مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

وحدة المرجعية والقيادة موقع القيادة السياسية في حياة الأمة

الدرس الثالث: ولاية النبي والإمام المعصوم

في الدرس السابق تبين أن حق الحكم والحكومة ينحصر بالله، وإن الإنسان مكلف بالطاعة والتسليم لإرادة الله حيث أن كل وجوده وشؤونه منه عزوجل.
أما طاعة غير الله فإنها مشروطة بأن تكون معينة من جانب الله وبإذنه.
والآن نقوم بالتعرف على الأدلة في مجال ولاية وحاكمية من عينهم الله تعالى وأوجب علينا طاعتهم.
ولاية الأنبياء الإلهيين عليهم السلام:
الأنبياء هم أولئك الذين ثبتت رسالتهم بالتحدي والإعجاز من الله تعالى، وقد أمرنا بطاعتهم. ولأنهم المبينون والمجرون لأحكام الله، فطاعتهم في الواقع هي طاعة لله. يقول القرآن الكريم في هذا المجال:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}.[1]
وكذلك ما خاطب به نبيه الأكرم(ص):
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ}[2].
وأيضاً بعد ذكر الأنبياء العظام كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام يبين لنا تعيينهم من قبله:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.[3]
ولاية الإمام المعصوم(ع):
بناء على عقيدة الشيعة، فإن الأئمة المعصومين عليهم السلام هم الولاة على الأمة بعد النبي(ص). وقد ثبت لهم هذا المقام من جانب الله تعالى حيث أن طاعتهم من طاعته الواجبة. يقول القرآن الكريم:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[4].
هنا يوجد عدة نكات:
1ـ في القسم الأول من هذه الآية، ورغم أن الحديث يدور حول ولاية الله ورسوله وبعض المؤمنين، فإن كلمة (الولي) جاءت بصيغة المفرد. وهذا الأمر يدل على أن هناك ولاية واحدة هي لله بالأصالة، وبالتبع أو بالظهور تكون لرسول الله وأئمة الهدى(ع).
2ـ القسم الثاني للآية يشير إلى حادثة تاريخية، لأنه لا يوجد في الفقه ما يشير إلى وجوب أو استحباب إعطاء الزكاة(الصدقة) حال الركوع. لهذا، فلا يمكن أن تكون الآية دالة على حكم شرعي من أحكام الإسلام. ففي شأن نزول هذه الآية ورد أن رسول الله(ص) سأل بعد نزولها: من منكم قد تصدق حال ركوعه؟ فتقدم ذلك الرجل الذي كان قد حصل على الخاتم مشيراً إلى أمير المؤمنين علي(ع) قائلاً: هذا الذي يصلي).
فهذه الآية الكريمة تعرفنا على الشخص الذي سيكون له الولاية على المؤمنين بعد النبي الأكرم(ص) وهو علي عليه السلام.
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
(نحن قوم فرض الله عزوجل طاعتنا).
وبناءً عليه، يعتبر الأنبياء الإلهيون والأئمة المعصومون(ع) جماعة اختارها الله تعالى لمقام الولاية التشريعية، بمعنى أنه أعطاهم الحق في إدارة أمور المجتمع والإشراف عليه. وأن طاعتهم على هذا الأساس تعتبر واجبة من الله تعالى. كما أن (الولاية التكوينية)، بمعنى حق التصرف في عالم الوجود وتدبير أمور الخلق ثابتة لهم بإذن الله أيضاً.
أقسام الولاية التشريعية
أبعاد الولاية التشريعية للنبي(ص) والإمام يمكن اختصارها في الموارد التالية:
أ ـ التفويض لتشريع الأحكام:
بمعنى أن أصل التشريع في الأحكام بيد الله، ولكن في بعض الموارد ينال النبي الأكرم(ص) الإذن من الله بتشريع سلسلة من الأحكام لأجل إبراز عظمة النبي ومنزلته. وهذه الموارد، بالإضافة إلى محدوديتها في العدد تكون تحت إشراف الله وإذنه.
وأيضاً من الممكن في الموارد الجزئية أن تبرز الحاجة إلى إصدار الأوامر والتعاليم ووضع مقررات خاصة لأجل تطبيق وإجراء الأحكام الإلهية العامة، حيث تكون تلك الأوامر صادرة من النبي(ص). فتكون طاعته في مثل هذه الموارد طاعة لله وواجبة مثلها.
يقول القرآن الكريم:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.[5]
ويقول الإمام الصادق(ع):
(إنّ الله عزوجل فرض الصلاة ركعتين، ركعتين، عشر ركعات. فأضاف رسول الله(ص) إلى الركعتين ركعتين والى المغرب ركعة فأجاز الله عزوجل له ذلك.. وفرض الله عزوجل في السنة صوم شهر رمضان وسن رسول الله(ص) صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله عزوجل له ذلك)[6].
ب ـ الزعامة السياسية والإجتماعية
البعد الآخر للولاية التشريعية هو القيادة السياسية والإجتماعية للنبي الأكرم والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، وذلك من جانب الله تعالى في جميع الشؤون. وتعتبر إطاعتهم في مثل هذه المسألة واجبة ومخالفتهم حرام. وقد ثبت هذا المعنى في الآيات والروايات. يقول القرآن الكريم:
{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}[7].
وكذلك قوله:
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[8].
وقد قال رسول الله(ص) في غدير خم حينما نصب أمير المؤمنين علياً عليه السلام للخلافة:
(ألست أولى بكم من أنفسكم؟).
قالوا: (بلى).
قال(ص): (من كنت مولاه فعليّ مولاه)[9].
ج ـ المرجعية في القضاء والفصل في الخصومة
أحد المناصب الإلهية لرسول الله(ص) والأئمة الأطهار(ع) هو الولاية في القضاء والفصل في الخصومة، ويعتبر هذا المنصب فرعاً من زعامتهم الشاملة التي هي قيادة المسلمين من جانب الله وإدارة أمور المجتمع. وعلى الناس أن يرجعوا إليهم في خصوماتهم ونزاعاتهم وأمورهم الحقوقية وأن يقبلوا حكمهم بدون حرج أو اعتراض. وتؤيد سيرة النبي وعلي عليهما السلام هذا المقام أيضاً.
يقول القرآن الكريم:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[10].
ويقول الإمام الصادق(ع):
(اتقوا الحكومة فإن الحكومة للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، كنبي أو وصي)[11].
ويتضح من خلال ما ذكرنا أن مقام (الولاية التشريعية) في أبعادها الوسيعة من قبيل الولاية في بيان الأحكام والمعارف الدينية، والقيادة السياسية ـ الإجتماعية والولاية في القضاء والحكم قد جعلت من جانب الله تعالى للنبي الأكرم(ص) والأئمة المعصومين(ع)، وإن إطاعتهم وقبول أمرهم واجبة ومخالفتهم حرام.
[1] النساء: 64.
[2] النساء: 105.
[3] الأنبياء: 73.
[4] المائدة: 55.
[5] الحشر:7.
[6] أصول الكافي، ج1/ص 320.
[7] النساء: 59.
[8] الأحزاب: 6.
[9] الغدير، ج1، ص 14.
[10] النساء: 65.
[11] وسائل الشيعة، ج18، ص 20.
 


الدرس الرابع: ضرورة إقامة الحكومة في عصر الغيبة

المجتمع الإسلامي بعد النبي الأكرم(ص)
تبين لنا في الدرس السابق ضرورة حركة المجتمع الإسلامي في ظل إشراف ورعاية النبي والأئمة المعصومين(ع) الذين عينهم الله تعالى.
فبعد عصر النبي الأكرم(ص) المبارك بقيت الأمة الإسلامية محرومة من القيادة السياسية للأئمة المعصومين(ع) إلا في مرحلة حكومة الإمام علي(ع) التي كانت قصيرة. ولقد قام هؤلاء الأئمة العظام في مجال إعمال الولاية الإلهية وخلافة النبي بتحقيق الأبعاد الأخرى للرسالة العظيمة، وبكل ما يملكون من قوة حفظوا الدين وأحكامه وتعاليمه، ونشروا علومه وحقائقه ووقفوا أمام البدع والتحريف، وسعوا لهداية الأمة معنوياً والدفاع عن كيان الإسلام والمسلمين. وكانوا أسوة حسنة في الإسلام وحجج لله على خلقه بالقول والعمل والأخلاق وحفظة لدينه في جميع الأبعاد.
وذلك لأنهم المظهر الكامل للعلم والأخلاق والتقوى والزهد والعبادة والشجاعة وكل الصفات الحميدة والكمالات الإنسانية، ولم يبخلوا في لحظة واحدة من عمرهم في الدافع عن الحق والمظلومين ومواجهة الظالمين حتى لاقوا ربهم شهداء بالقتل والسم بعد سنوات المعاناة الطويلة والسجون والعذاب.
بدأ عصر الغيبة والإحتجاب لصاحب الطلعة الغراء والشمس البهية للإمام المعصوم(ع) في أواسط القرن الهجري الثالث. واقتضت الإرادة الإلهية أن لا تحصل الأمة الإسلامية التي لم تقدر تلك المشاعل الوضاءة للهداية على فيض حضور إمام العصر (عج) ولا ترتبط به في العلن والظاهر.
كان آخر حجة لله، الإمام الحجة بن الحسن العسكري(ع) قد غاب، وإن كان فيض وجوده المبارك يسطع من وراء ستار الغيبة على كل العالم ويقيم كل ما سوى الله ببركة وجوده.
وتقسم هذه المرحلة إلى عصرين: الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى.
أ ـ الغيبة الصغرى: بدأ هذا العصر بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري(ع) ( سنة 260 للهجرة) واستمر لسبعين سنة. ففي هذا العصر كان للإمام أربعة سفراء هم: عثمان بن سعيد العمري، ومحمد بن عثمان العمري، والحسين بن روح النوبختي وعلي بن محمد السمري توالوا على خدمة الشيعة كنواب خواص لإمام الزمان(عج) يجيبونهم عن حل مشكلاتهم ورفع احتياجاتهم. وقد كان كل واحد منهم عالماً موثقاً يعتمد عليه الإمام في الإرتباط بينه وبين الأمة.[1]
ب ـ الغيبة الكبرى: بدأ هذا العصر مع وفاة آخر نائب خاص لإمام الزمان، ويستمر إلى الوقت الذي سيظهر فيه الإمام. وفي هذا العصر جُعل مقام النيابة العامة والخلافة عن الإمام بعهدة (الفقهاء الجامعين للشرائط). وأوكل إليهم مقام (الولاية والقيادة) للأمة. وأضحت إطاعتهم واجبة. فولاية الفقيه فرع للولاية التشريعية للنبي(ص) والأئمة الأطهار(ع)، ومخالفتها حرام.
والآن، بعد هذه المقدمة، نقوم بدراسة (لزوم إقامة الحكومة في عصر الغيبة)، ودراسة ما إذا كان على الأمة الإسلامية أن تبقى في هذا العصر في حالة الضياع والفوضى، وترضخ لحكم الطواغيت أو أن الضرورة تقتضي إيجاد جهاز الحكومة بقيادة واعية عادلة أمينة؟
أدلة لزوم إقامة الحكومة الإسلامية:
الدليل الأول: الإسلام دين جامع وكامل.
لقد جاء الإسلام والقرآن كآخر دين وقانون إلهي وأنزله الله على قلب خاتم الأنبياء(ص) كدين يمثل الدين الأكمل والأكثر جامعية وشمولاً. فهذا الدين يعتني بجميع احتياجات الإنسان ويضع لكل واحد منها برنامجاً وحكماً.
لم يهمل هذا الإنسان في دين الإسلام، فمنذ أن يكون نطفة وحتى يصبح في العالم الآخر، يحصل على حكم للإسلام، وكذلك بالإضافة إلى البعد الفردي فقد حدد له أحكاماً للبعد الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والحقوقي. وبناء على هذا لا يصح أن لا يمتلك مثل هذا الدين الذي يعتبر نفسه جواباً لكل احتياجات المجتمع البشري ونبيه الذي هو خاتم الأنبياء، برنامجاً لإدارة المجتمع ونظاماً للحكم. فجامعية دين الإسلام وكماله يقتضيان أن يعين حاكماً في عصر حضور المعصوم وكذلك في غيبته، ويشخص الكفاءة والصلاح ولا يترك الناس بلا تكليف.
الدليل الثاني: الإسلام دين عالمي خالد.
إنّ دين الإسلام وأحكامه وقوانينه لا تنحصر بزمان أو مكان خاصين، بل هو دين عالمي خالد لجميع الأجيال وكافة العصور، لم يختص بزمن النبي(ص) أو الأئمة المعصومين(ع). فبناء على هذا، إن تطبيق قوانين الإسلام ونشر معارفه في عصر غيبة الإمام من الأمور الضرورية، ولأجل تحقيق هذا الأمر لابد من إقامة الحكومة وإنشاء أجهزة الحكم.
الدليل الثالث: ضرورة تطبيق الأحكام والقوانين.
إنّ مجموع القوانين والأنظمة الإجتماعية ليس كافياً لإصلاح المجتمع. وهذا الأمر يصدق بحق جميع القوانين. وبعبارة أخرى، إن أي قانون لا يكفي لوحده وبدون الأخذ بعين الإعتبار وجود من يشرف على تطبيقه لأجل إصلاح المجتمع. ذلك، لأن كل قانون إنما وضع لكي يطبق وإلا أصبح لغواً بلا ثمر. ففائدة القوانين تحصل عندما تطبق وتتم رعايتها. ومن جانب آخر، إذا أجرينا دراسة سريعة وعابرة فيما يتعلق بقوانين الإسلام، فإننا سنصل إلى هذه الحقيقة وهي أن للإسلام أحكاماً ومقررات تشكل نظاماً اجتماعياً خاصاً بحيث إذا أردنا إجراءها على الأرض في الأبعاد الواسعة للثقافة والحقوق والسياسة والإجتماع والإقتصاد لاحتاج الأمر إلى وجود حكومة مقتدرة، حيث أن تطبيق أحكام الإسلام غير ممكن بدون تحقق الحكومة الإسلامية. بل أن عدمها يعني تعطل الكثير من الأحكام الإسلامية. والله تعالى لا يرضى بذلك أبداً.و هكذا، لابد من إقامة الحكومة في عصر الغيبة لأجل إعمال الأحكام الإسلامية.
والآن نذكر بعض النماذج من أحكام الإسلام كمثال:
1ـ القوانين المالية:
إنّ القوانين المالية في الإسلام من قبيل الخمس والزكاة وغيرها تشكل ميزانية عامة قد جعلت تحت تصرف الحاكم الإسلامي. وهذا الأمر يدل على أن هذه الميزانية الكبيرة لم تكن فقط لأجل تأمين بعض احتياجات السادة الفقراء أو سائر المحرومين، بل لأجل تشكيل الحكومة وتأمين إمكانياتها المالية ونفقاتها الضرورية في هذا المجال.
2ـ أحكام الدفاع:
في الشريعة الإسلامية يوجد مجموعة من الأحكام المتعلقة بالدفاع عن حريم الدين وأراضي المسلمين واستقلالهم. وعلى المسلمين أن يعدوا لهذا الدفاع وجهاد الأعداء المعتدين كل ما يمكنهم من قوة. ومن الواضح جداً أن الدفاع عن الوطن والأنفس والأموال والوقوف بوجه المعتدين لا يمكن بدون تشكيل حكومة إسلامية وتجهيز الجيوش وتأمين الإمكانات العسكرية والدفاعية ووجود القيادة الكفوءة والعادلة.
3ـ الأحكام الحقوقية والجزائية:
إنّ القسم الأكبر من فقه الإسلام يتعلق بالأحكام الحقوقية والجزائية من قبيل أحكام القضاء ورفع النزاعات وإجراء الحدود والقصاص والديات وأحكام الزواج والطلاق. وهذا كله من الشؤون الحكومية للإمام وولي أمر المسلمين. فإقامة وتطبيق هذه الأحكام منوطة بوجود الحاكم الإسلامي سواء منه أو تحت إشرافه. وهذا الأمر يحتاج إلى جهاز حكومي وجهاز قضائي منسجمين لأجل متابعة كافة القضايا بالحكم والتنفيذ.
4ـ الأحكام العبادية
يوجد فيما يتعلق ببعض العبادات، كالصلاة والصوم والحج أحكام تدل على أن أصل وجوبها أو الوصول إلى روحها وحقيقتها لا يمكن أن يحصل بدون وجود حكومة إسلامية وحاكمية القائد والإمام العادل.
ففي مجال صلاة الجماعة والجمعة والعيدين مثلاً يوجد روايات تبين بالإضافة إلى أبعادها العبادية، أبعادها الحكومية والسياسية وارتباطها بالحاكم الإسلامي وشؤون الحكم.
فالإمام الرضا عليه السلام يذكر ضمن تعداد أسباب لزوم ولي الأمر للمسلمين:
(ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم)[2]
وكذلك في مورد الصوم نصل إلى مجموعة من المسائل التي ترتبط بالشؤون الحكومية من قبيل إثبات رؤية الهلال والحكم ببداية شهر رمضان أو بداية شهر شوال وعيد الفطر أو إجراء مراسم العيد. يقول الإمام الباقر عليه السلام:
(إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار في ذلك اليوم)[3].
(والحج أيضاً من العبادات ذات الأهداف السياسية والإجتماعية الكبرى، وقد جعلها الله وسيلة لقيام وقوام الناس)[4].
وقد ورد في هذا المجال من الأحكام ما يدل على أن الحج كان من شؤون الحكومة الإسلامية. حيث لا يمكن تحقق أهدافه السامية وروحه وحقيقته إلا تحت إشراف ولي أمر المسلمين.
فقد جاء في بعض الروايات أن الناس لو تكاسلوا عن الحج وزيارة بيت الله، فعلى الإمام أن يجبرهم على أداء هذه الفريضة الإلهية. ولو كان السبب عدم سعتهم المالية وتمكنهم فإنه يؤمن ذلك من بيت المال[5].
ويستفاد كذلك من روايات أخرى أن أعمال الحج ينبغي أن تؤدي تحت نظر حاكم وولي أمر المسلمين. فسائر أعمال الحج من الإنطلاق من مكة إلى عرفات ومنها إلى المشعر ومنى ثم إلى مكة وتعيين يوم عرفة وعيد الأضحى, ينبغي أن تكون تحت إشراف (أمير الحاج) الذي يعتبر ممثلاً للحاكم الإسلامي، ينبغي حضوره في جميع الأمكنة[6].
وروايات أخرى تدل على أن على الحجاج بعد إنهاء مراسم الحج وأثناء الرجوع إلى الوطن أن يلتقوا بإمام المسلمين ويعلنون له عن وفائهم ومحبتهم[7]. ثم يأخذوا منه الأوامر اللازمة في المجالات السياسية والإجتماعية والعسكرية والإقتصادية والدينية لينقلوها إلى أبناء وطنهم ويعرفوهم على فكر وآراء القائد.
الدليل الرابع: السيرة العملية للنبي(ص) وأمير المؤمنين(ع):
بناءً على سيرة النبي(ع) والإمام علي(ع) يعتبر أصل(تشكيل الحكومة) جزءاً من مجموع برامج الإسلام. فلم يكن النبي(ص) يكتفي بإبلاغ الوحي وتبيين الأحكام، بل قام بتشكيل الحكومة وتولي قيادتها وأرسل الولاة والقادة إلى الأمصار والمناطق. وبالإضافة إلى جلوسه على مسند القضاء فقد كان يعين قضاة للمناطق، ويقوم بالمعاهدات وشن الحروب. وبمعزل عن هذا، فقد عين ـ طبق حديث الغدير ومجموع الأدلة الأخرى ـ خليفة وحاكماً من بعده. وهذا الأمر يدل على ضرورة استمرار الحكومة لما بعد عصر الرسالة الخاصة. ولم يكن عند أحد من المسلمين أدنى شك في لزوم الحكومة، بل كان اختلافهم حول شخصية الخليفة وطريقة تعيينه.
بناء على هذا، فإن أصل(ضرورة إيجاد الحكومة، وتعيين الحاكم لإدارة المجتمع الإسلامي) كان جزءاً من السيرة العملية للنبي(ص) وأمير المؤمنين(ع).
[1] منتهى الآمال للشيخ عباس القمي.
[2] بحار الأنوار، ج6، ص 60.
[3] وسائل الشيعة، ج5، ص 104.
[4] راجع سورة المائدة، الآية 97.
[5] وسائل الشيعة، ج8، ص 16.
[6] وسائل الشيعة، ج1، ص 5 و 277.
[7] وسائل الشيعة، ج10، ص 252.
 


الدرس السادس: أدلة إثبات ولاية الفقيه(1)

ذكرنا في الدرس السابق أن (الفقهاء الجامعين للشرائط) قد عُيّنوا من جانب الأئمة المعصومين(ع) في المناصب الثلاثة: الإفتاء، القضاء وقيادة المسلمين وذلك في عصر غيبة الإمام المعصوم(ع)، والآن نقوم بدراسة الأدلة التي تثبت هذه النظرية.
1ـ المرجعية في الإفتاء وبيان الأحكام:
من المسلم أن هذا المقام هو للفقهاء في زمن الغيبة وقد أوكل إليهم بالبيان الصريح من جانب الأئمة المعصومين(ع) ولا يخالفه أحد.
يقول الإمام الحسن العسكري(ع):
(فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه ومطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)[1].
بناء على هذا فإن الفقهاء قد نصبوا في عصر الغيبة بمقام النيابة العامة للإمام المعصوم(ع)، وعلى الأمة الإسلامية أن تتبعهم في مجال معرفة الحلال والحرام وأحكام الدين.
وبما أن شأن الفقيه هو الكشف عن الحكم الإلهي، لهذا فإنه من هذه الجهة لا يمتلك ولاية على مقلديه، بل على الناس أن يعملوا برأيه.
2ـ القضاء والفصل في الخصومة:
إنّ منصب القضاء والفصل في الخصومات هو في الأصل للنبي الأكرم(ص) والأئمة الطاهرين(ع) وقد أوكل للفقهاء في عصر الغيبة. هذا الإيكال هو من جانب الإمام المعصوم(ع)، وعلى الناس أن يرجعوا إليهم في نزاعاتهم وأمورهم الحقوقية وأن يعملوا برأيهم المطابق للأحكام الإلهية، فمن هذه الناحية تثبت الولاية للفقيه.
يقول أبي خديجة: أمرني الإمام الصادق(ع) أن أوصل هذا الأمر للشيعة وهو: (إياكم إذا وقعت بينكم خصومة تدارى بينكم في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق. إجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فإني جعلته قاضياً، وإياكما أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)[2].
فقد نصب الإمام الصادق في هذا الحديث الفقيه بمنصب القضاء ونهى الشيعة عن الرجوع إلى القاضي الفاسق والمعين من قبل السلطان الجائر.
3ـ القيادة السياسية والإجتماعية:
من المناصب الأخرى للفقيه: الزعامة السياسية والإجتماعية للناس، وتشكيل الحكومة الإسلامية وإدارة أمور المجتمع الإسلامي ورعايته في عصر الغيبة. بمعنى أن الفقيه كالنبي(ص) والإمام في امتلاك حق الولاية على الأمة وإقامة الحكومة والتدخل والإشراف على سائر الأمور المتعلقة بإدارة المجتمع الإسلامي. وقد عين في هذا المجال من قبل الله ورسوله (ص) وأئمة الهدى (ع) لقيادة الأمة الإسلامية.
نقوم الآن بدراسة الأدلة التي تثبت هذا البعد.
الدليل العقلي:
حيث أن الوصول إلى الإمام المعصوم في عصر الغيبة غير متيسر، وبما أن تطبيق الأحكام الإلهية وإقامة الحكومة من الضروريات، فمن اللازم وجود من يتولى هذه الولاية والإدارة. ولأجل تحقق هذا المقصد يوجد طريقان:
1ـ ولاية الفقيه العادل.
2ـ ولاية غير الفقيه وغير العادل.
إنّ كل إنسان إذا أدرك بعقله معنى ولاية الفقيه العادل ومفهومه، فإنه سيحكم مباشرة أن غير الفقيه وغير العادل لا يليق للولاية والحكومة.
فالذي يمكنه أن يقيم الحكومة الإسلامية ويطبقها في المجتمع هو العالم بأحكام الإسلام ونمط الإدارة الإسلامية الذي يلتزم جانب التقوى والإلتزام، فلا يضيع مصالح البلاد فداء لميوله وأهوائه النفسانية والشيطانية. وبالإضافة إلى هذا، فإن العقل يحكم ليس فقط في مجال الحكومة الإسلامية بل في مجال أية حكومة أن الجاهل والمحب للجاه والسلطة لا يكون لائقاً للحكم. فالفقيه العارف بأحكام الإسلام وأحوال الزمان والحائز على صفات التقوى والعدالة والإدارة والكفاءة وغيرها من الصفات الكمالية اللازمة هو الأكثر لياقة من غيره لهذا الأمر الحساس.
يقول الإمام الخميني(رضوان الله تعالى عليه) في هذا المجال:
(إنّ ولاية الفقيه من المواضيع التي يؤدي تصورها إلى التصديق بها وهي لا تحتاج إلى البرهان. فإن كل من أدرك عقائد الإسلام وأحكامه حتى ولو بالإجمال، يصل إلى ولاية الفقيه ويتصورها، فإنه سيصدق حتماً بها ويراها ضرورية وبديهية)[3].
الدليل النقلي:
في هذا المجال يوجد مجموعة كبيرة من الروايات التي نقلت عن النبي (ص) والأئمة المعصومين(ع)، نشير إلى البعض منها:
1ـ الروايات التي تشير إلى مقام العلماء:
فقد وردت مجموعة من الروايات التي تشير إلى موقعية علماء الدين ووصفتهم بالحافظين للدين والأمناء والخلفاء والورثة للنبي. وهذه العبارات تدل على وظائف ومسؤوليات هذه الفئة بشكل واضح وليس مجرد الألقاب والتزلف، لأن هذا بعيد عن ساحة النبي والإمام(ع).
يقول أمير المؤمنين عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قال ثلاثاً: (اللهم ارحم خلفائي).
فسئُل: ومن خلفاؤك؟
قال: (الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي)[4].
وهذا الحديث يشمل الذين يستنبطون العلوم والأحكام الإسلامية وسنة النبي الأكرم(ص) بالإجتهاد من القرآن والروايات ويعلمونها الناس، ليس مجرد النقل والبيان. ولكلمة (الخليفة) معانٍ واسعة. فالخليفة تقال لمن يحل محل غيره من مسؤولياته ووظائفه، ونحن نعلم أن من وظائف النبي(ص) تبليغ الأحكام وبيانها للناس وتطبيقها وإدارة المجتمع والحكومة. فالفقهاء يخلفون النبي في جميع شؤونه ومنها قيادة الأمة ما عدا تلقي الوحي.
يقول النبي الأكرم(ص):
(الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: إتباع السلطان. فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم)[5].
وفي هذه الرواية تم تعريف الفقهاء تحت عنوان الأمناء المعتمدين للرسل. وهذا يعني أن الفقهاء العدول مكلفون بأداء جميع الأمور التي تقع على عاتق الأنبياء. ومن هنا يمكن القول: إن الفقهاء أمناء الرسل في تطبيق القوانين وقيادة الجيوش وإدارة المجتمع والدفاع عن الأحكام والأمة الإسلامية والقضاء وو.. وعليهم أن يقوموا بذلك..
وينقل علي بن حمزة عن الإمام موسى بن جعفر(ع) أنه قال في مورد الإشارة إلى أن موت الفقيه ثلمة في الإسلام لا يجبرها شيء: (لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها).
ففي هذا الحديث بيّن الإمام الكاظم(ع) أن حفظ الإسلام بعقائده وأحكامه يعتبر احد المسؤوليات الملقاة على عاتق الفقهاء. ومن الواضح أن إقامة الحكومة الإسلامية ووجود الفقيه على رأس الأمور من أفضل الأعمال التي تحفظ حريم الإسلام. لأن الفقيه إذا اعتزل المجتمع ولم يأخذ بزمام الأمور ولم يتدخل في القضايا الإجتماعية والقضائية والسياسية فلن يقال له أنه حافظ للإسلام. وحصن له.
[1] وسائل الشيعة، ج18، ص 94.
[2] تهذيب الأحكام، الطوسي، ج6، ص 303.
[3] ولاية الفقيه، ص 6.
[4] وسائل الشيعة، ج18، ص 101.
[5] أصول الكافي، ج1، ص 37.

السابق || التالي

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية