مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

وحدة المرجعية والقيادة موقع القيادة السياسية في حياة الأمة

شبهات حول النظرية

رغم أن هذه النظرية تدفع العديد من الشبهات العالقة إلا أن بعض التساؤلات تبقى بحاجة إلى المزيد من البيان. وأول هذه التساؤلات ما ورد من أن الإمام الخميني(ره)نفسه قد تراجع عن هذه النظرية. ومنها شبهة تحديد الأعلم الموجودة في الرسائل العملية. ومنها موقف الإمام الخامنئي من المرجعية في الآونة الأخيرة. ومنها شبهة التبعيض أو الإرجاع إلى الفقهاء الآخرين، ومنها شبهة الإنتخاب.
شبهة الفصل بين المرجعية والقيادة:
مما يدعو إلى بالغ الأسف في هذا المجال هو أن تلك الدعوة الحريصة والمؤكدة للإمام في آخر حياته قد انقلبت رأساً على عقب في أذهان البعض. ففي الوقت الذي كان الإمام(ره) يبين المعالم الرئيسية للقيادة الإسلامية وبشكل لم يسبق له مثيل، وقف هؤلاء عند جملة واحدة للإمام ليفسروها دون وعي أو تحليل متبصر على أساس أنه تراجع عن نظرية عدم الفصل.
هذه الجملة هي ما ورد في نص جواب الإمام على رسالة رئاسة مجلس الخبراء حول تعديل بعض بنود الدستور. وإننا عندما نقيس الفارق الزمني بين هذه الرسالة والبيانات الأخيرة للإمام(ومنها البيان التاريخي في 15 رجب) نجد أنه لا يتعدى الأشهر القليلة، فهل يعقل أن يغير الإمام نظرته بهذه السرعة. وما هي الأمور الطارئة التي حدثت دون توقع الإمام؟!
والواقع أن من يتأمل في نص الرسالة التي سنترجمها في هذا المقطع، يعلم أن الإمام لم يكن يريد الفصل بين المرجعية والقيادة. بل على العكس تماماً كان بصدد التأكيد على نظرية عدم الفصل.
والقصة تبدأ من استفتاء موجه للإمام يعلن فيه عن رأيه بعدم الفصل بين المرجعية الدينية والقيادة السياسية، ويؤكد على أن القيادة إنما تكون للمجتهد الجامع لشرائط التقليد. وانطلاقاً من هذا الإستفتاء إعتقد الكثيرون أن الإمام يدعو إلى الجمع بين المقامين.
ولكن عندما شعر الإمام بقرب الرحيل، ونظر إلى الواقع المحيط، أرسل رسالة إلى مجلس الخبراء، أوضح فيها رأيه حول شروط القائد.
وهنا النص الأساس للرسالة:
(.. كنتم قد طلبتم مني أن أبين رأيي فيما يتعلق بتعديل الدستور. إن كل ما يراه السادة (الخبراء) صالحاً فليعملوه وأنا لن أتدخل. ولكن فقط بالنسبة للقيادة فنحن لا نستطيع أن نترك نظامنا الإسلامي بدون قائد. فيجب أن ننتخب شخصاً يدافع عن حيثيتنا الإسلامية في عالم السياسة والمكر.
لقد كنت أعتقد منذ البداية وكنت أصرّ على عدم اشتراط المرجعية. فإن المجتهد العادل الذي يؤيده الخبراء المحترمين من سائر أنحاء البلاد يكون كافياً. فإذا انتخب الشعب الخبراء ليقوموا بتعيين مجتهد عادل لقيادة حكومتهم، وعندما يعينون شخصاً للقيادة فإنه سيكون مورد قبول الشعب حتماً. وعندها سيكون الولي المنتخب للشعب، ويكون حكمه نافذاً، وفي أصل الدستور كنت أقول هذا الأمر،ولكن الأصدقاء أصروا وضغطوا على شرط المرجعية، عندها قبلت: وإنني كنت أعلم في ذلك الوقت أن هذا الأمر غير قابل للتحقق في المستقبل غير البعيد)[1].
فماذا نستنتج من هذه الرسالة الشريفة:
أولاً: إنّ الإمام لم يغير رأيه إطلاقاً. فقد كان منذ البداية يعتقد بعدم اشتراط المرجعية، وقد قال هذا الأمر في أصل وضع الدستور.
ثانياً: رأي الإمام السابق هو عدم الفصل بين المرجعية والقيادة.
ثالثاً: إن إمكانية تحقق شرط المرجعية غير ممكن في المستقبل القريب.
وهنا نصل إلى هذه النتيجة وهي أن الإمام كان يخالف البعض في جعل المرجعية شرطاً من شروط القيادة. بمعنى أن ما كان في الدستور هو: (إذا أردنا أن ننتخب قائداً للأمة، فعلينا أن ننظر إلى المراجع الموجودين ونختار واحداً منهم). ولأجل التأكيد على هذا الشرط، الذي لم يقبل به الإمام منذ البداية ـ قام مجلس الخبراء باختيار الشيخ منتظري خليفة للإمام، كونه أحد مراجع التقليد، وذلك عندما أصيب الإمام بنوبة قلبية وأدخل إلى المستشفى في حالة طارئة بعد انتصار الثورة بحوالي ثلاث سنوات[2].
الإمام(ره)كان يعلم منذ ذلك الوقت ـ أي وقت وضع الدستور ـ إنّ هذا الشرط لن يتحقق في المدى المنظور. هذا رغم انتخاب الشيخ منتظري وهو أحد المراجع. لأن الإمام كان يعرف الشيخ أكثر من أي شخص آخر.
وقد ذكر اعتراضه على هذا الإنتخاب عشية خروجه من المستشفى. وقال إن الأصدقاء ـ ويقصد الخبراء ـ قد استعجلوا هذا الأمر ـ ولم يكن الإمام يرى في ذلك الحين مصلحة في تسفيه رأي الخبراء، بالإضافة إلى حساسية وضع البلاد من ناحية الحرب المفروضة.
ولكنه(ره)عندما علم أن الوضع أصبح خطيراً جداً ـ وهو قرب الرحيل ـ تدخل مباشرة لإلغاء هذا الشرط الذي لم يكن ليتحقق بعد رحيله. حيث أن جميع المراجع الموجودين في البلاد الإسلامية لم يكونوا مؤهلين لقيادة النظام الإسلامي في عالم السياسة والمكر!
ونحن عندما نقف على خبرين صحيحين مئة بالمئة لا يمكن أن نسقطهما عند التعارض. فالإمام منذ البداية كان يؤمن بعدم الفصل. وهو يذكر هنا أنه منذ البداية لم يكن يشترط المرجعية. فهل هذا تناقض؟
كلا، إنّ الإمام يحذف الشرط عند الإختيار فقط. أما بعد اختيار تعيين مجتهد عادل جامع للشرائط، فإنه يصبح مباشرة مرجعاً للأمة الإسلامية بناءً على رأيه السابق.
فالإمام لم يتخلّ إطلاقاً عن الوحدة وعدم الفصل، وإنما حذف الشرط في الإنتخاب فقط.
ولابد أن نشير هنا إلى نقطة في غاية الأهمية يلتفت إليها كل متبصر بعيد النظر، وهي أن من شروط القائد أن يكون مجتهداً جامعاً لشرائط التقليد(راجع فتوى الإمام) وهذا الشرط يعد شرط المرجعية بالقوة.
فالفارق الوحيد بين المجتهد الجامع للشرائط والمرجع هو في نظر الناس، وليس في مؤهلاته. ولا يعتبر نظر الناس عاملاً في تحديد وتعيين وكفاءة القائد والمرجع.
وبعبارة أخرى، المجتهد الجامع للشرائط هو مرجع بالقوة، فإذا قلّده الناس يصبح مرجعاً بالفعل، وقد يكون هذا الأمر بين عشية وضحاها، فهل أن تقليد الناس لهذا المجتهد عند الضحى يزيده كفاءة وعلماً عن العشية؟!
وهذا رد واضح على أولئك الذين يغمزون إلى قضية عدم الفصل من باب المصلحة الإسلامية، يريدون بذلك أن يوهموا الناس أن وجود الولي في مقام القيادة لا ينبع من فقاهته وجامعيته لشرائط التقليد وإنما لأسباب إدارية وسياسية بحتة، بل ما قال الإمام:
(وليست ولاية القيادة السياسية إلا للمجتهد الجامع لشرائط التقليد).
وكان الإمام(ره) يحاول دائماً أن يزيل هذا التفكير من الأوهام ليثبت أركان القيادة الدينية الجامعة لشروط الكفاءة الفقهية والقيادية والنفسية.
فالنص الوحيد الذي استوحى البعض منه تراجع الإمام عن نظرية وحدة المرجعية والقيادة يؤكد بشكل قوي على عدم الفصل. لأن اشتراط المرجعية يدل على الفصل، حيث يمكن أن نقبل ـ على المستوى النظري ـ بوجود مرجعية سابقة على القيادة.
وإذا كان الإمام في الرسالة إلى مجلس الخبراء يقول إنه كان منذ البداية معتقداً فكيف نقول إنّ الإمام تراجع في الآونة الأخيرة.
إنّ قراءة هادئة ودقيقة لرسالة الإمام تبين لنا أن منشأ الشبهة هو أفكارنا المسبقة وتحليلاتنا الخاصة التي تنطلق من واقع بعيد عن مجريات الأحداث وعن فكر الإمام ونهجه القويم.

[1] راجع رسالة اللوعة للسيد الفقيد أحمد الخميني.
[2] نفس المصدر.


إذا لم يكن الولي هو الأعلم من بين المجتهدين؟

إنّ المبنى العقلائي يحكم بضرورة الرجوع إلى الأعلم وخصوصاً في القضايا المصيرية. فمن المعروف أن الأعلم هو الأقدر على استنباط الأحكام من منابعها الأصيلة، وبالتالي فهو الأقرب إلى الحكم الواقعي. مما يوجب علينا الرجوع إليه لتحصيل براءة الذمة.
هذا هو الرأي المشهور بين فقهاء الشيعة الذي يقوم على أساس الإحتياط العقلائي.
وهنا يطرح السؤال التالي: إذا كان لابد من تقليد الأعلم، ولم يكن الولي هو أعلم المجتهدين، فكيف يجوز لنا أن نجمع بين القيادة والمرجعية. ألا يعد هذا الفعل تساهلاً في شأن حكم الله؟
وقد أجيب عن هذا الإشكال بعدة أجوبة، منها:
1ـ إنّ المصالح العامة التي تندرج تحت شؤون الولاية والحكومة تغلب الشؤون الفردية الخاصة. وعلى قاعدة حفظ المصلحة الإسلامية، يجب تقليد الولي حتى ولو لم يكن الأعلم.
ولكن هذا الجواب يمكن أن يرد عليه، بأن موارد التزاحم بين شؤون الحكومة وشؤون الفرد محدودة جداً. فلا إشكال في تقليد الأعلم في المسائل الفردية، أما عندما يقع التعارض بين حكم الولي وفتوى الأعلم فإننا نقدم حكم الولي.
ورغم أن هذا الرد ينحصر في البعد النظري فقط ـ حيث نفتقد في كثير من الأحيان إلى تحديد موارد التزاحم ـ إلا أن الجواب الأول يبقى ناقصاً وضعيفاً.
2ـ إنّ اشتراط الأعلمية ورغم أنه يوافق المبنى العقلائي، وقد اشتهر بين الفقهاء، إلا أنه خارج حدود التحقيق. بمعنى أن تعيين الأعلم أمر متعذر ـ حتى بالنسبة لأهل الخبرة. لأن مناط الأعلمية لا ينحصر بقواعد رياضية دقيقة.فإنّ هناك عشرات المميزات التي تجتمع لتكون معياراً للأعلمية.
وإنّ تحديد الأعلم يتطلب التفضيل والمقارنة. ولا يمكن أن يقوم بهذا الأمر إلا الأعلم. وعلى هذا يلزم التسلسل وهو باطل. لأن من يحدد الأعلم ينبغي أن يكون الأعلم، وكيف نتثبت من كونه الأعلم فهنا نحتاج إلى الأعلم، وهكذا يتسلسل دون إمكانية الوصول إلى حل.
ورغم قوة هذا الإشكال إلا أنه خرج عن حدود علم الأصول قليلاً، حيث أن هذا العلم هو علم اعتباري، يدخل فيه عنصر الذوق. وإن الفقهاء العظام ـ كالإمام ـ حينما جعلوا الأعلمية شرطاً في التقليد، لم يكن جعلهم مجرد رأي في الهواء. بل لقد حددوا كيفية تعيين الأعلم. وبالتالي فإن هذا التحديد يدل على إمكانية التعيين.
3ـ الجواب الأقرب في هذا المجال ينطلق من الرأي الثاني. فإن تحديد شرط الأعلمية في التقليد وكيفية الوصول إليه يختص بعصر ما قبل الدولة الإسلامية. فإن الفقهاء جعلوا الأعلمية بالطريقة التقليدية(عبر اثنين من أهل الخبرة أو الشياع المفيد للعلم أو الإختبار) حلاً للشيعة يخرجون به من متاهات الضياع. فإذا لم يكن أمام المقلدين من طريق لتحديد المرجع، أو لم يكن هناك تشديد على تقليد الأعلم، فإن المرجعية الشيعية ستضعف إلى حد كبير حيث سيرى الناس في تقليد أي مجتهد براءة لذممهم. ولكن مع وجود شرط الأعلمية وتعيينها بهذا الشكل أخرجت المسألة عن أذواق العوام وأعطيت المرجعية قوة إضافية وتم تقليص المرجعيات الصغيرة التي كانت ستؤدي إلى تشتت الشيعة وضياع الفقه والإجتهاد الأصيل.
أما عندما صار للمسلمين دولتهم التي يحكمها الفقيه الجامع لشرائط التقليد، فإن معيار الأعلمية السابق سقط من موقعه، ليحل محله معيار أقوى، وهو ما ذكرناه في الحديث عن شروط الإجتهاد الواقعي من ضرورة وجود المرجعية بيد الحاكم الإسلامي. فهنا بقي شرط الأعلمية، ولكنه اتسع ليأخذ أبعاداً أخرى لا يمكن حصولها إلا في الولي الفقيه.
وينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى النقاط التالية:
إنّ ما ذكره المراجع من مسائل حول التقليد وشروطه في الرسائل العملية (كتحرير الوسيلة) إنما يمثل رأيهم حول التقليد والإجتهاد، ولكن المعيار يرجع إلى المكلف نفسه، وإلا لزم الدور(وهو باطل). فكيف أقلد شخصاً قبل أن أقلده. وبتعبير آخر، إذا كنت في مرحلة الفحص عن مرجع التقليد فهل يجب علي أن أقلده من خلال ما يقوله هو في باب التقليد.
إنّ هذا الأمر يعد خطأ من الناحية المنهجية. فلا ينبغي التقليد في أصل التقليد وشروطه.
ولكن نظراً إلى أن موضوع التقليد ليس أمراً عقلياً مئة بالمئة فإن رجوع الفاحص إلى رأي المرجع هو من باب الإستيناس، حيث يرى الفاحص( قبل مرحلة التقليد) إنّ من بين المراجع من يعطي رأياً متقدماً وقوياً في باب التقليد. فيكون هذا الرأي مرشداً له ولعقله لكي يصبح أقرب إلى الحقيقة. ومعنى هذا أن جميع أبواب التقليد في الرسائل العملية للفقهاء تعتبر هداية إرشادية لعقول الفاحصين الذين يريدون أن يكوّنوا نظرية دقيقة في مجال التقليد.
إنّ مقام المرجعية له علاقة قوية بالزمان والمكان. أي أن الظروف المحيطة تلعب دوراً في صياغة التكليف تجاه المرجعية. وما ذكره الإمام حول شروط المرجعية لا يمثل نقضاً لما سبق، بل يمثل نظرية متقدمة طرحت على أساس وجود إمكانية لتطبيقها. وسواء كان الواقع يسمح بتطبيقها أم لا، فإنها تعد نظرية تقدم الحل الأمثل لموقع المرجعية في حياة الأمة. ويجب علينا، من باب تحصيل براءة الذمة أن نسعى لتبني هذه النظرية من الناحية العملية إذا وجد المرجع الذي تنطبق عليه شروطها. فعندما يقول الإمام: (وعلى المجتهد أن يلم بقضايا عصره، ولا يمكن للشعب وللشباب وحتى للعوام أن يقبلوا من مرجعهم ومجتهدهم أن يقول إنني لا أبدي رأياً في القضايا السياسية..).[1]
فهذا يعني أن المرجعية ينبغي أن تكون كذلك. فإذا لم يكن من بين جميع المجتهدين من يحوز على الشروط المذكورة من الكفاءة والسياسة وغيرها، فإن المقلدين يتراجعون خطوة إلى الوراء بانتظار أن ينهض واحد منهم أو أكثر ويحصلوا على تلك الشروط.
ولكن مثل هذا الكلام أصبح مع وجود الولي الحاكم فرضاً خيالياً. ونسأل الله بحق إمام الزمان أن يبقى كذلك حتى ظهور وليّه إن شاء الله.
فالمعيار هنا هو براءة الذمة. ولتحصيل براءة الذمة ينبغي أن نكوّن في عقولنا تصوراً صحيحاً عن المرجعية الرشيدة التي يجب أن نرجع إليها في أمور الدين كافة. وهذا ما قام به الإمام طوال سنوات ما بعد الثورة على وجه الخصوص.
ونحن إذا عزلنا أنفسنا عن الثورة الإسلامية سنجد أننا رجعنا إلى العصر السابق حيث كان معيار التقليد أقل مما هو حالياً. ويكون مثلنا كمن يمر على آيات الله وهو عنها من المعرضين.
فالثورة الإسلامية بقيادتها ودولتها حجة كبرى علينا، تلعب دوراً مصيرياً في حياتنا، وإن الشياطين وأعوانهم هم الذين يساهمون في إضعاف هذه الحجة وتقليلها في أعيننا حتى نعود كأغنام فقد راعيها تتخطفها الذئاب من كل جانب.
لقد طرح الإمام النظرية المتكاملة للمرجعية الدينية وعمل على تطبيقها بأفضل صورة. ودافع عن بقائها واستمرارها. وهذا ما وفق إليه بحمد الله. فقد تصدى لهذا الدور الخطير مجتهد جامع لشرائط التقليد من بعده مباشرة بعد أن رأى مبايعة الأمة له من خلال مجلس خبرائها. وبقيت النظرية ماثلة أمامنا نحن العوام.
إننا إذا أدركنا هذه النظرية وسعينا لإجرائها في كافة شؤون حياتنا نكون قد اقتربنا بمسافات وقطعنا أشواطاً طويلة لبلوغ حقيقة الإسلام بإذن الله تعالى.
[1] بيان 15 رجب.


وحدة المرجعية والولاية هل تعني إنكار المرجعيات الأخرى؟

الإجابة عن هذا التساؤل تحل الشبهات والأسئلة المتعلقة بالتبعيض أو موقف الإمام الخامنئي مع المراجع الآخرين.
معظم الذين أنكروا نظرية الوحدة وعدم الفصل يرجع إنكارهم إلى توهم إن هذا الأمر سيؤدي إلى إلغاء سائر المرجعيات. والبعض استنتج من بعض فتاوى الإمام القائد التي يجوِّز فيها التبعيض في التقليد أو البقاء على تقليد الميت، بأنه لا يؤمن بهذه النظرية، فلماذا نكون إذن(ملكيين أكثر على الملك نفسه)! ثم استندوا إلى مجموعة من المواقف التي أعلنها الإمام الخامنئي وتدل على ذلك ، منها:
أنه لم يعلن عن مرجعيته، بعد تصديه لمقام الولاية، فلو كان يؤمن بعدم الفصل لتصدى للمرجعية أيضاً.
ومنها: أنه ـ حفظه الله ـ أرجع الناس في فترة من الفترات إلى تقليد الشيخ الآراكي (ره).
ومنها: أنه رفض أن يعلن عن مرجعيته، وخصوصاً في إيران. ثم عاد وقبل أن يكون مرجعاً خارج إيران.
أضف إلى هذه المواقف ما أفتى سماحته به من جواز التبعيض وهذا يعني أنه يؤمن بتعدد المرجعية في زمن واحد، وغيرها من الشواهد!
ورغم أن هذه الشبهة تعتبر من أعصى الشبهات، حيث أنها تخص بشكل مباشر مقام الولي الفقيه الذي لا يليق بنا ـ نحن خدمة طلاب العلوم ـ أن نجيب عنه، إلا أننا ونظراً إلى الظروف الراهنة، وانطلاقاً من قاعدة (الحق أحق أن يتبع) سنوضح بعض الأمور الملتبسة لعلنا نهتدي بهدى الحق ونصل إلى النبع الزلال الصافي للإسلام.
أولاً: إنّ أهم شرط لانتخاب الولي الفقيه أن يكون مجتهداً جامعاً لشرائط التقليد ـ كما أسلفنا ـ وبالتالي فإنه يتمتع بأهلية المرجعية. وبتعبير الفلاسفة، يكون مرجعاً بالقوة وإن لم يُعرف.
ثانياً: إنّ الإمام الخامنئي لم يرفض من المرجعية إلا الإسم والشهرة، (وهذا هو حال أهل الله الذين يرفضون الجاه والمنصب، وقد خرجوا من حجاب الأنا والأنانية). أما دور المرجعية الحقيقي وهو الإفتاء في كافة الشؤون، فقد مارسه القائد ـ روحي فداه ـ منذ اليوم الأول الذي بايعته الأمة كولي عليها. فمنذ الأيام الأولى، وأثناء دراستنا في مدينة قم المقدسة كنا نبعث باستفتاءات إلى محضره المبارك، وكان يجيبنا، ولم يرفض يوماً أن يقوم بهذا الواجب الإلهي. بل أن هذا الرفض لمثل هذا العمل يؤدي إلى التشكيك بشروط قيادته.
ثالثاً: لم يُعرَف القائد بمقامه العلمي الشامخ في الإجتهاد إلا لمجموعة من العلماء والمسؤولين والمهتمين، وذلك بسبب جهاده المتواصل ومنذ سنوات طويلة، بالثورة والعمل السياسي والرسمي بعد الإنتصار. ونظراً لخطورة الأوضاع وحساسيتها، فقد تولى القائد بعد الثورة قيادة أهم مؤسسة ثورية وهي الحرس، وبعدها رئاسة الجمهورية. وقضى أياماً مديدة على الخطوط الأمامية لجبهات الحرب( ). فلم يكن ليجهل موقعه العلمي إلا الجاهل أو البعيد عن شخصيات الثورة( ). وقد أدى كل هذا، بالإضافة إلى عدم انشغاله بالبحوث العلمية الفقهية والأصولية في قم(كالتدريس والتأليف)، إلى عدم اشتهار مقامه العلمي بين جميع الأوساط.
رابعاً: إنّ من أهم آثار وثمار وحدة المرجعية والقيادة تقدير الإجتهاد ودفع حركته إلى الأمام للمجالات الكبرى التي يفتتحها قائد الأمة، ونظراً إلى حرصه على مستقبل الأمة من بعده وضرورة إعداد أكبر عدد ممكن لتحمل هذه المسؤولية.
خامساً: إنّ نظرية الوحدة لا يمكنها أن تلغي أمراً واقعياً موجوداً في الخارج، فهي بحقيقتها دعوة إلى المكلفين ليعرفوا تكليفهم بدقة تجاه أمر المرجعية الحساس. وهي لا تدعو للقضاء على المراجع ومحاصرتهم وزجهم في السجون!
إنّ وجود مراجع آخرين يدل على معايير مختلفة يتبناها الناس المقلدين لهم. وأحياناً، قد لا يكون للمرجع الفلاني أي دخل في إقبال الناس عليه وتقليده. فهل يعقل أن ينكر القائد وجود مثل هذه الحالة. إنه على العكس يعتبر أن الناس إذا لم يقلدوه فقد أعفوه من هذه المسؤولية الحساسة عند الله. أما إذا وجدوا فيه المرجع الصالح، وأقبلوا عليه وبايعوه، فعندئذٍ لن يبقى لديه أي عذر للتراجع. فهو كجده أمير المؤمنين(ع) يقول: (ولولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر..لألقيت حبلها على غاربها)( ).
وهكذا نجد في الإمام الخميني(ره)هذا الأمر من مخاطبة المراجع وتوجيه الرسائل لهم. فإن الإمام يتعامل مع واقع موجود له تأثير واضح على مجريات الحياة الإجتماعية.
سادساً: إنّ فتوى جواز التبعيض أو البقاء على تقليد الميت، إنما تصبح نافذة بعد تقليد الإمام الخامنئي باعتباره مرجع التقليد. وليس التبعيض أو البقاء على تقليد الميت إلا عملاً عند الضرورة. وبعبارة أخرى، إذا كان المرجع يجوّز التبعيض فهل يوافق على العمل بما يخالف فتواه.
إنّ نفس التجويز بالعمل بما يخالف فتواه يعد بحد ذاته قبولاً بجمع الخلاف (كالحرمة والوجوب) وهو بعيد كل البعد عن ساحة المراجع. وكل ما هنالك أن تجويز التبعيض والبقاء إنما يكون جرياً على عادة المكلف.
سابعاً: فيما يتعلق بقيام الولي بتطبيق هذه النظرية، فهذا حاصل منذ البداية كما بيّنا. أما فيما يتعلق بالدعوة إلى تطبيقها فإنه يتطلب رعاية أصول الحكمة من قبل الجميع، وذلك على الشكل التالي:
من أصول الحكمة: رعاية التدرج، وعدم البوح بكل ما نعلم دفعة واحدة ودون مقدمات. فمن الناس من يحتاج إلى مقدمات متتالية ليصل إلى النتيجة. فإذا حملته النتيجة دفعة واحدة رفضها. (كفي بالمرء جهلاً أن يحدث بكل ما سمع).
ومن أصول الحكمة: تمييز الشر من الخير، بل تمييز أهون الشرين، كما قال أمير المؤمنين(ع):
(ليس العاقل من ميّز بين الخير والشهر بل العاقل من ميّز بين أهون الشرين).
فإذا كان طرح مرجعية القائد سيؤدي إلى تعرض مقام الولاية إلى أي خطر أو إضعاف،فإن الحكمة تقتضي أن لا نفعل ذلك. هذا مع بقاء النظرية في قوتها وعرضها بالحكمة والأساليب الصحيحة.
وهذا الأمر كان موجوداً في الفترة الأولى. قبل وفاة آية الله العظمى الشيخ الأراكي. في إيران وخارجها. ويبدو أنه مازال موجوداً بنسبة ما في إيران حالياً.
وكل هذا لا يعني أن سماحة الإمام الخامنئي قد تخلّى عن دوره، وفي أي ظرف من الظروف، فيما يتعلق بهداية الناس إلى أحكام الله من خلال الإفتاء.
21 شهر رمضان 1416هـ.


القسم الثاني: ولاية الفقيه وفيه دروس

الشيخ جعفر كريمي
ترجمة: السيد عباس نور الدين
الدرس الأول: ضرورة الحكومة
ضرورة القانون للمجتمع:
يعتبر القانون مجموع التكاليف التي هي بمثابة الأوامر والنواهي بما يعين طريقة سلوك الإنسان في الحياة الإجتماعية. ولأجل إثبات(ضرورة القانون للمجتمع) يوجد دليل ذو مقدمتين ونتيجة.
المقدمة الأولى: إنّ حياة البشر هي حياة إجتماعية. ومن جانب آخر يعتبر العامل العقلائي والإرادي مؤثراً في اختيار الحياة الإجتماعية. بمعنى إن الإنسان حيث يرى في حياته الإجتماعية جملة من المنافع والمصالح الذاتية ويدرك أن احتياجه المادي والمعنوي لا يمكن أن يتأمن بدون الحياة الإجتماعية أو بعضها، فإنه يذعن للحياة الإجتماعية ويقبل بشروطها. هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
المقدمة الثانية: من لوازم الحياة الإجتماعية، حصول التنازع والتزاحم بين مصالح الأفراد داخل المجتمع. فالناس عندما يريدون أن يعيشوا حياة إجتماعية ويتعاملوا فيما بينهم ويوزعوا نتاجهم فيما بينهم، يحدث نوع من التزاحم بين إراداتهم ومنافعهم. فالبعض يريد المزيد، والبعض الآخر يريد أن يستفيد أكثر من الإمكانات والثروات الطبيعية والإجتماعية، أو يقوم البعض بفرض أساليبهم على الآخرين وهذا ما لا يروق لهم. وهنا تقع النزاعات التي لا يمكن حلها إلا بتعيين حدود وضوابط تلزم الجميع. وهذا أمر بديهي, وبداهته تُعلم من خلال التأمل قليلاً في حاجات البشر(سواء المادية منها أو المعنوية) وذلك فيما يرتبط بالحياة الإجتماعية طبعاً، فإنه سيرى أن تأمين جميع حاجات الأفراد بشكل لا محدود, غير ميسر. ولو أراد البشر أن يعيشوا بصورة جماعية، فعليهم أن يضعوا حداً لحاجاتهم وأن لا يعملوا وفق ما يريدون.
فإذا لم تراع هذه الحدود، فسوف تبرز النزاعات الحتمية التي تؤدي إلى تزلزل الحياة الإجتماعية وزوالها. وهكذا، فلأجل القضاء على النزاعات أو التقليل منها نحتاج إلى (الحدود) و(القوانين). وفي ظل تعيين هذه الحدود، ومراعاتها من جانب الناس، تتأمن أرضية التكامل والترقي المادي والمعنوي لجميع أفراد المجتمع، ويحصل الغرض الحقيقي للحياة الإجتماعية. وبضم هاتين المقدمتين، نصل إلى هذه النتيجة وهي: أنّ وجود القانون ضروري للجميع.
الحكومة ضرورة إجتماعية:
إنّ وضع القانون أو تطبيقه على الظروف الإجتماعية الخاصة يحتاج إلى جهة قانونية تشريعية.
أما إجراؤه وتنفيذه على مستوى المجتمع، وكذلك الإشراف على شؤون الناس العامة، وتثبيت الأمن الداخلي والدفاع أمام الإعتداء الخارجي كل هذا يحتاج إلى جهاز تنفيذي مناسب.
وأما الحد من مخالفات الأفراد والجماعات وإجراء العدالة، فإنه يتطلب جهازاً قضائياً خاصاً.
مجموع هذه الأجهزة يشكل جهازاً واسعاً هو الحكومة والدولة التي تعتبر مسؤولة عن الأمور العامة للمجتمع من قبيل التقنين والتشريع وحفظ الأمن والدفاع وبسط العدل والعمران العام والصحة والنظافة والتربية والتعليم.
وهذا الأمر لا يختص بجماعة خاصة أو زمان محدد، بل أن الحاجة إلى هذه الأجهزة الحكومية التي تدير المجتمع تشمل جميع المجتمعات الإنسانية في كافة الأزمنة والعصور.
أما أولئك الذين يشكّون في أصل احتياج المجتمع إلى الحاكم والحكومة، فإنهم إما متحررون من كل شيء ولا يريدون الإعتناء بأي حساب وكتاب، أو أنهم من زمرة الأشرار الذين يخشون النظام والعقاب، أو أهم من الذين عانوا طويلاً من شر الحكومات الظالمة.
في تاريخ الإسلام، نجد أن الخوارج قد أنكروا الحكومة على المجتمع لأي أحد إلا الله بطرحهم شعار (لا حكم إلا لله). فوقف أمير المؤمنين(ع) قائلاً:
(كلمة حق يراد بها باطل)[1].
مما يعني أنه لو كان المقصود أن الحكومة في الأصل هي لله، فليس في هذا أدنى شك، ولكن لو كان يراد من هذا الكلام أنه لا يمكن لأي أحد أن يكون حاكماً، فهذا باطل لأنه يؤدي إلى شيوع الفوضى؛ ثم قال: (وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في أمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر)[2].
وفي هذا الكلام بيّن الإمام علي(ع) عدة أمور مهمة من أمور الحكومة:
1ـ منع الفوضى.
2ـ استخراج الثروات العامة.
3ـ محاربة الأعداء.
4ـ ضمان الأمن الداخلي.
5ـ إجراء العدالة.
وهذه الأمور من أكثر احتياجات المجتمع الإنساني ضرورة والتي يجب تأمينها بواسطة جهاز الحكومة.
وينقل الفضل بن شاذان النيشابوري عن الإمام الرضا(ع) في جوابه عن سؤاله: ولم جعل الله أولي الأمر وأمر الناس بطاعتهم؟
قال عليه السلام: لعلل كثيرة، منها:
1. (إنّ الخلق لما وقعوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم، لأنه لو يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام)[3]
2. إنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس ولما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلا به، فيقاتلون عدوهم ويقسمون به فيئهم، ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم عن مظلومهم.
بناء على هذا، وبالإلتفات إلى ما مرّ، نعلم أن كل مجتمع لأجل أن يستمر في حياته الإجتماعية، ويصل إلى الأهداف الإنسانية الرفيعة ويحصل على حقوقه في حركته التكاملية فإنه يحتاج إلى أصلين:
1ـ الأول: وجود قانون عادل وراق يجيب عن جميع الإحتياجات المادية والمعنوية.
2ـ الثاني: وجود قائد ونظام حكومي قدير يتحمل مسؤولية تنفيذ القانون والهداية العامة، ويحكم بالعدل بين الناس.


[1] نهج البلاغة، الخطبة4.
[2] نهج البلاغة، الخطبة 4.
[3] بحار الأنوار، ج6، ص 60.
 


الدرس الثاني: المبادئ الفكرية للحكومة الإسلامية

ممن يكون حق الحكم؟
بعد إثبات احتياج كل مجتمع إلى الحاكم والقانون، يطرح هذا البحث حول حق الحكم والحكومة بمن يتعلق ومن أين ينشأ؟ فمع الإلتفات إلى أن جميع الناس متساوون في هذه القضية، ولا حق لأحد بالحكم على الآخرين، ولا أفضلية لأحد على آخر، فكيف ينشأ الحق لأفراد معينين للحكم والسلطة، ولماذا يجب على الآخرين أن يطيعوهم؟ هل يمكن لكل واحد من الناس أن يصدر أمراً ما، أم هذا الأمر منحصر بفرد أو مجموعة خاصة؟ ومن أين نشأ هذا الحق؟
طائفة اعتبرت هذا الحق للذي يتسلط على الناس ويتحكم بهم. فعند هذه الفئة ينشأ هذا الحق من (القوة والقدرة). فإذا تمكن أحد ما أو مجموعة من الأفراد من الإمساك بزمام ومقدرات المجتمع بالقوة فإنه يصبح وارثاً لجميع الحقوق: الشريعة والتنفيذية والقضائية.
فهذا الرأي هو مبدأ الحكومات(الإستبدادية والديكتاتورية).
وطائفة أخرى تخصص هذا الحق لطبقة إجتماعية أو فئة خاصة من الناس وتعتبر هذا العمل حقاً لها. مثل مفكري اليونان الذين كانوا يقسمون المجتمع إلى عدة فئات، ويعتبرون بأن طبقة الأشراف هي التي تليق بالحكم وإدارة المجتمع. وهناك من أعطى هذا الحق لطبقة العمال.
بعض المفكرين الغربيين، أمثال (روسو)، اعتبروا أن حق الحكم هو للأكثرية وهذه الأكثرية هي التي تحدد هذا الفرد. فالحكومة الحقة هي التي تنبع من رأي أكثرية الناس.
وفي الإسلام، فإن حق الحكم هو لله فقط. لأن الإنسان عليه أن يطيع خالقه الذي أوجده. وحيث أن الأفراد العاديين لم يكونوا هم الخالقين ولا مؤثرين في بقائه واستمراره، فلهذا، لا يجب على الإنسان أن يطيع أحداً إلا الله الذي بيده جميع شؤونه، وهو المالك الحقيقي والولي الواقعي للإنسان. فاتباع وطاعة غير الله مشروطة بأن تكون من الله عزوجل.
يقول القرآن الكريم:
{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[1].
فلازم ملكية ومالكية الله هو أن يكون تدبير أمور المجتمع بيده وحده، وعلى الجميع أن يطيعوه.
ويقول الله تعالى:
{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}[2].
ضرورة الحاكمية الإلهية
والآن، بعد أن تبين لنا مبدأ الإسلام فيما يتعلق بحق الحكم وأن هذا الحكم مختص بالله تعالى، نقوم بدارسة الأدلة والأصول التي يستند إليها هذا المبدأ.
أ ـ علم الله المطلق:
ذكرنا في مورد ضرورة القانون للمجتمع أنه يؤمن الهدف للحياة الإجتماعية بصورة صحيحة. فهدف الحياة الإجتماعية هو الإستفادة بقدر الإمكان وعلى النحو الأفضل من الكمالات المادية والمعنوية.والآن نقول، إنّ القانون المطلوب هو القانون الذي يساعد جميع أفراد المجتمع على التكامل المادي والمعنوي بما يشمل جميع أبعاد وشؤون وجود الإنسان.
فلو كان القانون مفيداً لفئة ما ويؤمن مصالحها الخاصة، ولكنه يجعل البقية محرومة ـ سواء كانت أقلية أم أكثرية ـ فلن يكون مطلوباً.
فإحدى خصائص القانون إذاً، هي أن يكون مفيداً لجميع الناس الذين يعيشون داخل المجتمع، ويؤمن مصالح الجميع بأفضل صورة.
والخاصية الأخرى للقانون المطلوب هي أنه لا يكتفي بتأمين المصالح المادية للناس، بل يكون عاملاً أساسياً في تكاملهم المعنوي. ففي الرؤية الإسلامية، لا ينحصر وجود الإنسان بالبعد المادي فقط، فهو موجود له أبعاد مادية وروحية. بل أن البعد الحقيقي لوجوده هو البعد الروحي. أما المادة والبدن فهي وسيلة لتكامله المعنوي والروحي.
فالقوانين الإجتماعية للإنسان ينبغي أن تكون بشكل يؤمن المصالح المعنوية والتكامل الروحي، أو بالحد الأدنى لا تتنافى مع هذا التكامل. ومن هنا ينبغي للمشرّع أن يكون عالماً بلا حدود بجميع المصالح الفردية والإجتماعية الجسمية والروحية للإنسان حتى يتمكن من وضع القانون الذي يشمل جميع الأبعاد المذكورة. ولا توجد هذه الصفة إلا في الله تعالى.
فحق التشريع للناس ليس إلا منه عزوجل. يقول تعالى:
{قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى}[3].
وهكذا، فإنه تعالى يعلم هذا الحق بالأصل، ويحيط بجميع الحقائق والمصالح والمفاسد. وله الولاية على الجميع، الذين عليهم أن يعملوا طبق هذه العبودية بالطاعة والإتباع.
ب ـ الله هو الغني المطلق:
الخاصية الثانية التي ينبغي أن تكون في الحاكم والمشرّع هي اجتناب الهوى والمزاجية والتعصب الفئوي، ووضع القانون المطابق للعدالة الشاملة والحق. فالعلم بالمصالح والمفاسد لا يكفي لوضع القانون. فمن الممكن، مثلاً، أن نجد شخصاً عالماً بالمصالح القانونية جيداً، ولكن ميوله الذاتية أو العائلية أو الفئوية لا تدعه يضع ما شخصه أو حدده. فمثل هذا الشخص سوف يضع تلك الأصول ـ تحت شعار القانون ـ التي تؤمن مصالحه أو مصالح جماعته. فالبشر العاديون ـ شئنا أم أبينا ـ يقعون تحت تأثير ميولهم الذاتية ولن يكونوا مصونين من إتباع الهوى والهوس. في حين أن الله تعالى له الإحاطة التامة بجميع المصالح والمفاسد، ولا يمكن أن نتصور شيئاً يعود عليه بالنفع أو الضرر، وذلك لأنه الغني المطلق الذي لا يحتاج شيئاً، المنزه عن كل ميل نفسي أو مصلحة ذاتية.
يقول القرآن الكريم:
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[4].
{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}[5]
وهكذا، فإن الله لن يصل إليه نفع الناس أو ضررهم. ولن يقع تحت تأثير الميول الفردي أو الفئوية عند وضع القانون، بل الحق والعدل في كل شيء.
ج ـ الربوبية التكوينية والتشريعية لله تعالى:
الأصل الآخر الذي يؤكد على لزوم الحكومة والطاعة لله هو الإعتقاد (بالتوحيد في الربوبية). لأن أحد شؤون ومراتب التوحيد هو (الربوبية المطلقة لله). فالله تعالى هو رب (مربي) ومدبر جميع شؤون الموجودات والتي من جملتها الإنسان. وهو الذي يهدي كل إنسان بعد خلقه إلى كماله المطلوب. فالإنسان الموحد يؤمن، بالإضافة إلى التوحيد في الخالقية، بالتوحيد في الربوبية التكوينية لله عزوجل، وهذا ما يؤدي إلى الإعتقاد بانحصار(الربوبية التشريعية) بالله تعالى. فاللازم هنا هو طاعة الله تعالى بدون حرج والتسليم التام لإرادته، حيث أنه الآمر, الناهي في كل شيء. أو إطاعة من عينهم سبحانه، والذين تنتهي أوامرهم إليه. فلا حق لأحد بإصدار الأوامر والنواهي بصورة مستقلة عن الله تعالى:
{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}. [6]
ويقول تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.[7]
فمن حيث أن الله رب العالمين، وأن تربية جسم الإنسان وروحه بيده سبحانه، فعلى الإنسان أن لا يطيع إلا الله ولا يقبل إلا بدينه ويذعن لحكمه وسلطانه المطلق.
_______________________-
[1] آل عمران: 189.
[2] يوسف: 40.
[3] يونس: 35.
[4] لقمان: 26.
[5] إبراهيم: 8.
[6] الأنعام: 164.
[7] غافر: 66.

السابق || التالي

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية