مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه

الشروط والصفات اللازم توفّرها في الفقيه الوليّ
 


للفقيه مهمات يقوم بها، فهو يقضي ويفتي للناس ويحكم المجتمع ويقيم الحدود. ومن الواضح الفرق الهائل بين مهمة الإفتاء ومهمة إدارة المجتمع؛ ففي الإفتاء لا يحتاج سوى للاجتهاد والنضج في العلوم لتكون فتواه حجة ـ ولو في حق نفسه على الأقل ـ بينما إدارة المجتمع تتطلب صفات مهمة يفقدها الكثيرون من الخاصة ذوي الاجتهاد والتحقيق العلمي. وبما أن حديثنا عن الحاكم للمجتمع رئيس الدولة الإسلامية، كان ذكر أوصافه هو المتعيّن، تاركين التفاصيل في سواه للفقه.
إن الحكم أولاً وبالذات للمعصوم جامع الكمال الإنساني، وقدعاقبنا الله عز وجل بإخفاء وليّه عن الأعين، ودعت الضرورة الملحة أن يتولى الفقيه ذلك المركز السامي، ولابدّ من تحلّيه بالعلم والدين والصفات الفاضلة والخبرة الاجتماعية، ليقود المجتمع بمهارة، ويلبس الدولة الإسلامية ثوباً ناصعاً أمام كل العالم. فلابدّ من مراعاة أقرب الصفات للعصمة ليكون صاحبها ذا ولاية عامة وحكومة على الناس:
فلابدّ من شجاعته لئلاّ يسلّم الأمة للأعداء لمجرد تهديد عابر.
ولابدّ من كرمه لئلاّ يحرم الأمة من أموالها، ولا يقوم لعمران البلاد وإنمائها.
ولابدّ من حنكته السياسية لئلاّ تدفع الأمة ثمن القرار الفاشل.
ولابدّ له من خبرة اقتصادية لئلاّ تفتقر الأمة أو تتكدس أموالها في البنوك.
ولابدّ من معرفة له بالعالم الخارجي لئلاّ يقبر الأمة داخل حدودها.
ولابدّ من صبره لئلاّ تبقى الأمة في وادي الجهل والفقر نتيجة كسله.
ولابدّ من حبه للناس لئلاّ تكون الأمة نسياً منسياً.
ولابدّ من قناعته لئلاّ يحتوى مال الأمة بالتعليلات والمعاذير.
فلابدّ من وجود هذه الصفات الخيرة وأمثالها، ولابدّ من الابتعاد عن الصفات الرذيلة كالحسد والحقد واللهو والغطرسة والتكبر وغيرها من صفات السوء، لئلاّ يجلب على الأمة والدين بلاء الداخل والخارج.
لابد من صفات الخير وترك صفات الشر للآيات الكريمة التالية:
{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ والله بما تعملون خبير}(المجادلة:11).
فغير العالم لا ارتفاع له على سواه، فلا حكومة له ولا ولاية. وكذلك الحال في غير المؤمن حتى ولو كان عالماً؛ فلابدّ من علم وإيمان ليرتفع المرء وليكون نافذ القرار على الشعب بكل طبقاته.
{أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون}(القلم:35ـ36).
فالمساواة مرفوضة بنظر الله عز وجل. والواضح من الآية تفوّق المسلم على المجرم؛ فكيف يمكن بعدُ إعطاءُ حكومة وتفوّق للمجرم على المسلم؟! فمهما كان المجرم عالماً خبيراً فالمسلم أرقى منه ولا يجوز له الخضوع لقراره.
{أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}(ص:28).
فمفاد الآية الشريفة نفس مفاد آية سورة القلم السابقة.
{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً}(الكهف:51).
فالمضل المنحرف ليس من سواعد الله عز وجل ولا من أركانه، فشهادته مرفوضة لا تقبل أبداً، لأن قبولها يعني أنه ساعد كبير من سواعد الله تعالى، وهذا تنفيه الآية؛ فشهادة الخادع المضل مردودة، فكيف حال حكومته وولايته!
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون}(النحل:90).
فولاية الجبان البخيل الحسود الطماع الحقود الكسلان منكر كبير بلا شك، والله ينهى عنه ولا يؤيده؛ بينما حكومة المتصف بضد تلك الصفات عدل جليل، لأنه وضع الشيء في موضعه، والله يأمر به يؤيده. وغني عن البيان اشتراط الالتزام الديني، أي العدالة؛ وإنما ذكرنا تلك الصفات الأخلاقية تطبيقاً للآية الشريفة على مصداقها الذي قد يظنه البعض خفياً وقد يراه بعض آخر ليس مصداقاً، بينما هو مصداق كبير لها وليس غيره أولى منه بالتطبيق أبداً؛ فالذي يأمر الأمة بالخضوع المطلق لجبان يرتعد لأي تهديد هو آمر بما ترفضه العقول والحكمة، وتشريع كهذا محط السخرية وتندّر العقلاء وليس محلاً للتوقير والاحترام.
{قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}(يوسف:55).
فالنبي يوسف (عليه السلام) يطلب الولاية حفاظاً على المصلحة العامة، فهو يعلم قدوم المنطقة على مجاعةٍ كبيرة، ولابدّ من التخطيط لتلافي ذلك الخطر الأكبر، وكان هو الأمين الخبير الذي يتعين عليه أو يحسن به تولي ذلك المنصب. فلو لم يلمس ضرورة لذلك لما طلب الولاية التي علل طلبها بأنه حفيظ عليم. فالأمين الجدير بالقيادة، العليم بالدين وأمور الحياة، هو المسؤول عن الأرض وخزائنها، وليس.... لغيره إلاّ الفراغ، كما هو ظاهر الآية المعللة {إني حفيظ عليم}. فهو يطلب لأنه كفؤ، وهذا واضح في أن غير الكفؤ ليس له شيء.
{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صَغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون}(الأنعام:124).
فللمجرم صغار عند الله وهوان لا حكومة ولا ولاية. والمسؤولية لأهلها يعطيها الله؛ فللرسالة موضعها الجليل وشروطها الكبيرة، والولاية شديدة الصلة بالرسالة؛ فهي سلطان على المجتمع نيابة عنها. فشروطها قريبة جداً من شروطها، وبمقدور المرء أن ينالها، فنحن لا نشترط المستحيل؛ فالله عز وجل قد طلب العصمة السلوكية من كل أحد؛ فلو فعل المرء كل ما أوجبه الله عليه وترك كل ما نهاه الله عنه لكان معصوماً فعلاً، وإن لم يكن ذا مركز ديني. كما لا ننسى أن الله عز وجل طلب التحلي بالخلق الحسن من كل أحد، ونهى عن الاتصاف بالخلق القبيح من كل أحد أيضاً، ومن الواضح أن التكليف فرع القدرة، والمرء قادر على ذلك.
فأي مواطن في الأرض مطلوب منه الالتزام بالإسلام عقيدة وسلوكاً وأخلاقاً، وهذه هي العصمة العملية التي لو ذهبت عن المرء بعد وجودها أو ما وجدت منذ البداية لما لزم من ذلك محال عقلي ولا ديني ولا كوني. بينما الإمام ـ مثلاً ـ يحمل رسالة الله ويلهمه الله للصواب وهو وليّ الله على الكائنات، فمركزه يتطلب العصمة بحيث يستحيل منه وقوع المعصية التي هو قادر على فعلها كأي إنسان آخر، ولكن صدورها منه من المحال المؤكد، وبرهان ذلك في علم الكلام.
والخلاصة: ان شروط الولاية جليلة، والمتصف بها نادر، ولكنه موجود متوفر في كل زمن ولله الحمد، ونحن لا نشترط العصمة من الفقيه لتثبيت ولايته، بل مقصودنا الردّ على من يستبعد شروطنا حيث بيّنا طلب الله العصمة من كل أحد، بل وفوق العصمة، حيث طلب فعل المندوب وترك المكروه اللذين لا يخرج المرء عن العصمة العملية في مخالفته لهما.
وإذا كانت العدالة معتبرة في الشاهد والقاضي بالبداهة الدينية، فإنها بالأحرى معتبرة في ذلك المقام السامي، بل معها أيضاً صفات نبيلة من شجاعة وكرم وحسن تدبير وجودة رأي وغيرها مما يتطلبه ذلك المركز الجليل.
وأخيراً نقول: إن العقل قاض بضرورة توفر الدين والخلق الحميد في متولّي ذلك المنصب، الذي هو في الأصل لصاحب الكمال الإنساني حسبما تقضي به العقول، ولكن للضرورات أحكامها، فلابدّ من التشدد بالأوصاف الحميدة بمقدار المستطاع حتى نكون قد وضعنا الشيء في محله، وحافظنا ـ بمقدار الإمكان ـ على جلالة المركز.

السابق || التالي 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية