مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه

التحقيق في الروايات والأدلة المعارضة
 

لم نجد بين ناكري ولاية الفقيه أضخم من الشيخ الأنصاري ـ فكل الصيد في جوف الفرا ـ ومع ذلك وجدناه لا يأتي برواية واحدة تنفي ولاية الفقيه بشكل واضح، وإنما وجدناه عرض المسألة بشكل مشوش على خلاف عادته في الترتيب والتعمق. وعلى كل حال فنحن نعرض الأدلة التي يعتمدون عليها أو التي تصلح سنداً لهم وننظر مقدار ما فيها من حق.
الدليل الأول: ان الأصل عدم ولاية أحد على أحد، وقد قام الدليل القاطع على ولاية المعصوم وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ولا دليل على ولاية سواه، سوى في القضاء والإقتاء وبعض الأمور الصغيرة، كالصغير الذي لا كافل له، والميت الذي لا وارث له لتجهيزه وترتيب أموره. ولا دليل على ولايته المطلقة.
والجواب: ان الدليل عليها قد مرّ معنا فلا نعيد. هذا أولاً. وثانياً: ان هذا الأصل مرفوض، والأمر بالعكس. فالأصل هو ولاية بعض على بعض بعد أن كانت الولاية الكبرى لله تعالى بحكم خالقيته وملكه للعالم، فهو مالك الجميع أفراداً ودولاً. وحيث إنه يستحيل وجود مجتمع بدون موجّه له حتى ولو كان ضئيلاً كالأسرة، كانت ولاية بعض على بعض هي الأصل في المجتمع الإنساني وفي حكم العقل، فلا تستقيم الحياة لو فعل كل فرد ما يريد. فلابدّ من نظام يحكم على الجميع، كما لابدّ من عين ساهرة عادلة تراقب النظام والأفراد والأوضاع وسير المجتمع، وتقمع العابثين بالبلاد والمشاغبين، وتتمتع بصلاحيات واسعة من أجل المصلحة العامة، وهي ذات سلطة على الفرد أكثر من سلطته على نفسه؛ فتقدر أن تمنعه من المرور على الطريق ـ وهذا أبسط حقوقه ـ لو اقتضت المصلحة ذلك. فهذا هو الأصل العقلي والإنساني في المجتمعات. وجاء الإسلام العظيم مقرراً هذه الحقيقة؛ حقيقة أولوية الحاكم بالمؤمنين من أنفسهم، ومعطياً هذا المركز لرسول الله (ص) وملغياً مركزية شيخ العشيرة وملوك البشر.
الدليل الثاني لإلغاء ولاية الفقيه: عدة أخبار واردة تبيّن اختصاص المناصب بالإمام (عليه السلام)؛ من تعزيرات وحدود وحكومات ونحوها. وهذه الأخبار كثيرة فلا داعي لذكرها وعرضها، وعلى هذا فليس للفقيه شيء من ذلك إلاّ ما أعطاه إياه المعصوم، ولم يعطه الولاية العامة المذكورة.
والجواب: اننا لا نزعم مشاركة الفقيه للمعصوم في المنصب، فهو أولاً وبالذات حق له من الله عز وجل بحكم كونه حاكماً ووصياً للرسول (ص)، والمعصوم يفعل ما يريد في دولته؛ فلأمير المؤمنين (ع) أن يترك سلمان وأبا ذر وعمار والمقداد جانباً ويجعل حاكماً وأميراً على بيروت ـ مثلاً ـ أي إنسان آخر... فهو صاحب الأمر والنهي. وكذا أبناؤه الأئمة الكرام (صلوات الله عليهم)، ولكن ندعي أن الإمام جعل نائباً عنه في هذه الأمور في حال غيبته وفي حال حضوره. فأمير المؤمنين (ع) قد جعل من تحت يده حكاماً وقضاة على العالم الإسلامي ما شاء الله، وكان يعزل من يريد ويترك في المنصب من أحب. وقد وجدنا الأخبار تساعد على هذا الجعل من قبل المعصوم نفسه، فلا وقع لهذا الاعتراض الذي هو عمدة ما لدى المعارضين.
كما لا ننسى عدم الفهم الجيد لمغزى كثير من الأخبار؛ فبعضها يدل على أن الإمام معدن العلم، فيفهم منها البعض أن الإمام مصدر السلطات، وذلك مثل أخبار القضاء التي تقول: اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبي أو وصي نبي.
وهاك حديثاً آخر: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبي أو وصي نبي أو شقي(26).
فالكلام يوهم لأول وهلة أن نفس الفصل بين المتنازعين لا يكون لغير المعصوم وهو وهم فاسد؛ فرسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) قد جعلا قضاة في أيامهما على الناس، فهل كانا يجعلان المركز لغير أهله؟! وهل كانا يوجدان الشقاوة في المجتمع؟!
إن الكلام السابق يعني أن للقضاء قواعد وأصولاً وأحكاماً أعطاها الله لنبيّه؛ والنبي يعلّمها الوصي، ولابدّ من طرق باب الوصي ليكون القضاء حقاً وعادلاً، وإلاّ فالقاضي شقي يقضي بالجور وأحكام الجاهلية. فالحديث يبيّن أن الإمام مصدر علم، وقد فهمنا انحصار السلطات به من أدلة أخرى دلّت على إمامته وولايته وعصمته.
وهاك حديثاً آخر عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم(27).
فالإمام يبيّن أن إقامة الحد ليست للعوام ولا لكل أحد لئلاّ يخرب المجتمع، وإنما هي للحاكم، لا بمعنى أنه يمارس الحد بيده، وإنما يعني أنها بأمره ورضاه. فالعالم الإسلامي مترامي الأطراف، وقد كان حكامه تحت يد أمير المؤمنين (ع) ذوي صلاحية لإقامة الحدود وإدارة الإقليم، وإلاّ لانتفت الفائدة من نصبهم. فهل كان المدعي والمدعى عليه والشهود يأتون من اليمن ـ مثلاً ـ للكوفة ليحكم أمير المؤمنين (ع) في المسألة؟ وهل هذا هو الفقه الإسلامي؟! وهل التاريخ يحدث بذلك؟!
الدليل الثالث لرفض الولاية للفقيه: هو لو كانت الولاية عامة للزم تساوي الإمام المعصوم مع سواه، لأن نفس الصلاحيات للاثنين. وهذا بديهي البطلان فلا ولاية للفقيه من الأساس.
وهذه الشبهة ركيكة ذات أجوبة عديدة كما يلي:
أولاً: ليس الفقيه في مرتبة المعصوم ليرد الاعتراض المذكور، بل هو فرع عنه، تماماً كما تجعل زيداً ذا سلطان على بيتك مثل سلطانك عليه، فبإمكانه أن يبيع أو يؤجر أو يوقفه أو أي شيء آخر، كما تتمكن أنت من ذلك أيضاً، وتتمكن علاوة على ذلك من إلغاء وكالة زيد فوراً ويصبح أجنبياً بكلمة واحدة، بينما أنت المالك الأصيل لا يتمكن أحد من إلغائك، فتبقى أنت المالك رغم الصلاحيات التي أعطيتها لزيد. ومسألة ولاية الفقيه هي نفس المثال، فأين المساواة؟!
ثانياً: ان حكم الناس بعض صلاحيات المعصوم، فهو ولي الله تعالى على الكائنات وتصرفه في السماء ـ لو شاء ـ نافذ بسهولة كتصرفه في بيته، فأينالفقيه من المعصوم الذي قامت الأخبار الصادقة على إلهامه وولايته الكونية الشاملة؟!
ثالثاً: ان المسألة ليست مسألة مساواة غير المعصوم للمعصوم، لأن طبيعة الحكم تطلب صلاحيات واسعة تقتضي التدخل في شؤون الفرد والمجتمع في بعض الحالات، وبدون ذلك يفشل الحكم ولا يحقق الغاية المرجوة منه. وإذا كان الحاكم ظالماً كان اللوم على الناس حيث رضوا بحكم الظالم، لا على الصلاحيات التي منحوها للحاكم.
الدليل الرابع لرفض ولاية الفقيه: هو أن حكومة الفقيه تغنينا عن الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) بحيث لا يبقى له دور، أو أنها تضر الناس وتوجد الظلم في الأرض. وهذا كذلك باطل في باطل؛ فالفقيه إذا ظلم حلّ الخراب في الأرض ولا تبقى لحكومته قيمة، وإذا عدل الفقيه في الحكم استقامت الأمور ولا يبقى دور للإمام صاحب الزمان (عج) ويكون وجوده شكلياً! وهذا كسابقه لا يمكن الإيمان به، فلم يبق إلاّ رفض ولاية الفقيه من جذورها.
والجواب عن هذه المقولة الضعيفة من عدة وجوه:
أولاً: ان هذا الكلام يطلب الظلم في غيبة الإمام المعصوم (عج)؛ فما دام العدل يغني عن الإمام، وما دام هذا الإغناء باطلاً، وما دامت الحاجة للحاكم ملحة، فإن حصيلة كل ذلك المطالبة الملحة بظلم الحاكم مادام الإمام غائباً! وهذه النتيجة واضحة الفساد. وقد جاءتنا من تلك المعادلة التي يكون هو أولى بالفساد.
ثانياً: ان هذا الكلام يسيء للإمام (عج) ويجعل وجوده مديناً للظلم في العالم، حتى كأنه يرحل من العدالة ولا يطيقها كما لا نحتاج له عندها، وكأن العدالة توجد من غيره، حتى صرنا نرى الحاكم العادل يغنينا عنه! وهذا الكلام إهانة للإمام (عج)؛ فأي معنى ـ إذن ـ لكلمة إن عدل الفقيه يغنينا عن المعصوم؟!
ثالثاً: ان الفقيه يضع العدالة مهما أمكن ليمهد بذلك لظهور الإمام المعصوم (عج)، فإنه يحتاج أنصاراً لنشر الدين في الأرض، والفقيه يصنع الأنصار بعدله ويقرب خطوات الإمام للظهور عوضاً عن المزيد من أعوام الغيبة.
الدليل الخامس لرفض ولاية الفقيه: أخبار تقول بأن كل راية تظهر قبل الإمام صاحب الزمان (عجل الله فرجه) هي راية ضلالة؛ فقد روى أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل"(28). كما أن هناك أخباراً تدل على لزوم السكون والهدوء ما دام الإمام (عج) غائباً؛ فقد روى سدير الصيرفي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "يا سدير، الزم بيتك وكن حِلساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك"(29).

والأخبار في ذلك كثيرة، ومن أرادها فليراجعها في محلها المذكور، وهي تمنع من نهوض دولة إسلامية في غياب الإمام (عج)، فلا معنى لولاية الفقيه بعد هذا لأن الولاية نواة للدولة الإسلامية وتنظيم طاقات الأمة الإسلامية، وبدون ذلك لا معنى لها أبداً.
والجواب عن هذه الأحاديث واضح جلي إذا نظرنا بإنصاف لمجموع الأحاديث الواردة في المقام وقارنا بينها؛ فالأحاديث تحارب الذين يدّعون الإمامة لأنفسهم من دون أهل البيت (ع)، فقد كان يثور من العلويين أكثر من واحد وكل منهم يدعي الإمامة لنفسه، ويستغل عواطف الناس المؤيدة لأهل البيت (ع) لعله يحظى بتأييدهم. وبعضهم كان يخفي دعوته لنفسه ويعلن أنه يدعو إلى الرضا من آل محمد، حتى إذا استتب له الأمر أظهر أنه هو المقصود من دعوته وليس الأئمة المعصومين (ع). وإزاء هذا التلاعب بعقول البسطاء واستغلال مكانة أهل البيت في النفوس قام الأئمة الطاهرون (ع) بحملة توعية، مبيّنين أن هؤلاء الثائرين يدعون لأنفسهم ويعتبرون أنهم أئمة، وأن أهل البيت لم يأذنوا لهم بالحركة وأنهم غير واثقين بهم، فهذا المعنى نجده في الروايات عن أهل البيت (ع)؛ فقد روى ـ مثلاً ـ العيص بن القاسم عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سمعت أبا عبد الله يقول: "اتقوا الله وانظروا لأنفسكم، فإن أحق من نظر لها أنتم. لو كان لأحدكم نفسان فقدم إحداهما وجرب بها استقبل التوبة بالأخرى، كان، ولكنها نفس واحدة إذا ذهبت فقد ـ والله ـ ذهبت التوبة. إن أتاكم منا آتٍ ليدعوكم إلى الرضا منا فنحن نشهدكم أنا لا نرضى. إنه لا يطيعنا اليوم وهو وحده، وكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام"(30)؟!
فالحديث واضح في تنبيه الناس وتحذيرهم من المتاجرين باسم أهل البيت (ع). وهناك غير هذا الحديث مما يشابهه في المعنى، فارجع لها إن شئت في نفس الباب المذكور. ومن الواضح الجلي أن الفقيه لا يدّعي الإمامة لنفسه ولا العصمة، وإنما يأخذ العلم من أهل البيت (ع) ليجعله حياً في حياة الناس، وليحكم بما أنزل الله تعالى. ولا يأتي الفقيه من نفسه بكلمة ولا يضع من نفسه رأياً مقابل رأي أهل البيت (ع)، فلا تشمله الأحاديث المهاجمة لمن يدّعي الإمامة ويجعل نفسه ندّاً لأهل البيت (ع)، بل جاحداً لهم، ولا يراهم سوى مثل بقية أفراد الأمة الإسلامية وآحادها، فهذا الرافض لأهل البيت (ع) بعيد عن الفقيه كل البعد.
وهناك جواب آخر عن الأحاديث المذكورة، وهو أن أهل البيت (ع) هاجموا من لا يثقون به ومن لا يأتمر بأوامرهم، بينما هم يباركون حركة المنتمي لهم والآخذ منهم إشارة الانطلاق. وعلى هذا فالفقيه الجامع للشروط مؤيد في تحركه من قبل الأئمة (ع) تماماً، كما فعلوا مع ثورة الشهيد زيد بن الإمام زين العابدين (ع)؛ فقد روى العيص بن القاسم عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث طويل يقول فيه: "أتاكم آتٍ منّا (أي من العلويين)، فانظروا على أي شيء تخرجون ولا تقولوا: خرج زيد، فإن زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (ص)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم عليه. إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه. فالخارج منّا اليوم إلى أي شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد؟ فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا، إلاّ من اجتمعت بنو فاطمة معه، فوالله ما صاحبكم إلاّ من اجتمعوا عليه"(31).
فهذا الحديث الصحيح الشريف يلقي ضوءاً على أخبار منع الأئمة (ع) عن التحرك، كما يبيّن تأييدهم للحركة المنطلقة من أهدافهم وتعليماتهم والتي يرجع قائدها لأمرهم ونهيهم، كالشهيد زيد الذي رضي الإمام الصادق (ع) عن حركته، ووزع ألف دينار على عائلات الشهداء معه في معركته العادلة. فلا يليق التشكيك من أحد بعد أن سمعنا هذا الحديث الصريح الذي يبيّن أن راية الضلال هي التي لا تنطلق من تأييد أهل البيت وتعاليمهم، سواء كانت قبل ظهور الإمام (عج) أم بعده. فلا يصح الاعتماد على ذاك الحديث وأشباهه في رفض ولاية الفقيه.
وهناك جواب ثالث في المقام: وهو أنه لا تصادم شرعاً ولا عقلاً بين الأحاديث؛ فأحاديث الولاية للفقيه جاعلة ومشرّعة وتبيّن أن الفقيه ذو سلطان شرعاً ولا يجوز الخروج على قراره، بينما أحاديث دولة الإمام المهدي (عج) ليست تشريعية حتى يقع التصادم بين الأحاديث؛ بل أحاديث الإمام (عج) طائفتان: طائفة تكوينية تبيّن أن دولة العدل العالمية لا تكون إلاّ على يد الإمام المهدي (عج)، وطائفة تشريعية تنهى عن التحرك قبل ظهور الإمام وتأمر بالسكون مادام الإمام مستوراً.
فالطائفة الأولى لا تصادم أخبار ولاية الفقيه بتاتاً، فالأخبار تجعل للفقيه سلطاناً وحكماً على المجتمع. ورغم هذا السلطان، فلا ترتفع راية العدل العالمية إلاّ على يد الإمام المهدي (عج) لوجود موانع كبيرة تجعل حكم الإسلام لكل العالم ضرباً من المستحيل. فمفاد أخبار الطائفة الأولى هو الحديث عما يقع في الآتي، فلا تنافي أبداً جعل قيادة المجتمع للفقيه.
والطائفة الثانية من أخبار الإمام المهدي (عج) ليست على إطلاقها أبداً باتفاق جميع العلماء وبالبداهة من الدين؛ لأن المرء مأمور بالجهاد دفاعاً عن بلاد الإسلام، فالسكون الذي تفرضه تلك الأحاديث مرفوض كل الرفض في حالة الدفاع حتى ولو لم يكن فقيه يحكم المجتمع ويدير العمليات.
والسكون المذكور مرفوض أيضاً إذا كان هناك فقيه كفء يدير المجتمع، فعلى الناس إطاعته عملاً بأدلة ولاية الفقيه، التي تكون مقيدة لإطلاق الأخبار الآمرة بالسكون، كما قيّدتها أدلة الدفاع عن الدين وبلاد الإسلام.
ولا يبقى لأخبار السكون سوى موردين تحمل عليهما: مورد فراغ المجتمع من فقيه كفؤ؛ فعلى المرء أن يهدأ في هذه الحال ولا يسمح للدعوات الضالة باستغلاله. ومورد الجهاد الابتدائي دعوة للإسلام، فالمعروف أن هذا اللون من الجهاد لا يجوز إلاّ للإمام المعصوم (ع)؛ ولكن بما أن هذه المسالة محل نقاش بنظرنا كان المورد الوحيد لأخبار السكون ـ لو صحت ـ هو المورد الأول؛ أعني به حالة فراغ المجتمع من القائد. وهي أشد الحالات على الناس، ويستغلها الظالم فرصة ذهبية لتضليل الناس واستخدامهم في أغراضه الخبيثة، فيكون الانصراف عنه الأسلوب الوحيد للنجاة منه. وعلى هذا فلا مشكلة في ولاية الفقيه ولا دليل يعارضها.
وهناك جواب رابع عن أخبار السكون بالخصوص، وهو أنها تصطدم مع مجموعة من الأحاديث الدالة عل الدولة المشرقية قبل ظهور الإمام (عج) وأن أولئك القوم على حق، وأن قتلاهم شهداء، وأنهم يطلبون الحق فلا يعطيهم الناس إياه، وأنهم يقاتلون ويستمرون في حربهم حتى يدفعوا الراية لصاحب الزمان (عج)، وأنهم يمهدون للإمام المهدي سلطانه، وأن راياتهم سود، فيحاربون العرب على هذا الدين كما حاربهم العرب سابقاً على هذا الدين، وأنهم لا يجبنون من الحرب ولا يملّون وعلى الله يتوكلون، وأن ثيابهم بيضاء هي الأكفان التي يلبسها جند الإسلام اليوم، وأن قلوبهم كزبر الحديد، وأن الناس مأمورون بالإتيان إليهم ولو زحفاً على الثلج، وأنهم يقتلون العرب هرجاً هرجاً، وأنهم يدخلون البيت المقدس ولا يصدهم عنه شيء.. إلى غير ذلك من الأحاديث المروية في كتب العامة والخاصة، والمتحدثة عن شأن هؤلاء المشرقيين وأنهم من جند الله عز وجل. وهي موجودة بكثرة في أبواب الملاحم والفتن وحوادث الزمان والعلامات الأكيدة لصاحب الزمان (عج). فهذا التأييد لهم من أهل البيت (ع) يدل على مشروعية حركتهم حال غيبة الإمام (عج)، وهذه المشروعية لحركتهم تتنافى تماماً مع وجوب السكون المطلق حال غيبة الإمام، فلابدّ من رفع هذا التصادم بحمل أخبار السكون على صورة فقدان القائد والحركة الصالحين الداعيين لله. وفي غير ذلك يتعين النهوض والتجاوب مع الداعية المصلح تماماً كدعوة المشرقيين المنطلقة من صميم الإسلام وبقيادة الفقيه الكفؤ. وقد وجدنا هذه الأخبار تنطبق على حركة الإمام الخميني (أعزّه الله تعالى)، التي تبشرنا بقرب دولة العدل العالمية على يد مولانا الإمام المهدي (عج).
ونختم حديثنا حول أدلة ولاية الفقيه وثبوتها بأمور مهمة:
الأول: ان ولاية العالم الفقيه كانت مغروسة في نفس وذهن كل مؤمن في عصر حضور الإمام (ع) فضلاً عن غيبته؛ ففي الأقطار النائية عن الإمام كان المجتمع يتعامل مع الفقيه ويؤمن بقيادته، تماماً كما حدث مع حريز بن عبد الله السجستاني، الذي جرد السيف ولامه الإمام الصادق (عليه السلام) على تجريده السيف في غير موضعه، ومن دون مراجعة الإمام. ولم يلمه على إعطائه الأوامر وتعدّيه للقيادة وأنه ليس أهلاً لها ولا هو من أهل المناصب الدينية، بل كانت سياسة الإمام (ع) يومها تفرض الهدوء حتى مع الخوارج الذين ينالون من أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يستطع حريز صبراً فجرّد السيف عليهم، فجفاه الإمام الصادق (ع) ولم يأذن له بالدخول عليه، معلناً أنه لا يرضى بتجريد السيف ولا يسمح به. فانظر ترجمة حريز لترى مرجعيته لقومه، وأنهم كانوا يسألونه قتال الخوارج وأجابهم لذلك عندما رأى الظرف يسمح به.
الثاني: اننا نوجه سؤالاً لمعارضي ولاية الفقيه وهو: هل أحكام الله تعالى واجبة التنفيذ حال غيبة الإمام (عج) أم أن تنفيذها غير واجب؟! لا شك في بطلان الفرض الثاني لأنه ينتج جواز الخروج على كل أحكام الإسلام العقيدية والأخلاقية والعبادية وغيرها. فعدم وجوب تنفيذ الأحكام الإسلامية يعني جواز الإلحاد والكفر وهذا باطل جداً. فتعين الفرض الأول الذي لا يفرق بين حكم وحكم، فكل الأحكام مطلوبة. غاية الأمر أن بعضها ينفذه الفرد كالوضوء والصيام والصلاة، وبعضها لا يتم تنفيذه إلاّ بتعاون أفراد معاً وهو المسمى بالدولة، وذلك كأحكام الحدود؛ فمن دون إعانة المجتمع لا يتمكن الفقيه من جلد الزاني، لأنه هو وعائلته وكل من له علاقة به يثورون على الفقيه لو جلد، فكيف لو قطع اليد وقتل؟! فعلى الناس إعانة الفقيه على ذلك كما على كل منهم أن يصلي ويصوم. فالالتزام ببعض الأحكام في زمن الغيبة دون بعض بلا مبرر وبلا دليل، وتفرقة بين الأحكام المشرعة على مستوى واحد في المطلوبية، بل نرى معارضي الولاية يتناقضون مع أنفسهم عندما نراهم يعطلون الحدود لأنها من مهمة الدولة الإسلامية، الغائب قائدها (عجل الله تعالى فرجه)، بينما نراهم في نفس الوقت يفتون بوجوب الزكاة والخمس حال الغيبة، مع أن المذكورين مصدر للدولة الإسلامية ويعتبران الأساس في تمويلها! فكيف تجمّدت في حال الغيبة بعض صلاحيات الدولة الإسلامية دون بعض؟!
الثالث: ان معارضي الولاية وقعوا في تناقض مرير عندما أعلنوا معارضتهم اعتماداً على الأخبار الآمرة بالسكون حال غيبة الإمام (عج)، وعلى أن كل راية ترفع قبل ظهوره الكريم فهي راية ضلالة. فإذا كانت المناداة بولاية الفقيه قد اعتبروها من هذه الرايات الضالة، وتصطدم مع السكون المأمورين به، فإن المناداة برفض ولاية الفقيه وتشكيل خط معادلها هي راية أيضاً، وتنافي السكون المطلوب حال الغيبة، فقد وقعوا فيما فرّوا منه، ولم ينعزلوا جانباً صامتين غير مبدين رأيهم بالحاكم وبالدولة حال غياب الإمام (عج)، لأنه مهما كان رأيهم فهو تشكيل تيار ورفع راية مؤيدة أو معارضة أو اعتزالية، فلا يسعهم ـ حسب فهمهم للأحاديث ـ إلاّ السكوت المطلق في مسألة الحكم والدولة، وهذا لم يفعلوه!

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية