لو قاله تلقائياً هكذا من دون تمهيد (فإني قد جعلته عليكم حاكماً والرد عليه على حد الشرك بالله)، بينما الأسلوب الذي اتبعه الإمام (ع) قد بيّن به دليل الفكرة وأن الفقيه مدعوم من الإمام مباشرة وأن حكمه نابع من قول أهل البيت (ع) وفقههم لا من بيته ولا من بيت أبيه؛ فالرافض له رافض لهم. وعلى هذا فالعبارة المذكورة تأبى التخصيص، فلا يجوز الرد على الفقيه في مقام دون مقام، لأنه مدعوم من الإمام الواجب الطاعة في كل قراراته. فإذا أصدر الفقيه حكماً اجتماعياً بين متخاصمين أو لإدارة البلاد يكون الرد عليه في هذا أو ذاك رداً على الله تعالى, وهذا بالطبع لا يشمل الفتوى كما لا يشمل الحالات الأخرى التي نعلم خطأ الحكم فيها ومخالفته للواقع، وغير ذلك من تفصيلات في محلها.
وأخيراً لا نظن أننا بحاجة إلى التكلم في سند الرواية، فقد أخذها العلماء وعملوا بها حتى صارت معروفة باسم (المقبولة)، ولكنها في الواقع صحيحة، فإن عمر بن حنظلة ثقة؛ فقد روى عنه الأجلاء الكبار، وأخذوا عنه معالم دينهم ليعملوا بروايته شخصياً ويفتوا بها للناس ويعلّموا الجاهلين. وهؤلاء لا يروون عن كاذب ولا عن مجهول الدين والاستقامة. فلو لم يكونوا يثقون بدينه لما رووا عنه، فإن الشهادة العملية أبلغ من الشهادة القولية. فقد روى عنه زرارة وعبد الله بن مسكان وصفوان بن يحيى وعبد الله بن بكير وعلي بن رآب وهشام بن سالم وسيف بن عميرة وداود بن الحصين وغيرهم من الرواة الثقات، ولا وجه معقول ولا مشروع ليرضى هؤلاء بشيخ كاذب يفقههم بالدين وآدابه. ولا نصغي للتشكيكات في ذلك فهي بعيدة عن العقل والواقع!
وقد يتوجه اعتراض آخر على الرواية وهو أنها صادرة عن الإمام الصادق (ع) باعتبار كونه حاكماً لا مفتياً مبلّغاً عن الله أحكامه الواقعية "إني قد جعلته عليكم حاكماً" واضحة في كون الإمام مارس هنا صلاحيته الخاصة لا أنه أبلغ حكماً في الحلال والحرام. ومن الواضح أنه ليس للحكم قابلية الاستمرار في الزمن كما تملك الفتوى هذه القابلية لأنه بإمكان الإمام الجديد أن يلغي قراراً اتخذه الإمام الأول لمصلحة تقضي ذلك، حسبما يرى، فالأحكام السياسية والصادرة لإدارة المجتمع تختلف باختلاف الحالات، بينما الفتوى ثابتة للأبد. فحلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة. بينما الحكم يفقد فعاليته إذا ألغاه الإمام نفسه في زمن آخر أو ألغاه الإمام الآخر من بعده، وعلى هذا فنحن بحاجة لإثبات أن الأئمة الباقين لم يلغوا جعل الإمام الصادق (ع) حتى تثبت ولاية الفقيه الآن.
والجواب على هذا الاعتراض من وجوه عدة:
الأول: ان الأحكام والفتاوى تتعرض للنسخ والتبديل كحكم الحاكم في إدارة المجتمع تماماً؛ فلا ننس نسخ وجوب التوجه في الصلاة لبيت المقدس وأصبح الواجب التوجه للكعبة الشريفة. وحديث حلال محمد(ص) الخ... معناه أن رسالة النبي خاتمة الرسالات فلا نبي بعده، أو أن النسخ يطرأ على بعض الأحكام ويبقى أكثرها ثابتاً. فالتفرقة بين الحكم والفتوى في الدوام وعدمه تفرقة بلا أساس.
الثاني: ان المصلحة التي دعت الإمام الصادق (ع) للجعل المذكور ما زالت باقية، فالعدل لم يحكم ولا أهل البيت (ع) استلموا الزمام، والسبب في الجعل المذكور رفض التحاكم عند أهل الجور؛ وهذا السبب ما زال قائماً ويتأكد في زمن الغيبة، ففي زمن الحضور قد يهون الأمر على المؤمنين بالرجوع إلى الإمام (ع)، وأما الكارثة الكبرى ففي زمن الغيبة!
الثالث: ان الأئمة الباقين (ع) قد صدر عنهم ما يؤكد جعل الإمام الصادق (ع)، فلا يبقى شك في المسألة، كما سنرى إن شاء الله تعالى، بل يكفي سكوتهم عن القرار ليبقى نافذ المفعول للأبد، إذ لو كانت مصلحة الجعل منتهية لأبلغ ذلك الإمام الجديد للناس.
الرابع: ان هذا الأسلوب في الحكم يفرضه طبع الحياة، وقد سار عليه الإسلام؛ فالوالي من قبل رسول (ص) والإمام (ع) على منطقة هو حاكم عليهم ذو صلاحيات كالرسول والإمام، فهذا هو واقع التأريخ الإسلامي، غاية الأمر أن أمير المؤمنين (ع) يعين شخصاً خاصاً حاكماً على مقاطعة معينة، بينما الإمام الصادق (ع) جعل الحكم والولاية لكل جامع للأوصاف الموجودة في الحديث. فليس هذا النوع من التشريع جديداً على الدين حتى تثار التشكيكات في صلاحيته للبقاء وغير ذلك، فإن الفقيه الجامع للشروط ليس أنقص حظاً من زياد بن أبيه الذي كان حاكماً على بقاع إيران من قبل أمير المؤمنين (ع) الذي كان يراقب حكامه ويرعاهم.
النموذج الثاني من أخبار ولاية الفقيه: الأخبار التي أرجعت له من حيث كونه عالماً مفتياً ينوب عن الإمام ويعطي معالم الدين؛ وهذا الصنف من الأحاديث كثير نذكر منه أربعة أحاديث:
الحديث الأول: عن عبد العزيز بن المهتدي ـ والحديث صحيح ـ قال: قلت للرضا (عليه السلام): إن شقتي بعيدة، فلست أصل إليك في كل وقت. فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين! قال: نعم(9).
فمعالم الدين بكل ما تعنيه هذه الكلمة وبكل ما للدين من شمول يستوعب الحياة كلها؛ هذه المعالم تؤخذ عن يونس بن عبد الرحمان العالم الجليل. فالإمام جعله مرجعاً للمؤمنين البعيدي الشقة الذين يصعب عليهم الاتصال بالإمام. وهذا الجعل ليس خاصاً بيونس، فالجعل لكامل الأوصاف مهما كان اسمه، فهذا واضح عند العقول وفي العرف العالم وفي الأحاديث الشريفة أيضاً.
الحديث الثاني: عن يونس بن يعقوب ـ والحديث صحيح ـ قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: أما لكم من مفزع! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري(10)؟!
فكلام الإمام واضح الإلحاح في الارتباط بالفقيه الذي هو الملجأ للناس والمفزع لحل المشاكل، والذي هو المستراح الباعث للهناء والأنس في الأمة، ولا نعني بالولاية سوى هذا.
الحديث الثالث: عن علي بن المسيب الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت؛ فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا. قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عما احتجت إليه.
الحديث الرابع: ـ وهو صحيح، ونعني بالصحة في كتابنا هذا اعتبار الإسناد لا المصطلح المعروف ـ عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه ليس كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه. فقال: ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً(11).
النموذج الثالث من أخبار ولاية الفقيه: ما يأمر بإطاعته والانصياع له؛ فقد روى عبد الله بن جعفر الحميري حديثاً قوي الإسناد جداً، وهو طويل نأخذ منه موضع الحاجة، فقد وجه سؤالاً لعثمان بن سعيد العمري أول الوكلاء الخاصين في الغيبة الصغرى رضي الله عنه، وكان بحضرة أحمد بن إسحاق وفي بيته. فذكر عبد الله تزكية عظيمة واردة في حق الشيخ أبي عمرو عثمان بن سعيد، فقال فيما قال: وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام) [الإمام الهادي] قال: سألته وقلت: من أعامل؟ أو عمن آخذ؟ وقول من أقبل؟
فقال له: العمري ثقتي؛ فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول؛ فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون.
وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) [الإمام العسكري] عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان؛ فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك عني فعني يقولان؛ فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان.
فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.
قال: فخرّ أبو عمرو ساجداً وبكى، ثم قال: سل حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف (الإمام المهدي عجل الله فرجه) من بعد أبي محمد (عليه السلام)؟ فقال: أي والله ورقبته مثل ذا (وأومأ بيده)... الخ(12). فالحديث واضح في وجوب إطاعة الشيخ أبي عمرو. فقوله واجب القبول سواء كان حديثاً مروياً عن الإمام وآبائه (ع) أم حكماً صادراً منه في أمور معينة كتحريم السفر عليه في يوم معين أو لمكان خاص؛ فعلى الناس السمع والطاعة للفقيه المفتي في الأحكام الأولية كوجوب غسل الجمعة، وفي الأحكام الثانوية كحرمة رفع السعر المجحف بالمجتمع. وحكم الحاكم قد يكون من باب الحكم الثانوي كتطليقه زوجة الممتنع من الطلاق والنفقة، وقد يكون من باب الحكم الأولي كحكمه بين المتنازعين ليفصل بينهم. فقرار الفقيه حكم شرعي في كلا الحالين، ولا يجوز للمرء التمرد عليه. ونقول هذا بشكل مبدئي، وسيأتي الفرق بين الفتوى وحكم الحاكم عن شاء الله تعالى. فالحديث واضح في جعل المولوية للفقيه، فالسمع والطاعة له واجبان. وليس حديث الإمام (ع) عن الشيخ أبي عمرو من حيث هو راوٍ وناقل حديث ليس إلاّ؛ فتشديد الإمام لا يتناسب مع ذلك أبداً، لأن ركيزة الراوي وثاقته، فعبارة واحدة من الإمام (ع) تبين وثاقته وكفى. فيكفي قوله (ع) "العمري ثقتي؛ فما أدى إليك عني فعني يؤدي". بل يكفي جملة (العمري ثقتي)، فهو ثقة عند الإمام وكفى بهذا شهادة جلال ليكون مقبول الرواية بلا تحفظ من أحد. ولا داعي بعد ذلك لهذا التركيز على أنه لسان الإمام، وبأكثر من عبارة، كما لا داعي لأن يأمر الإمام بوجوب طاعته والسمع له. فأين الراوي الذي هو مجرد ناقل من وجوب السمع له والطاعة‍!
كما أن السائل (أحمد بن إسحاق) لم يسأل عن مجرد راوٍ موثوق بقوله ونقله عن الإمام ليعمل هو بالرواية المنقولة، بل سأل عن شخص يكون قراره الديني مقبولاً؛ فهو قد سأل عن قائد وموجّه، فهو يسأل الإمام (ع) ويقول من أعامل؟ فهو يطلب شخصاً يتعامل معه في كل قضاياه الدينية، ويرجع إليه ويستفتيه ويسأله عن موقف الدين في الكبيرة والصغيرة. وكذا يعطي نفس المعنى قوله: عمن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فهو يطلب من يعبئ له الفراغ ويكون قوله واجب القبول. وكان جواب الإمام (ع) معيناً القائد والمرجع صاحب القرار الفعال.
والحديث يجعل صاحب الصفات مرجعاً، لا خصوص الشخص؛ فالإمام الهادي (ع) قد جعل الشيخ أبا عمرو دون ولده لعدم أهليته لذلك يومها، وإلاّ لكان قرنه بأبيه كما فعل الإمام العسكري (ع) فهما ثقتان مأمونان فقيهان يسمعان من الإمام(ع) ويأخذان العلم من معدنه الصادق؛ فمن كان بأوصافهما كان قائداً مثلهما.
الخبر الثاني من هذا النموذج حديث شعيب العقرقوني ـ والحديث صحيح ـ قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي، يعني أبا بصير(13).
فالإمام يأمر بالرجوع إليه ويكشف أن قوله حجة في الأمور التي يعطي فيها رأياً شرعياً. ولا فرق في قبول قوله بين الجواب عن السؤال وبين ابتدائه بالحديث. فقراره الديني واجب القبول في كل الأمور؛ وهذا هو ما نعنيه بولاية الفقيه لا أكثر.
الحديث الثالث من هذا النموذج قول الإمام الرضا (عليه السلام) لأحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع(14).
والحديث من كتاب السرائر للشيخ ابن إدريس الحلي (رحمه الله) الذي لا يعمل بأخبار الآحاد، فهو في منتهى درجات الاعتبار حتى سطره ذلك العالم بكتابه. وليس المراد من التفريع قياس شيء على شيء كالإفتاء بحرمة لحم الضبع قياساً له على الكلب ـ مثلاً ـ الذي قد ورد النص بحرمته، فهذا مرفوض في الإسلام وفي شرع أهل البيت (ع)، وقد بلغت الأحاديث الواردة عنهم (ع) في ذمه ورفضه المئات. ولا يغيب عن بالنا أيضاً أن هذا ليس تفريعاً يعنيه الإمام (ع) من قوله، فهو سحب حكم من مفهوم لمفهوم آخر غير منصوص ومستقل عن الأول، تماماً كما رأينا في المثال؛ فالتفريع تطبيق الحكم على أفراده ومصاديقه؛ فالمشرع يعطي القاعدة والمكلف يطبقها على الخارج وليس المشرع ملزماً بذكر مصداق المفهوم، فالإمام (ع) يفتي بحرمة النجس وليس عليه أن يقول إن ما في وعائك ـ مثلاً ـ من مصاديق ذاك النجس الحرام الذي تعرف الناس مصاديقه ولا تخفى على أحد.
نعم، على الشارع الكريم بيان الموضوعات التي اخترعها هو ولم تكن معروفة للناس، لأن بيان المفاهيم في هذه الأمور لا يكفي للطاعة، وذلك كالصلاة والصيام وغيرهما من العبادات.
ونعود للحديث الشريف الذي ينتج عندنا ولاية الفقيه في تفريعاته الأولية والثانوية؛ فمثلاً: إعانة الظالم حرام في الإسلام حسب النص الديني. ولنفرض أن ظالماً ذاهباً للعمل في أرضه مر عليك طالباً منك شربة ماء فلا شك في جواز سقيه، لأنك لا تكون معيناً له على ظلمه بهذه الشربة. ولو فرضنا أنه هو نفسه مر بك أثناء قيامه بحملته الانتخابية لتضليل الناس كي ينتخبوه، أو مر أثناء مطاردته لمواطن بريء، فإن سقيه الماء هنا حرام عليك، لأنه إعانة له على رحلته الظالمة وعلى ظلمه المذموم. فهذا الحكم تفريع عن النص القائل بحرمة إعانة الظالم.
وعلى هذا الأساس تشاد ولاية الفقيه الذي عليه التفريع وعلى الناس التطبيق؛ فهو يفتي أولاً بجواز أن يرفع التاجر ثمن سلعه مادام ذلك مقبولاً ولا يضر بالمصلحة العامة. وهو يفتي ثانياً بحرمة هذا الرفع المضر بالناس والذي يوقع المجتمع في ضيق وبؤس، كما هو واقعنا الحالي في لبنان، الذي تآمر عليه الكفر وقتل القوة الشرائية لعملته، وأخذ تجاره يرفعون أسعار بضائعهم بشكل جنوني تبعاً لارتفاع سعر الدولار.
ويفتي الفقيه بحرمة تفتيش الأشخاص والمنازل حرمة أولية لأنه إزعاج وإيذاء وتحديد لحريتهم وإهانة لهم؛ ولكن يفتي الفقيه أحياناً بوجوب التفتيش والمداهمة للحفاظ على الأمن والمصلحة العامين؛ كحالات الشغب واندساس عملاء في البلاد ونحو ذلك من مبررات تفرض التفتيش فرضاً، وهذا عنوان ثانوي جعل التفتيش إلزامياً. وهكذا يكون التفريع وتشقيق المسائل واجبين على الفقيه ليغطي كل الأحكام في القضايا، وتكون إطاعته واجبة على الناس لأنه يفرع لهم لا للنجوم.
النموذج الرابع من أخبار ولاية الفقيه: ما دل على كونه قاضياً؛ وهذا اللون من الأحاديث كثير نكتفي منه بحديث أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء: كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}(15). والحديث صحيح حسب نظرنا في الرجال والتوثيقات. فليس أي أخ من إخوان المتنازعين قاضياً في الخصومات، بل المراد كونه عالماً ذا دين واستقامة. فقد قال الإمام الباقر (عليه السلام): "من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه"(16). فعلى هذا لابدّ من علم هذا الأخ الذي نتقاضى إليه، والذي يكون الرجوع إليه رفضاً لحكومة الطاغوت. ومن الواضح وجوب تنفيذ حكمه وقضائه، وإلاّ كان الرجوع إليه لغواً محضاً، وكان الطاغوت هو البديل عن حكومة العدل. فمن يتمرد على قضائه يُلزم بالتنفيذ، والقاضي الملزم للمتمرد ذو سلطان عليه وأولى منه بنفسه في هذا المجال، ونفوذ حكمه بالدماء والأعراض يستدعي بالأولوية أن ينفذ لو أصدر أمراً بالتفتيش ومداهمة البيوت لمصلحة عليا، فالأخف جائز بالبداهة والأولوية، بعد جواز الأشد، بل بعد وجوب إقامة الأشد ووجوب تنفيذه.
النموذج الخامس من أخبار ولاية الفقيه: ما دل على كونه وارث الأنبياء. فقد روي عبد الله بن ميمون القداح عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (ص): "من سلك طريقاً يطلب فيه عملاً سلك الله به طريقاً إلى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به. وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر"(17).
فهذا الحديث الصحيح والشريف رفع العلماء بما لا مزيد عليه حتى أصبحت الحكومة العامة من أبسط حقوق الفقيه حسب هذا الحديث لشريف. فالحكم للعلم لا للجهل. وأن النبي قمة المجتمع، وأن الفقيه وارثه. فالحديث يجعل الفقيه في أعلى مركز بحيث لا يمكن له أن يأخذ أوامر من سواه. فالعابد ضمير المجتمع وروحه الطاهرة التي يتسابق الناس على التبرك بها، فها هو قد تواضع واختفى وهجمه أمام وهج الفقيه الوقاد، فالبدر يكتسح نجوم السماء تماماً كالعالم الذي يعلو عند الله عز وجل على آلاف العابدين. فمهما كان الحاكم مجيداً فهو دون الفقيه بمراحل حسب الحديث الشريف، ولا سلطان له عليه. فالحديث في كل فقرة من فقراته الكريمة يجعل الفقيه قمة المجتمع في نظر الله عز وجل. ومهما بلغ شرف الحكم والولاية على الناس فهو دون شرف الدين والفقاهة اللذين هما الأساس في الولاية ولا تصلح إلاّ بهما. فالحديث الشريف دال بكل قوة على أن الولاية العامة أبسط حقوق الفقيه؛ فوارث الأنبياء والماحي شعاعه نور العابد هو والله أعلى من الكرسي وأكبر.
النموذج السادس من أخبار ولاية الفقيه: أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فمن مراتبهما ضرب المرتكب للمنكر والتارك للمعروف، وجواز ذلك لكل آمر وناهٍ من ضروريات الفقه والدين، فلا داعي لذكر الأخبار في ذلك، وإنما حديثنا عن الحالات التي يتوقف فيها دفع المنكر على قتل الفاعل أو جرحه وكسره. فلا شك في جواز ذلك انطلاقاً من الأدلة العامة الدالة على قمع الفتن والفساد والبدع والفاحشة ونحو ذلك، مما يفهم منه حرص المشرع المقدس على سلامة المجتمع الإسلامي من كل سوء يضر بالدين والدنيا؛ فالمسألة من البديهيات الفقهية، ولكن البديهي أيضاً أنه لا يجوز لكل أحد أن يتولى الأعمال المذكورة بنفسه من قتل وجرح وكسر، لأن ذلك يخرب البلاد ويهلك العباد. فما أسهل التخلص من أي شخص بحجة إقامته على منكر خطير يهدد الدين العام بالانهيار. فلابدّ من سلطة تقوم بذلك وليس سوى سلطة الفقيه في عصر غيبة الإمام المعصوم (عجل الله تعالى فرجه). ورغم كون المسألة من الواضحات فإننا نتيمن بذكر بعض الأحاديث الشريفة في المسألة المذكورة:
الحديث الأول: ـ وهو صحيح ـ عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سمعته يقول، وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أواجب هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا. فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أي من أي ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة(18).
فالحديث واضح في غنى عن التعليق؛ فعلم الآمر شرط لئلاّ يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، بينما القوة والعدة شرط للتنفيذ إذا لم تنفع الكلمة. فالعاصي يتمرد ويستطيع التحصن بعشيرة ونحوها بحيث تصبح حياة الآمر والناهي في خطر، فلابدّ من قوة لقمع المنكر بعد علم القامع، وهذه هي ولاية الفقيه التي نبحث عنها، والتي تعطي له حق مداهمة البيوت بالأولوية ـ إذا لزم الأمر ـ بعد أن جاز له الأشد من ذلك والأكبر.
الحديث الثاني: ـ وهو صحيح بنظرنا ـ عن عبد الأعلى قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: والله ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مؤنة من الناطق علينا بما نكره؛ فإذا عرفتم من عبد إذاعة فامشوا إليه فردّوه عنها، فإن قبل منكم وإلاّ فتحملوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه، فإن الرجل منكم يطلب الحاجة فيلطف فيها حتى تقضى؛ فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم، فإن هو قبل منكم، وإلاّ فادفنوا كلامه تحت أقدامكم(19).
فالحديث واضح في استعمال العنف عندما لا يجدي الإنكار نفعاً. فالرجل يشوه تعاليم أهل البيت (ع) وينسب لهم ما لا يحبون، فهو يساوي العدو المعلن عليهم حرباً ضروساً، فلابدّ من وعظه ليرتدع عن قوله، فإن لم يسمع من القائل فلنبحث عن شخص ذي تأثير عليه ليفرض عليه السكوت، فإن لم تنفع كل هذه المحاولات فادفنوا كلام هذا العاصي تحت أقدامكم. والمراد دفنه هو تحت الأقدام، فإنهم دفنوا كلامه منذ البداية حيث أنكروا عليه، وأمر الإمام بتأديب هذا المقيم على المنكر ليس خاصاً بعبد الأعلى وحده، فهو يأمر الجمع والعموم بهذا العمل: فامشوا، فردوه، فادفنوا كلامه.. وحتى لو استعمل الإمام (ع) صيغة المفرد فإننا نفهم أن عبد الأعلى مثال للفقيه القادر على الحركة وقمع الفساد.
النموذج السابع من أخبار ولاية الفقيه: ما دل على وجوب تغيير المنكر وقلب الواقع السيئ إلى واقع حسن خيّر، وهذا غير النهي عن المنكر الذي هو مجرد كلام تحذيري وإنذاري من عذاب الله؛ تقوله لمن تعلم أنه يصافح النساء ـ مثلاً ـ، وأما مقامنا فهو المبادرة منك بعمل فوري لإزالة عمل شرير كأن ترى رجلاً مظلوماً يريدون قتله فعلاً، أو امرأة أحاط بها السفلة وصار شرفها على شفير الهاوية، أو ترى حانة عامرة بالخمور والراقصات، أو كتاب ضلال وكفر في الأسواق، وغير ذلك من الوجودات الشريرة التي تغييرها أولى من النهي عن المنكر؛ بمعنى أن فاعل المنكر قد ارتكب الحرام وانتهى، ومع هذا كان نهيه مطلوباً لئلاّ يعود ولكي يتوب إلى الله أيضاً عن إثمه الذي ارتكب، بينما الفعل المنكر الحاصل في مفروض الحديث خطر داهم وحقيقة واقعة، فهو أولى بالدفع والقلع من أي شيء آخر. وعلى هذا فالأدلة الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دالة على وجوب تغيير المنكر بالأولوية الواضحة ورغم ذلك نذكر بعض الأحاديث تيمناً.
الحديث الأول: ـ وهو صحيح ـ فقد روى مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة إذا عملت الخاصة بالمنكر سراً من غير أن تعلم العامة؛ فإذا عملت الخاصة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامة استوجب الفريقان العقوبة من الله عز وجل(20). فالمطلوب من الشعب (العامة) تغيير المنكر الذي يفعله الخاصة من حكام وقادة؛ وبطبيعة الحال على الخاصة تغيير المنكر الذي تفعله العامة لو قدروا على ذلك، كما عليهم تغيير المنكر الذي يفعله شخص آخر من الخواص أو العوام، فإذا كان العامة غير الفقهاء وغير العدول في أغلب الحالات مأمورين بتغيير المنكر الذي يمارسه القادة، فإن الفقيه العادل الذي هو قمة المجتمع في نظر الإسلام ـ كما مر سابقاً ـ مأمور بذلك التغيير بالطريق الأولى، نظراً لفضله وعلمه ودينه وأمانته ودقته في تطبيق أحكام الله تعالى.
الحديث الثاني: وهو صحيح؛ فقد رواه مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة ـ وذكر الحديث الأول ـ ثم قال: وقال لا يحضرن أحدكم رجلاً يضربه سلطان جائر ظلماً وعدواناً ولا مقتولاً ولا مظلوماً إذا لم ينصره، لأن نصرته على المؤمن فريضة واجبة إذا حضره، والعافية أوسع ما لم تلزمك الحجة الظاهرة(21). فالإنكار على السلطان واجب لا يجوز السكوت على قراراته الجائرة، والواجب الأكبر هو إنقاذ هذا المظلوم والتخلص من ذلك الظالم. وحيث كان ذلك متعسراً ومتعذراً على الفرد كان الإمام (عليه السلام) ينهى عن حضور مجلس عقوبة الظالم، لئلاّ يخاف منه ولا ينكر عليه فيستحق غضب الله تعالى. وتقريب الاستدلال به على ولاية الفقيه ما مر آنفاً في الحديث الذي قبله.
النموذج الثامن من أحاديث ولاية الفقيه: ما دل على إقامة الحدود، وهو عدة أحاديث نقتطف منها ما يلي:
الحديث الأول: وهو صحيح؛ فقد رواه حنان بن سدير عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: حد يُقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة وأيامها(22). وما دامت بركات الحد هكذا فلا يجوز تعطيله أبداً أيام غيبة الإمام (عجل الله فرجه الشريف). فالحد العادل يحيى الأرض أكثر من أمطار الأيام المذكورة؛ فهو يقمع الفساد وينشر العدل والأمن والسلام. ومن الواضح الجلي أنه ليس لأي كان إقامة الحد، لأن ذلك يؤدي إلى خراب المجتمع عوضاً عن عمرانه، كما مر معنا مكرراً، كما أنه لابدّ من علم المنفذ للحد بكيفية الثبوت والإقامة واستيفاء الحق منه ونوعية الشهود، لئلاّ يطاع الله من جانب ويعصى من جوانب. فهذا العالم بما ذكرنا هو الفقيه الذي عليه إقامة الحد، وعلى الناس إعانته على ذلك الإحياء للبلاد.
الحديث الثاني: وهو صحيح، قد رواه خلف بن حماد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة أقرت على نفسها بالزنى أربع مرات أمامه. فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنه قد ثبت عليها أربع شهادات، وإنك قد قلت لنبيك (صلى الله عليه وآله) فيما أخبرته من دينك: يا محمد، من عطّل حداً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي(23).
فصيغة "من" من صيغ العموم؛ فكل معطل للحد معاند لله تعالى. فالحديث واضح في وجوب إقامة الحد على الجميع، وأنه غير مختص بزمن دون زمن.
الحديث الثالث: وهو صحيح، فقد رواه أبو بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: من ضرب مملوكاً له بحد من الحدود من غير حد وجب لله على المملوك لم يكن لضاربه كفارة إلاّ عتقه(24).
فالحديث يجعل للسيد حق إقامة الحد على مملوكه؛ فإن عاقبه ظالماً كان عليه عتقه، وإن كان الحد ثابتاً على المملوك ظل على ما هو عليه. وهو دال على عدم اختصاص الحد بزمن حضور المعصوم (عليه السلام)، كما أنه دال على عدم اختصاص إقامة الحد بالإمام من حيث هو إمام معصوم، وإلاّ لما جاز لغيره تولّيه أبداً، ولا نظن منصفاً يجعل الفقيه أقل حظاً من سيد العبد.
النموذج التاسع من أحاديث ولاية الفقيه: كلمات شريفة صادرة من سيدنا ومولانا الإمام صاحب الزمان (صلوات الله تعالى عليه وعلى آبائه الكرام وأمهاته الطيبات وعجل الله تعالى فرجه الشريف وملأ به الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً إنه سميع مجيب)؛ فقد صدر عنه التوقيع الشهير الذي يقول فيه: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم"(25).
والتوقيع الشريف مروي بعدة طرق وأسانيد في كتب العلماء، ولا مجال للشك في سنده، سوى في إسحاق بن يعقوب الذي يروي عنه الكليني صاحب الكافي ويروي هو التوقيع عن محمد بن عثمان العمري؛ فإن إسحاق بن يعقوب غير مترجم في كتب الرجال لتتضح وثاقته، ولكن وثاقته ثابتة بلا شك؛ فإن رواية الكليني عنه وخاصة توقيعاً منسوباً للناحية المقدسة تدل على اعتماد الكليني عليه، فهو شهادة عملية بوثاقته تفوق الشهادة القولية. وليس الشيخ الكليني ساذجاً لدرجة أنه يقبل توقيعاً خطيراً كهذا من شخص مجهول لا يفرق صدقه من كذبه، أو من رجل معروف بالكذب والاختلاق، وخاصة أن محتوى التوقيع مهم خطير يعصف بقيادة المجتمع المألوفة عصفاً، ويدعو لقيادة جديدة بديلة تستمد سلطتها من الله عز وجل بعد أن كانت ممثلة للإمام المعصوم (عجل الله تعالى فرجه الشريف). فكلام كهذا لا يقبله العالم الكليني الجليل إلاّ من أهله، ولا يسمح لنفسه أن يحدث به العلماء والطلاب وسواهم إلاّ بعد اطمئنانه من الناقل ووثاقته، فإن المسألة خطيرة لا تحتمل المهاودة أبداً.
ولا ننسى أن علماء الرجال لم يترجموا لكل ثقة معتمد، ولا أن الوثاقة محصورة بتنصيص علماء الرجال عليها، فهناك قرائن تدل على الوثاقة كما ذكرنا.
ورواة الأحاديث هم الفقهاء الذين هم حجة الإمام (ع) على الناس، والذين هم المرجع في الحوادث الواقعة في الحياة والأمور النازلة في المجتمعات. فقضايا الحياة مربوطة بالفقيه أحكاماً شرعية كانت أم قضايا سياسية وقيادية؛ فكلام الإمام (عجل الله فرجه الشريف) لا يترك فراغاً في حياة الناس أبداً.
النموذج العاشر من أحاديث ولاية الفقيه: كلام مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في عهده لمالك الأشتر:
"... ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأحزمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء؛ وأولئك قليل".
والسند لا بأس به، فقد روى الشيخ الطوسي (ره) عهد مالك بسند جيد؛ ولكن الكلام في الدلالة. فالكلام ـ كما نرى ـ يتحدث عن القاضي وأوصافه الحميدة ليبقى كرسي القضاء جليلاً يؤدي مهمته بنجاح. وهذه المصلحة التي دعت الإمام لنصب القاضي هي نفسها ـ بل وبشكل أشد ـ موجودة في نصب الوالي العام على البلاد، وهذا هو الذي دفع الإمام (ع) لتولية مالك على مصر؛ فقد ولاه جبابة خراجها وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. فهذا هو المذكور في مطلع العهد الشريف. فالبلاد تحتاج دائماً وأبداً للحاكم العادل الذي يدير شؤونها، كحاجتها للقاضي وغيره من الإداريين.
وإذا كانت تلك الصفات النبيلة معتبرة في مركز القضاء فهي معتبرة في الحاكم العام بالطريق الأولى؛ لأنه آمر على القاضي وغيره من أركان الدولة. فهذا هو الفقيه صاحب الكلمة الأولى في البلاد.
وأخيراً نقول حول ولاية الفقيه كلمة موجزة، لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم عدة آيات تدل على حب الكافرين لتكفيرنا بالإسلام، وعلى حقدهم الكبير علينا، وعلى استمرار حربهم لنا حتى يردونا عن الدين، وعلى أنهم لا يرضون عنا حتى نتبع ملتهم. ففي هذا الجو لابدّ من اهتمام الإسلام بشعبه ورعيته حال غيبة الإمام (عج)، ليكونوا محفوظين من الكفر ومؤامراته عليهم. وقد اهتم الإسلام بذلك فعلاً وحرّم عليهم الركون للظالمين، ومنع من تأييد الضالين المنحرفين عن خط الله تعالى. وآيات القرآن الكريم في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.
كما لا ننسى أن حكومة الفاسقين والظالمين لا تحمي الناس من الكفر ومؤامراته، بل تتعاون معه؛ فالظالمون بعضهم أولياء بعض. وما أكثر الأصعدة التي يلتقي الظالمون من جميع الملل على أساسها. وما أكثر الشواهد التاريخية والأحداث المعاصرة على ما نقول.
وبناء على هذا وذاك، فقد أصبح من الواضح عدم تحقق حماية المسلمين من الكفر وأخطاره إلاّ بحكومة حكيمة عالمة عادلة، وهذه هي عين ولاية الفقيه العالم بدين الله، والمتقي الذي يراقب ربه في الخلوات.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية